أمل دنقل المستقوي
«لا يُغضب الحكمة صوت الهذيان»، يكفي أن يقول شاعر ما هذا البيت، حتى من دون أن نعرف أنه أمل دنقل، لنفهم أن انحيازه هو إلى الهذيان، وأن موقفه واضح ضدّ الحكمة، والتعقّل، أي: ضدّ سلطة الحقيقة، إذا تحذلقنا قليلاً. فما بالك لو عرفنا أن صاحب هذا البيت هو صاحب «لا تصالح... ولو وقفت ضدّ سيفك كل الشيوخ»، الشاعر الذي عُدَّ دائماً الصوت الأكثر حدّة ضدّ السلطة.
في قصيدة «لا تصالح»، وهي أكثر قصائد أمل دنقل شهرة، يظهر موقف الشاعر الشاب الذي سأم كلام الشيوخ، ضدّ سلطة المال: «لا تصالح ولو منحوك الذهب»، ضدّ سلطة القوّة: «لا تصالح/ ولو قال من مالَ عند الصدام/ ما بنا طاقة لامتشاق الحسام»، سلطة القدر: «لا تصالح ولو حذّرتك النجوم/ ورمى لك كهّانها بالنبأ»، وضدّ سلطة المنطق - الحكمة - الشيوخ: «لا تصالح ولو قيل» هي لازمة يبدأ بها دنقل الكثير من مقاطع هذه القصيدة. ودائماً صوت «ما قيل» هو صوت الحكمة والمنطق، وتردّ عليه القوّة السحرية الهائلة الكامنة في الأمر المقدّس: «لا تصالح»، وهو الأمر الذي توجّه إلى أجيال من المثقفين تلت دنقل. هو أمر، بقوّته السحرية، ظلّ سارياً ومؤثّراً حتى اليوم.
ما الذي امتلكه دنقل بخلاف القوّة السحرية الكامنة في عبارة «لا تصالح»؟ هو يملك الكثير من المنطق بطبيعة الحال، والقدرة على السجال، أي أنه يستخدم الحكمة حتى وهو يُعارضها، وكل حكمة يقولها الشيوخ يملك هو حكمة مناقضة لها:
«لا تصالح ولو قيل رأس برأس
أكلّ الرؤوس سواء؟
أقلب الغريب كقلب أخيك».
منطق نختلف معه بالطبع - فمثلاً: من أين له ذلك التصوّر «البديهي» عن عدم تساوي الرؤوس كلّها!؟ - لكن اللجوء إليه يعني أنه ليس لدى دنقل شيء ضدّ الحكمة في حدّ ذاتها، حتى وهو يهتف أحياناً ضدّها، كما أنه ليس لديه شيء ضدّ سلطة القوّة: «أنت فارس هذا الزمان الوحيد/ وسواك... المسوخ»، حتى وهو يهتف ضدّها. ما أتى ليدرسه هذا المقال إذاً، هو السلطة التي مثّلها الشاعر دائماً في قصائده، حتى وهو يتحدّث ضدّها، ليس فقط وهو لا يدّعي الحديث باسمها. في بيت آخر شهير له يهتف: «المجد للشيطان/ معبود الرياح/ من قال: لا/ في وجه من قالوا: نعم»، يصارع دنقل سلطة الربّ، جاعلاً الشيطان بطله الدرامي، لكن الشيطان يتحوّل، بشكل دراماتيكي، إلى معبود هو الآخر، ومستحقاً للمجد؛ يستبدل دنقل رباً بربّ.
«ملك أم كتابة
صاح بي فانتبهت
ورفّت ذبابة
حول عينَين لامعتَين
فقلت «الكتابة»
فتح اليد مبتسماً... كان وجه المليك السعيد
باسماً في مهابة».
هنا، في قصيدة «من أوراق أبي نوّاس»، يدور الصراع بين الملك والكتابة، والنصر المبدئي هو للملك، كما ينتصر العسس على الشعر: «كل ما أكتب في هذه الصفحة الورقية/ صادرته العسس!؟»، لا يمكن لدنقل أن يعلن انحيازه إلى الملك، على الأقل ظاهرياً، لكن أشكال السلطة كثيرة، وغالباً ما ينحاز دنقل إلى واحد منها أو إلى أكثر (سلطة الكلمة - القصيدة مثلاً في المثالَين السابقَين، وفي: «الكلمة - إن تكتب - لا تكتب من أجل الترفيه» من قصيدة «أوتوجراف»). في بيت آخر في قصيدة شهيرة له بعنوان «سفر الخروج - أغنية الكعكة الحجرية»، وصارت في ما بعد مانيفستو للمظاهرات الطلابية، يقول:
«المنازل أضرحة... والزنازن
أضرحة... والمدى أضرحة
فارفعوا الأسلحة
إرفعوا
الأسلحة!».
يرى دنقل الموت في كل مكان، المدى أضرحة، والرد على الموت يكون بالسلاح. السلاح دوماً كان مصدراً مهمّاً وملهماً للشاعرية، لكن أيضاً لا يمكننا تجاهل أنه - أي السلاح - هو أحد منتجي الموت، الموت الذي يشكو الشاعر من رؤيته في كل مكان حوله. يردّ الشاعر على الموت بالموت، ولا نفهم لماذا علينا أن نستجيب إلى الموت الذي يدعو إليه ولا نستجيب إلى الموت الآخر الذي يراه حوله. يقول: «رايتي: عظمتان وجمجمة/ وشعاري الصباح»، على الرغم من اتخاذه هيئة القرصان، فإن الموت الذي ينادي به سيأتي بالصباح (وإن لم يبرهن على ذلك)، أما الموت الذي يراه من حوله، فهو الموت الذي يطالبنا بكراهيته، هو موت يحاصر الطلبة المتظاهرين ويحقّق معهم. أي أن جريمة هذا الموت الآخر، إذا مددنا الخط على استقامته وجعلنا صوت الشاعر معبّراً عن الطلبة المحاصرين، جريمته هي في كونه يحاصر الموت الذي يدعو إليه الشاعر. الآخر هنا يصبح كل ذنبه أنه «آخر»، أنه ليس «أنا».
وذنب إضافي: يشير دنقل إلى الطلبة قائلاً:
«يغنّون: نحن فداؤك يا مصر
"نحن فداؤُ...»
وتسقط حنجرة مُخرسة
معها يسقط اسمك يا مصر - في الأرض».
الطلبة في هذه اللحظة هم مصر، وانكسارهم هو سقوط مصر، وأعداؤهم إذاً بطبيعة الحال يصبحون أعداء الوطن.
لا يمكن المرور على هذه النقطة من دون المرور على «الوطن»، تلك السلطة الرمزية التي يقارع بها دنقل سلطة الدولة والشرطة والمحقّقين. في قصيدة «مقابلة خاصة مع ابن نوح» يحكي دنقل قصة الطوفان القرآنية بتفاصيلها المعروفة، مع دلالات مختلفة: ابن نوح يرفض الهرب من الطوفان، «بعد أن قال لا للسفينة/ وأحب الوطن»، والجبل، الذي يفترض أن يعصمه من الماء في القرآن، يختلف معناه هنا: «ونأوي إلى جبل لا يموت/ يسمّونه الشعب»، بسلطة الوطن والشعب يتمكن دنقل من تقريع الهاربين، وأولهم «الحكماء»، ثم «المغنّون - سائسي خيل الأمير - المرابون/ قاضي القضاة - (ومملوكه!)/ حامل السيف - راقصة المعبد... ها هم الجبناء يفرّون نحو السفينة/ بينما كنت/ وكان شباب المدينة/ يلجمون جواد المياه الجموح»، وهكذا، فالجميع يهرب، ولا يبقى سوى الشباب، ويسمّيهم دنقل «الشعب»، في المدينة. الشعب - الوطن - الشباب، كلّها ترسانة بلاغية يستخدمها شاعرنا لأجل توبيخ الهاربين، العاديين، غير الأبطال. وماذا عن الفلسطينيين الهاربين من العصابات الصهيونية في النكبة؟ هل يراهم دنقل جبناء؟ هل يستطيع تصويرهم باعتبارهم مرابين وراقصات ومماليك وسائسي خيل الأمير؟
نلمح هنا شيئاً من الاستعلاء على الإنسان العادي، الفاني، الذي يخاف الموت، لمصلحة البطل الخارق الذي لا يفكر سوى في الوطن، لا في نفسه ولا في جسده.
مثير للدهشة هنا سؤال آخر: لماذا قال دنقل: «جبل... يسمّونه الشعب»، ولم يقل «جبل... هو الشعب»؟
هل شعر بفداحة استخدام مصطلح «الشعب»، بيقينيّته التي لا تقبل التشكيك، فأراد التخفيف من حدّتها قليلاً؟ ربما، تظل هذه محاولة جيّدة، لكنها أبعد ما تكون عن الجذرية، كما يلزم التذكير.
التعالي على الإنسان العادي، الذي ليس بطلاً، يبدو أكثر وضوحاً في قصيدته «كلمات سبارتاكوس الأخيرة». يمكننا اعتبار القصيدة محاكاة ساخرة لخطاب يتصوّره الشاعر خطاباً للخضوع. يطلب سبارتاكوس وهو على المشنقة بأن يعلّموا أبناءه الانحناء لأن: «من يقول «لا» لا يرتوي إلا من الدموع!»، و«الودعاء الطيّبون.../ هم الذين يرثون الأرض في نهاية المدى/ لأنهم... لا يُشنقون».
لن يكون جيداً بالطبع أخذ هذا الخطاب الاعتذاري من جانب سبارتاكوس، وهو أمام المشنقة، بالجدّية الكافية. الشاعر نفسه، منذ بداية المقطع الأول من قصيدته، والذي سبق الاستشهاد به هنا، يضرب جدّية القصيدة في مقتل، ويعلن رأيه المعارض لرأي بطله:
«المجد للشيطان... معبود الرياح
من قال: لا في وجه من قالوا: نعم».
المجد إذاً ظلّ مقصوراً، بأمر الشاعر، على الشيطان، البطل، سبارتاكوس، بينما حُرمت منه جموع العبيد العاديين، الذين يتألمون ويقاومون بصمتهم. ظلّ الصراع بين القيصر وسبارتاكوس، بين الرب والشيطان، والناس ليسوا طرفاً ذا بال.
الوطن برموزه هو محور قصيدة أخرى، كُتبت أثناء حرب الاستنزاف بعنوان «لا وقت للبكاء». يقول الشاعر:
«لا وقت للبكاء
فالعَلَم الذي تنكّسينه... على سرادق العزاء
منكس في الشاطئ الآخر... والأبناء
يستشهدون كي يقيموه... على «تبة» الوطن».
الوطن هنا يُختزَل في عَلَم، وألم العَلَم هو الألم الدراماتيكي، الموصوف في القصيدة. العَلَم «ملقى في الثرى/ ينهش فيه الدود/ ينهش فيه الدود... واليهود».
القصيدة تحوي بشراً يموتون بالطبع، تحوي ألماً حياً، لكن حجم وصف الألم البدني لا يُقارن بحجم الرموز التي يحشد بها الشاعر قصيدته: «هذه الخرائط التي صارت بها سيناء/ عبرية الأسماء»، أو: «على أبوابك السبعة يا طيبة/ يا طيبة الأسماء/ يقعي أبو الهول/ وتقعي أمّة الأعداء»، بالإضافة إلى شجرة الدر وصلاح الدين والخنساء وسفائن الإفرنج ولويس التاسع. عندما يخلق أمل دنقل وطناً، مهزوماً أو منتصراً، فإنه يخلق رموزاً له قبل أي شيء، قبل بشره وناسه وآلامهم وأفراحهم. موت شخص واحد لن يهمّ أحداً، لكن سقوط العلم سيهمّ الملايين، والحديث عن صلاح الدين سيحشد وراءه عشرات الملايين. سلطة الرمز هنا تقوم بإزاحة الفرد العادي، ترى ألمه ألماً غير مقدّس، تستبعده من اللعبة، كما استبعدت عبيد سبارتاكوس.
لدى شاعرنا شهداء كثيرون. في قصيدة «في انتظار السيف»، والمكتوبة عام 1970، نرى هذا المشهد:
«توقفني المرأة
في استنادها المثير
على عمود الضوء
(كانت ملصقات «الفتح» و«الجبهة»...
تملأ خلف ظهرها العمودا!)
تسألني لفافة:
(لم يترك الشرطي...
واحدة من تبغها الليلي)
تسألني أين كنت أمضي ليلتي... وحيدا
وعندما أرفع وجهي نحوها:
سعيدا
أبصر خلف ظهرها: شهيدا
معلّقاً على الحائط، ناصع الجبهة
تغوص عيناه... كنصلَين رصاصيَّين
أصرخ من رهافة الحدَّين
... أمضي بلا وجهة!!».
المشهد هنا مكتمل: العاهرة بكل تفاصيلها، السجائر وعمود النور والشرطي، وفي مقابلها، على الناحية الأخرى، في محور الخير إذا شئتم، ثمة ملصقات الفتح والجبهة، وثمة السلطة الرهيبة للشهيد: عيناه رصاصتان، وهما الوحيدتان القادرتان على إثناء البطل عن رغبته الجنسية. الحلال بيِّن والحرام بيِّن، ومحور الخير يقف بوضوح ضدّ محور الشرّ.
المشهد الأكثر دلالة يأتي في قصيدة مبكرة له بعنوان «مقتل القمر». يقول:
«وتناقلوا النبأ الأليم على بريد الشمس
في كل المدينة:
قُتل القمر».
سيتحوّل القمر إلى أسطورة بعد مقتله، «كان قدّيساً، لماذا يقتلونه»، أو: «كان يعجبه غنائي في المساء/ وكان يهديني قوارير العطور/ فبأي ذنب يقتلونه»، هنا لا يحوز الشهيد مجده، وتفوّقه على الإنسان العادي، كما في المثال السابق، من مجرّد كونه شهيداً، وإنما من أسباب أخرى، هو القدّيس، والقادر على إهداء العطور، ولأجل الرفع من شأن شهيده، يعرّفنا دنقل بأن شهيده هو الأب أيضاً، بما تحمله كلمة «الأب» من معانٍ:
«يا أبناء قريتنا أبوكم مات
قد قتلته أبناء المدينة... يا إخوتي: هذا أبوكم مات
ماذا؟ لا... أبونا لا يموت».
لأنه يهدي العطور، ولأنه قدّيس، ولأنه أب، يصبح الميّت شهيداً، وللأسباب نفسها، يصبح الشهيد خالداً، وخطوة أبعد: هذا الشهيد قادر على القتل أيضاً، عيناه كنصلَين رصاصيَّين. الذي لا يموت قادر على سلب الحياة، على إثناء الرجل عن رغبته في الأنثى.
واحد من أسلحة دنقل في قول «الحقيقة»، وهي مرادف لـ«الحكمة»، هو القضيب. يمكن له التشهير بشخص وتمجيد آخر باستخدامه وبالحديث عن الرخاوة والخصيان والطواشي و«كيف تنظر في عيني امرأة أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها»، في مقابل الفتوّة وسرد بطولات الفراش.
مَن غير المتنبّي يمكن لدنقل استلهامه هنا؟ المتنبّي الذي أراد هجاء كافور الإخشيدي فقال:
«من علَّم الأسودَ المخصيَّ مكرمةً
أقومه البيض أم آباؤه الصيد».
في قصيدة بعنوان «من مذكّرات المتنبّي» يتحدّث دنقل على لسانه، وهو يهجو كافوراً، فيقول:
«أبصر تلك الشفة المثقوبة
ووجهه المسود، والرجولة المسلوبة
أبكي على العروبة!».
سواد البشرة وارتخاء القضيب، وشارة العبودية في الشفة، كلّها تشكّل في بيت دنقل ملامح مأساة قوميّة، مأساة العروبة. والألف عام الفاصلة بين المتنبّي ودنقل لم تعلّمه شيئاً عن أن الجميع متساوون، الأحرار والعبيد، السود والبيض، الممتلئين رجولةً والفاقدين لها، والرجال والنساء والواقفين على الأعراف بينهم.
لا تتوقّف دلالات القضيب عند هذا الحد، فثمة أيضاً في القصيدة نفسها:
«وجدت هذا السيّد الرخوا
تصدّر البهوا
يقصّ في ندمانه عن سيفه الصارم
وسيفه في غمده يأكله الصدأ».
هذا بالطبع في مقابل مغامرات المتنبّي العاطفية، أو، في قصيدة أخرى بعنوان «الحداد يليق بقطر الندى»، تصبح قطر الندى هي الرمز القديم، هي الأنثى - الوطن: «قطر الندى... يا مصر/ قطر الندى في الأسر»، وهي أنثى محاطة، كالعادة، بأشباه الرجال. تبدأ القصيدة بشيء يشبه اللازمة الشعبية:
«قطر الندى يا خال
مهرة بلا خيال».
وفي نهايتها:
«كان (خمارويه) راقداً على بحيرة الزئبق
في نومة القيلولة
فمن ترى ينقذ هذه الأميرة المغلولة».
الأب هو المنوطة به حماية الابنة، الذكر منوطة به حماية الأنثى، و«كيف تنظر في عيني امرأة أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها».
في الأمثلة المشار إليها، لم يقدّم دنقل صوتاً للهذيان، كما توقّعنا منذ بداية المقال. لقد قدّم الحكمة فقط، الحكمة التي غالباً ما تُسلِّح نفسها بقصة قديمة، عن المتنبّي وكافور، عن سالومي ويوحنّا، عن حرب البسوس، حكمة تؤمن نفسها بمنطق ينتمي إلى خارجها، وتعتمد على النيل من رجولة الخصوم، وعلى حشد الرموز من جميع العصور لبناء الصورة البلاغية. كيف يمكن لفرد عادي، ليس شاعراً ولا يفهم معنى الكلمة المكتوبة، ولا يشغله كثيراً تاريخ الأمة، ويتعرّض يومياً للإيقاف والتعذيب في أقسام الشرطة لأسباب تافهة، أي لا تتعلّق بـ«البطولة»، أن يجادل في المنطق شاعراً يعلن أن بطله الذي لن يصالح هو «فارس هذا الزمان الوحيد... وسواه المسوخ»؟
«الغاوون»، العدد 15، 1 أيّار 2009