أحمد شوقى والعقاد
أحمد شوقي والعقَّـاد النقدية
د. عبد العظيم حنفي شوقي والعقاد.. أميران من أمراء الشعر جاء كل منهما من نبع يختلف عن النبع الذي جاء منه الآخر, وصب كل منهما في وادٍ يختلف عن الوادي الذي صب فيه الآخر. فهما تياران متعارضان أشد ما يكون التعارض, يسيران في بحرين متوازيين فلا يلتقيان أبداً, وإن قدر لأحد التيارين أن يطغى على الآخر فهذا هو منطق التطور, وإن قدر للدعوى ان تولد نقيضها فتلك هي طبيعة الأشياء . إن معارك العقاد النقدية كثيرة ومتعددة, وقد اتجهت معاركه اتجاهين: أحدهما يتمثل في إتيانها بمبادئ نقدية جديدة, فقد دارت معركته مع الرافعى حول اضطراب القياس لديه في مخارج الحروف، وكانت معاركه مع جبران خليل جبران حول وضع مقاييس للإحساس الصحيح والمعنى الصادق. واختلف مع طه حسين حول المنهج العلمي والعلم التجريبي, إذ كان طه حسين يخلط بينهما وفق العقاد - في حين حدد العقاد ماهية كل منهما وطريقة استخدامه حينما ذهب إلى أن المنهج العلمي لا يصلح استخدامه إلا في مجال الوقائع العلمية التي يدرسها العلماء, ولا يدخل في مجال الرأي. كما دارت معاركه مع سلامة موسى ومحمد مندور حول الوحدة العضوية والمنهج العلمي النفساني ثم دارت معركة حول الشكل الجديد في الشعر بينه وبين الدكتور مندور. وقد انكر مندور على العقاد اقحامه للنظريات والمذاهب في ميدان النقد والأدب. وكان العقاد يرى أن الشعر هو حقيقة الحقائق وهو ترجمان النفس والناقل الأمين عن لسانها وقد رسم العقاد حدوداً للتقليد والإبداع ويرى العقاد أن الصدق في الشعر، وعرفه أنه يتمثل في تعبير الشاعر عن عاطفته بغذاء من حرارتها لا بوقود من خارجها. وكان الناقد الراحل محمد مندور يأخذ على العقاد أنه كان كثيراً ما يعمم في أحكامه.. مثل شخصية الشاعر وضرورة ظهورها في شعره, وأن العقاد كان متأثراً في رأيه هذا بمدرسة الشعر الغنائي التي ينتمي إليها، وأن هذا الرأي لا يمكن اطلاقه, فهناك أنواع من الشعر الجيد من شروطه أن تختفى شخصية قائله كالملاحم التي لا يمكن إلغاؤها أو تجاهلها من التراث الإنساني، والشعر الدرامي الذي يجب أن يلتزم بالموضوعية, وفي رأي العقاد بالنسبة لهذه الألوان، أنّ شخصية الشاعر تظهر بطريق غير مباشر، وهذا ما يسمى بالأصالة الفنية، وكذلك الأمر في مشاكل كثيرة أخرى مثل مشكلة الصنعة، فمن المؤكد أن الشعر ليس موهبة فقط، فالشعر صنعة محكمة إلى حد الخفاء. في حين ينفى تلاميذ العقاد قضية إقحام العقاد للنظريات والمذاهب في ميدان النقد والأدب، ويرون أن تلك المآخذ على العقاد سبق أن أخذها العقاد على الزهاوي، حينما تعرض لنقد شعره, فهو لم يوافق الزهاوي على شعره الذي هو من عمل العقل.
ونحن كذلك أمام انتقادات لشوقي أمير الشعراء الذي يتفق غالبية المحللين على أنه كان منذ طفولته إلى كهولته يقول الشعر عفواً. وهو لم يكن يخلو لنفسه لينحت الشعر من صخر، وإنما كان يخلو ليجمع الشعر الذي يأتيه في يسر وسهولة، معتمداً على مخزون ثقافي واسع ومتنوع. ويرى عدد من النقاد أن مفجر الوحي الشعري عنده لم يكن هو الإحساس الذي يقف عنده طويلاً غائصاً وراء كنهه أو جوهره، ولم يكن شعوره أو معاناته هي الأساس، وإنما المفجر يثير في نفسه شحنة العواطف التي سرعان ما ترتد إلى مخزون يماثلها في الذاكرة الواعية، ومخزون شوقي الثقافي يظهر في مرثيته لوالدته التي تقلد مرثية المتنبي لأمه، وكذلك سينية البحتري التي تطل من بين أبيات وصف جامع قرطبة، وكان شوقي بجانب الملكة العفوية السريعة يتميز بالعقلانية ويصف حافظ خيال شوقي فيقول: وأمير الشعراء هو عبقرى بكل معنى الكلمة، وكلما قرأنا شعره ودرسناه تكشف لنا عن معان وروائع جديدة فهو كالطبيعة في تجدد مستمر زاخر بالحسن لا ينفد ولا يستقصى. وشوقي من أكبر شعراء العربية غير مدافع وشاعر عالمي ولعل نقطة الخلاف الكبرى هي في تحديد مكانه بين الشعراء القدماء والمحدثين. وقد يكون أكبر عقبة تعترض التقدير السليم الذي يحدد منزلة الشاعر هي عدم وضوح شخصيته, فالمتنبي وابوتمام والبحتري وابن الرومي وشوقي واضرابهم يؤلف كل منهم شخصية قوية ولكنها ناقصة لوجود عناصر ميتة كالمديح والهجاء والنسيب في شعرهم؛ فبينما نجد ديوان الشاعر الاجنبي كتلة واحدة متجانسة نرى ديوان الشاعر العربي على علو موهبته كتلة غير متجانسة تلقي بعض عناصرها ظلالاً على شخصية الشاعر، ومن هنا صعوبة الموازنة بين الشعراء وتحديد الحيز الذي يشغله كل منهم بشخصيته في المجال العربي والعالمي. ولكن بلا شك كان التاريخ والوطن النبع الأول الذي تفجر منه شعر شوقي. اليس هو القائل « الشعر ابن ابوين, التاريخ والطبيعة» والقائل مخاطباً روزفلت في سنة 1910 «التاريخ أيها الضيف الكبير غابر متجدد, قديمه منوال, وحاضره مثال, والغد بيد الله المتعال, وأنت اليوم تمشي فوق مهد العصر الأول, ولحد قواهر الدول, أرض اتخذها الإسكندر عريناً, وملاها على أهلها قيصر سفيناً, وخلف ابن العاص فيها لساناً وجنساً وديناً, فكان أعظم المستعمرين حقيقة وأكبرهم يقيناً, وهو الذي لم يعلم عنه أنه بغى أو ظلم أو سفك الدماء أو نهى أو أمر إلا بين الرجاء والحذر, من عدل عمر, وهو القائل:
وإنا المحتفى بتاريخ مصر
ويرى عديد النقاد أن شوقي كان كابن الرومي يستقصى كل صور موضوعه وقد يبزه أحياناً بقوة الطبع وسلاسة الأسلوب والبيان الساحر. وبعد تلك المقدمة عن الشاعرين الكبيرين لا يزال التساؤل مطروحاً عن سر هجوم العقاد الحاد على شوقي؟ البعض يرجعه إلىأن العقاد بحكم أنه كان شديد الحجاج والجدال، كان يقول كلاماً لا يشهد به واقعه أو شعره ولذا كان يعمم. هكذا كان يرى الدكتور محمد مندور على سبيل المثال . ولكن مع التقدير لهذا التعليل فإنه يتجاهل أن العقاد كان أول من نظر إلى العمل الأدبي بوصفه كلاً، وهو أول ناقد فيلسوف، كما أنه أول من استبدل التجارب بالموضوعات التقليدية. وفسر البعض معركة العقاد مع شوقي بأنه تدور حول نقد العقاد لشعر شوقي حول الصدق، وأن العقاد كان ياخذ على شوقي عدم تأثره بنظريات العقاد. والواقع أن العقاد والمازني وطه حسين دأبوا على النقد العنيف لشوقي حتى إن طه حسين كتب مقالاً في واحد من أحاديثه الممتعة التي كانت تظهر تحت عنوان « أحاديث الأربعاء» وكان ينشرها بجريدة السياسة لسان حزب الأحرار الدستوريين وهجوم طه حيسين كان حول قصيدة مدح بها شوقي الأستاذ احمد لطفى السيد بعد ترجمته لأخلاق أرسططاليس، وقد قسا طه حسين على شوقي في نقده قسوة غير معقولة وراح يحاسبه على النحو والصرف فوق حسابه إياه على الشعر والموضوع. والواقع هو أن الخلاف بين العقاد وشوقي, كان خلافاً بين تيارين وليس بين شخصين, فالتيار الذي شقه العقاد تيار عنيف جارف، وإن ما قامت به مدرسة الديوان عام 1921 كان إيذاناً لشباب الاتجاهات الجديدة بالانطلاق في التفكير والتعبير، وإيذاناً للعقاد بإعلان مذهبه الجديد في النقد الذي وصفه بأنه مذهب يقيم حداً بين عهدين, وسبق نلك المحاولات محاولات البارودي الذي بعث الشعر بعد كبوة متخذاً منهج إحياء سنة السلف أو إعادة الحياة إلى الصورة التراثية للقصيدة العربية القديمة بكل ما تنطوي عليه من تصوير وديباجة وموسيقا وكان شعره يتميز بعدة سمات واضحة مثل اللفظ الفخم وبلاغة العبارة ومتانة التركيب المعماري وروح البلاغة وفطرته الحية كما وصفه الشيخ حسين المرصفي في كتابه الوسيلة الأدبية، لكن شوقي هو رائد مرحلة النهضة الشعرية عبر تركيزه على محوري التجديد والابتكار فهو عميق الشعور بما ينبغى أن يكون عليه الشعر شديد الإيمان لضرورة الانصراف عن أبواب الشعر القديمة وفتح آفاق أرحب أمام القصيد الشعري مستغلاً ما طبع عليه من سلاسة اللفظ وعذوبة السياق ورقة النغمة الموسيقية، وحتى عندما وجد مثلًا أن باب التجديد في المديح ضيقٌ ومحدودٌ فقد حاول أن يجعل التجديد في الاستهلال الوصفي أو الغزلي على نحو ما فعل في همزيته المشهورة التي مدح فيها الخديو توفيق والتي مطلعها:
خدعوها بقولهم حسناء
وانصرف إلى تجديد الفن المسرحى ولكنه كان في النهاية شاعراً كلاسيكياً جديداً بدليل أن مقاييس النقد عنده والبارودي لم تحتلف عند كليهما. من هنا كانت الهوة بين شوقي باعتباره امتداداً لمدرسة الشعر الكلاسيكي، وبين العقاد باعتباره ثورة جذرية شاملة على نظرية النقد.
شاعر العزيز وما بالقليل ذا اللقب وكان العقاد يرى أن الشعر هو حقيقة الحقائق وهو ترجمان النفس والناقل الأمين عن لسانها وقد رسم العقاد حدوداً للتقليد والإبداع ويرى العقاد أن الصدق في الشعر، وعرفه أنه يتمثل في تعبير الشاعر عن عاطفته بغذاء من حرارتها لا بوقود من خارجها. وربما أن أصحاب هذا الرأي تأثروا بهجوم العقاد على جل شعراء الجيل الماضي عليه، مثل البارودي وشوقي وحافظ باعتبار ثورة العقاد هي ثورة الفكر الليبرالي ضد نوازع التقليد والمحافظة، وإنما يمكن القول إن التكوين الخاص بثقافة العقاد يختلف كماً ونوعاً عن التكوين الكلاسيكي لأمير الشعراء. مع شطط العقاد الذي كان لا يكتفي في نقده بتجريد أمير الشعراء من لقبه، بل يتجاوز هذا إلى الطعن في شاعريته «فإذا كانت ثمة أمارة كذابة» في الدنيا فهي أمارة هذا الذي لا يكفيه أن يعد شاعراً حتى - يعد أمير شعراء وحتى يقال "إنه عنوان الأسمى ما تسمو إليه النفس المصرية من الشعور بالحياة» ألا ليت ناظمنا قد سلمت له شاعرية الحس في هذه الابيات فيكون له بها بعض الغنى عن شاعرية النفس والروح!» (انتهى الاقتباس عن العقاد) ويمكن التغاضي عن اقوال العقاد تلك بحكم طباعه الحادة لنصل إلى قوله كناقد هادئ ناظراً لشوقي من منظور تاريخي مقيماً شوقي تقييماً عاماً واضعاً إياه في إطار عصره فهو يقول عنه «إنه كان ملماً للمدرسة التي انتقلت بالشعر من دور الجمود والمحاكاة الآلية إلى دور التصرف والابتكار, فاجتمعت له جملة المزايا والخصائص التي تفرقت في شعراء عصره». إن مدار الخلاف بين شعر شوقي ونقد العقاد يقوم على ركيزتين بالشكل والمضمون؛ ونعنى بالركيزة الاولي النظم والتركيب وخلاصته ان القصيدة هي وحدة الشعر وانها خلقت من أجل هذا ان تكون بنية حية متماسكة تصلح للتسمية وتتميز بالموضوع والعنوان.
والركيزة الاخرى أن الشعر تعبير عن النفس الإنسانية في الطبيعة والحياة وليس بالتعبير عنها كما يحكيها لنا العرف في جملته دون الالتفات إلى الآحاد المتغيرة ؛ بين الآحاد والسمات وأن الفرق بين المنهجين كالفرق بين مصور ينقل نماذج شائعة بمقاييسها التقليدية ومصور ينقل عن الطبيعة والحياة. وبناء على هاتين الركيزتين تناول العقاد قصائد بعينها من شعر شوقي ليضعها تحت معاول النقد بادئاً من تلك التفرقة لا بين النظم والشعر فعند العقاد أن شوقي يستطيع أن ينظم بمهارة فائقة ويجود في الصناعة ما شاء له التجويد دون أن يجعل ذلك من نظمه شعراً، بل تظل قصائده - في رأي العقاد- نثراً ويستشهد العقاد بمسودة لقصيدة شوقي التي نظمها على قبر نابليون التي يقول في أحد أبياتها: ولكن هذا البيت سرعان ما انتهى عند الفراغ من صياغة القصيدة إلى قوله:
قد توارت في الثرى حتى إذا وهو يناقض البيت الأول تمام المناقضة. ولا يكتفى العقاد بالقول إن شوقي ناظم أكثر منه شاعر حتى يدخل في تفرقة أخرى يميز فيها بين شعر الصنعة وشعر الطبع، ليخرج منها إلى أن شوقي شاعر مصنوع وليس بالشاعر المطبوع، وتأسيساً على هذه القاعدة النقدية يستشهد العقاد على الشعر المطبوع لقصائد للمنتنبي في الغزل والرثاء والحكمة والمديح والخبرة بالحياة وعلى الوجه الآخر يستشهد على الشعر المصنوع بقصائد شوقي منها مثلاً قوله في الهرم:
هو من بناء الظلم إلا أنه وقوله في (تمثال) أبي الهول:
تكاد لإغراقها في الجمود فعند العقاد أن هذه الأبيات وعشرات من أمثالها آيات في تجويد الصنعة وليس بها بيت واحد يدل على مزايا نفسية أو صفات شخصية تكشف عن حظ الشاعر من الطبيعة والتعبير عن إحساسه الخاص بالحياة.
ويقف العقاد طويلاً عند قصيدة لشوقي يصف فيها الربيع فإذا به يعريها من شاعرية الحس وشاعرية النفس ليكشف عما وراء التشبيه البراق من خواء في المعنى ويورد هذه الابيات من قصيدة شوقي: صنعة الله اين منها رفائيل ومناقشة سحر بنانه وهنا يثير العقاد قضية الشعر في علاقته بلغة الشارع وكيف يمكن للشاعر ان يستلهم المأثورات الشعبية عن الربيع بالورد الجميل والفل العجيب والتمر حنة روائح الجنة بشحناتها الدافئة ورنينها المألوف ليحولها إلى بناء هندسي بارد يخضع لقواعد العروض وقوالب القافية ولا شيء فيه من حرارة الخلق أو سخونة الحياة. فاذا تجردت هذه الأبيات من نداءات الباعة في الأسواق لا يبقى فيها من دلائل الإحساس بالربيع والامتزاج بالطبيعة إلا أن الربيع يمشي في السهل مشى الأمير في البستان وإن صبغة الله أجمل من صبغة رفائيل. فإذا عرفنا أن مشية الأمير في بستانه كمشية كل إنسان في كل بستان وأن الأمير قد لا يكون في أسعد حالاته لأنه قد يمشى في مباذله فضلاً عن أنه قد يكون شيخاً فانياً لا حسن فيه ولا عاطفة، وقد يكون فتى دميماً لا بهجة له ولا وسامة, إذا عرفنا هذا عرفنا بالتالي أن هذا التشبيه «البلاطى» الذي يلحق الربيع بديوان التشريفات لا شيء فيه من إحساس الإنسان، فضلاً عن الإنسان الشاعر. وأما أن صبغة الله أجمل من صبغة رفائيل. فهي عند العقاد كلمة لا تدل على إحساس بالطبيعة ولا إحساس بالفنون لأن الجمال في الفن شيء والجمال في الطبيعة شيء آخر، وغاية الفنان أن يصور الطبيعة من خلاله، وليس أن يصورها تصويراً فوتوغرافياً مطابقاً للأصل حتى يقال له أين الصورة من الأصل وأين خلق الإنسان من خلق الله؛ يضاف إلى ذلك أن رفائيل رسام البورتريهات والشخوص المقدسة ليس هو الذي يضرب به المثل في تصوير البساتين والازهار وهذا معناه ان أبيات أمير الشعراء إلى جانب افتقارها إلى إحساس الإنسان بالربيع فضلاً عن الإنسان الشاعر تفتقر أيضاً إلى الذوق في الفن والعلم بالتاريخ. والذي يخلص إليه العقاد من هذا كله هو أن ولع شوقي بالتشبيه جعله ينظر إليه على أنه غاية في ذاته وليس وسيلة إلى غاية أبعد مدى وأكثر أهمية. والعقاد يريد أن يصل إلى القول إن إسراف شوقي في استخدام أداة التشبيه مجاراة لأسلوب الأقدمين حتى أصبحت علاقته بالسلف كعلاقة الأصل المطبوع بالصورة المنقولة وعند العقاد أن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو ارجاعه إلى مصدره, فإذا كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعوراً حياً ووجداناً تعود فيه المحسوسات كما تعود الأغذية إلى الدم ونفحات الزهر إلى عنصر العطر .. فذلك شعر الطبع القوى والحقيقة الجوهرية».
وقد أحدث العقاد ضجة في صفوف الشوقيين عندما تناول سينية شوقي في الاندلس التي عارض بها سينية البحترى في ايوان كسرى واعتبرها نقاد آية من آيات الاعجاز الشعري تفوق آية الشاعر العربي القديم, فقد استخدم العقاد قيمة الصدق الفني للكشف عن شاعرية التقليد في قصيدة شوقي وشاعرية الأصالة في قصيدة البحترى, وبالتالي للحكم بالزيف على شعر الاول وبالصدق على شعر الأخير. وهنا يقابل العقاد بين أسى البحتري في قوله: وبين ما أسماه « شعوذة» شوقي في أساه حين يقول للسفينة القادمة إلى مصر:
نفسي مرجل وقلبي شراع أو حيث يقول إن سواقي الجيزة إنما تضج اليوم لأنها تبكي على رمسيس:
أكثرت ضجة السواقي عليه أو حين يقول في وصف الأهرام وإبي الهول:
وكان الأهرام نيران فرعو فالعقاد يرى تلك الأبيات شعوذة! لا شيء فيها من صدق الإحساس ولا من صدق التعبير, فالذين بنوا «أبو الهول» لم يكونوا فطساً، بل أين كان الفطس من إبي الهول حين بناه أولئك الجنة الذين برأهم شوقي من داء الفطس؟
كما كان العقاد يرى في شوقي شاعر نماذج وليس بشاعر النفس البشرية أو الشخصية الإنسانية، ولا يعنى العقاد هنا بشعر الشخصية أن يتحدث الناظم عن شخصه ويسرد تاريخ حياته كما فهم الشوقيون، وإنما شعر الشخصية هو كلام الشاعر الذي يعبر به عن الحياة كما يحسها هو لا كما يحسها غيره. وقد أحدث العقاد ضجة في صفوف الشوقيين عندما تناول سينية شوقي في الاندلس التي عارض بها سينية البحترى في ايوان كسرى واعتبرها نقاد آية من آيات الاعجاز الشعري تفوق آية الشاعر العربي القديم, فقد استخدم العقاد قيمة الصدق الفني للكشف عن شاعرية التقليد في قصيدة شوقي وشاعرية الأصالة في قصيدة البحترى, وبالتالي للحكم بالزيف على شعر الاول وبالصدق على شعر الأخير.
لكن ثورة العقاد خفتت بعد سنوات، حيث جاء من ينقدها ويثور عليها عبر الشعر الجديد الذي اقتصر على وحدة التفعيلة ومحاولة جعل القصيدة كياناً مستقلاً في ذاته يكمن مضمونه في لغته الحرة وصياغته الطليقة لا في محاولة تصوير العالم والتعبير عن الذات الأمر الذي رفضه العقاد بشدة ليثبت لنا أن ثورة العقاد على شعر شوقي هي في حقيقتها ثورة مضمون أكثر منها ثورة شكل بمعنى أنها بقدر ما قلبت التصور النقدى لمضمون الشعر بقدر ما حافظت على شكل الشعر التقليدي سواء من حيث وحدة الوزن أو وحدة القافية, فالقصيدة العقادية من هذه الناحية لا تختلف عن القصيدة الشوقية. صحيح أن العقاد دعا إلى وحدة القصيدة بعد أن كان الاهتمام منصباً على وحدة البيت، ولكن ذلك ليس من قبيل الثورة بقدر ما هو تصحيح لموازين الشعر. ومع كل هذا الهجوم العاصف بقي شوقي والشوقيون على مدار السنوات وسيبقون معترفين معتزين بأمير الشعراء الذي قال عنه حافظ إبراهيم عندما بايعه:
وألقى خليل مطران قصيدة استهلها بقوله: وأخيراً فإن مِنْ أجمل ما قيل في شوقي ومصر
مصر بشوقي قد اقر مكانها ويبقى العقاد المفكر الأديب الفنان، وهو فوق ذلك صاحب رسالة شاملة نبيلة تهيأ له بعكوفه الطويل على النظر والمعاناة أن يؤديها في امتلائها وازدهارها لا إلى مصر وأمته العربية والإسلامية، بل إلى الإنسانية قاطبةوسيبقى أثر العقاد ما بقيت هذه الرسالة.
|