مايو 2011 |
30 |
د . جابر عصفور |
قبل يومين من حلول يوم الذكرى الثامنة والعشرين لوفاة أمل دنقل (الذى رحل عنا فى الحادى والعشرين من مايو سنة 1983) فاجأنى برنامج
«آخر كلام» الذى يقدمه الأستاذ يسرى فودة باقتدار بحلقة خاصة عن أمل دنقل. كان ضيفه الأساسى فيها الأستاذ فاروق شوشة الشاعر الكبير الذى عرف أمل دنقل.
وظل على علاقة مودة به طوال حياته، رغم أن شعر أمل ينتسب إلى مدرسة شعرية هى النقيض الكامل لمدرسة فاروق شوشة التى لا أظنها فارقت الأفق الرومانسى الذى بدأت منه وقد سألنى يسرى فودة على الهواء عن إحساسى بأمل دنقل فى مناخ ثورة الخامس والعشرين من يناير ولم أتردد كثيرا فى الإجابة بأننى ظللت أرى قصيدة أمل دنقل «الكعكة الحجرية» ماثلة حية فى الملايين التى ضمها ميدان التحرير، بعد أن تحولت ثورة الشباب التى انبثقت احتجاجا على نظام استبدادى، كان لابد من رحيله، إلى ثورة الشعب كله، ليس فى ميدان التحرير الذى أصبح اسما على مسمى، بل فى كل ميادين مصر من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها .
ولمن لم يعاصروا تاريخ ولادة هذه القصيدة التى مضى على كتابتها تسعة وثلاثون عاما، أحكى لهم عنها، فقد كنا فى عام 1972، العام الثانى لحكم السادات الذى جاء بعد حكم عبد الناصر الذى لم يتقبل، قط، هزيمة عام 1967 الكارثية، فصمم على إعادة بناء الجيش المصرى، وإعداد الوطن كله لمحو عار الهزيمة، مؤكدا أن ما أخذ بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة وبالفعل، وَفَى هذا القائد العظيم بما وعد، وأعلن فى خطابه الأخير قبيل وفاته بأشهر معدودة، انتهاء بناء السد العالى، وإتمام عملية بناء القوات المسلحة، وإكمال استعدادها لتحرير الأرض ولكن إرادة الله شاءت أن يرحل عنا عبدالناصر، وأن يصبح السادات خليفة له، معلنا بظاهر اللسان أنه ماض على طريق عبدالناصر، ومحققا ما وعد به من تحرير الأرض وكانت الأمة قد أعلنت عن رغبتها فى بناء نصب تذكارى لعبد الناصر، يتوسط ميدان التحرير، وبالفعل تم بناء قاعدة هذا النصب، رغم أن تمثال عبدالناصر لم يوضع عليها قط، وظلت القاعدة موجودة إلى أن أزيحت أخيرا من الميدان، بسبب تعديل خطوط مترو الأنفاق المهم تململ الطلاب من مماطلة السادات فى بدء معركة تحرير الأرض من المحتل الإسرائيلى، وأخذوا يعلنون عن احتجاجاتهم إلى أن فاجأهم السادات بأن العام 1972 عام ضباب، لا يساعد على الحركة والرؤية، فما كان من الطلاب الأحرار إلا أن انفجروا فى أعنف مظاهرات شهدها عام 1972، وأغلق السادات الجامعات، لكن طلاب جامعتى القاهرة وعين شمس اندفعوا إلى ميدان التحرير، وتحلقوا حول القاعدة التى ظلت بلا تمثال وقرروا الاعتصام حولها، احتجاجًا على تخاذل السادات فى بدء حرب التحرير، وتحلقوا حول القاعدة التى رأها أمل دنقل أشبه بالكعكة الحجرية، وظل الطلاب حول النصب أياما، يحتملون البرد مقاومين الجوع، مصرين على مواصلة الاعتصام واضطر نظام الأمن الساداتى إلى تركهم إلى أن تهدأ فورة حماسهم، ولكن الحماس لم يهدأ، وتحوّل ميدان التحرير إلى مهوى لأفئدة كل الثائرين على تخاذل السادات، فحسم الرجل أمره وأصدر تعليماته للشرطة بفض الاعتصام بالقوة، على أن يكون ذلك والطلاب نيام وبالفعل، تحركت قوات الأمن بعد الفجر، وبدأت هجومها على الطلاب المعتصمين حول قاعدة التمثال فى تمام الساعة الخامسة صباحا، فأصيب الكثير من الطلاب، واستشهد بعضهم نتيجة الهجوم الغادر وعندما ارتفعت الشمس كان الطلاب المعتصمون فى السجون والمستشفيات ولكن جدار الصمت الذى حاول نظام السادات فرضه على الناس كسره صوت أمل دنقل الخشن الغاضب وهو يقرأ مقاطع قصيدته «الكعكة الحجرية» التى يقول فى مطلعها على لسان أحد شهداء الهجوم الأمنى :
أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة
سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة
والدم انساب فوق الوشاح
المنازل أضرحة،
والزنازن أضرحة،
والمدى أضرحة،
فارفعوا الأسلحة
واتبعونى أنا ندم الغد والبارحة
رايتى عظمتان وجمجمة،
وشعارى الصباح
وانتشرت القصيدة كالنار فى الهشيم فى كل أرجاء مصر، وتحولت إلى إدانة وتعرية لقوات الأمن وزبانية ما أصبح حزبا وطنيا ارتكب الجرم نفسه، فى الميدان نفسه، بعد حوالى أربعين عاما، لكن رجال الأمن لم يواجهوا مئات من الطلاب العزل، هذه المرة، وإنما واجهوا مئات الآلاف من أبناء الشعب كله فسقطت الدماء الذكية لشباب ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 وكتبت عهد تحرر مصر الجديدة من استبداد نظام فاسد، ودخلت مصر كلها فى مخاض الثورة التى لم تسفر عن وجه مولودها الجديد، فالثورة لم تنته بعد.
وكان لابد لها من أن تتوجه إلى الأداة الباطشة لأذرع الأخطبوط الذى كان يطلق عليه اسم «أمن الدولة» الذى ظل يفترش أرض الوطن، متربصا بالأحرار من أبنائه، مطلقا عليهم أعين مباحثه التى ظلت تتربص بالشرفاء فى كل مجال وهى «المباحث» التى سخر منها أمل فى قصيدة من أشهر قصائده، قصيدة «صلاة» التى نقرأ فيها
أبانا الذى فى المباحث، نحن رعاياك، باق
لك الجبروت، وباق لنا الملكوت، وباق لمن
تحرس الرهبوت
تفردت وحدك باليسر إن اليمين لفى الخُسْر
أما اليسار ففى العسر إلا الذين يماشون
إلا الذين يحشون بالصحف المشتراة
العيون فيعشون إلا الذين يشون وإلا
الذين يوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت
تعاليت ماذا يهمك ممن يذمك؟ اليوم يومك
وقد ظلت مباحث أمن الدولة قوة قمعية تتربص بكل أبناء الوطن من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فى زنازينها الوحشية، وفى سجون قهرها الذى لم ينقطع، وظل يطعن أبناء هذا الوطن بحراب الدولة التسلطية، فضلا عن باقى أجهزتها القمعية التى زوّرت الانتخابات دون حياء، وقضت على أرواح الأبرياء فى السجون، وظلت ترعى ترزية القانون الذين قننوا للتوريث، وصاغوا تعديلات دستورية، هى الأسوأ فى تاريخ الدساتير الحديثة، وذلك لإرضاء الرئيس السابق الذى جثم حكمه على صدر الوطن ثلاثين عاما بمعاونة الفساد والمفسدين، ودعم الزواج الحرام بين الثروة والسلطة، وكانت النتيجة ازدياد عدد الملايين التى لا تزال تعيش فيما هو أدنى من خط الفقر، والملايين الموازية التى لا تجد مسكنا لائقا، والملايين الأكثر التى لا تجد تعليما مناسبا هكذا عرفت مصر كلها الهوان، وبدت القاهرة كأنها:
سفن غارقة
نهبتها قراصنة الموت ثم رمتها إلى القاع منذ سنين
وتشبث بحارة الأمس فيها بأعمدة الصمت فى الأروقة
يتسلل من بين أسمالهم سمك الذكريات الحزين
ليس ما ينبض الآن بالروح فى ذلك العالم المستكين
غير ما ينشر الموج من علم كان فى هبة الريح
والآن يفرك كفيه فى هذه الرقعة الضيقة
سيظل على الساريات الكسيرة يخفق
حتى يذوب رويدا رويدا
ويصدأ فيه الحنين
دون أن يلثم الريح ثانية، أو يرى الأرض
أو يتنهد من شمسها المحرقة
اللافت للانتباه، حقا، أن أغلب شعر أمل المتمرد على الواقع القمعى، تمت كتابته فى عهد السادات، رافضا كل ما فيه من فساد وهوان وسجون قمعية، غيبت أصحاب أمل الذين ظل يذكرهم فى ليالى الشتاء الحزين وظل هذا الشاعر الجنوبى ذو الوجه الذى تشبه ملامحه ملامح وجه أخناتون، منطويا على اللهب المقدس لجمر الرفض، واقفا فى صف الذين يقولون لا فى وجه من يقولون نعم، متنقلا بقصائده المتقدة كالجمر بين شباب الجامعات الثائر، موجودا، دائما، فى كل تظاهراتهم، فأحبه شباب الجامعات الثائر، ولاذوا به، بالقدر الذى جعلوا شعره ناطقا بلسانهم، رافضا إذعان السادات للضغط الأمريكى وقبوله فكرة السلام مع إسرائيل، وانتهى الأمر بتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل فى سبتمبر 1978 ولكن الاتفاقية ظلت علامة على سلام غير متكافئ، سلام لا يزال يعطى لإسرائيل الحق فى ممارسة جرائمها الوحشية على الشعب الفلسطينى، وهى الجرائم التى تتكرر إلى اليوم وقد رأينا صلف نيتانياهو ورفضه حتى لاقتراح الرئيس الأمريكى الحالى باراك أوباما وقبل ذلك بسنوات عديدة، كان أمل يرفض السلام غير العادل، ويكتب ملحمته الشعرية الرائعة »لا تصالح« التى تبدو بعد كل هذه السنوات العديدة كما لو أنها لا تزال منطوية على الصدق الجارح نفسه، ولذلك يبدو ما قاله للسادات سنة 1978، كما لو كان يقوله لنا سنة 2011.
لا تصالح إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة
النجوم لميقاتها
والطيور لأصواتها
والرمال لذراتها
والواقع أن صرخة »لا تصالح« تخترق فاصل الزمن لترن فى أسماعنا الآن، مؤكدة أن المبدأ الذى لابد من تطبيقه على الغاصب الخارجى وعلى الغاصب الداخلى فى الوقت نفسه، فلا فارق جذريا بين الذين سرقوا الأرض العربية والذين سرقوا أرض الوطن ونهبوا ثرواته، وتركوا الشعب جائعا جاهلا خانعا بقوة وغطرسة »أبانا الذى فى المباحث« وعيونه ولذلك لن يستغرب قارئ أمل، اليوم، أن شعره يعبر الزمان، ويصل إلينا، وتترجع أصداؤه فى وعينا، فيبدو كما لو كان مكتوبا فى زمن مبارك الذى كان امتدادا بشعا لزمن السادات، بل يبدو زمن السادات كما لو كان أكثر رحمة من زمن مبارك لكن من الذى يقرأ أمل دون أن يدهشه تطابقه على ما عانيناه، ولا نزال نعانى استمراره أذكر، الآن، ما يستحق أن يقال للجماعات الدينية المتطرفة :
لا تسألنى إن كان القرآن
مخلوقا أو أزلى
بل سلنى إن كان السلطان
لصا أو نصف نبى
وأذكر كلماته التى تقول
الناس سواسية فى الذل كأسنان المشط
ينكسرون كأسنان المشط
فى لحية شيخ النفط
وأذكر كلماته التى تبدو كما لو كانت موجهة لنا جميعا، واصفة ما آل إليه حال الوطن
إنها الأرض التى ما وعد الله بها
من خرجوا من صلبها
وانغرسوا فى تربها
وانطرحوا فى حبها، مستشهدين
لقد رحل أمل دنقل منذ سنوات بعيدة، كما لو كان الله قد رحمه من أن يرى أياما أفظع من أيام السادات، وتركنا نحن الذين أحببناه وعرفناه نحفظه فى قلوبنا، ونعلّم شعره لطلابنا ونتذاكره مع أصحابنا، ليظل فى القلب دائما، وفى الصدارة من الذاكرة القومية والوطنية، ولذلك كانت فجيعتى كبيرة عندما قدم يسرى فودة، فى برنامجه، تحقيقا عن معرفة جماهير الشعب العادى بأمل دنقل وسمعت شابا يجيب «أمل دنقل؟ أظنه شاعرا سوريا»، ومواطنا آخر يقول «أظن أنه شاعر من لبنان»، وثالثًا يراه من العراق، ورابعًا لم يسمع عنه، لكن جاء خامس وقال أظنه شاعرا معاصرا للأبنودى وفاروق شوشة اعتصرنى الألم وقلت هل هذا مصيرك يا أمل، بين أبناء شعبك الذى أفنيت شعلة إبداعك فى نقل جمرة الحرية والتمرد إليه؟ ولكنى سرعان ما رددت على نفسى بأن الأمر طبيعى، ولم يقنعنى كلام فاروق شوشة عن أن قصائد أمل لم يلحنها ويغنها مشاهير مثل عبد الوهاب وأم كلثوم والحق أن نسيان المواطن العادى له أمر عادى، فقد حرص إعلام السادات على محوه من الذاكرة الإعلامية، وتبعه إعلام مبارك الذى كان يمضى فى الطريق المناقض للقيم التى انطوى عليها شعر أمل وكان من الطبيعى أن لا تذكره الكتب المدرسية، ولا الصحف الكاذبة، ولا البرلمان الذى بيعت كراسيه، ولا العالم الذى صنعه الحزب الوطنى، العالم الذى ساده جنون التسلط والقمع، فصح عليه ما ورد فى سفر التكوين :
أصبح العقل مغتربا يتسول، يقذفه صبية
بالحجارة، يوقفه الجند عند الحدود، وتسحب
منه الحكومات جنسية الوطنى
وتدرجه فى قوائم من يكرهون الوطن
ولكن، الآن، وقد تغير الزمان، وقامت ثورة 25 يناير التى أرهص بها شعر أمل دنقل أكثر من أى شاعر آخر، فقد حان الوقت لإعادة الاعتبار إلى شعر أمل والبداية هى أن تعيد نشره صحف المعارضة، والصحافة التى أصبحت وطنية لا حكومية، وتضعه وزارة التعليم فى مقرراتها، ويعيد التليفزيون الرسمى الحلقة التى تحدث فيها أمل فى برنامج فاروق شوشة إن شعر أمل دنقل ميراث ثورى رائع، وإبداع عظيم بكل معنى الكلمة، فهو شعر ظل وصاحبه منحازين إلى الجماهير العريضة التى أعادت صياغة ملامح وجه الوطن وعلينا أن نعيد الاعتبار للشاعر الذى لاذ بجبل لا يموت، اسمه الشعب، ورفض الفرار، وأبى النزوح، ومات فى الأرض التى أحبها، مرددا مملكتى ليست من هذا العالم، فقد كان يرى من وراء الغيب، ويعرف أن عالمه يبدأ من الخامس والعشرين من يناير 2011.