أدب الرحلات عند ال

أدب الرحلات عند الشيخ علي الطنطاوي
المصدر: مجلة الأدب الإسلامي - المجلد 9 - العدد 4 و35 - 1424هـ، 2002م
مقالات متعلقة
تاريخ الإضافة: 15/9/2007 ميلادي - 4/9/1428 هجري
زيارة: 10679




كان لفضيلة الشيخ والأستاذ الأديب علي الطنطاوي -رحمه الله- دورٌ بارز ومتميِّز في ميدان الرحلات؛ لكثرة رحلاته وتنوعها، واتساع مداها؛ ولتناوله هذه الرحلات فيما كتب من مقالات، وما نُشر من مؤلفات.
وقد بدأ رحلاته مبكراً؛ فبعد حصوله على شهادة الثانوية العامة (البكالوريا) -سنة 1928م- كثرت رحلاته إلى دول مجاورة أو بعيدة، وتعدَّدت وتنوَّعت أهدافها؛ بين طلب العلم، والعمل، والعبادة، والاكتشاف، والدعوة، والعمل لقضايا الأمة، والمشاركة في المؤتمرات الإسلامية.
ولو اقتصرت رحلاته هذه على تحقيق ما يرنو إليه منها؛ لنسيها هو ولم نذكرها نحن، ولكنه عمد إلى الحديث عنها والكتابة فيها، كما فعل الشعراء في ارتحالهم، والمستكشفون في جولاتهم.
والشيخ الأديب علي الطنطاوي ذو قلم سيَّالٍ إذا كتب، ولسان ذَرِبٍ إذا تحدَّث، وخيال مجنَّح، ونفس مرهفة، وعين دقيقة في التقاط كل جديد وعجيب ومثير ومؤثر! كما أن ذاكرته قوية في الاحتفاظ بما يراه أو يسمعه أو يدركه؛ فقد بقي متوقد الذهن، يستعيد المشاهد، حتى حين بدأ يكتب ذكرياته، أو يتحدث عن رحلاته بعد مضي نصف قرن على بعضها!!.
لقد جوَّب في الآفاق، فزار مصر والعراق والحجاز مراراً، كما زار إيران وباكستان والهند وسنغافورة وماليزيا وإندونيسيا، وزار ألمانيا وأماكن أخرى، ولم يفته أبداً أن يتحدث -أو أن يكتب- عن كل زياراته هذه، حتى استغرقت قسماً كبيراً من حلقات ذكرياته، كما شغلت حيزاً كبيراً من أحاديثه الإذاعية والتلفازية، وأصدر عنها عدَّة كتب، سجَّلها بأسلوبه الأدبي الجذاب.
تنوع ما يتناوله في رحلاته:
وقد تحدَّث بتفصيل أو بإيجاز في "ذكرياته" عن زيارته إلى مصر، مروراً بفلسطين[2]، وعن زيارته إلى بغداد سنة 1936[3]، وعن زيارته إلى القدس 1954[4]، وإلى كراتشي ودلهي[5] وسنغافورة وماليزيا[6]، وأخرى إلى ألمانيا 1970[7]، كما تحدث عن قدومه إلى الرياض[8].
ولكثرة رحلات الشيخ علي الطنطاوي؛ فلن أتناول منها إلا رحلتين:
فقدانه مذكرات الرحلة:
وهو بذلك يحاول أن يجعل وصف رحلته أدقَّ وأعمق ما يكون.
ولكنه فقد دفتره هذا -بكلِّ ما فيه من معلومات- قبل وصوله إلى المدينة المنورة؛ فاضطرَّ إلى الاعتماد فيما كتب بعد ذلك على ذاكرته، وبعث مقالاته إلى مجلة "الرسالة" في القاهرة، و"ألف باء" في دمشق، كما أنه عاد إلى هذه الرحلة وتحدث عنها في ذكرياته، في حدود عشر حلقات من الجزء الثالث.
وهو يصور لنا فيما كتبه عن رحلته هذه الطبيعة القاسية للأراضي التي مرَّ فيها، فهي جبال وصحاري وبواد لم تطأها أقدام مسافرين من قبل؛ لأنهم اضطروا إلى الابتعاد عن الطرق المسلوكة من قبل؛ فيقول مثلاً:
عيوب الرحلة:
ولم يتحرج عن ذكر عيوب هذه القافلة، وسلبياتها، وأخطائها، ونواقصها؛ فلم يكن معهم خريطة للمنطقة، ولا بوصلة، ولا أمير للركب:
وفوق كل ذلك؛ اتخذوا دليلاً في الصحراء، تبين لهم -بعد فوات الأوان- أنه جاهل لا يعرف الطرق، ولم يركب في هذه الصحراء سيارةً من قبل! أو أنه قليل الخبرة، ولكنه خيرٌ منهم؛ فهم لا خبرة لهم.
في مركز حدود السعودية:
وساروا أمامنا حتى بلغنا الخِبَاء في أعلى التل، فإذا فيه البُسُط والجلود، ورَحْلُ جملٍ يتكئ عليه الجالس، وفي وسَط الخِبَاء حفرةٌ فيها نارٌ موقدةٌ، حولها دِلالُ القهوة. وواجبهم الرسمي أن يتحققوا من أسمائنا، ويستقرؤوا أحوالنا، وهم في حَيرة من أمرهم بين هذا الواجب الرسمي وبين كرم المضِيف، حتى حلَّ هذه المشكلة كبير الرحلة الشيخ ياسين الروَّاف، فأطلعهم على الجوازات، وبعد أن أدَّوْا واجب الوظيفة، تفرغوا لأداء واجب الضيافة العربية"[12].
مساجد (القُرَيَّات):
ولا يسكت عمَّا يرى أنه مخالفٌ لرأيه؛ فيقول:
مجلس الملك عبدالعزيز:
من مصاعب الرحلة:
2- رحلته إلى إندونيسيا:
وقد استغرقت رحلته هذه ثمانية أشهر، جال خلالها في أرجاء العالم الإسلامي شرقاً، حتى وصل إلى إندونيسيا، مروراً بالعراق وباكستان والهند وبورما وسيام والملايوا وسنغافورة، وبعد أن عاد سجَّل رحلته هذه عبر أحاديثه الإذاعية، ومقالاته في مجلة "المسلمون"، ثم جمع ما أذاع وما نشر في كتاب اسمه "في إندونيسيا.. صورٌ من الشرق"، وتحدث عنها أيضاً في "ذكرياته".
وهو كلما وصل فيما كتب إلى دولة أو مدينة؛ وقف عند طبيعتها، يستجلي جمالها وخضرتها، وأنهارها الجارية، وجوِّهاً اللطيف، وتحدَّث عن تاريخها الغابر، وعن وصول الإسلام إليها، وتناول واقعها المعاصر من ثوراتها التي أوصلتها إلى الاستقلال، وحركاتها السياسية، وتطوراتها الاجتماعية والعمرانية، وعادات شعوبها، وكأنه آلة تصوير للصورة والصوت، مع لمس المشاعر والأحاسيس والعقائد والمواقف.
(جَاوَة) جنة الدنيا:
وكان يقف في وصفه عند بعض مغانيها؛ فيصور بقلمه جمالها.
بين الماضي والحاضر:
ولم ينسَ أن يعقد فصلاً للحديث عن وصف ابن بطوطة لجزيرة (جاوة) -يقصد (سومطرة)- وإبرازه جمالها، وأنواع أشجارها، وعادات أهلها وملابسهم في تلك الأيام.
كما تحدث عن واقعها السياسي، ودور الحركة الإسلامية والجمعيات والأحزاب الإسلامية؛ ومنها (شركة إسلام)، و(الجمعية المحمدية)، و(مجلس الشورى الإسلامي- حزب ما شومي)، و(جمعية نهضة العلماء)، و(الجماعة الإسلامية).
كما تحدث عن (دار الإسلام) في إحدى جزر إندونيسيا، وعن الحركات التنصيرية فيها، والمدارس الأهلية والإسلامية.
مشاهد من إندونيسيا:
ويتحدثُ عن وسائل النقل في داخل (جاكرتا)، وأكثرها انتشاراً الدراجات، حتى ظنَّ ورفيقه -عند جولته الأولى فيها- أن هناك موسم سباق بالدراجات (الهوائية)! يقول:
وأغرب من ذلك -في التكشُّف- أن فيها نهراً فيه ماءٌ قليلٌ، ينزل إليه الرجال والنساء عراةً؛ إلا ما يستر السوأة الكبرى، فيغتلسون معاً! ولم أجد من ينكر عليهم هذا المنكر!!"[18].
وهذا من استطرادات الطنطاوي التي اشتهر بها في أحاديثه، وفي كتاباته أيضاً.
ثم يعود ليكمل حديثه عن وسيلة نقل أخرى هي (الرَّكْشَة)، وهي:
ثم يذكر أنواعها المتطورة، ويقارن بينها وبين مثيلاتها في (كلكتا) و(كراتشي).
عجبٌ من عجب!!
"يجعلونه أكبر أعيادهم، ويحتفلون به احتفالاً ضخماً في القاعة الكبرى من قصر الرئاسة، ويشترك رجالهم ونساؤهم في الاحتفال. يجلس الرجال في المقاعد اليمنى، والنساء في المقاعد اليسرى، لا يتجاورون في المجالس، وأكثر النساء الحاضرات قد ألقينَ المناديل على رؤوسهنَّ، فسترنَ بها شعورهنَّ. وافتتحت الحفلة بآيات من القرآن، تلتها قائمةً أمام المذياع زوجة الرئيس سوكارنو، بصوت رخيم، وقراءة فصيحة صحيحة المخارج.وقد عجبت من قراءتها القرآن دون الرجال فعجبوا من عجبي!!"[19].
نبات أم بنات؟
"فكانت عن يسارنا مزارع الرُّز، وعن أيماننا الجبال، تلبس فروةً خضراء، تتزاحم على سفوحها وذراها عمالقة الأشجار، يمشي في موكبها وبين أرجلها آلافٌ من أنواع النبات، فمن دخل هذه الغابات لم ترَهُ عين الشمس، ولم يَرَ هو وجه السماء؛ لأنه يكون تحت سبعة سقوف من الأغصان والأوراق! ورأيت الزهر خلال نبات الأُرز كالشقائق الحمر خلال حضرة القمح في بلادنا، فلما دنا بنا من ذلك القطار، رأينا ما حسبناه زهراً ليس بالزهر، وما ظنناه من النبات إنما هو البنات الحاصدات بأزُرِهن الملونة "الفوط" التي تحكي الزهر بنقشها ولونها، وعلى رؤوسهن قبعات الخوص الكبار، كأنها المظلات الملونة المنقوشة!!"[20].
تصرفات سلبية:
"وكان معنا مرافقان يتكلمان العربية؛ واحدٌ من وزارة الشؤون الدينية، عالمٌ فاضلٌ أمينٌ صادقٌ، وآخر من وزارة الخارجية، رأيت الكثير من شرِّه وضرِّه، وتعلَّمت منه أن الكذب والاحتيال بضاعةٌ موجودةٌ في كل مكان، وأن الواحد ربما أساء بفعله إلى بلد بكامله، فقد كان يأخذ السيارة المخصصة لنا ويدعنا بلا ترجمان، نستأجر السيارات، ويأكل في المطعم على حسابنا، وهو يأخذ من الحكومة ما يدَّعي أنه صرفه علينا لأننا ضيوفها!!"[21].
(الجودك):
"وهؤلاء يأكلون دائماً الرز المسلوق، الذي يخلطونه بالفليفلة، يعملونه كـ (جرادق) رمضان، والموز المشوي والمقلي والمطبوخ، والشاي البارد بلا سكر"[22].
"وكنتُ كلما شكوتُ من هذا الطعام قالوا: ستذوق (الجودك)؛ فتعرف ما لذة الطعام الإندونيسي، فهو أفخر طعام في الدنيا! فإذا بي أجد في فمي (شوربة) زيت الخروع بصبغة اليود!! ولم أستطع أن أبتلع اللقمة؛ فقلت: واشوقاه إلى الشام وطعام الشام!!"[23].
والحديث عن رحلات الشيخ علي الطنطاوي يطول بمقدار طول حديثه هو عن هذه الرحلات، الذي امتاز بدقة الوصف، وكثرة التمثيل، والإسهاب، وكثرة الاستطراد، كما امتاز بأسلوبه الأدبي الرشيق، الذي جعل رحلاته تتقدم على كثير من كتب الرحلات الحديثة، التي اهتمت بالموضوعية أكثر من اهتمامها بالأسلوب.
مع حَدْوِ القافلة:
كيف نشدو لك أشواق الروح؟ فأي لغة شفيفة تراها تحيط بذكرياتك؟! كيف نحاور اليوم دمشق بكل ينابيعها المفعمة بدفء نبضك لتحنو عليك؟!.
أي تاريخ غدا قطوفاً دانيةً من صفاء أحاسيسك؟! أي تاريخ قرأناه معك عابقاً في حياة أبي بكر، وأخبار عمر، رضي الله عنهما؟! ترى أنَّى نحدثك، وكل ما نسطره لن يفيض عن حديث أنفاسك؟!.
أتموت واقفاً، أبياً، فقيهاً، أديباً، في الزمن الصعب، زمن التردي، حين داهمنا ركان الخنوع والانكسار؟!.
أتموت شامخاً؛ وكنا نسألك حين تعز الأسئلة، حين نتوجس راجعين منحنين من ثقل المعصية؟!.
أتموت ونحن لم نزل نهدهد آهاتنا، نفرُّ من نفحات الألم إلى "نفحات الحرم"، التي تداعب أزهار سطورك؟!.
من منا تراه سيهاتفك وأنت الذي هاتفت عروقنا اليابسة بأندى "هتاف المجد"؟!.
هل ترانا نشعل الجراح ثانية، وأنت الذي أشعلت جراحنا في "قصتنا مع اليهود"، وأوغلت بنا في "صور من الشرق الأسير"؟!.
عمَّ نتحدث إليك وأنت الذي أضأت حروفنا المتعبة في دمغ زيف الحضارة عبر "موقفنا من الحضارة الغربية"؟!.
هل من كلمات تتألق مع حَدْو القافلة أمام: "رجال من التاريخ" وأمام "عبدالرحمن بن عوف" أو "عبدالله بن المبارك"؟!
وهل من باقات نقطفها إليك؟ ومن أي نافذة مشروعة سنأوي إلى رباك المزهرة؛ وفينا كل هذا الأسى؟!.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/1326/#ixzz3bk7FBpZt