ع1:
الأصل اللغوي للمقال والمقالة
ج1:
فنّ المقال، لأحمد حنطور.
مفهوم المقال
أ) الأصل اللغوي:
كلمة المقال مصدر ميمي من الفعل قال، ففي اللسان: قال يقول قولًا وقيلًا وقولةً ومقالًا ومقالة، وأنشد ابن بري للحطيئة يخاطب عمر -رضي الله عنه-:
تحنّن عليّ هداك المليك فإن لكلّ مقام مقالًا
فهي من مادّة القول بمعنى اللفظ أو الكلام تامًّا أو ناقصًا، ولسيبويه رأي في التفرقة بين القول والكلام -لا بأس من إيراده- "قال سيبويه: واعلم أن قلت في كلام العرب إنما وقعت على أن تحكي بها ما كان كلامًا لا قولًا، يعني بالكلام الجمل، كقولك: زيد منطلق، وقام زيد، ويعني بالقول الألفاظ المفردة التي تبني الكلام منها، كزيد من قولك: زيد منطلق، وعمرو من قولك: قام عمرو".
فهو يدل على أن الكلام أوسع مدًى من القول، وأنه يشتمل عليه يضمّه في تراكيبه، وهي دلالة يستأنس بها في إطلاق لفظ المقال على ذلك الفنّ الأدبي؛ فإننا نجد المقال أقل حجمًا مما سواه من الأعمال النثرية، وأكثر إيجازًا وتركيزًا؛ بحيث يحمل بين سطوره المحدودة ما تفرد له الصفحات الممتدة في بطون الكتب، وإذا كان القول بهذا قطعة لفظية تشكل جزءًا من الكلام، فإن المقال قطعة أدبية تحمل فكرة محددة من الأفكار.
وقد ورد استعمال كلمة المقال في الأشعار العربية والآثار الأدبية القديمة في معنى الكلام الذي يحمل خيرًا، أو يصور رأيًا، أو يحدّد موقفًا، أو ينبه إلى أمر جلل، أو يحثّ على فعل حسن، وترك قبيح أو يوضح مبهمًا، في مباشرة في التوجيه، وتحديد في الهدف وجلاء في البيان. قال النابغة الذبياني:
أتاني -أبيت اللعن- أنك لُمْتَنِي وتلك التي تستك منها المسامع
مقالة أن قد قلت سوف أناله وذلك من تلقاء مثلك رائع
وينسب لحسان بن ثابت: "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر". ضياء الدين ابن الأثير تحقيق د. أحمد الحوفي. دار نهضة مصر للطبع والنشر جـ3 ص240)
ما إن مدحت محمدًا بمقالتي لكن مُدِحَتْ مقالتي بمحمّد
وجاء في الحديث الشريف: ((نضّر الله عبدًا سمع مقالتي فَوَعَاها، ثم بلّغها عنّي، فربّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)).
وقال محمد بن حازم الباهلي:
مقالة السوء إلى أهلها أسرع من منحدرٍ سائل
ومن دعا الناس إلى ذمّه ذمّوه بالحق وبالباطل
وقال مروان بن أبي حفصة:
هل تطمسون من السماء نجومها بأكفكم أم تسترون هلالها؟
أم تجحدون مقالةً عن ربكم جبريل بلّغها النبي فقالها
وقال منذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة:
مقال كحدّ السيف وسط المَحَافل فرّقت به ما بين حقّ وباطل
وهي معانٍ تلتقي إلى حدّ كبير مع ما نقف عليه في مفهوم المقال في الأدب الحديث من ناحيتي المضمون والإطار، بل والجنس الأدبي الذي تأتي في إهابه -مع التنبّه للمغايرة في صورة التعبير- لا نستثني من ذلك مقالة حسان الشعرية "فقد تنظم المقالة شعرًا كما يرى الناقد وستلاند"، وكما فعل الشاعر الإنجليزي اسكندر بوب في منظومته "Essay on man مقالة عن الإنسان".
ع2:
المفهوم والمصطلح عند الغرب
ج1:
فنّ المقال، لأحمد حنطور.
حين نأتي إلى تعريفات النقاد، فإن التتبع التاريخي لمفهوم المقال هو المنهج الذي نتخذه سبيلًا للتعرف على حقيقة ذلك الفن مذ كان اتجاهًا في الكتابة، يتردّد في محاولات الأدباء والنقاد إلى أن صار فنًّا قَوِيّ الدّعائم، واضح المعالم، عالي البُنْيَان، وذلك يقتضي الرجوع أولًا إلى تعريفات النقاد الأوربيين لفنّ المقال؛ فقد سبقوا إلى الوقوع على التسمية، وإن كان المسمى ذا جذور بعيدة في أدبنا العربي فيما عرف بالرسائل الفكرية، أو الفصول العلمية.
والمعروف عند نقاد الأدب الغربي، أن أول ظهور للمقالة بالصورة التي عُرفت بها كان في سنة 1580 ميلادية، حينما ظهرت مجموعة مقالات الكاتب الفرنسي الحكيم "مونتين"، ويروى عنه أنه رأى في مدينة "بارلي دك" بفرنسا صورة رسمها لنفسه "رينيه" ملك صقلية، فسأل مونتين نفسه قائلًا: لماذا لا يباح لكلّ إنسان أن يصوّر نفسه بالقلم على هذا النمط، كما صوّر ملك صقلية نفسه بالألوان والخطوط؟ وقد استطاع مونتين أن يُرينا في مقالاته جوانب شتّى من شخصيته وأسلوب حياته، حتى قيل عنه: إنه أول من قال بوصفه مؤلفًا ما شعر به بوصفه إنسانًا".
وقد ظلّت ميزة مونتني في مقالاته، وهي ظهور شخصيته في أدبه سائدة في فنّ المقال مع تجدّد التعريفات والنظرات حوله، ذلك أننا لم نَكَدْ نَرَاهَا تتفق في الإطار العام حتى تبدو متمايزة الرؤى، والخصائص عند عامّة النقاد. فقد عرف الناقد الإنجليزي جونسون المقالة بأنها:
"نزوة عقلية لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام. هي قطعة لا تجري على نسق معلوم، ولم يتمّ هضمها في نفس كاتبها. وليس الإنشاء المنظم من المقالة الأدبية في شيء".
ويذهب الفيلسوف الإنجليزي بيكون في تعريفها إلى "أنها ملاحظات مختصرة كتبت من غير اعتناء، وأنها مذكرات موجزة يعنى فيها بمعانيها لا بأسلوبها، وأنها أفكر متقطعة". ويعرفها موري -في تنبه إلى ما طرأ عليها من تطور- بأنها "قطعة إنشائية ذات طول معتدل، تدور حول موضوع معين أو حول جزء منه، وكانت في الأصل تعني موضوعًا يحتاج إلى مزيد تهذيب، ولكنها أصبحت الآن تطلق على أية قطعة إنشائية يختلف أسلوبها بين الإيجاز والإسهاب ضمن مجالها الموضوعي المحدود".
ويعرّفها ادموند جوس بقوله: "المقالة باعتبارها فنًّا من فنون الأدب، هي قطعة إنشائية ذات طول معتدل تكتب نثرًا، وتلمّ بالمظاهر الخارجية للموضوع بطريقة سهلة سريعة، ولا تعني إلا بالناحية التي تمسّ الكاتب عن قُرْبٍ".
ويصفها الأديب آرثر بنسن مقارنًا بينها وبين الشعر الغنائي بقوله: "إن المقالة تعبير عن أحساس شخصي، أو أثر في النفس، أحدثه شيء غريب أو جميل، أو مثير للاهتمام أو شائق، أو يبعث الفكاهة والتسلية. وهكذا تكون المقالة قريبة الصلة بالقصيدة من الشعر الغنائي، ولكنها تمتاز إلى جانب ذلك بما يُتيحه النثر من الحرية، وباتساع الأفق وبمقدرتها على أن تتناول نواحي يتحاماها الشعر مثل الفكاهة". ويصف كاتب المقالة: "بأنه شخص يعبّر عن الحياة وينقدها بأسلوبه الخاص، إنه لا ينظر إلى الحياة نظرة المؤرخ، أو الفيلسوف، أو الشاعر، أو القصاص، ولكن في فنّه شيئًا من هذا كله.
وليس يعنيه أن يكشف نظريات جديدة أو يوجد الصلة بين أجزائها المختلفة، إن طريقته في العمل أدنى إلى ما يُسَمّى الأسلوب التحليلي: يراقب، ويسجل، ويفسر الأشياء كما تبدو له، ثم يدع خياله يمدح في جمالها ومغزاها، والغاية في هذا كله أنه يحسّ إحساسًا عميقًا بصفات الأشياء، وبسحرها، ويريد أن يلقي عليها كلها نورًا واضحًا رقيقًا، لعله يستطيع بذلك أن يزيد الناس حبًّا في الحياة، وأن يعدهم لما اشتملت عليه من المفاجآت المفرحة والمحزنة.
ويصف الأستاذ هـ. ب تشارلتن المقالة بقوله: "المقالة الأدبية في صميمها قصيدة وجدانية سيقت نثرًا؛ لتتسع لما لا يتسع له الشعر المنظوم.. فإن شئت قانونًا يضبط لك "المقالة" من حيث الصورة. فاعلم أنه قدرتها على التعبير عن خوالج النفس في سيرها الذي لا يجري على نظام واطّراد".
وفي دائرة المعارف البريطانية أن "المقالة الأدبية عبارة عن قطعة متوسطة الطول، وتكون عادة منثورة في أسلوب يمتاز بالسهولة والاستطراد، وتعالج موضوعًا من الموضوعات، لكنها تعالجه على وجه الخصوص من ناحية تأثر الكاتب به.
ع3:
التعقيب على مفهوم الغرب
ج1:
فنّ المقال، لأحمد حنطور.
ويتضح منذ القراءة الأولى لآراء النقاد الأوربيين عدم اتفاقهم على تعريف محدد لفن المقال، وتعليل ذلك يرجع فيما نرى لعدة أمور منها: أن فنّ المقال مرّ بمراحل تاريخية وفنية متعددة، وطبيعية أن حتمية التطور خلال تلك المراحل الممتدة يفرض على المفهوم نوعًا من التغاير في الرؤية والواقع معًا، حتى يتمّ له النضج والاستواء. ومنها: أن فن المقال يقوم على قدر كبير من الذاتية في التوجيه والتناول، وليس في معالجته صارمة العلم وموضوعيته، ومن ثَمّ فإن بصمات الأدباء النفسية والفكرية والاجتماعية تنعكس -بلا شك- على طبيعة النظرة إلى الإطار الفني للمقال، الذي تبث من خلاله نجوى النفس، وذوب العقل، ونبض الفؤاد.
ومنها: ما يرجع إلى طبيعة الفنون الأدبية التي لم يكاد النقاد يتفقون على الإطار العام لها حتى يبدو الاختلاف في وجهات النظر تجاه ما يتعلّق بشخصية الناقد، واتجاهه الفني، وثقافته المتعلقة بهذه الفنون. وقد يكون لتأخر ظهور فن المقال بالنسبة لغيره من الفنون الأدبية الأخرى كالشعر، والخطابة دور في عدم الانتهاء إلى الشكل الفني المحدد الذي يقوم عليه ذلك التعريف، وهكذا وجدنا المقال تتردّد معايير الفنّ فيه بين انتثار الأفكار وعدم انتظامها، وبين الميل إلى التسلسل والترابط بين الأفكار، وبين امتدادها حتى تقترب من البحث وقصرها حتى تصل إلى الخاطرة السريعة، وبين الاهتمام بالمظاهر الخارجية للموضوع وبين التحليل المتوثب، والنظر المتعمق.
والمقالة الأدبية -كما شاهدنا- تطلق على ذلك اللون من الكتابة النثرية التي تتناول موضوعها في إطار فنّي خاص، ومن ثم فنحن نلمح منذ البداية اتساع ميدانها؛ لتشمل شتى جوانب الحياة وميلها إلى التعبير الفني الموحي بثمرات الفكر ونبضات الوجدان، ومراعاة الكاتب فيها لحق نفسه في التعبير عمّا بداخلها قبل التوجه به إلى الآخرين.
ومن ثَمَّ فإن الآراء المتقدمة مع اختلافها في حدود التعريف نراها تتفق على خاصية ثابتة في المقال، وهي ارتباطه بشخصية الكاتب وحريته في التعبير عن ذاته، والإفصاح عن وجهة نظره تجاه الموضوع الذي يعالجه.
بيد أن هذه الخاصية مع تقدم الفنّ على أيدي أعلامه في القرون المتتابعة منذ عهد مونتيني حتى اليوم قد أضيف إليها من الخصائص البنائية، والأسلوبية والموضوعية ما يجعل فنّ المقال أقرب غاية من التحديد للفن وإحكام المنهج، وأبعد مدًى في تميّز الألوان وتنوع الأساليب، وأرحب أُفُقًا من ناحية علاقة الكاتب بموضوعه، وذلك على النحو الذي نقف على بيانه في الفصول التالية من هذا الكتاب.
ع4:
مفهوم المقال ومصطلحه عند النقاد العرب
ج1:
فن المقال، لأحمد حنطور.
وتعريف المقال في الأدب العربي يرتبط بظهوره من خلال هذا الاسم في الصحافة المصرية منذ عهد محمد علي، وإبّان ما تلاه من العقود المتتالية. وقد توزع الدارسون لدينا لفن المقال -فيما نرى- بين باحث يحاول أن يضع تعريفًا جامعًا لهذا الفنّ الأدبي، ينطلق من خلاله إلى التعرف على معالمه وأبعاده وتجلية صورته للقارئ، وكاتب متابع لآراء النّقاد الأوربيين في المقالة، وأديب ذي تجربة ينظر إلى المقال من خلال رُؤية تولّدت لديه من الخبرة والمعالجة الفنية في كتاباته، ونقاد متعجّل يكتفي بوصف المقال، وذكر ميزاته الفنية دون أن يصل إلى مرتبة التعريف.
ففي ميدان البحث يذهب الدكتور عبد اللطيف حمزة إلى اتفاق المقال الصحفي والمقال الأدبي في تنوّع الموضوعات. والنشاط الصحفي أو الأديب المفكر من البيئة، والانفعال بها قبل الكتابة، وإلى اختلاف المقال الأدبي عن الصحفي في طريقة المعالجة: "والمقالة الصحفية... ليست في الحقيقة أكثر من فكرة من الأفكار يتصيّدها الكاتب الصحفي، أو يتلقّفها من البيئة المحيطة به. ومتى انفعل الكاتب الصحفي بفكرة ما، أحس في نفسه حاجة ملحّة إلى الكتابة. وفي هاتين المرحلتين، وهما التصيّد أو التلقف، ومرحلة الانفعال والتأثر يشترك الصحفي والأديب، ثم يفترق الرجلان بعد ذلك. أما الأديب فيترك العنان لخياله وشعوره، كما يترك العنان لقلمه يكتب ما يشاء، ويتبعه في ثورته كما يشاء. فيخرج على الناس بقصيدة رائعة، أو خطبة بليغة، أو مقالة منمّقة، أو قصة شائقة، ونحو ذلك من ألوان الأدب.
ويعرف الدكتور محمد يوسف نجم المقالة الأدبية بقوله: "المقالة الأدبية قطعة نثرية محدودة في الطول والموضوع، تكتب بطريقة عفوية سريعة خالية من الكُلْفَة والرهق، وشرطها الأول أن تكون تعبيرًا صادقًا عن شخصية الكاتب" فهو محدود من ناحيتي الحجم والفكرة، ومن ناحية الإطار يكتب بطريقة عفوية غير متعمّقة، وفي معالجته يأتي ناطقًا بذاتية الكاتب في التعبير عن موضوعه.
وقد ذهب الدكتور محمد عوض محمد في التعريف بفنّ المقال الأدبي إلى تتبع مفهوم المقالة عند الكُتّاب الغربيين، وانتهى إلى أنه "قد استقر الاصطلاح على أن تكون كلمة المقالة مقصورة على القطعة من النثر الأدبي تعالج موضوعًا خاصًّا بالكاتب، ممّا مارسه أو خطر له أو توهّمه أو ابتدعه" فالعنصر الشخصي ركن أساسي من أركانها، وهي تعالج أي موضوع ينبعث من نفسيّة الكاتب ومن تجاربه في الحياة، أو من إحساسه ومشاعره.
وهذه التعريفات تُعطي الكاتب قدرًا كبيرًا من الذاتية في التعبير، والحرية على المعالجة، والسهولة في التناول دون تركيز على جانب الموضوعية والمنهجية المنطقية في العرض، وهذا القدر كما نرى متاح في شطر المقال، وليس في جميع أنواعه، ويتّضح ذلك إذا علمنا أن المقال عند عبد اللطيف حمزة ينقسم إلى أدبي وصحفي، وعند الدكتور نجم فالمقالة الأدبية ترادف المقالة الذاتية في تقسيمه لفنّ المقالة، وهي بهذا تقابل المقالة الموضوعية، والتي لا تكتب بطريقة عفوية، وإنما تخضع لخطة منهجية في البحث والتناول، والدكتور عوض قدّم ما ذكره بين يدي الآراء المتقدمة في المقالة التي كانت ما تزال تخضع في نظرتها لمحاولات مونتين في الكتابة قبل أن تتسع حدودها، وتتنوع آفاقها إلى مدى حدّ بعيد عن هذه المحاولات حتى أصبحت تجمع بين الناحية الشخصية والدراسية في الكتابة، وتحمل التركيز والإدماج مع التبسّط والفكاهة في التناول.
وقد حاول الدكتور إبراهيم عوضين التوفيق بين تعريفات النقاد وتصوره لفن المقالة، فذهب في تعريفها إلى أن "المقالة تعبير مكتوب عن نظرة، أو رأي شخصي في أمرٍ من أمور الحياة، أو شيء من أشيائها، يتخذ الكاتب له فيه خطّ سير مرسومًا -أيًّا كان شكل ذلك الخط- يتمّ بتمامه نقل ما في نفسه إلى المتلقي".
وفي هذا الإطار يذكر أحد الباحثين ما يستخلص من الأقوال السابقة تعريفًا للمقال، وهو يتحدّد في أن المقال "نمط من التعبير الحرّ المصوّر لأحداث الحياة، وصِوَر المجتمع، نتعرف به على ملامح كل جديد، وخصائص كل مبتكر، وسمات كل مستحدث من سياسة، وأدب، واجتماع، ونقد، وعلوم في أقرب وقت، وبأقل جهد".
ع5:
معارضة أتباع الغرب
ج1:
فن المقال، لأحمد حنطور.
وفي ميدان الكتابة ومتابعة الأوربيين في فهم المقالة، يردّد الدكتور زكي نجيب محمود ما ذهب إليه قدامى النقاد الإنجليز، ويعرفها بالوصف لا بالرسم؛ حيث ذهب إلى أنه "يشترط أن تكون المقالة على غير نسق من النطق، وأن تكون أقرب إلى نقطة مشعثة من الأحراش الحوشية، منها إلى الحديقة المنسقة المنظمة".
ويقرّر أنه "ليس للمقالة الأدبية -ولا ينبغي أن يكون لها- نُقط ولا تبويب ولا تنظيم"، ويرى أن "كاتب المقالة الأدبية على أصح صورها، هو الذي تكفيه ظاهرة ضئيلة مما يَعُجّ به العالم من حوله، فيأخذها نقطة ابتداء، ثم يسلم نفسه إلى أحلام يأخذ بعضها برقاب بعض، دون أن يكون له أثر قوي في استدعائها عن عمد وتدبير، حتى إذا ما تكاملت من هذه الخواطر صورة، عمد إلى إثباتها في رزانة لا تظهر فيها حدة العاطفة، وفي رفق بالقارئ حتى لا ينفر منه نفور الجواد الجموح".
وفي إطار المعالجة الفنية لكتابة المقالة يذهب إلى أن "شرط المقالة الأدبية أن يكون الأديب ناقمًا، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لون باهت من التفكه الجميل، فإن التمست في مقالة الأديب هذا اللون من الفكاهة الحلوة المستساغة فلم تُصبه، فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع في قليل أو كثير، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة".
وقد كفانا الأستاذ العقاد الردّ على الدكتور زكي في النقاط الثلاث، حين أرجع ما ذهب إليه أولًا في متابعة الغربيين في التعريف إلى محاولة فرض نوع من المقالات على سائر أنواع المقالة على نحو يرفضه الواقع الأدبي لكتابة المقال في الأدب العربي والأوروبي. ويقرّر العقاد أنه "مما لا خلاف، عليه أن هذا التعريف يصدق على نوع من المقالة يزداد شيوعًا بين الغربيين كلما شاعت الحصافة وشاعت معها أساليب الكتابة العاجلة، ولكنه لا يحصر جميع المقالات الأدبية، ولا يصدق على جميع الفصول التي تكتب في حيّز المقالة المستقلّة".
وإلى مجافاة الفهم الصائب ثانيًا في حقيقة المقال عند الأوروبيين؛ "فالكلمات التي تطلق على المقالة في اللغات الأوربية، يُوشك أن تفيد كلها معنى المحاولة والمعالجة؛ فكلمة Essay وكلمة Sketch وكلمة Treatise بل كلمة Study، وهي تترجم أحيانًا بمعنى الدراسة لا يعدو القصد منها في بداية وضعها أن تفيد معنى المحاولة التي يعوزها الصقل والإنجاز، وكلها مستمدة من أساليب معامل النحت والتصوير، ويريدون بها الرسم الذي يخطط الصورة قبل تلوينها، أو النموذج الذي يصبّ التمثال على مثاله، وينقلونها إلى الموضوعات الأدبية على سبيل الاعتذار لا على سبيل الاشتراط".
وإلى أن ما ذكره ثالثًا في تصوره لأدب المقالة لا ينطبق على المقالة الأدبية، ويجعلنا في حاجة إلى اسم غير اسم المقالة للدلالة على نوع المقالات التي يعنيها الأستاذ نجيب، ويتساءل متهكّمًا، فهل نسميها العجالة؟ أو نسميها النبذة؟ أو نسميها الأحدوثة؟ أو نسميها الأملية؟ أو نسميها المسامرة؟ على أن مجموعة "جنة العبيط" كما ذكر العقاد "تشتمل على مقالات لا تنطبق عليها الصفة التي قيد بها كاتبها موضوع المقالة الأدبية. ومنها مقالة "أعذب الشعر أصدقه" ومقالة عن "أدب المقالة" بعد المقدمة، فإنهما بريئتان من فضيلة التشعّب والخلو من النسق المنطقي، وضابط التنظيم إن صحّ أنها فضائل مشروطة في جميع المقالات".
وتتابع الدكتورة نعمات أحمد فؤاد هذا الرأي السابق في المقالة في كتابتها عن أدب المازني؛ حيث ترى أن "المقالة ليست دراسة، ولكنها كلام ليس المقصود به التعمّق والتركيز، وهي في مدلولها الحديث ثرثرة بليغة محببة، يعرف صاحبها كيف يبدأ، ولا يعرف كيف ينتهي.