المحاضرة الخامسة ع
الفصل السابع
النقد وفكرة الإعجاز
ظهر فى القرن الخامس نحوى مفكر عظيم هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانى ([1]) المتوفى سنة 471هـ، وكان هذا الرجل سليم الذوق، فقاوم تيار اللفظية أشد مقاومة وقال بأن " الألفاظ خدم المعانى ".
ورأى " أن فى كلام المتأخرين كلاما حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ماله اسم فى البديع، أن ينسى أنه يتكلم ليفهم ويقول ليبين، ويخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع فى بيت فلا خير أن يقع ما عناه فى عمياء، وأن يوقع السامع من طلبه خبط عشواء، وربما طمس بكثرة ما يتكلفه على المعنى وأفسده، كمن يثقل العروس بأصناف الحلى حتى ينالها من ذلك مكروه فى نفسها " ([2]).
وفى الحق إن عبد القاهر قد اهتدى فى العلوم اللغوية كلها إلى مذهبه لا يمكن أن نبالغ فى أهميته، مذهب يشهد لصاحبه بعبقرية لغوية منقطعة النظير، وعلى أساس هذا المذهب كون مبادئه فى إدراك " دلائل الإعجاز ".
فلقد قرر عبد القاهر فى نفسه منذ البداية أن القرآن معجز، وحاول أن يستكشف فيه مواطن الإعجاز، هل هو فى الألفاظ ؟ فرد هذا القول رداً حاسماً ؛ لأن الألفاظ المفردة موجودة فى الاستعمال قبل نزول القرآن الكريم، ولا يجوز أن يكون الإعجاز فى ترتيب الحركات والسكنات، أى فى طبيعة الإيقاع، لأن ذلك قد ينطبق على مثل حماقات مسيلمة فى قوله: " إنا أعطيناك الجماهر فصلّ لربك وجاهر " ولا يتحقق الإعجاز بالفواصل لأن الفواصل فى الآسى كالقوافى فى الشعر، وذلك أمر كان العرب قد أتقنوه، فلم يعد معجزاً لهم، فإذا بطل أن يكون الإعجاز متأتياً من هذه الأمور، فهل الإعجاز آت من الاستعارة ؟ ذلك أيضاً ممتنع " لأن ذلك يؤدى أن يكون الإعجاز فى آسى معدودة فى مواضع من السور الطوال مخصوصة " ([3]).
وإذا كانت كل هذه الأمور مجتمعة أو منفردة لا تحقق الإعجاز " فلم يبق إلا أن يكون " الأعجاز " فى النظم والتأليف ".
ما المقصود بالنظم والتأليف – وهما مترادفان فى رأى عبد القاهر ؟ يقرر الجرجانى أولاً أنه ليس للفظة فى ذاتها، لا فى جرسها ولا دلالتها، ميزة أو فضل أوّلى، وليس بين أية لفظة وأخرى فى حال انفراد كل منهما عن أختها من تفاضل، لا يحكم على اللفظة بأى حكم قبل دخولها فى " سياق " معين، لأنها حينئذ وحسب ترى فى نطاق من التلاؤم أو عدم التلاؤم، وهذا السياق هو الذى يحدث " تناسق الدلالة " ويبرز فيه " معنى " على وجه يقتضيه العقل ويرتضيه، وربط الألفاظ فى سياق يكون وليد الفكر لا محالة، والفكر لا يضع لفظة إزاء أخرى لأنه يرى فى اللفظة نفسها ميزة فارقة، وإنما يحكم بوضعها لأن لها معنى ودلالة بحسب السياق نفسه، ولهذا كانت " المعانى " لا الألفاظ هى المقصودة فى إحداث النظم والتأليف، فلا نظم فى الكلم ولا تأليف حتى يعلق بعضها ببعض ويبنى بعضها على بعض، وبهذا يكون اللفظ تابعاً للمعنى، بحسب ما يتم ترتيب المعنى فى النفس.
لقد فطن عبد القاهر إلى أن اللغة ليست مجموعة من الألفاظ، بل مجموعة من العلاقات Systeme de Ropparts فقال:
" أعلم أن هنا أصلا أنت ترى الناس فيه فى صورة من يعرف من جانب وينكر من آخر، وهو أن الألفاظ المفردة التى من أوضاع اللغة، لم توضع لتعرف معانيها فى أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد، وهذا علم شريف وأصل عظيم، والدليل على ذلك أنا إن زعمنا أن الألفاظ التى هى أوضاع اللغة، إنما وضعت ليعرف بها معانيها فى أنفسها، لأدى ذلك إلى ما لا يشك عاقل فى استحالته، وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التى وضعوها لها لتعرفها بها، حتى كأنهم لو لم يكونوا قالوا فعل ويفعل لما كنا نعرف الخبر فى نفسه ومن أصله، ولو لم يكونوا قد قالوا أفعل لما كنا نعرف الأمر من أصله ولا نجده فى نفوسنا، وحتى لو لم يكونوا قد وصفوا الحروف لكنها نجهل معانيها، فلا نعقل نفيا ولا نهيا ولا استفهاما ولا استثناء – كيف والمواضعة لا تكون ولا تتصور إلا على معلوم فمحال أن يوضع اسم أو غير اسم لغير معلوم – ولأن المواضعة كالإشارة، فكما أنك إذا قلت خذ ذاك لم تكن هذه الإشارة لتعرف السامع المشار إليه فى نفسه، ولكن ليعلم أنه المقصود من بين سائر الأشياء التى تراها وتبصرها. كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له، ومن هذا الذى يشك أنا لم نعرف الرجل والفرس والضرب والقتل إلا من أساميها ؟ لو كان ذلك مساغا فى العقل. لكان ينبغى إذا قيل زيد أن تعرف المسمى بهذا الإسم من غير أن تكون قد شاهدته أو ذكر ذلك بصفة..
وإذا قد عرفت هذه الجملة فأعلم أن معانى الكلام كلها معان لا تتصور إلا فيما بين شيئين، والأصل والأول هو الخبر وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته فى الجميع. ومن الثابت فى العقول والقائم فى النفوس أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به أو مخبر عنه، ومن ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شئ. وكنت إذا قلت " اضرب " لم تستطيع أن تريد منه معنى فى نفسك من غير أن تريد الخبر به عن شئ مظهر أو مقدر، وكان لفظك به – إذا أنت لم ترد ذلك – وصوت تصوته سواء " ([4]).
فى هذا النص البالغ الأهمية نجد فلسفة عبد القاهر اللغوية العميقة، وعن هذه الفلسفة صدرت كل آرائه فى نقد النصوص، فهو يرى أن الألفاظ لم توضع لتعيين الأشياء المتعينة بذواتها وإنما وضعت لتستعمل فى الإخبار عن تلك الأشياء بصفة أو حدث أو علاقة، فنحن لا نقول " زيد " إلا إذا أردنا أن نخبر عنه شئ.
إذن فالمهم فى اللغة ليس الألفاظ، بل مجموعة الروابط التى نقيمها بين الأشياء بفضل الأدوات اللغوية، وتلك الروابط هى المعانى المختلفة التى نعبر عنها، ومن ثم كانت أهميتها ومالها من صدارة على الألفاظ.
إذن فمقياس النقد عند عبد القاهر هو نظم الكلام، لأن هذا النظم هو الذى يقيم الروابط بين الأشياء، تلك الروابط التى لم توضع اللغات إلا للعبارة عنها. يقول: " وأعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذى يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التى نهجت فلا تزيغ عنها " ([5]).
ويؤكد ما تقدم بقوله: " فلست بواجد شيئاً يرجع صوابه – إن كان صواباً – وخطؤه – إن كان خطأ – إلى النظم ويدخل تحت الإسم إلا وهو معنى من معانى النحو قد أصيب به موضعه ووضع فى حقه أو عومل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه واستعمل فى غير ما ينبغى له. فلا ترى كلاما قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزية وفضل فيه، إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد، وتلك المزية وذلك الفضل، إلى معانى النحو وأحكامه، ووجدته يدخل فى أصل من أصوله ويتصل بباب من أبوابه " ([6]).
إذن فمنهج هذا المفكر العميق الدقيق هو منهج النقد اللغوى، منهج النحو، على أن نفهم من النحو أنه العلم الذى يبحث فى العلاقات التى تقيمها اللغة بين الأشياء.
ولكى نوضح هذه الفكرة، نأخذ مثلا عن عبد القاهر نفسه يقول:
انظر إلى قول إبراهيم بن العباس: ([7]).
فَلَوْ إذ بَنَا دَهْرٌ وأُنْكر صاحبٌ |
|
وسُلَّط أَعداءٌ
وغَابَ نَصيرُ |
تكُونُ عن الأَهوازِ دَارى بنجوةٍ |
|
ولكنْ مقاديرٌ جَرَتْ
وأمُورُ |
وَإِنَّى لأَرْجُو بعد هذا مُحمداً
|
|
لأفضلِ ما
يُرْجَى أَخٌ وَوَزيرُ |
فإنك ترى ما ترى من الرونق والطلاوة، ومن الحسن والحلاوة، ثم تتفقد السبب فى ذلك، فتجده إنما كان من أجل تقديمه الظرف الذى هو " إذ نبا " على عامله الذى هو " تكون " وأن لم يقل: فلو تكون عن الأهواز دارى بنجوة إذ نبا دهر، ثم أن قال " تكون "، ولم يقل " كان "، ثم أن نكر " لدهر " ولم يقل: " فلو إذ نبا الدهر "، ثم أن ساق هذا التنكير فى جميع ما أتى به من بعد، ثم أن قال: " وأنكر صاحب " ولم يقل: و " أنكرت صاحبا "، لا ترى فى البيتين الأولين شيئاً غير الذى عددته لك تجعله حسنا فى " النظيم "، وكله من معانى النحو كما ترى، وهكذا السبيل أبداً فى كل حسن ومزية رأيتهما قد نسبا إلى "النظم "، وفضل وشرف أحيل فيهما عليه ".
هذا هو منهج عبد القاهر وطريقة فهمه للنحو، ومنه ترى أنه لا يقف بالنحو عند الحكم فى الصحة والخطأ، بل يعدوه إلى تعليل الجودة وعدمها ؛ حتى ليدخل فى ذلك أشياء استقر فيما بعد أن يجعلوها من " المعانى " كمسألة التقديم والتأخير فى قوله: "فلو إذ نبا دهر.. تكون على الأهواز دارى بنجوة.. الخ.
والواقع أن منهج هذا الرجل الموهوب مزيج من النحو والمعانى، وهو يرى أن مرد كل نقد هو طريقة نظم الكلام، فيقول:
" وإذ قد عرفت أن مدار أمر " النظم " على معانى النحو، وعلى الوجوه والفروق التى من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لا تجد لها ازدياداً بعدها ثم أعلم أن ليست المزية بواجبة لها فى أنفسها، ومن حيث هى على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعانى والأغراض التى يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض...
وإنما سبيل هذه المعانى سبيل الأصباغ التى تعمل منها الصور والنقوش، فكما أنك ترى الرجل قد تهدى فى الأصباغ التى عمل منها الصورة والنقش فى ثوبه الذى نسج، إلى ضرب من التخير والتدبر فى أنفس الأصباغ وفى مواضعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها وترتيبه إياها إلى ما لم يهتد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب، كذلك حال الشاعر والشاعر فى توخيهما معانى النحو ووجوهه التى علمت أنها محصول " النظم " ([8]).
@ ولما كانت الآراء النقدية هى ما يهمنا فى هذا الفصل فإننا سنتجاوز الأحكام النحوية والبلاغية الخالصة، لنرى دور عبد القاهر فى النقد الأدبى وحده:
حملته على المنحازين إلى اللفظ:-
أزعج عبد القاهر أن يرى ذلك التقدير للألفاظ وتقديمها على المعانى عند من سبقه من النقاد، حتى إنهم جعلوا للفظة المفردة مميزات وصفات لم يستطع أن يتقبلها ذهنه المتمرس بتفاوت الدلالات، وقيمة التعبير عن ذلك التفاوت، وكان يحس بوعى نقدى فذ أن ثنائية اللفظ والمعنى التى تبلورت عند ابن قتيبة قد أصبحت خطراً على النقد والبلاغة معاً.
أما على المستوى النقدى:-
فإن الانحياز إلى اللفظ قتل " الفكر " الذى يعتقد الجرجانى أنه وراء عملية أدق من الوقوف عند ميزة لفظة دون أخرى .
وأما على المستوى البلاغى:-
فإن الجرجانى لم يستطع أن يتصور الفصاحة فى اللفظة وإنما هى فى تلك العملية الفكرية التى تصنع تركيباً من عدة ألفاظ.
وقد يجد الجرجانى عذراً للقدماء الذين أقاموا تلك الثنائية ففخموا شأن اللفظ وعظموه وتبعهم فى ذلك من بعدهم حتى قالوا:
[ المعانى لا تتزايد وإنما تتزايد الألفاظ ].
وعاب ابن قتيبة – دون أن يسميه – لأنه قسم الشعر فى أنواع: منه ما حسن لفظه ومعناه، ومنه ما حسن لفظه دون معناه ومنه ما حسن معناه دون لفظه.
فإذا لم يكن ابن قتيبة – وهو أحد القدماء – معيباً فيما صنع، فإن من جاء بعده قد ضل ضلالاً بعيداً حين أخذ هذه القسمة على ظاهرها، واعتقد باستقلال اللفظة ومنحها صفات خاصة بها.
حملته على المنحازين إلى جانب المعنى:-
من جهة ثانية نجد عبد القاهر قد خطأ المنحازين إلى جانب المعنى بشدة لا تقل عن شدته فى تخطئته من ذهبوا إلى إبراز مميزات اللفظة المفردة فقال:
" وأعلم أن الداء الدوىّ والذى أعيا أمره فى هذا الباب غلط من قدم الشعر بمعناه، وأقلَّ الاحتفال باللفظ وجعل لا يعطيه من المزية إن هو أعطى إلا ما فضل عن المعنى، يقول: ما فى اللفظ لو لا المعنى ؟ وهل الكلام إلا بمعناه ؟ ".
فأنت تراه لا يقدم شعراً حتى يكون قد أودع حكمة وأدبا واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر.
تفسير عبد القاهر لفكرة المعانى المطروحة:-
ما معنى قول الجاحظ " المعانى مطروحة فى الطريق يعرفها العجمى والعربى، والقروى والبدوى، وإنما الشأن فى إقامة الوزن وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير " ([9]).
أترى
هذا حطاً من قيمة المعنى الذى يجعل له الجرجانى المقام الأول ؟ هنا ينفذ الجرجانى
بفهم دقيق إلى سر مشكلة طال حولها الأخذ والرد، فوجه رأى الجاحظ توجيهاً ملائماً
لما نعتقد أن الجاحظ رمى إليه: فمصطلح " معنى " كما استعمله الجاحظ ذو
دلالة دقيقة، وهو فى رأى الجرجانى إنما يتحدث به عن "الأدوات الأولية "
وتفسيراً لذلك يقارن الجاحظ بين الكلام ومادة الصائغ، فهو يصنع من الذهب أو الفضة
خاتماً، فإذا أردت الحكم على صنعته وجودتها نظرت إلى الخاتم من حيث أنه
خاتم، ولم تنظر إلى الفضة أو الذهب الذى صنع منه، فهذه المادة الأولية تشبه المعنى
المطروح وليس فيها تفاضل إن شئت أن تحكم على جودة الصنعة نفسها، ولهذا قال الجاحظ
بعد أن أورد رأيه فى شيوع المعانى " وإنما الشأن فى إقامة الوزن... الخ.
وإنما الذى دعا الجاحظ وأضرابه إلى تبنى هذا المذهب خوفهم على فكرة الإعجاز، يقول:
" وأعلم أنهم لم يبلغوا فى إنكار هذا المذهب ما بلغوه إلا لأن الخطأ فيه عظيم، وأنه يفضى بصاحبه إلى أن ينكر الإعجاز ويبطل التحدى من حيث لا يشعر. وذلك أنه إن كان العمل على ما يذهبون إليه، من أن لا يجب فضل ومزية إلا من جانب المعنى وحتى يكون قد قال حكمه أو أدباً، واستخرج معنى غريباً أو تشبيهاً نادراً، فقد وجب اطراح جميع ما قاله الناس فى الفصاحة والبلاغة، وفى شأن النظم والتأليف، وبطل أن يجب بالنظم فضل، وأن تدخله المزية، وأن تتفاوت فيه المنازل، وإذا بطل ذلك، فقد بطل أن يكون فى الكلام معجز، وصار الأمر إلى ما يقوله اليهود ومن قال بمثل مقالهم فى هذا الباب، ودخل فى مثل تلك الجهالات. ونعوذ بالله من العمى بعد الإبصار " ([10]).
ومعنى هذا القول أن الفضل لو كان قاصراً على تلك "المادة الأولية " التى سميت " معنى " بطل أن يكون " للنظم " فضل تتفاوت به المنازل، أى أصبح الإعجاز أن يحتوى الكلام على حكمة وأدب واستخراج معنى غريب أو تشبيه نادر، وفى هذا تسوية بين القرآن وأية مهارة ذهنية إنسانية ([11]).
فكرة الصورة المجتمعة من اللفظ والمعنى:-
لجأ الجرجانى كثيراً، وهو يشرح هذه الفكرة حول "الصورة " المجتمعة من اللفظ والمعنى، إلى التمثيل عليها ومقايستها بعملية الصياغة أو بالوشى والإبريسم ولكنه كان فى كل مرة متنبهاً إلى ما تجره هذه المقايسة من تضليل، فالذى يتصور الشعر صياغة قد يرتسم فى ذهنه أن الصائغين يصنعان سوارين لا يكون الفرق بينهما واضحاً. فهل يمكن أن يحدث مثل ذلك فى " النظم ".
ويجيب عبد القاهر على هذا التساؤل بتقرير مبدأ التفاوت دائماً، ولكن الناس درجوا على أن يقولوا هذا شاعر قد أتى بالمعنى بعينه، على طريق التساهل والتجوز، ولا يمكن لشاعر آخر أن يأتى بالمعنى بعينه، إلا كان ذلك تكراراً تاماً لعبارات الشاعر الأول، وفى هذا نفسه ما يدل على ميزة النظم لأنها هى التى تحقق ذلك التفاوت.
أما التشبيه بالابريسم فإنه أيضاً قاصر لأنه قد يوحى أن "النظم " ضم للكلمات بعضها إلى بعض كما يحدث فى ضم غزل الإبريسم بعضه إلى بعض، ويمكن رد هذا الوهم إذا تذكر المرء أن ضم الألفاظ يتبع نسقاً قرره النحو، فإذا ضمت الألفاظ إلى بعضها البعض دون أن نتوخى فيها معانى النحو لم يكن ذلك نظما، فالفرق إذن بين النظم والابريسم هو فرق فى " العامل العمدى " فى إنشاء سياق ما.
وقد أمعن عبد القاهر فى تمييز التفاوت بين صورتين يظنهما الناس ممثلتين لمعنى واحد حين أورد مزدوجات من الأبيات، كل اثنين منهما لشاعرين، والصورة فى أحد البيتين أدنى بكثير من الصورة فى البيت الثانى، ثم شفع ذلك بنماذج أخرى من المعانى المتحدة، إلا أن الصورة – أو الصياغة – فيهما قد بلغت فى كل بيتين مستوى فائقاً، ومع ذلك ظل التفاوت موجوداً، ثم وضّح لم اختار مصطلح الصورة بقوله:
" وأعلم أن قولنا الصورة إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذى نراه بأبصارنا، فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة فكان بين إنسان من إنسان وفرس من فرس بخصوصية تكون فى صورة هذا لا تكون فى صورة ذاك، وكذلك كان الأمر فى المصنوعات فكان بين خاتم من خاتم وسوار من سوار بذلك، ثم وجدنا بين المعنى فى أحد البيتين وبينه فى الآخر بينونة فى عقولنا وفرقاً، عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا للمعنى فى هذا صورة غير صورته فى ذلك، وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئاً نحن ابتدأناه فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور فى كلام العلماء ويكفيك قول الجاحظ: " وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير " ([12]).
الانتقال من المعنى إلى معنى المعنى:-
انتقل الجرجانى من تفاوت الدلالات إلى مرحلة لم يتنبه إليها أحد قبله من النقاد، وقد أسعفته نظرية الجاحظ فى " المعانى المطروحة " على ذلك، فقد خيل إليه أن الناس حين أساءوا فهم نظرية الجاحظ، لم يلحظوا تفاوت الدلالات الناجم عن طريق الصياغة. فقولك، خرج زيد، قول تصل منه إلى المقصود بدلالة اللفظ وحده، ولكنك حين تقول: هو كثير رماد القدر، أو: رأيت أسداً، وأنت تريد رجلاً شجاعاً، أو: بلغنى أنك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإنك فى مثل هذه الأقوال تطرح أولاً دلالة أولية تنتقل منها إلى دلالة ثانية تصل بها إلى غرض جديد:
" وإذ قد عرفت هذه الجملة فهاهنا عبارة مختصرة وهى أن تقول المعنى ومعنى المعنى، تعنى بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذى تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضى بك ذلك المعنى إلى معنى آخر " ([13]).
فمرحلة " معنى المعنى " هى المستوى الفنى من الكناية والاستعارة والتشبيه، وفى هذه المرحلة يكون التفاوت أيضاً فى الصورة أو الصياغة، لأنه تفاوت فى الدلالة المعنوية أيضاً، مثلما يحدث أيضاً تفاوت فى الدلالة فى المرحلة بين قولك:
قام زيد، زيد قام، قائم زيد.. الخ.
ومن مرحلة " المعنى " يتكون " علم المعانى " ومن مرحلة " معنى المعنى " يجئ علم البيان.
وبهذا نستطيع أن نقول إن عبد القاهر بعد أن انتهى من كتابه دلائل الأعجاز الذى تحدث فيه حول المعنى، حاول أن يخصص كتاباً لدراسة " معنى المعنى " فكان من ذلك كتابه "أسرار البلاغة ".
وهذا الكتاب الثانى ربما كان أدقّ كتاب باللغة العربية فى الحديث عن ضروب البيان، وفيه من التفسيرات الجمالية ما يدل على ذوق نقدى أصيل، فالجرجانى يدرس التشبيه والتمثيل والاستعارة وهو يلمح دائما أن " معنى المعنى " يقوم على مستويات متفاوته فى الدلالة والتأثير معاً، بنظرة عميقة شاملة تدل على عمق نفسى فكرى فى آن، وحسبنا أمثلة منه ذات صلة وثيقة بالمنهج النقدى.
يقرر عبد القاهر – مثلاً – أن التمثيل إذا جاء فى أعقاب المعانى كساها أبهة ورفع من أقدارها وشب من نارها وزادها قوة فى التأثير النفسى، فإن كان مدحاً كان أبهى وأفخم.. وإن كان ذماً كان مسه أوجع وميسمه ألذع.. وإن كان حجاجاً كان برهانه أنور وسلطانه أقهر.. ".
ثم يتساءل عن السر فى ذلك فيجد العلة فيه أن النفوس تأنس إذا هى خرجت من خفى إلى جلى ومكنى إلى صريح لأنها حينئذ تنتهى إلى حال تكون بها أكثر وثوقاً، كأنما تنتقل من العقل إلى الإحساس، ومما يعلم بالفكر إلى ما هو معلوم بالطبع، وهذا التمثيل قد يكون إزالة للريبة بعد مقدمة غريبة كما فى قول المتنبى:
فإن تفق الأنام وأنت منهم |
|
فإن المسك بعض دم
الغزال |
أو قد يكون مبيناً للمقدار وإيراد قياس من غيره يكشف عن حده، كما فى قول الشاعر:
فأصبحت من ليلى الغداة كقابض |
|
على الماء خانته
فروج الأصابع |
ومعلوم أن قوة التمثيل فى الأول تزيل الغرابة، وأن قوته فى الثانى تكشف عن مقدار الحال.
فالجرجانى ناقد " عقلانى " يرفع دائماً من قيمة " الفكرة " ويرى الاهتداء إليها من أهم ضروب اللذة النفسية فى تتبع صور الجمال، فالتمثيل الذى يحوج القارئ إلى طلب معناه بالفكرة، ويحرك الهمة والخاطر لطلبه لا يقل إمتاعاً عن التمثيل الذى ينتقل بالقارئ من منطقة العقل إلى منطقة الحس:
" ومن المركوز فى الطبع أن الشئ إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه كان نيله أحلى وبالمزية أولى فكان موقعه من النفس أجل وألطف " ([14]).
وتمتاز عقلانية الجرجانى بأنها نوعاً من الذكاء الخصب المقترن بإحساس فنى دقيق بمواطن الجمال فى فن القول.
ومن هذا الموقف استطاع الجرجانى أن يصحح كثيراً من الآراء النقدية التى سبقت عصره. بل لعله لم يقصد عامداً إلى إقامة نظرة نقدية جديدة وغنما كان موقفه من محاكمة الآراء السابقة هو الشئ الجديد فى منهجه النقدى، وهو بذلك يختلف عن القاضى الجرجانى الذى جعل النظرات النقدية السابقة متكألة، ويشابه المرزوقى الذى لجأ فى نقده إلى إعادة تفسير النظرات السابقة، مع فرق أصيل بين الرجلين، وهو أن المواقف النقدية لدى عبد القاهر إنما جاءت صدىً لنظراته البلاغية لا غاية فى نفسها.
علاقة الشعر بالصدق والكذب:-
على أساس المنهج العقلانى الجمالى تناول الجرجانى مشكلة من مشكلات النقد القديمة، استغرقت كثيراً من جهد النقاد من قبله ومن بعده، وهى علاقة الشعر بالصدق والكذب، فنفى أن يكون كل من الصدق والكذب عند الحديث عن الشعر متعلقين بالصدق أو الكذب فى الخبر أو واردين بالمعنى الأخلاقى فمن قال كما قال البحترى: " فى الشعر يغنى عن صدقه كذبه " أو قال " خير الشعر أكذبه " فإنه لا يعنى منح الممدوح صفات ليست فيه، أو وصف الجواد بالبخل والطائش بالحلم والسداد.
ومن قال خير الشعر أصدقه فإنما يعنى أنه يميل إلى ترك الإغراق والمبالغة فيه ([15]).
موقفه من السرقات الشعرية:-
من المشكلات النقدية التى تصدى لها عبد القاهر مشكلة الأخذ والسرقة، وتوضيحاً لهذه المشكلة وجدناه يحدد مواطن الاتفاق فيحصرها فى ثلاثة:
1- اتفاق الشاعرين فى عموم الغرض، كأن يصف كل منهما ممدوحه بالشجاعة والسخاء وحسن الوجه والبهاء وهذا لا يدخل فى الأخذ والسرقة إطلاقاً.
2- اتفاق الشاعرين فى تشبيهات معروفة كتشبيه الشجاع بالأسد، والجواد بالبحر، وهذا قدر مشترك بين الناس، قد استقر فى العقول والعادات وليس فيه شئ من الخصوصية وليس فى هذا سرقة أو أخذ.
3- اتفاق الشاعرين فى مالا يدرك إلا بالروية والاستنباط والتأمل، وفى هذا تجوز دعوى السرقة أو الأخذ.
ولم يجئ عبد القاهر بجديد فى هذا الباب، فهو يردد رأى المعتدلين من النقاد السابقين، ولكن عدم وقوفه طويلاً عند "السرقة " يدلنا على أنه لم يكن يعدّ تلك الظاهرة أمراً أساسياً فى النقد الأدبى.
^^^