الاستشراق والمستشر
الاستشراق والمستشرقون([1]):
د. عبير عبد الصادق محمد بدوي
كلمة مستشرق التي هي واحد المستشرقين الفعل منها استشرق أي طلب الشرق، والسين والتاء في هذا الفعل للطلب.
و الاستشراق هو انصراف بعض العلماء إلى دراسة الشرق وأحوال دوله وتاريخ شعوبه وأديان أممه ولغاتها وما لهذه الأمم من آداب وعلوم وعادات وتقاليد في غابر أيامها وحاضرها.
واتصال المغرب بالمشرق، أو تقارب هؤلاء من هؤلاء من الأمور التي تسلم به العقول والأفكار؛ لأن وسائل الاتصال ودواعي العمران، وحاجة الإنسان إلى أن يتعاون مع الإنسان، من القضايا المسلم بها، وبخاصة إذا كان ذلك كله لداعي العلم والمعرفة.
وقد اتجهت عناية الغربيين إلى هذه الدراسة منذ عصور بعيدة، وبخاصة حينما كانت أوربا تضرب في ظلام دامس لجهل شعوبها واستبداد حكامها، وحينما رأى اليقظون من شبابها والأحرار من رجالها ازدهار الحياة ببلاد الأندلس بفضل دولة بني أمية القرطبية بها، وقيامها بنشر حضارة العرب وآداب الإسلام بين ربوعها، وإتاحة وسائل الثقافة لمن شاء من أبنائها والوافدين عليها.
لهذا قصد بلاد الأندلس بعض الأوربيين، فنهلوا من مناهلها واستناروا بأضوائها ثم عادوا إلى أممهم يوقظونها من غفلتها ويمحون ظلام جهلها بما أفادوا من نور العلم والحضارة، وترجموا إلى اللاتينية كثيراً من كتب العربية سواء منها ما ألفه العرب أو ترجموه عن اليونانية في الطب والهندسة والحساب والفلك والكيمياء والمنطلق والفلسفة وغيرها.
فكانت هذه الأهداف أولى الأسباب التي أدت إلى الاستشراق في ذلك الزمن المبكر، وكان العرب وآدابهم في طليعة الموضوعات التي عنى المستشرقون بدراستها والنقل عنها.
واطردت هذه العناية، واستمر هذا الإقبال من المستشرقين حتى بعد زوال العرب بالأندلس، وذلك بدافع اطراد يقظة الشعوب الأوربية ورغبة رواد الفكر من بينها في التزود من العلوم والآداب، لما لذلك من أثر في تنبيه أممهم وتبصيرها بالحياة الصحيحة.
فكانت هذه الأمور في طليعة الأسباب التي أذكت رغبة المستشرقين في الاستشراق والتخصص له، ودفعت بعض الدول إلى فتح المعاهد الدراسية لتعليم الراغبين في دراسة الشرق وأحوال أممه وأديانها ولغاتها وتاريخها وما إلى ذلك، كما أنشأت المطابع بالحروف العربية للمعاونة في نشر الثقافة العربية القديمة.
ويبدو أن تأخر الشرق ـ قبل نهضته الأخيرة ـ أغرى أمم أوربا بغزوه واستعماره واستغلال موارده، وبالتبشير بالمسيحية بين ربوعه، فكان هذان العاملان من أقوى الأسباب التي أدت إلى نشاط الاستشراق وتنظيمه، لما لدراسة الشرق من أثر في كشف ثغراته ومواضع ضعفه، مما يعين المستعمرين والمبشرين على بلوغ أهدافهم منه، ولا ننسى أن رجال الدين كانوا في مقدمة المبادرين إلى الاستشراق.
وأولئك المستشرقون الذين يدرسون اللغة العربية، والمعارف المختلفة عند العرب ـ أو المسلمين ـ لا يلبثون بعد أن يقطعوا هذه المرحلة حتى يضعوا في أيديهم المعاول والفئوس ليهدموا الأمجاد، ويشوهوا المعالم، ويحطموا الصروح، ويشككوا في كل ما آمن به الناس، ليسهل بعد ذلك كله أن يقودوهم إلى ما يريدون أن يقودهم إليه. وقد ثبت أن القضايا الهدامة للمجد أو الدين أو الأخلاق من صنع هؤلاء وهؤلاء لا يتميز واحد من المستشرقين عن واحد من المبشرين، وهذه هي الجوانب الخلفية من وراء حركة الاستشراق أو التبشير تدل على مدى الزمان والمكان أنهم أشبه بكلمة الحق حين يراد بها الباطل وما ارتفعت دعوة نكراء، أو صوت شاذ، أو صيحة هدامة إلا كان وراءها أصبع لواحد من هؤلاء([2]).
وقد أفاد العرب والمسلمون، بلا ريب من وراء هذه العناية فوائد لا تحصى منها:
س: وضحي كيف أستفاد العرب من حركة الاستشراق.
1. أن المستشرقين نشروا أخبارهم وأحوال مدنيتهم وعادات مجتمعاتهم وأنباء دينهم وآداب لغتهم واتجاهات ثقافاتهم بين الأمم العربية، كما ترجموا كثيراً من كتبهم إلى لغات شعوبهم، وفي مقدمة هذه الكتب: القرآن الكريم، وكتب الحديث، وكتب علوم الكلام والفقه.
ولا ريب أن لذلك أثراً في تنبيه الرأي العام الأوربي إلى حقيقة العرب ودينهم ومدنيتهم، وتصحيح فكرة الشعوب الأوربية عن العرب ويستتبع ذلك حسن تقديرهم.
2. أنهم بحثوا عن نفائس المخطوطات العربية في اللغة وفي مختلف العلوم والفنون، وقاموا بدراستها وتحقيق نصوصها ومضاهاة نسخها وضبط عباراتها ومفرداتها ثم طبعها ونشرها مع تزويدها بالتعليقات القيمة، والفهارس النافعة التي تنظم الانتفاع بها وتسهله كفهارس الأعلام والأماكن والموضوعات.
وكان هذا النظام الدقيق الذي اتبعوه في نشر المخطوطات نموذجاً رائعاً للإخراج العلمي، فكان قدوة للباحثين من العرب، اقتدوا به.
3. ولم يقتصر المستشرقون على الدراسة وطبع المخطوطات، بل ألفوا المؤلفات النافعة وسجلوا فيها ملاحظاتهم القيمة التي بدت لهم أثناء الدراسة، فخدموا الشرق بذلك أجل الخدمات، وأنصفوا آدابه وأعلامه ولا يمنع هذا القول بأن البعض منهم أعماه التعصب وملكه الهوى فأساء إلى الشرقيين وأديانهم ولا سيما العرب والإسلام، ونشر عنهم في مؤلفاتهم أباطيل هم منها براء.
هذا إلى أن البلاد العربية ـ ولا سيما مصر ـ رأت أن تستعين في نهضتها الحاضرة بكبار المستشرقين، فسارت منذ أمد على سياسة استقدامهم للاستفادة من علمهم وخبرتهم، واستخدامهم في بعض كليات الجامعات المصرية وفي المجمع اللغوي([1]) وتاريخ حركة الاستشراق قديم، يرجع إلى سنة 1245م، عندما قام المجمع الكنسي لفيينا تخصيص كراسي لتدريس اللغات الشرقية ، ولكن بداية الحركة المنظمة كانت في أواخر القرن التاسع عشر عندما استعمرت «القارات المنسية» كما كان الأوربيون يسمونها ـ فأسست المعاهد المتخصصة في دراسة الثقافات الشرقية، ثم نظمت مؤتمرات المستشرقين، وقد انعقد أول مؤتمر سنة 1873م بباريس.