إنشاد الشعر




وما أكثر ما تَقلِب نبرةُ الصوت - أو لهجةُ النطق - العبارةَ الواحدة من معنى إلى معنى نقيض، ومِن طريفِ ما قرأتُ في هذا الباب أن رجلاً سرَق، فأراد القاضي أن يعاقبَه عقابًا معنويًّا، فحكم عليه أن يقف أمام الناس، ويعترف بذنبه قائلاً: "أيها الناس، أنا لص"، فصدع الرجل بالأمر، ولكنَّه لما وقف قال: "أيها الناس، أنا لص؟!" بلهجة الاستفهام الإنكاري، فانقلب المعنى من إقرار إلى إنكار.
وعندما يسوق الكاتب مثل قوله: "ما أحسن السماء"، لا يوضح المقصودَ منها إلا علامةُ ترقيم تأتي بعدها، فتكون تعجُّبًا "ما أحسنَ السماءَ!"، أو استفهامًا "ما أحسنُ السماء؟"، وينوب عن ذلك - كما ذكرنا - نغمةُ الصوت عند النطق بالكلام.
وهكذا يبدو التنغيم ذا أهمية بالغة في الكلام، ومن هنا نستحضر الإنشاد في الشعر، أو التغني به كما يقولون، وندرك أي أهمية لهذا الإنشاد في فهم الشعر، وفي الاستمتاع به، وفي تذوقه.
وقد ارتبط الشعر عند العرب منذ نشأته بالإنشاد والتغنِّي، حتَّى التصقت به عبارات من أمثال: "أنشد الشعر، وتغنَّى بقصيدة ..." وما شاكل هذا، قال الشاعر:
تَغَنَّ بِالشِّعْرِ إِمَّا أَنْتَ قَائِلُهُ إِنَّ الغِنَاءَ لِهَذَا الشِّعْرِ مِضْمَارُ |
وظل الإنشاد إلى العصر الحديث سيدَ الموقف، لم يشكِّك أحد في جدواه، أو يقلل من أهميته ودوره، حتى طلعت علينا موجات الحداثة - في جملة ما طلعت به - بأفكار تدعو إلى النأي بالشعر عن كلِّ مؤثر خارجي: من بيئة، أو عقيدة، أو تاريخ، أو مؤثر صوتي.
وسمعنا من يقول لنا: إن إنشاد الشعر يضيف إليه ما ليس منه، وإنه تدخل خارجي بين الشَّاعر والمتلقي، ويمكن أن يكون له تأثير في مصداقية عمليَّة التلقِّي، أو في توجيهها وجهة معيَّنة.
والحقُّ أنَّ هذه حجج واهية، وأنَّ لإنشاد الشعر وجهَه الإيجابي، الذي لا يستطيع أن يُنكِره أحد، إنَّ الإنشاد الطبيعي المتقن يقرِّب القصيدة من المتلقِّي، ويُعينُه على تذوُّقها، والإحساس بما فيها من نبضات خفيَّة، وأسرار جمالية، يبرزها الوقوف، أو المد، أو الإشباع المتقن لبعض الألفاظ والعبارات، كما أنَّ إنشاد الشعر عون كبير لأولئك الذين لا يحسنون قراءته، فيُحرَمون من الاستماع به وتذوقه، ولو سمعوه منشَدًا أو مغنًّى، لكانوا أوَّل من يتذوقونه ويحسون به، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Web/alkassab/10511/4926/#ixzz2XAJJxO2Y