المحاضرة الثالثة
الحسن بن بشر الآمدى :
ْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْ
" هو الحسن بن بشر الآمدي النحوي الكاتب، صاحب كتاب الـــموازنة بين الطــــائيين. كان حسن الفهم، جـيِّـد الدراية والرواية،
سريع الإدراك. وكان من أهل البصرة، وتولى كتابة القضاء بها. وله شعر حسن، واتساع تام في الأدب، وله من الكتب: المختلف والمؤتلف في أسماء الشعراء، نثر المنظوم الموازنة بين أبي تمام والبحتري، كتاب في أن الشاعرين لا يتفق خواطرهما، كتاب ما في عيار الشعر لابن طباطبا من الخطأ، كتاب فرق ما بين الخاص والعام من معاني الشعر...، كتاب تبيين غلط قـدامة بن جعفر في كتاب نقـد الشعر، كتاب معاني شعر البحتري، كتاب الرد على ابن عمار فيما خـطَّأ فيه أبا تمام.." (*)
ومن خلال هذا التعريف الموجز بالآمدي، واستعراض أهم مؤلفاته يتضح أنه كان معنيا بنقـد الشعر، ومواكبة الحركة النقـدية في عصره كما يتضح تضلعه في دقائق الفن الشعري، ومــن بينها الموازنة، وعلى الرغم من أننا سنقصر بحثنا عن الآمدي على كتاب الموازنة فإن ما ذكره له ياقوت في ترجمته من مؤلفات يدل دلالة بينة على اهتمام الآمدي بقضايا الأدب ونقده، فقد وضع كتابا في بيان أخطاء قـدامة بن جعفر في " نقـد الشعر"، ووضع آخر في نقـد ابن طباطبا وثالثا في تعقب ابن عمـار فيما عابه على أبي تمام، وكلها
ــــــــــــــــــــــــ
(*) معجم الأدباء 17/12.
مباحث دقيقة، تغوص على حقائق الشعر ودقائقه، ومع أن هذه المؤلفات لم تصلنا فإننا يمكن أن نستدل من عنواناتها وعلى ضوء منهج الآمدي في الموازنة على مكانة الرجل في النقد الأدبي، وأن نعده واحدا من أبرز من أسهموا بجهد في ذلك الميدان في القرن الرابع الهجري.
الآمدي وكتاب الموازنة:
ْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْ
عالج الآمدي في كتابه " الموازنة بين أبي تمام والبحتري " موضوعا من أدق موضوعات النقد الأدبي، واستحق عن جدارة أن يعـد رائدا في هذا الباب في النقد الأدبي عند العرب ؛ فالموازنة بين الشعراء أو بين المعاني الشعرية تقتضي أن يكون الناقـد مؤهلا لهذه المهمة بثقافة واسعة، وذوق أصيل، وأن يصدر في عمله عن تجرد من الهوى، فلا يتعصب لشاعر على آخر، وأن يرسم لموازنته منهجا قويما حتى لا تختلط عليه الأمور.
وقـد أثبت الآمـدي في موازنته أنه أتقن هذه الأسس ووعاها وكانت نصب عينيه وهو يدخل إلى هذه الحلبة. لقد وجـد الآمدي الناس في عصره مختلفين حول هــذين الشاعـرين اختلافا كبيرا، فريق
يفضل البحتري ويغالي في تقديره، ويهون من شأن أبي تمام. وفريق يتعصب لأبي تمام ويغض من شعر البحتري، ويسرف في ذلك. فــهل جارى الآمـدي أيـًّا من هذين الفريقين ؟
الجواب: أنه لم يفعل ذلك. بل لقـد وضع شعر الشاعرين الكبيرين في الميزان، وأنصف البحتري وأبا تمام على سواء، وأبان محاسن هذا ومحاسن ذاك، ومساوىء كل منهما، وأفاض في تحليل شعرهما، ورصد جزئياته، وبين ما للشاعر وما عليه، ما أجاد فيه وأبدع، وما قصر فيه وأخفق..، فعل الآمـدي ذلك كله بمنهج دقيق، وتحليل مستوعب، ولم يستهدف من بحثه الحكم لأحد الشاعرين، بل ترك ذلك للقارىء المتذوق، بعد أن جعله يضع يـديه على ميزات الشاعر وعيوبه، ومذهبه وطبيعة فنه، وإجاداته وسقطاته.
وحسب الآمـدي بهذا المسلك أنه وضع للباحثين في النقد الأدبي عند العرب تلك الأصول، وحـدد لهم المـعالم، ودلهم على المنهج، وذلل لـهـم السـبيل.
كتاب الموازنة (عرض موجز):
ْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْ
بـدأ الآمـدي كتابـه بعرض حجج أنصار كل من أبي تمام والبحترى في الانتصار لصــاحبه، ومـــا ينعاه بعض على بعض، ثــم
ذكر مساوىء كل ومحاسنه، ثم ما اتفق فيه من المعانى وما انفرد به كل واحد منهما وأجـاد فيه، ثم ما وقع في شعريهما من التشبيه والأمثال، ثم ذكر مختـارات من شعر كل منهما.
هذا هو الهيكل العام للقضايا التى طرحها الآمدى في الموازنة. وسنرى أنه عالجها بمنهج سـديد، وتناول جزئياتها تناولا موضوعـيا رسم فيه لمن بعده أصول الموازنة وأرسى دعائمها.
ففي مسألة المحاجة بين الفريقـين ذكر دعوى أنصار أبي تمام بأن البحترى تتلمذ عليه، وأورد رد هؤلاء بأن التلمذة لا تعنى أن التلميذ متخلف عن أستاذه فقد يتفوق عليه اذا لم يحصر نفسه في تقليده، ثم طرح حجة أنصار أبي تمام بأن صاحبهم انفرد بمذهب اخترعه وسار فيه إماما حتى سلك الناس مسلكه واقتفوا أثره (يعنون بذلك مذهب البديع)، وما دفع به أنصار البحترى ذلك الـزعم من أن أبا تمام لم يخترع هذا المذهب، ولا هو أول فيه وسابق اليه، بل سلك في ذلك سبيل مسلم بن الوليد، فأفرط وجاوز الحد ومال عن سنن القصد، بل إن مسلما غير مبتدأ لذلك المذهب، ولكنه رأى تلك الأنواع التى عرفت بالبديع وهى الاستعارة والتجنيس والطباق... منثورة في أشعار المتقدمين فقصدها وأكثر في شعره منها.
والآمدى متأثر في معالجة ذلك الموضوع بما سبقه اليه ابن المعتز
في كتابه " البديع " فيذكر الأمثلة التى ذكرها ثم يقول: " فتبع مسلم بن الوليد هذه الأنواع واعتدها، ووشح شعره بها، ووضعها في موضعها ثم لم يسلم مع ذلك من الطعن حتى قيل أنه أول من أفسد الشعر. ثم اتبعه أبو تمام واستحسن مذهبه، وأحب أن يجعل كل بيت من شعره غير خال من بعض هذه الأصناف، فسلك طريقا وعرا واستكره الألفاظ والمعانى، ففسد شعره وذهبت طلاوته ونشف ماؤه. وقد حكى عبد الله بن المعتز في هذا الكتاب الذى لقبه (البديع) أن بشارا وأبا نواس ومسلم بن الوليد ومن تقيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن، ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم، ثم إن الطائى تفرع فيه وأكثر منه، وأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض، وتلك عقبى الإفراط وثمرة الإسراف. قال: وإنما كان الشاعر يقول في هذا الفن البيت والبيتين في القصيدة، وربما قرىء في شعر أحدهم قصائد من غير أن يوجد فيها بيت واحد بديع، وكان بستحسن ذلك منهم إن أتى قدرا ويزداد حظوة من الكلام المرسل. وقد كان بعضهم يشبه الطائى في البديع بصالح بن عبد القدوس في الأمثال ويقول: لو كان صالح نثر أمثاله في تضاعيف شعره لسبق أهل زمانه . قال ابن المعتز: وهذا أعدل كلام سمعته " (1).
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الموازنة ص6 وما بعدها.
وفي دراسة أخطاء الشاعرين يحرص الآمدى على أن يعرض ما عيب على كل شاعر منهما ويناقشه في موضوعية بعيدا عن التعصب، ملتمسا العذر إن كان هناك ما يدعو لذلك. ولننظر اليه وهو يحلل ما عيب على أبي تمام فيقول:
" الذي وجدتهم ينعونه عليه هو كثرة غلطه وإحالته وأغاليطه في المعانى والألفاظ. وتأملت الأسباب التى أدته إلى ذلك فإذا هى ما رواه أبو عبيد الله بن داود بن الجراح في كتابه الورقه: إن أبا تمام يريد البديع فيخرج إلى المحال وهذا نحو ما قاله ابن المعتز...، كأنهم يريدون إسرافه في طلب الطباق والتجنيس والاستعارات... حتى صار كثيرا مما أتى من المعانى لا يعرف ولا يعلم غرضه فيها الا مع الكد والفكر وطول التأمل ومنه ما لا يعرف معناه إلا بالظن والحدس. ولو كان أخذ عفو هذه الأشياء ولم يتوغل فيها، ولم يجاذب الألفاظ والمعانى مجاذبة ويقسرها مكارهة وتناول ما يسمح به خاطره، وأورد من الاستعارات ما قرب في حسن ولم يفحش واقتصر من القول على ما كان محذوا حذو الشعراء المحسنين ليسلم من هذه الأشياء التى تهجن الشعر وتذهب ماءه ورونقه ـ ولعل ذلك أن يكون ثلث شعره أو أكثر منه ـ لــظـنـنته كان يتقدم عند أهل العلم بالشعر أكثر الشعراء المتأخرين، وكان قـــليله حينئذ يقوم مقام كثير غيره، لما فيه من
اطيف المعانى، لكن شره إلى إيراد كل ما جاش به خاطره ولجلجه فكره، فخلط الجيد بالردىء والعين النادر بالرذل الساقط والصواب بالخطأ. وأفرط المتعصبون في تفضيله، وقدموه على من هو فوقه من أجل جيده، وسامحو ه في رديئه وتجاوزوا له عن خطئه وتأولوا له التأويل البعيد. وقابل المنحرفون عنه إفـراطا بإفــراط فبخسوه حقه واطرحوا إحسانه وقدموا عليه من هو دونه، وتجاوز ذلك بعضهم إلى القدح في الجيد من شعره وطعن فيما لا يطعن عليه... " (*)
ومما ساقه الآمدى من استعارات أبي تمام المعيبة وحلله وعلق عليه نعرض هذا المثال. فقد علق على قول أبي تمام:
يادهر قوم من أخدعيك فقد أضججت هذا الأنام من خرقك
بقوله: " أى ضرورة دعته إلى الأخدعين ؟ وكان يمكنه أن يقول من إعوجاجك، أو قوم من تعوج صنعتك، أى يادهر أحسن بنا الصنيع لأن الأخرق هو الذي لا يحسن العمل وضده الصنع.
وكذلك قوله:
تحملت ما لو حمل الدهر شطره لفكر دهرا أى عبئيه أثقل
ــــــــــــــــــــــــ
(*) الموازنة/ 52.
فجعل للدهر عقلا وجعله مفكرا في أى العبأين أثقل. وما معنى أبعد من الصواب من هذه الاستعارة. وكان الأشبة والأليق لهذا المعنى لما قال (تحملت ما لو حمل الدهر شطره) ان يقول لتضعضع، أو لانهد أو لأمن الناس صروفه ونوازله ونحو هذا مما يعتمده أهل المعانى في البلاغة. وإنما رأى أبو تمام أشياء يسيرة من بعيد الاستعارات متفرقة في أشعار القدماء كما عرفتك لا تنتهى في البعد إلى هذه المنزلة فاحتذاها وأحب الأبداع والإغراق في إيراد أمثالها، واحتطب واستكثر منها، فمن ذلك قول ذو الرمة:
تيممن يافوخ الدجى فصدعنه
وجوز الفلا صدع السيوف القواطع
فجعل للدجى يافوخا، وقول تأبط شرا:
نحز رقابهم حتى نزعنا وأنف الموت منخره رئيم
فجعل للموت أنفا، وقول ذو الرمة:
يعــز ضعاف القوم عزة نفسه
ويقطع أنف الكبرياء عن الكبر
فجعل للكبرياء أنفا ....." (*).
ـــــــــــــــــــــــــ
(*) الموازنة /110.
وهكذا نرى الآمدى يعالج الموازنة بين أبى تمام والبحترى بطريقة تحليلية مقنعة لا يشوبها تعصب ولا يريد أن ينتهى منها إلى حكم محدد على أى من الشاعرين وإنما شغل نفسه بعرض تلك الجزئيات الدقيقة التى أرسى من خلالها أسس الموازنة الفنية الدقيقة .
وقد استند الآمدى في موازنة إلى ذوقه المتمرس ومعرفته العميقة بعلوم اللغة والنحو والبلاغة، بصورة مكنته من التحليل والشرح والتعليل، فنقده من ثم يكتسب أهمية خاصة ؛ لأنه قائم على معاير منضبطة، ووعى بمتطلبات الاستنتاج النقدى الصائب، وهو مع ذلك كله مستوعب لما سبقه اليه النقاد والذواقون للشعر، وقد بينا مدى استفادته مما قرره ابن المعتز في كتابه (البديع)، ولم يكن الآمدى على الرغم من ذلك ناقلا أو راويا لآراء غيره كابن سلام مثلا، ولكنه كان ذا شخصية نقدية متميزة، فلم يأخذ كلام سابقيه أو معاصريه على عواهنه، بل ناقش ودرس فــأيـد من اقـتنع برأيه، وعارض من رأى في كلامه خللا أو تجاوزا كما فعل مع قدامة وابن عمار.
وفي ذلك كله دلالة بينه على مكانة الآمدى بين النقاد العرب ودوره المتميز في تحرير القضايا وإرساء الأسس والأرتقاء بالفكر النقدى في القرن الرابع ارتقاءً محمودا .