الإعلاميون .. والإ
الإعلاميون.. و"الإعلام العلمي"!! (جريدة المدينة السعودية - 27/12/1422هـ - 4، 11محرم 1423هـ)
(1) المُتابع لوسائل (الإعلام العربي) يعتقد أنّ مشكلة العالم العربي، وأسباب تخلّفه، تعود إلى ندرة شعرائه، وانطفاء جذوة أدبائه، وانحسار الاهتمام بطروحات الفنّانين والفنانات، وغياب الحماس بالدور الريادي لأمور (الرياضة) في دفع عجلة الإنتاج والتطوّر. أما الواقع فيحكي قصة مختلفة؛ فلقد ارتوت أرضنا شعراً، ونضحت مجتمعاتنا نثراً، ودبّجنا من الكلام أعذبه، واحتلّ الفنانون والفنانات المواقع الأمامية في ميادين الوغى الفضائية، وتدافعت الأقدام والأيادي حول ساحات الكرة بأنواعها، وحظي كلّ ذلك بمتابعات إعلامية دقيقة، وتغطيات كاسحة، وتمويل دؤوب. وبعد كلّ ذلك الاحتفاء والتبجيل نعود أدراجنا، في نهاية كل رحلة من رحلات الخيال والحماس والبلاغة، إلى موقعنا الثابت إيّاه لنراوح مكاننا في ضعف واستكانة، ونستقبل إنتاج الآخرين، ونستهلك عطاءاتهم لأنّهم يُمسكون بزمام الأمور، ويحتلّون موقع الريادة في عالم اليوم بكلّ تمخّضاته وصراعاته وإنجازاته، ولعلّه آن الأوان لأنْ نُجابه أنفسنا في صدق وشجاعة، ونسأل: ما هي أخطاء الواقع الإعلامي التي أدّت إلى فشل الإعلام العربي – دون استثناء – في أنْ يتفاعل مع ضرورات أمته، ومتطلّبات زمانه؟. وبادئ ذي بدء ينبغي أنْ أوضّح أنّ هذه ليست دعوة إلى قيام (الإعلام العربي) بمقاطعة الأنشطة الأدبية والفنية والرياضية؛ فمهمة (الإعلام) هي التفاعل مع عطاءات، واهتمامات المجتمع الإنساني بمختلف ممارساته واهتماماته، ولأنّ (الإعلام) هو المرأة التي تعكس واقع المجتمع وإفرازاته، فلا ينبغي له أنْ يغمط الأدب حقه، ولا يهضم للفن مكانه، ولا يحرم الرياضة من زخمها. ما نقوله هو أنّ هناك أولويات وضروريات لم تجد لها مكاناً في استراتيجية (الإعلام العربي)، وهناك مسؤولية تنموية غابت بعض عناصرها الجوهرية عن المؤسسات الإعلامية المختلفة، ولن يتبدّل شيء في واقع التفاعل الفكري والإنتاجي للأمة ما لم يقم الإعلاميون بتصحيح أوضاعهم، ومحاولة استيعاب تلك العناصر المفقودة في إطار رؤية استراتيجية تحتضن مفهوم (الإعلام التنموي) في منظومة متكاملة العناصر، ومتلاقحة المعطيات. في حوار مع أعلامي مخضرم بدأ مشفقاً في حديثي معه عن بعض برامج (الإعلام العلمي)، وكان من الواضح أنّ أبعاد هذا النوع من الإعلام وأهداف بعيدةً عن تصوّراته الإعلامية، وكان يُبدي قلقه من هدر الجهد والوقت والمال في مجال لا يعتقد أنه يحظى بأيّ جمهور، وسرعان ما أنقذه من متابعة الحوار دخول جماعة من رجال (الشعر الشعبي)؛ فانفرجت أساريره، وتجلّت سعادته البالغة بموضوع يستطيع أنْ يتعامل معه باقتدار. لقد أصبح من بدهيات الأمور أنّه إذا أردنا أنْ ننضمّ إلى قافلة العصر بحركتها العلمية والتقنية الدائبة، فإنّنا يجب أن نتحرّك بذكاء ومسؤولية وفهم لطبيعة هذه التركيبة وشروطها، وإنْ نستوعب الحقيقة الأساسية في ضرورة أنْ يتفاعل (الفكر العلمي)، بكل تجلّياته وحقائقه، مع المجتمع، وأنْ يتكامل، بتلقائية وحيوية، مع التجربة الحياتية للفرد في مختلف المسارات. من هذا المنطلق، وضمن الرؤية المسؤولة لمضامين (الإعلام التنموي)، ينبغي لنا أنْ نتعامل مع (الإعلام العلمي)، ونتعرف على ماهيّته، ونهتم بتشخيص معوقات نشوئه وتأثيره في المجتمعات العربية.
(2) المُتابع لوسائل الإعلام العربي لا يملك إلاّ أنْ يسأل نفسه: (هل للعالم العربي فعلا قضايا كبرى تستحوذ على اهتمامه، وتستقطب طاقاته، باستثناء القضايا المهيمنة على إعلامه، والمتمثّلة في توسيع دائرة وسائل الترفيه، وترسيخ الولاء الكروي، وترويج مختلف أنماط الاستهلاك، وإبراز الفنانين والفنانات كقدوة محمودة للشباب والشابات؟). في وقت يعيش فيه العالم العربي تغيّرات حاسمة في تركيبته السكانية، وأوضاعه الاجتماعية، وظروفه الاقتصادية، ويجابه تحديات تقنية، وهيمنة علمية، تأسر حركته، وتُحاصر تطلّعاته، فإنّه كان من المتوقّع أنْ يكون هناك (مشروع ثقافي تنموي) يُعنى بإعداد الإنسان لزمانه، وتأهيله لعصره، وإطلاق قدراته ومواهبه. وفي زمن تلتفّ فيها أطر الحياة حول المعطيات العلمية، وتنسج فيه المجتمعات مستقبلها حول التطورات التقنية، كان من المتوقّع أنْ يدفع ذلك (المشروع التنموي) بـ(ثقافة العلوم)، ومعطياتها وقضاياها، إلى الواجهة الإعلامية كمحصّلة طبيعية لعملية التفاعل مع شروط المرحلة في (عصر العولمة)، وتطوّر المهارات الوظيفية...وضوابط الإنتاجية في عصر المنافسة على فرص التعلّم والعمل. ولكن، أين (الإعلام العربي) من كل ذلك؟، وأما الإجابة فهي بدهية؛ ففي غياب (المشروع الثقافي التنموي) الذي يحرص على ترك بصمات على واقع الأمة وفكرها في محاولاتها للتحرّك على مسارات الإنتاج والتفوق، فإنه ليس من المتوقع أنْ يكون للإعلام دور ملموس في هذه المضامير!. ومن المهم أنْ نضع هنا تعريفا واضحاً لماهية (الإعلام العربي) الذي نُطالب به فنقول بإيجاز: (إنّ "الإعلام العلمي" هو التوظيف الماهر للوسائل الإعلامية المُتاحة، وتقنياتها المتطورة، للإسهام الفعّال في استنبات الحركة العلمية والتقنية في البيئة، وتنمية الحسّ العلمي لدى الشرائح المختلفة في المجتمع، وتبسيط القضايا والمفاهيم العلمية، وربط العلم بأوجه الحياة وحركة المجتمع، وجعْل "الثقافة العلمية" جزءاً عضوياً من الثقافة السائدة، وتهيئة المناخ العام القادر على استيعاب المعطيات العلمية، والوفاء بشروطها، وإعداد المواطن للتعامل بحماس وألفة وثقة مع طبيعة العصر ومتطلبات التقنية، وتوفير البيئة الحاضنة للإبداع العلمي والتفوق التقني). وإذا نظرنا إلى (الواقع الإعلامي العربي) في ضوء ذلك التعريف، فإنّنا نجد أنّه أبعد ما يكون عن تلك الاستراتيجية؛ فقد رضخ (الإعلام الرسمي) لجمود البيروقراطية، واهتم بتعميق الرؤى الذاتية للأنظمة الحاكمة، بينما توجهت رؤوس الأموال العربية بكثافة كبيرة للاستثمار في مختلف الوسائل الإعلامية لتوسيع رقعة (الإعلام الترفيهي) دون ضوابط، وراح (الإعلام الرياضي) يفرض شروطه دون حساب!. وفي التقييم الموضوعي لواقع (الإعلام العربي) ينبغي أنْ نحسب له تطوّر (الإعلام السياسي) بدرجات متفاوتة، وتفاعله بشفافية أكبر من هموم وتطلعات الأمة، كما ينبغي أن نشير إلى البروز المحمود لبعض جوانب (الإعلام المتخصّص) مثل (الإعلام الاقتصادي)، و(الإعلام الصحي) الذي يقع ضمن المنظومة الشاملة للإعلام العلمي. ولكن كلّ ذلك لا يغيّر من الحقيقة شيئاً فما زال (الإعلام العلمي)، بكل أبعاده وتفاعلاته، مطلباً غائبا عن الاستراتيجيات الإعلامية القائمة، ومن حقّنا أن نسأل: (أين تكمن العقبات أمام تحرّك إعلامي على مسار العصر في التفاعل مع معطيات ومتطلّباته؟).
(3) إنّ قضية التفاعل بين (العلم والمجتمع) قضية مطروحة بعنفوان في المجتمعات المتقدّمة التي نحتت قنوات متعددة لتنشيط ذلك التفاعل وتعميقه، وتجربتها في ذلك المضمار متنامية في الاتساع، ومتنوعة في الثراء، ومن أبرز تلك القنوات (وسائل الإعلام) لما يتيّسر لها من سهولة الانتشار، وعُمْق التأثير. أما في عالمنا فإنّ (الإعلام العلمي) هو الشاهد الغائب؛ فهو شاهد على (إشكالية التخلّف) التي تعيشها المجتمعات العربية، وهو غائب عن الساحة بالرّغم من الاسطوانة المشروخة التي تتكرّر في كل مناسبة واحتفال حيث يؤكّد الجميع – شعراً ونثراً وخطابةً – على أنّ (العلوم والتقنية) هما الطريق إلى المستقبل، وأن غياب فعالياتهما في مجتمعاتنا هو سبب التخلّف والضعف والاستكانة، وتبقى المشكلة باستمرار هي في كيفية إنزال ذلك التنظير والإنشائيات على تفاصيل الحياة، وتضاريس الواقع. إنّ الحاجة ماسّة إلى وسط حيوي تتحرّك فيه الإبداعات العلمية، وتنمو فيه المهارات التقنية، وهذا لا يتأتّى بالتمنّي الجميل، والنثر البليغ، والشعر البديع، ولكنه – بالضرورة – نتاج عمل جادّ تُوظف فيه الجهود التعليمية والإعلامية والثقافية لتعميق (الفكر العلمي)، وترسيخ (الثقافة العلمية) في خلايا الأمة، ونسيج المجتمع. وبغضّ النظر عن المعوّقات الاجتماعية والثقافية والتعليمية التي تتضافر لتُعرقل جهود (التوعية العلمية)، فإنّ حديثنا عن (الإعلام العلمي) يوجب – بالضرورة – طرح القدر الأكبر من المسؤولية مباشرة على عاتق المؤسسات الإعلامية والإعلاميين وأصحاب الاستثمارات الإعلامية بأنواعها. لا شكّ أنّ أهم عوامل (التخلّف الإعلامي) في مجال (الإعلام العلمي) تتمثّل في نقطتين أساسيتين؛ أولاهما غياب (الكوادر الإعلامية) المؤهلة للتعامل مع طبيعة (الإعلام العلمي)، والقادرة على التجاوب مع متطلّباته، ففاقد لاشيء لا يُعطيه، كما أنّ (الناس أعداء ما جهلوا)، وبالتالي تتولّد المقاومة التلقائية لأيّ توجّه في هذا المجال. وتجد في مسيرة (الإعلام العربي) حالات نادرة تبوأ فيها بعض أصحاب التخصصات العلمية مراكز قيادية في ساحة الإعلام، إلاّ أنّ ذلك لم يضع (الإعلام العلمي) على الخريطة، ولا شكّ أنّ من أهم أسباب ذلك الإخفاق هو غياب الكوادر القادرة على الطرح والتنفيذ والتطوير. أما النقطة الثانية فتكمن في المقولة السائدة بين الإعلاميين، وهي (الجمهور عايز كده)، ولو تقبّلنا هذه المقولة على علاّتها، فإنّها تعكس جهلاً بواقع المجتمعات العربية، فقد برزت شرائح متنامية ذات توجّهات علمية...ومهارات تقنية، وهي من ضمن الجمهور الذي ينبغي التفاعل مع ممارساته واهتماماته، ومضى الزمن الذي كان المجتمع يخضع فيه للتوجّهات النمطية...والثقافة التقليدية والشعبية، وبدأت ملامح الواقع تتفاعل مع شروط الألفية الثالثة. ونقول مرّةً أخرى إنّه في غياب (المشروع الثقافي التنموي)، الذي يُدرك تحديات الزمن، وكوامن القصور، وطبيعة الداء، فإنّ الدعوة إلى (الإعلام العلمي) تُصبح مجرّد صرخة في واد، وتبقى قضيته مجرّد جهود مبعثرة، واجتهادات فردية. لقد آن الأوان للإعلاميين، وأصحاب الاستثمارات الإعلامية، أن يواكبوا التغيرات، وأصبح من الضروري للإعلام العربي أنْ ينفكّ من قوقعة (الثقافة الأدبية)، وبرامج الإثارة الحسّية، وساحات الوغى الكروية، ليُطلّ على (الثقافة العلمية) بآفاقها الرحبة وآثارها العميقة، وأنْ يفتح نوافذ جديدة أمام عقل (الإنسان العربي) ووجدانه لينطلقا في تواؤم وانسجام مع طبيعة العصر وتطوّراته. |