﴿ثورات الربيع العر
بقلم
د عبدالسميع عطاالله
لقد فاجأت الشعوب العربية حكامها، بل فجأت نفسها بهذه الثورات العظيمة التي أطلقت العقول من عقالها، والكرامة من أغلالها. لم تتمكن مراكز البحوث المستقبلية، ولا أجهزة المخابرات ا...لدولية أن تتنبأ باندلاع هذه الثورات في هذا الوقت بالذات، رغم أن بذور الثورة كانت مبثوثة هنا وهناك لا تخطؤها العين. كانت بذوراً كامنة تحت التربة في انتظار اللحظة التي تهطل فيها السماء علي الأرض الجرز فتحيي مواتها وتنبت فيها أشجار الحرية. هذه اللحظة خفيت علي الجميع، ولم يستطع أحد أن يتنبأ بوقوعها.
لقد علم القاصي والداني والسياسي والعامي أن الأحوال في هذه البلدان قد بلغت قدراً من السوء لا يمكن احتماله، وتساءل كل إنسان في نفسه مرات لا تحصي إلي متي؟ وما السبيل؟ وكيف الوصول؟ وما يمكنني أن أصنع وحدي؟ لقد غامت الرؤية حتي شق علي المراقبين أن يميزوا بين دخان الحرائق والمزن التي تحمل الغيث ولم يصدقوا أنه غيث حتي أرسل عليهم قطرات الدم القاني تسيل في الميادين فأنبتت أشجار الحرية. في هذه اللحظة فقط صدقوا أن ما كانوا يشاهدونه منذ زمن بعيد كان مزناً وغيثاً ولم يكن دخاناً وضباباً. وبدأوا يسترجعون بعض معالم الصورة. لم يكن هذا البارق في الظلام الذي تواري خلف حجب كثيفة إلا شمس الحرية، ولم تكن تلك الرعود التي تسمع حيناً بعد حين إلا طبول الثورة، ولم يكن هذا الصوت المتهدج يخنقه البكاء إلا نشيد الثورة.
إن السد الذي أقامه الاستبداد ورفع أسواره وتترس به زمناً لم يصمد أمام الموج الهادر الذي تجمع خلفه من دموع الثكالي وعرق الكادحين. لقد ظن المظلومون أن دموعهم وعرق جبينهم قد ابتلعته أرض الفساد والاستبداد، وذهب به التهميش والاستبعاد، وأن صرخاتهم قد امتصها البحر المحيط أو ذهبت أدراج الرياح لم يسمعها أحد ولم يستجب لها أحد ..كلا كلا إن الله العظيم في عليائه قد سمعها وفتح دونها الحجب وقال لها: "وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين".
نعم لقد جاء الوعد الحق في الوقت الذي استبد فيه اليأس بالنفوس، و جثم بكلكله علي الأرواح، وأظلم الأفق، وبلغ السيل الزبا، وأخذ الغرور بالمستبدين كل مأخذ، وظنوا أن الشعوب قد ماتت، وأن مقاليد الأرض في قبضتهم، وأنهم قادرون علي كل شيئ بلا معقب ﴿حتي إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس﴾ جاء هذا الوعد الحق ليحمل للدنيا كلها رسالة من السماء إلي الأرض.
إنها رسالة السماء إلي الأرض تهتف في خلق الله أن الكون له إله واحد يدبر أمره، وأن الظلم - وإن كانت له جولة- فإنه أبداً لا يبني دولة، ولا يقيم ملكاً ولا يؤسس مجداً، ولا يرفع قدراً، ولا يعلي ذكراً . إنه لا يجلب إلا العار والشنار، ولا يخلف إلا الخراب والدمار.
إنها رسالة السماء إلي الأرض تهتف بحكام الأرض أن حاكم السماء يرقبهم ويحصي أنفاسهم وأنه يمهل ولا يهمل وأنه سبحانه ( يملي للظالم حتي إذا أخذه لم يفلته) وأن ﴿أخذه أليم شديد﴾.
إنها رسالة السماء إلي الأرض تهتف بالشعوب أن الجبن لا يطيل أجلاً، وأن الشجاعة لا تقصر عمراً، وأن الحرية لا تمنح بالمجان، وأن العملة الوحيدة التي تقبل ثمناً للحرية هو ذلك الدم القاني، وأن الأمة التي تضن بهذا الثمن مرفوعة الرأس تضطرها الأيام أن تدفعه أضعافاً مضاعفة من نفس العملة لكن في كهوف الظلم ذليلة كسيرة.
إنها رسالة السماء إلي الأرض تهتف بالإنسان: أنت أيها الإنسان خليفة الله في أرضه. إذا آمنت بربك وتمسكت بحقك ووثقت بنفسك كنت أقوي من الحديد والنار. إن حرارة الإيمان في قلبك تحرق قلاع الظلم، وصدرك العاري يقتل الرصاص والبارود، وعرق جبينك يغرق حصون الطغيان، وفيه تبحر سفينة الحرية سهلة رخية، وفي مرآته الصقيلة تنعكس صورة الفجر الوليد.