الأدب وحركة الإحيا
المحاضرة الرابعة
د.عبيرعبد الصادق محمد بدوي
أستاذ الأدب والنقد المشارك
أدب عربي حديث
الفصل الثالث
الأدب وحركة الإحياء
الاتجاه التقليدي وبعض لمحات التجديد:
س: اشرحي وضع الشعر في مصر أثناء النصف الأول من القرن التاسع عشر.
كان الشعر يجري في مصر في أثناء النصف الأول من القرن التاسع عشر على الصورة التي كان يجري عليها في أثناء العصر العثماني، وهي صورة رديئة سواء في الأغراض والمعاني والأساليب أما الأغراض فكانت ضيقة تافهة، وكانت المعاني مبتذلة ساقطة، وأما الأساليب فكانت متكلفة، مثقلة بأغلال البديع وما يتصل بها من حساب الجهل الذي كانوا يؤرخون به حوادث شعرهم وقصيدهم.
ولم يكن من الممكن أن يتخلى كل الشعراء عن الطريقة التقليدية التي غلبت في الفترة السابقة، فقد وجد في هذه الفترة كثير من الشعراء، ممن عاشوا على تراث الفترة السابقة، وتتلمذوا على بقايا العصر التركي، لهذا نجد طائفة منهم لم يؤثر وعي الفترة كثيراً عليهم، ولم يخرجهم تماماً من تقليديتهم فظلوا ينظمون الشعر على تلك الطريقة التقليدية، السائرة في اتجاه الضحالة والتستر بالمحسنات والألاعيب كثيراً والآخذة بشيء من روح الشعر قليلاً.
وقد كان أكثر هؤلاء الشعراء يتخذون الشعر وسيلة لكسب العيش ومن هنا التصقوا بالولاة والحكام والرؤساء، مداحين ومجاملين، فكثر في شعرهم المدح الفاتر، وتسجيل المناسبات التافهة، التي تصل إلى التهنئة بمولود أو ختان غلام.
ومن هذه الطائفة من الشعراء التقليديين الخالصين، الشيخ علي أبو النصر والشيخ الدرويش، والشيخ العطار فشعرهم صورة لفظية قد تدثرت بثياب غليظة من محسنات البديع ليس فيها شعور ولا عاطفة، ولم يعد هناك إلا التقليد، وهو تقليد قاصر يقف عند النماذج العثمانية وما يقترب فيها، تقليد يشهد بقصور الأدب وضعف الذوق والعجز عن التعبير الحر الصادق.
وعن أي شيء يعبر الشاعر وكل ما يتصوره من الشعر أنه نظم لمعان معروفة، وكل ما له من فضل تكديس ألوان البديع بل أثقاله، وإضافة أثقال جديدة من مثل أن ينظم الشاعر قصيدة من حروف معجمة أو مهملة أو تقرأ أبياتها من آخرها إلى أولها الحروف في أبياتها أبياتاً أخرى، أو يستخرج منها تاريخا بحساب الجمل.
وليس وراء هذا جمعيه إلا الفساد، فقد أصبح الشعر حساباً وأرقاماً وتمارين هندسية عسيرة الحل، فإن ترك ذلك الشاعر فإلى الاقتباس والتضمين والتشطير والتخميس لقصائد معروفة.
وليس للشاعر من فضل في هذا العمل إلا أنه يُجزي كلاماً على آلات العروض والقوافي، وهو كلام مفكك، إذ يرص الشاعر الألفاظ على نحو ما يصنع عمال المطابع، ولا تستطيع في أثناء هذه العبث أن تقرأ معنى مبتكراً. فالشيخ علي أبو النصر مثلاً، ينظم أبياتاً على شكل لغز حول حرف التعريف «ال» فيقول في بعد تام عن الشعر وحقيقته:
س: انسبي الأبيات إلى قائلها .وإلى أي فترة من الفترات ينتمي ، وما الغرض من الأبيات؟
إذا كنت في الآداب سيد من درى |
|
وفي محكم الألغاز أحسن من يدري |
فما كلمة فيها كلام وإنها |
|
لفي غاية الإشكال يا غرة الدهر |
هي الحرف من حرفين واسم بمدة |
|
كذا الفعل منها لا يغيب عن الفكر |
وفي قلبها في الأصل بعض فوائد |
|
ولكنه لا زال في حيز الهجر |
وغايتها بدء لها عند ذي النهى |
|
وجملتها تأتيك في النظم والنثر |
على أن بعض التجديد قد ظهر كومضات مضيئة خلال أشعار بعض التقليديين فجاء شعرهم ـ في جملته ـ تقليدياً كسابقيهم، غير أنه امتاز عن شعرهم، بأنه لم يكن تقليدياً خالصاً، وهذه الطائفة الثانية كانت تتألف من نفر ممن أتيح لهم قدر من الثقافة الجديدة، أو أتيح لهم حظ من الاتصال بحياة أكثر رحابة وأعظم انفساحاً، كما كان لاطلاعهم على نماذج الشعر القديمة لشعراء العصر العباسي وما سبقه من عصور، واطلاعهم على الآداب الأجنبية هذا من جهة ، ومن جهة أخرى كثرة المدارس والبعوث إلى الغرب، كما كان لهجرة جماعات من السوريين واللبنانيين إلى بلادنا فراراً من ظلم العثمانيين أو لدوافع اقتصادية.
س: يطلق على النصف الثاني من القرن التاسع عشر «عصر محاولة الإصلاح».اشرحي العبارة.
فكان لكل هذه العوامل والعناصر أكبر الأثر في ارتقاء الذوق ومحاولة الإصلاح في كل شيء في الدين وفي السياسة وفي الأدب بحيث يمكن أن نسمي النصف الثاني من القرن التاسع عشر «عصر محاولة الإصلاح».
وقد أخذت تظهر تباشير هذا التحول في الشعر المصري عند محمود صفوت الساعاتي، وعبد الله فكري، وعلي الليثي، وعبد الله نديم، وصالح مجدي الذي كان يجاري أستاذه رفاعة في نظم القصائد الوطنية، فنراه في فترة الوعي يلتفت إلى بعض الموضوعات السياسية والاجتماعية فيقول فيها شعراً ناقداً، يدل علي وعي وصدق حس ، ومن ذلك حديثه عن تغلغل الأجانب في البلاد واستئثارهم بعديد من مناصبها، واستنزافهم لكثير من مواردها؛ وكان صالح مجدي في مثل الشعر، يعبر عن روح كل مصري وثورته([1])، حيث يقول:
إذ
ما زماني بالقنا والقواضب |
|
عليّ
سطا في مصر سطوة غاضب |
حملتُ
على أبطاله ببسالة |
|
و
بددتهم في شرقها والمغارب |
ولي
معه منذ الفطام وقائع |
|
بأيسـرها
تبيض سود الذوائب |
ومن
عجب في السلم أني بموطني |
|
أكون
أسيراً في وثاق الأجانب |
وأن
زعيم القوم يحسب أنني |
|
إذا
أمكنتني فرصة لم أحارب |
وأني
أغضـي عن مساو عديدة |
|
له
بعضها يقضـي بخلع المناكب |
وهل
يجعل الأعمى رئيساً وناظراً |
|
على
كل حربي لنا في المكاتب |
ومن
أرضه يأتي بكل ملوث |
|
جهول
بتلقين الدروس لطالب |
ويغتنم
الأموال لا لمنافع |
|
تعود
على أبنائنا والأقارب |
ولا
ينثني عن مصر في أي حالة |
|
إلى
أهله إلا بملء الحقائب |
فبينوا
عن الأوطان فهي غنية |
|
بأبنائها
عن كل لاه ولاعب |
وبهذا تقدم روّاد في الشعر يريدون أن يقوم دعائمه على أساسين من الحرية القومية والحرية الشخصية، غير أنهم لم يتخلصوا تماماً من البديعيات إنما الذي تخلص من ذلك كله ،هو البارودي وهو يعد الرائد المثالي لهذه الحركة إذ اشترك في الثورة العرابية وبعبارة أخرى أسهم في مطالب الحرية القومية وما كان يبتغيه المصريون من معيشة سياسية وعسكرية كريمة، وإذا درست شعره وجدته يتخذ الشعراء العباسيين ومن سبقوهم نماذج يقلدهم ويعارضهم، ولكن ليست المعارضة التي تلغي شخصيته، فهو يصور في شعره الحروب التركية والروسية التي شارك فيها، ويصور حياته الخاصة ومتعه قبل منفاه، كما يصور آلامه وهمومه في المنفى.
فلم يكن مقلداً للقدماء بالمعنى السيئ للتقليد، إنما كل ما هنالك أنه يريد أن يرد إلى الشعر العربي جزالته ونصاعته ورصانته، أما بعد ذلك فشخصيته في شعره
يعد البارودي رائد شعرنا الحديث،اشرحي العبارة شرحا أدبيا.
أما بعد ذلك فشخصيته في شعره
قوية بارزة، شخصية تستكمل حريتها. وليس هذا فحسب، فإنه يستشعر الحرية القومية، فيتحدث عن مطامح أمته السياسية ويأسى لما تتردى فيه من ضعف وخذلان، ويعرض للأحداث الخطيرة التي مرت بها، ويقارن بين ماضيها وحاضرها، ويصف أمجادها الغابرة.
وبهذا كله يُعد البارودي رائد شعرنا الحديث، فقد أنقذه من عثرة الأساليب الركيكة، ورد إليه الحياة والروح، حياة نفسه وروح عصره وقومه في الفترة التي عاش فيها، إذ جعله متنفساً حقيقياً لعواطفه ومشاعر أمته وما ألم به وبها من أحداث وخطوب([2]).
المدارس الأدبية في العصر الحديث:
كانت العوامل السابقة لها الأثر القوي في تفجير اليقظة العربية، ونمو الوعي القومي وتعميقه، مما أدى إلى اهتمام العالم العربي بألوان الفكر والثقافة وتراثه القديم ولغته العربية وأدبها، في صيحات قوية وعزمات جبارة عن رفاعة الطهطاوي وعلي باشا مبارك والأفغاني ومحمد عبده وأحمد لطفي السيد وعبد الرحمن الكواكبي، وعلى أثر ذلك ظهرت مدارس أدبية تأخذ من الماضي والحاضر، وتطلع على الشرق والغرب، وتعبر عن ذات البيئة العربية، وعن نفوس أدبائها تعبيراً صادقاً.
س: متى ظهرت المدرسة الاتباعية «الكلاسيكية»؟
س:وضحي أهمية ظهورالمدرسة الاتباعية «الكلاسيكية»
ظهرت المدرسة الاتباعية «الكلاسيكية» في بداية النهضة الأدبية الحديثة، إذ سبقت كل المدارس اللاحقة، بل عدها النقاد الأساس الأول الذي اعتمدت عليه المدارس الأخرى، والمنبع الغني الذي أفادها كثيراً، ولولاها لما تحققت للشعر الحديث الأصالة العربية، والقوة والجزالة في الأسلوب، ولسارت على الاتجاه الجامد للشعر في العصر العثماني.
لذلك عد رائدها البارودي هو زعيم المجددين في شعرنا، ورائد الاتجاهات العديدة في أدبنا العربي، وسار على نهجه تلامذته ومريدوه ومن بينهم حفني ناصف، وولي الدين يكن، وإسماعيل صبري، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وأحمد محرم، والرصافي ، والزهاوي ، والكاظمي، وفؤاد الخطيب، وشكيب أرسلان، وهؤلاء قد التزموا باتجاه البارودي في شعره في شتى النواحي من المعنى واللفظ والأسلوب والخيال والصور والغرض.
ثم جاء من بعدهم من زاد تجديداً في مدرسة البارودي وبخاصة المتأخرون من أمثال: الجارم، والأسمر، وعلي محمود طه، ورضا الشبيبي، وبشارة الخوري، وعزيز أباظة، وعمر أبي ريشة، ومحمود غنيم، وعلي الجندي، ومحمد عبد الغني حسن، وحمزة شحاته، وغيرهم ممن أحيوا عمود الشعر القديم، وأضافوا جديداً في الألفاظ والأساليب والصور والأخيلة والأغراض، وعبروا عن أنفسهم ومجتمعاتهم تعبيراً قوياً مؤثراً.
س: على يد من ظهر الشعر القصصي والمسرحي؟
س: على يد من ظهر الشعر الوطني والاجتماعي؟
س: على يدمن ظهر شعر الفلسفة ونقد المجتمع؟
وظهر على يدي شوقي الشعر القصصي والمسرحي، وعلى أيدي حافظ ومحرم والرصافي الشعر الوطني والاجتماعي، وعلى يدي الزهاوي شعر الفلسفة ونقد المجتمع متأثراً في ذلك بأبي العلاء.
محمود سامي البارودي([3]): 1255-1322هـ/1838- 1904م:
كان البارودي صدى لعصره ـ عصر ما قبل الثورة العرابية وما بعدها وترجمانا أميناً لمشاعر مصر فيه.
وفي هذا العصر كان للصحافة ولتقدم العلوم والفنون أثر كبير في تطور الأدب وقوته، ومدرسة البارودي هي مقدمة المدارس الحديثة في الشعر العربي.
وكان لمحمد عبده، وعلي يوسف، وإبراهيم المويلحي، تأثير شديد في الحركة الفكرية، وأخذت حركة إحياء التراث القديم، ونشر المعارف الغربية في مدارسنا، يعملان عملهما في عقلية المثقفين.
وإذا كانت الحياة الثقافية في مصر بعد الثورة العرابية قد ازدهرت بسبب الإقبال على التعليم والمعرفة، وتأجج الروح الوطنية في ثورة عرابي 1881م، وحركة مصطفى كامل 1908م، وبفضل الأزهر الشريف، وظهور طبقة الرواد والمفكرين من أمثال: محمد عبده، وعلي يوسف، ومصطفى كامل وسواهم ولغير ذلك من أسباب([4]).
فإن الأدب العربي قد ازداد ازدهاراً، بتأثير العوامل العديدة التي أثرت في عقول الناس وأفكارهم ومشاعرهم وخيالاتهم، وأخذ الأدب يتقدم بعد أن نهل الأدباء من حياض أعلام الأدب الأقدمين: في جاهليتهم وإسلامهم من مثل امرئ القيس، وأبي نواس، وأبي تمام، والبحتري، والمتنبي، وابن المقفع، والجاحظ، وكان من ثمرة هذه النهضة إبراهيم المويلحي الكاتب 1895م، ومحمود سامي البارودي الشاعر فبرئت آثارهما من كثير من آفات من سبقهما من المتأخرين، وإن بقي الأول متعلقاً بسجعه، والآخر محبوساً في أغراض شعره.
شاعرية البارودي:
كأنما خلق الباروي ليجدد الشعر، ويحيي دارس عروبته، فقد كان منذ حداثته يميل إلى آداب اللغة، ووجهه ذلك الميل إلى غشيان مجالس الأدب، واستماع ما يلقى من منثور ومنظوم، ثم صار يقرأ على الأدباء ويشاطرهم فقه ما يقرأ، ثم اشتغل وحده بقراءة الدواوين بالدقة والإمعان، حتى وصل في قليل من الزمن إلى ما لا يدرك في متطاول الأزمان، فنظم الشعر وهو دون العشرين، وصار يحذو الجاهليين والإسلاميين، فلا يقصر عنهم ولا يقع دونهم.
وإن تعجب فعجب أن البارودي لم يدرس قواعد العروض والقافية ولا قرأ النحو والتصريف ومعاجم اللغة، وإنما اتخذ الأدب إمامه ووصل إلى ما وصل إليه من طريق محاكاة الأقدمين، فلا تجد له ألفاظ نابية، ولا أساليب ضعيفة، كأنما هو من الأعراب النابتين في البادية: فطره سليمة، ونفس صافية، وإلهام إلهي، وتعهد سماوي.
فالبارودي له ميزة واضحة لا نظير لها في تاريخ الأدب المصري الحديث «وتلك أنه قد وثب بالعبارة الشعرية وثبة واحدة من طريق الضعف والركاكة إلى طريق الصحة والمتانة، وأوشك أن يرتفع هذا الارتفاع بلا تدرج ولا تمهيد، وكأنه القمة الشاهقة تنبت في متون الطود عما قبلها فينقطع بينها وبينه طريق الوصول إلا أن تستدير لها من القمم التي تليها وتقرب منها.
فإذا أرسلت بصرك خمسمائة سنة وراء عصر البارودي لم تكد تنظر إلى قمة واحدة تساميه أو تدانيه، وكنت كمن يقف على رأس الطود المنفرد فلا يرى أمامه غير التلال والكثبان والوهاد إلى أقصى مدى الأفق البعيد، وهذه وثبة قديرة في تاريخ الأدب العربي بصفة عامة، والأدب المصري بصفة خاصة.
ترفع الرجل المصري إلى مقام الطليعة أو مقام الإمام»([5]).
وشعر البارودي في حداثته يتميز عنه في أيام محنته، كما يتميز عن شعره في آخر عهده:
فشعره في أيام المحنة والاغتراب (1882- 1990م) ممتلئ فني رصين يحاكي شعر فحول القرنين الثالث والرابع من أمثال: أبي تمام، والبحتري، والمتنبي، وابن الرومي، والرضي وغيرهم: جزالة لفظ، وفحولة نظم، ورصانة قافية، وإشراق ديباجة.
وحين عاد إلى مصر استقبلها بقصيدته:
أبابل مرأى
العين أم هذه مصـر |
|
فإني أرى
فيها عيوناً هي السحر |
وهو مطلع متكلف.
وفي آخر عهده (1900- 1904م) فتر شعره، وخمدت جذوته، لما أصابه الكبر، ووهنت قواه.
وشعره عامة يمتاز بالقوة وجزالة اللفظ، وفخمة النظم، ومتانة القافية، وصفاء العبارة، حتى يمكن أن يقال إنه منذ مئات من السنين لم يجيء من الشعراء من يفوق البارودي في ذلك، أو من يدانيه.
وكان لحياته أثر عميق في تكوين شاعريته. فقد اشترك في المعارك الحربية، وتعلم الفنون العسكرية، وارتقى إلى منصب الوزارة ورئاسة الوزارة، وقاد الحركات التحريرية في عصره، واقترن اسمه دائماً بالثورة العرابية، حيث نفي بسببها وغير ذلك مما كان له أكبر الأثر في استقلال شخصيته في الأدب وقوة عزيمته في النهوض به، بعد أن تردى في ظلام الحكم التركي.
يتحدث عنه أستاذه المرصفي في الوسيلة الأدبية فيقول: أولع البارودي وهو غض الحداثة بحفظ الشعر، وأخذ نفسه بدرس دواوين الفحول من الشعراء المتقدمين، حتى شب فصيح اللسان، مطبوعاً على الإعراب دون أن يتعلم النحو، فانطلق يقول الشعر في أغراضه المختلفة، ونهض به نهضة عظيمة وأعاد إليه حلته العربية، وبهجته البدوية، حتى شاكل الشريف الرضي في جزالة اللفظ، ومتانة النسج وقوة الكلام، ولم يتخلف عن متقدمي الشعراء في شيء، على أنه أربى عليهم بما جال في فنون المعاني، التي تجلت بها الحضارة الجديدة، وما وصف من مخترعات أخرجها العلم الحديث.
س:اشرحي الخصائص الفنية لمدرسة البارودي.
الخصائص الفنية لمدرسة البارودي:
من حيث الألفاظ: ألفاظ البارودي ومن سار على نهجه تمتاز بجزالة اللفظ، وفخامة الكلمة، وبعدها عن عنجهية البداوة ووحشيتها.
من حيث الأساليب: تمتاز أساليبهم بالبلاغة العربية الأصيلة، المتينة الأسر، الرصينة السبك، البعيدة عن المبالغات في التصوير وقلة المحسنات البديعية، وما جاء منها أتى عفواً، مع العناية بالمعنى والاهتمام بالفكرة.
كما تطالع فيها قوة الجاهليين، وعذوبة الإسلاميين، ودقة العباسيين، ورقة الحضارة المصرية، وكلا هذين ـ الألفاظ والأساليب ـ أوحى بهما ولوعه بأشعار هذه العصور جميعاً وإعجابه بها وتملؤه من محفوظها تملوءاً ملك عليه حواسه وسرى في مشاعره، وتغلغل في دمائه، وحل في نفسه محل النفس، فنضح كل أولئك على شعره نضوحاً سلكه في نظام شعراء تلك العصور: إشراق أسلوب، ورقة ديباجة، وتخير ألفاظ ونسجاً عبقرياً منمنماً، افتتنت في تحبيره كل أولئك الأيادي الصناع، ولا ريب أن هذه إحدى دعائم زعامة البارودي الشعرية([6]).
ومن الأخيلة والمعاني: دارت الأخيلة والمعاني بين التوليدات في معاني هؤلاء السابقين، وبين ما أثارته الأحداث والمستجدات على الساحة من أحداث وقضايا.
وهذه هي الدعامة الثانية من دعائم زعامة البارودي الشعرية.
أما من حيث الأغراض الشعرية: فقد نظم البارودي وشعراء المدرسة في شتى الفنون والأغراض فنظموا في الفخر والمدح والرثاء، وعالجوا جميع الأغراض التي عالجها الشعراء القدامى.
وليس الباردوي في جميع الأغراض التي تناولها في شعره بمنزلة سواء، برز البارودي في وصف المعارك، وفي الشكوى والحنين إلى الوطن، وفي الوصف، وفي الفخر والتمدح وكان لا يفخر بالرجال ولكن بصفاتهم النبيلة، وأخلاقهم الفاضلة، وكفاحهم النضالي في تحرير الشعوب من الاستبداد والاستعمار.
ومن أروع صور الوصف في شعره وصفه السجن وفيه يقول:
فسواد
الليل ما إن ينقضـي |
|
وبياض
الصبح ما إن ينتظر |
لا
أنيس يسمع الشكوى ولا |
|
خبر
يأتي ولا طيف يمر |
بين
حيطان وباب موصد |
|
كلما حركه السجان صر |
يتمشى
دونه حتى إذا |
|
لحقته
نبأه مني استقر |
كلما
درت لأقضـي حاجة |
|
قالت
الظلمة: مهلا لا تدر |
وقد صور البارودي ومن سار على هديه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فأنشدوا الشعر الوطني القومي الذي ينادي فيه الشاعر بالتحرير، وإيقاظ الوعي في الأمة، والانتفاع بثرواتها وبخاصة بعد أن وقعت أحداث وطنية كبرى مثل ثورة أحمد عرابي وجهاد سعد زغلول، ومصطفى كامل والحرب العالمية الكبرى.
ونظموا كذلك في الشعر الاجتماعي الذي يصور البؤس والشقاء لأبناء الطبقة الكادحة، والثورة على الظلم الاجتماعي، والقضاء على الفوارق بين الطبقات في نمو وتدرج([7]).
يقول البارودي متجهاً إلى الشعب ليحفظ هممهم نحو بناء الوطن والحفاظ عليه:
فيا
قوم هبوا إنما العمر فرصة |
|
وفي
الدهر طرق جمة ومنافع |
أصبروا
على مس الهوان وأنتم |
|
عديد
الحصى إني إلى الله راجع |
وكيف
ترون الذل دار إقامة |
|
وذلك
فضل الله في الأرض واسع |
أرى
أرؤساً قد أينعت لحصادها |
|
فأين
ولا أين السيوف القواطع |
فكونوا
حصاداً هامدين أو افزعوا |
|
إلى الحرب حتى يدفع الضيم دافع |
فلم
أدر أن الله صور قبلكم |
|
تماثيل
لم تخلق لهن مسامع |
س: عددي عوامل شاعرية البارودي؟
عوامل شاعرية البارودي:
وشاعرية البارودي وليدة عوامل كلها يصلح وحده لأن يكون مذكياً لجذوتها، مشعلاً لجمرتها.
· فهو قارئ للشعر، حافظ للكثير منه، ناقد له يعرف جيدة ورديئه، وقديماً كان العربي يقول: «احفظ تقل إن الكلام من الكلام».
· وهو عارف للأدب التركي والفارسي، ينظم فيهما، ويستطيع أن يكون له بها تذوق ومعرفة، ودراية ونظر، كما كان على دراية بالآداب الإنجليزية.
· دعته ظروف حياته العسكرية إلى أن يسافر إلى أوربا ويشهد الحياة الأوروبية، مما كان له أثر كبير في شعره.
· «وهناك عنصر خطير كان له أعمق الأثر في تكوينه، وهو عنصر البيئة المصرية التي اضطرب في مشاهدها الطبيعية وأحداثها القومية والسياسية وأثرت هذه البيئة في روحه وكيانه الأدبي، بل لقد استبدت به استبداداً، حتى غدا في القرن الماضي شاعر مصر الذي لا يباري في تصوير الحياة المصرية من جميع أطرافها المكانية والزمانية»([8]).
وإذا أخذنا ننعم النظر في شعره على ضوء هذه العناصر التي ألفت شخصيته لاحظنا قوة العنصر العربي المكتسب، وهو عنصر لم يكتسبه بطريق التعلم على أساتذة اللغة والأدب في عصره، وإنما اكتسبه بطريق مباشر، وهو قراءة النماذج القديمة للعباسيين ومن سبقوهم من الإسلاميين والجاهلين، وما زال يقرأ فيها حتى استقرت في نفسه سليقة الشعر العربي الأصيلة فصدر عنها في نظمه وشعره.
مذهبه الفني:
استن البارودي سنة جديدة صحح بها موقف الشعر والشعراء، فقد ردهم إلى الطريقة القديمة، وهي طريقة الرواية التي كان يتلقن بها الشاعر الجاهلي والأموي أصول حرفته.
وكان هذا حدثاً خطيراً في تاريخ شعرنا الذي تدهور إلى أساليب غثة مكسورة بخرق البديع البالية، فأزال البارودي من طريقة هذه الأساليب، واتصل مباشرة بينابيع الشعر العربي القديمة في العصر العباسي، وما قبله من عصور، ولم يلبث أن أساغها وتمثلها تمثلاً دقيقاً، فقد أشربتها روحه، وأصبحت جزء لا يتجزأ من شعره وفنه.
وواضح من ذلك أن مذهبه الفني لم يكن يقوم على نبذ القديم كله، وإنما كان يقوم على نبذ صورة خاصة هي صورة الشعر الغثّ الذي ينتجه عصره والعصور القريبة منه، أما الشعر العباسي وما سبقه فينبغي للشاعر أن لا ينبذه، بل عليه أن يسير في دروبه ويصب على صيغة وقوالبه، وكان هذا الاتجاه يعد ثورة في عصره، لأنه خروج عن مألوف معاصريه وعود بهم إلى أساليب لا يعرفونها ولا يألفونها، وكانت قد فسدت أذواقهم فأصبحت لا تقدرها قدرها ولا تشعر بما فيها من متاع وجمال.
أما البارودي فقد شعر بهذا المتاع والجمال إلى أبعد حد، وانطلق يصوغ شعره على طريقة العباسيين ومن سبقوهم، واتخذ ذلك مذهباً له، وأعلنه في صراحة واضحة، فكان يحاكي الشعراء القدماء ويعارضهم من مثل النابغة وبشار وأبي نواس والمتنبي وأبي فراس والشريف الرضي، وأتيح له أن يتفوق في أكثر معارضاته.
وهذا هو مذهبه الفني بعث الأسلوب القديم في الشعر وتعمد إحيائه وهو لا يموه في ذلك ولا يكذب بل يصرح به ويدعو الشعراء إلى تقليده، ولعل من الطريف أن الشعر حين أنفك عنده من الأساليب التي عاصرته أخذ يعبر في حرية عن مزاج الشاعر ونفسيته وكل ما يتصل به من أحداث.
فالبارودي إنما يستعير من القدماء إطارهم الذي يقوم على قوة الأسلوب وجزالته، ولكنه يملأ هذا الإطار بروحه وشخصيته ومن هنا يأخذ مكانته في الشعر العربي الحديث، فقد ردّ إليه متانته ورصانته، وفرض عليه نفسه وبيئته وعصره بحيث أصبح شعراً حياً يصور منشئه وقومه تصويراً بارعاً ([9]).
مظاهر نهضة الشعر على يدي البارودي:
1. صحح مفهوم الشعر لدى الشاعر ولدى المجتمع على السواء فقد كان الشعر ملهاة وتسلية وفناً من فنون المغالبة بالكلام في صناعة الألفاظ والأوزان، ولا تعرض هذه الآفة إلى عصر من عصور الأدب إلا أودت بالشعر في مهاوي الإسفاف والغلو في التصنع وتشويه المعاني، وتكلف المحسنات.
وقد انطلق البارودي في ريادته لبعث الشعر الصحيح من تفسير مفهوم الشعر، وذلك حين قدم لديوانه بمقدمة حدد فيها معنى الشعر وكيف تحرك وجدانه به، وقصارى القول في هذا الفهم أن الشعر عند البارودي فيض وجدان وتألق خيال، وأن اللسان ينفث منه ما يجده من ذلك الفيض أو هذا التألق. وأن رسالة الشعر تهذيب النفس وتنبيه الخواطر واجتلاء المكارم، وأن جيده ما كان مؤتلف اللفظ بالمعنى قريب المنزل بعيد المرمى. سليماً من وصمة التكلف بريئاً من عشوة التعسف([10]).
فالشعر عند البارودي وليد الطبع المتدفق وليس وليد الصنعة والتكسب وهو يتغنى بذلك في شعره قائلاً:
أقول بطبع لست أحتاج بعده |
|
إلى المنهل المطروق والمنهج الوعر |
إذا جاش طبعي فاض بالدر منطقي |
|
ولا عجب فالدر ينشأ في البحر |
2. من أعظم المظاهر في تطور الشعر على أيدي مدرسة البارودي هي:
النزوع به إلى أساليب البلاغة العربية وترك الإفراط في المبالغات وعدم الاكتراث بالمحسنات البديعية.
3. الاقتباس من القديم بأوسع ما تدل عليه الكلمة من معان، فقد تغذت حركة هذا الشعر من الشعر القديم لفحول الشعراء وأعلامهم في عصور الازدهار، تأثرت بصورهم الأدبية وبطرائفهم في التعبير والمجاز، وبألفاظهم ومعانيهم في كل باب من أبواب القول وفنون القريض([11]).
4. أما من حيث الأغراض فقد أعرض الشعراء عن الفخر بتاتاً والمديح والرثاء إلا في عظماء الرجال على أن البارودي مع سمو أدبه وعلو كعبه لم يرم إلى غير أهداف الأقدمين من غزل ونسيب ومديح أو تشبيب وإطراء أو هجاء وفخر ورثاء ووصف وبكاء ديار، ووقوف بدمن وآثار، على أنه بعد ذلك قد شارك في الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وعلى هذه الشاكلة كان البارودي يصور نفسه وبيئته ووطنه وما مر به من أحداث تصويراً صادقاً. ومن تمام هذا الصدق فيه شعوره الدقيق بعصره لا بأحداثه فحسب بل أيضاً بمخترعاته.
س:يعد البارودي أول المجددين في الشعر العربي الحديث
وبهذا كان البارودي أول المجددين في الشعر العربي الحديث، وهو تجديد كان يقوم عنده على أصلين:
· بعث الأسلوب القديم في الشعر بحيث تعود إليه جزالته ورصانته.
· تصوير الشاعر لنفسه وقومه وبيئته وعصره تصويراً مخلصاً صادقاً.
نماذج من شعره:
قصيدة قالها في منفاه، وقد رأى في المنام ابنته الوسطى، وفيها يصور مشاعر الحنين إلى الأهل والولد يقول:
تأوَّب
طيفٌ من (سميرة) زائرٌ |
|
وما الطيف إلا ما تُريه الخواطر([12]) |
طوى سُدْفَة الظلماء والليل ضاربٌ |
|
بأوراقه
والنجوم بالأفق حائر([13]) |
فيا
لك من طيف ألم ودونه |
|
محيط
من البحر الجنوي زاخر |
تخطّى
إليَّ الأرض وَجْداً وماله |
|
سوى
نزوات الشوق حاد وزاجر |
ألمَّ
ولم يلبث وسار وليته |
|
أقام
ولو طالت عليَّ الدياجر |
تحمل
أهوال الظلام مخاطراً |
|
وعهدي
بمن جادت به لا تخاطر |
«خماسية» لم تدر ما الليل والسـرى |
|
ولم تنحسر عن صفحتيها الستائر([14]) |
فيا
بُعْدَ ما بيني وبين أحبَّتي |
|
ويا
قرب ما التفت عليه الضمائر |
ولو
لا أماني النفس وهي حياتها |
|
لما
طار لي فوق البسيطة طائر |
فإن
تكن الأيام فرقن بيننا |
|
فكل
امرئ يوماً إلى الله صائر |
* * * |
||
فلا
يشمت الأعداء بي فلربما |
|
وصلتُ
لما أرجوه مما أحاذر |
فقد
يستقيم الأمر بعد اعوجاجه |
|
وتنهض
بالمرء الجدود العواثر |
ولي
أمل في الله تحيا به المُنى |
|
ويُشرق وجه الظن والخطبُ كاشرُ |
إذا المرء لم يركن إلى الله في الذي |
|
يحاذره
من دهره فهو خاسر |
وإن
هو لم يصبر على ما أصابه |
|
فليس
له في معرض الحق ناصر |
ومن
لم يذق حلو الزمان ومُرِّه |
|
فما
هو إلا طائش اللب نافر |
على
طِلابُ العِزّ من مستقره |
|
ولا
ذنب لي إن عارضتن المقادر |
* * * |
||
فإن
كنت قد أصبحت فَل رزية |
|
تقاسمها
في الأهل بادٍ وحاضر([15]) |
فكم
بطلٍ فلَّ الزمان شَباتَه |
|
وكم
سيّد دارت عليه الدوائر |
فسوف
يبين الحق يوماً لناظرٍ |
|
وتنزو بعوراء الحقود السـرائر([16]) |
وما
هي إلا غمرة ثم تنجلي |
|
غيابتها
والله من شاء ناصر |
فقد حاطني في ظلمة الحبس بعدما |
|
ترامت
بأفلاذ القلوب الحناجر |
* * * |
||
فمهلاً
بني الدنيا علينا فإننا |
|
إلى
غاية تَنْفتٌ فيها المرائر |
تطول
بها الأنفاس بُهْراً وتلتوي |
|
على
فلكة الساقين فيها المآزر([17]) |
هنالك
يعلو الحق والحق واضح |
|
ويسفل
كعب الزور عاثر |
وعما
قليل ينتهي الأمر كله |
|
فما
أول إلا ويتلوه آخر |
وهكذا بعث البارودي الشعر العربي من رقدته، ورده إلى استلهام النماذج الجيدة التي خلفتها عصور الازدهار، وجعله معبراً عن أحاسيس الشاعر وتجاربه، وعن قضايا وطنه وأهم أحداث عصره. وقد أخذ هذا الاتجاه يقوى عوده رويدا رويدا على يد الجيل الذي تتلمذ على يد البارودي، وأصبح جيل الشعراء في هذه الفترة، يسيرون في نفس اتجاهه، ويترسمون خطاه مثل أحمد شوقي، وإسماعيل صبري، وحافظ إبراهيم، ومحمد عبد المطلب، ومن الجيل الجديد «الكلاسيكية الجديدة» أحمد محرم، وعلي الغاياتي، وأحمد نسيم، وأحمد الكاشف، وعزيز أباظة، وعلي محمود طه، ومحمد الأسمر، ومحمود غنيم، وعلي الجندي، ومحمد عبدالغني حسن وهؤلاء قد قضوا قضاءً شبه تام على الطريقة التقليدية الجامدة كما كانت أهم الأغراض هي الأغراض عندهم التي بدأ علاجها البارودي بشعره من قبل، وهي تلك التي تشمل الذات وتجاربها والوطن وقضاياه. والعالم وأهم أحداثه، غير أن شعراء هذه الفترة قد وسعوا تلك الخطوات القصار التي خطاها البارودي في طريق الوطنيات وبعض الأحداث الكبرى الخارجة عن حدود الوطن، فقد عالجوا كل قضايا مصر ومشكلاتها، وأبرز أحداث العالم الإسلامي وتطوراته، وكثيراً من شؤون العالم الخارجي وأزماته، ومن هنا خاضوا كثيراً في السياسة المصرية والعربية والإسلامية، كما خاضوا في المسائل الاجتماعية والثقافية والفكرية والأخلاقية، هذا إلى اهتمام كبير بالماضي وأمجاده، تارة ماضي العرب والإسلام، وأخرى ماضي الفراعنة ومصر، وهم في ذلك كله معبرون عن روح هذه الفترة، مستجيبون لطابعها العام وهو طابع النضال من أجل الخلافة وتآمر الغرب عليها، ومن أجل بعض الدول الإسلامية وطمع الاستعمار فيها، ومن أجل الوطن واستبداد الاحتلال والقصر به، ومن أجل المجتمع المصري وما جلبه المستعمر من آفات عليه.
([3]) ولد بمصر سنة 1838م، وكان أبوه من أمراء المدفعية في عهد محمد علي، ثم كان مديراً لبربر ودنقلا في السودان، وقد توفي والده وهو في الثانية عشرة من عمره، ولكن أهله قاموا بعد أبيه بواجب تربيته، فالحق بالمدرسة الحربية، وحين تخرج لم يجد عملاً عسكرياً؛ لأن البلاد كانت تجتاز محنة عباس وسعيد اللذين رجعا بالبلاد إلى الخلف، وقد انتهز محمود الفرصة فأكب على قراءة الأدب والشعر، ثم سافر إلى الآستانة وعمل بها في وزارة الخارجية، وحين زار إسماعيل تركيا سنة 1863م اختار البارودي في حاشية، فعاد معه إلى مصر ، ثم عين في سلاح الفرسان، وسافر إلى فرنسا مع بعض الضباط ليشاهدوا استعراض الجيش الفرنسي السنوي، وانتهز الفرصة فسافر إلى انجلترا، وحين شبت ثورة ضد تركيا في جزيرة كريت سنة 1866م ، رأي إسماعيل أن يساعد تركيا بفرقة مصرية وسافر البارودي ضمن ضباط هذه الفرقة وحين أعلنت روسيا الحرب على تركيا سنة 1877م، أمدت مصر دولة الخلافة بعون عسكري، كان البارودي ضمن قواده، وحين رجع إلى مصر عين مديراً للشرقية، ثم محافظاً للعاصمة، وفي عهد توفيق عين البارودي وزيراً للأوقاف ، ثم وزيراً للحربية، ولكن البارودي ما لبث أن استقال، ثم عاد رئيساً للوزراء، وحين شبت ثورة عرابي انضم إليها، ولما أخفقت نتيجة للخيانات من خصومها وللغدر من الخديوي والإنجليز، قدم إلى المحاكمة، ثم نفي إلى سرنديب، وظل بها سبعة عشر عاماً وبضعة أشهر، وأخير صدر العفو عنه سنة1900م فرجع إلى مصر، وتوفي سنة1904م وقد خلف ديواناً طبعته من بعده أرملته، كما خلف مختارات من الشعر العربي لثلاثين شاعراً، قد طبعتها أرملته بعد وفاته.