الاقتصاص القرآني و
الاقتصاص القرآني
والتناص
ابن فارس
نموذجاً
د. ياسر عبد
الحسيب رضوان
إن
الجدل الدائر على صفحات الكتب والمجلات المتخصصة وغير المتخصصة حول علاقة التراث
العربي بالنظريات النقدية الغربية، وقسمة المؤلفين بين المناصرين بغير هوادة للتراث
العربي، والواقفين منه موقف القديم المدابر للمنجز العقلي المعاصر، والذين يقفون
منه في المنتصف لا يغمطونه حقه، ولا يبالغون في الإدبار عنه؛ يجعلنا متوخين الحذر
كله في الانتساب لهذا أو ذاك، إلا بعد أن يلقي بحثنا بكلمته، ويقدم بين يديه ما
يروم إثباته بعد الدرس المدلَّل بما يقبله العقل المنصف من الأدلة والشواهد التي
تنتصر لفكره، وتضعه في المسار الصحيح الذي يرتضيه العقل والذوق والثقافة التي ينتمي
إليها، تلك التي نما في ربوعها، واتشحت أفكاره ورؤاه
بأرديتها.
كانت قضية
التناص واحدة من تلك القضايا التي التهبت حولها الساحة النقدية العربية، وتعالت
حولها الأصوات، ما بين من ينادي باحتواء التراث العربي لنظائرها، في ما عُرف
بالسرقات الشعرية، وما دار في فلكها من مصطلحات متعددة، حفلت بها كتب النقد
والبلاغة العربية القديمة، ونافرتها أصوات أخرى تنفي عن السرقات الشعرية أية صلة
بقضية التناص، رغم أن جيرار جينيت - وهو أحد المنظِّرين الكبار للتناص - يعُدّ
السرقات الأدبية واحدة من أشكال العلاقات التناصّية، ويرى أن «أكثر أشكال هذه
العلاقة وضوحاً وحرفية، هي الممارسة العادية للاستشهاد، وأن أقل أشكالها وضوحاً
وشرعية هي السرقة، وهي اقتراض غير معلن ولكنه حرفي»(1). ومن هذا المنطلق الأولي نرى
مع الدكتور عبد الملك مرتاض أن قضية التناص قد عرفتها الثقافة العربية القديمة في
صورة قضية السرقات الشعرية(2).
تحدث ابن فارس في كتاب »الصاحبيّ« عن ظاهرة من ظواهر النظم
القرآني سماها
الاقتصاص، وعرّفها بقوله : «أن يكون كلام في سورة مقتصّاً من
كلام في سورة أخرى أو في السورة معها»(3). وهذه الدلالة التي يضعها للاقتصاص،
تدفعنا قبل التوقف أمام ما جاء به من الآيات الكريمة، للبحث عن المدلول اللغوي
للكلمة، والرابط الدلالي بينه وبين المفهوم الذي وضعه ابن فارس للاقتصاص، والعلاقة
بين هذا المصطلح التراثي والمصطلح النقدي المعاصر المعروف في اللسانيات النصية
بالتناص. ثم نحاول من بعدُ الوقوفَ على أشكال العلاقة بين الآيات القرآنية الكريمة.
يدور الجذر اللغوي
«قصّ» حول دلالات؛ منها : القطع، يُقال: قصّ الشَّعر، أيْ قطعه، ومنها: تتبع الأثر،
يُقال: قصصتُ الشيء، إذا تتبعت أثره، ومنها: الإيراد والإخبار، يُقال: قصّ خبره
يقصه قصاًً وقَصَصاً: أورده(4). وإذا ربطنا هذه الدلالات بدلالة الاقتصاص، وجدناها
تتعلق بدلالة القطع، وذلك حيث يشير قول ابن فارس: «أن يكون كلام في سورة مقتصاً من
كلام في سورة أخرى»، أيْ:
مقتطَعاً، وهي الدلالة التي نراها عند ابن طباطبا العلوي(5)،
وهو يتحدث عن بعض ما يضطر إليه الشاعر: «وعلى الشاعر إذا اضطُر إلى اقتصاص خبر في
شعره، دبّره تدبيراً يسلس له معه القول، ويطّرد فيه المعنى، فبنى شعره على وزن
يحتمل أن يحشى بما يحتاج إلى اقتصاصه، بزيادة من الكلام يخلط به، أو نقص يحذف منه»
(6). ودالة الافتعال هنا تؤكد على دلالة القطع، وما يرتبط بها من اللصق للخبر
المقتصِّ من سياق آخر؛ ليوضع في السياق الذي أراده المقتصّ، وهذا مما يُدخل
الاقتصاص بالمفهوم السابق في حيز التناص والتعالق النصي، الذي يشير إلى استدعاء نص
سابق ليتعالق مع النص الحالي.
وللتأكيد على هذا التعالق الاقتصاصي، مع الإشارة إلى المقدرة
الشعرية للشاعر المناصّ، يسوق ابن طباطبا قصة السموأل بن عادياء الذي استودعه امرؤ
القيس مائة من الأدراع، ولما أتى الحارث الغساني لأخذها من السموأل رفض إعطاءها
إياه، فتوعده بأخذ ولده
الصغير وقتله، وعندما رفض السموأل، قام الحارث بقتل الولد،
وقد استدعى الأعشى هذه القصة عندما وقع في الأسر وأُهديَ إلى شُرَيْح بن السموأل
الذي سمع قصيدة الأعشى في استعطافه بذكر وفاء أبيه السموأل وكرم خلقه مع امرئ
القيس، فأطلقه شريح وأعطاه ناقة نجيبة(7). أما استدعاء الأعشى للقصة، فقد ورد في
قوله(8)
وَطَالَ فِي الْعُجْمِ تَرْحَالِي وَتَسْيَارِي
جَـاراً أَبُوكَ، بِعُرْفٍ غَيْرِ إِنْكَـارِ
وَعِنْدَ ذِمَّتِهِ الْمُسْتَأْسِدُ الضَّارِي
فِي جَحْفَلٍ كَسَـوَادِ اللَّيْلِ جَـرَّارِ
أَوْفَى وَأَمْنَعُ مِنْ جَـارِ ابْنِ عَمَّارِ
حِصْنٌ حَصِينٌ وَجَارٌ غَيْرُ غَدَّارِ
مَهْمَا تَقُلْهُ فَإِنِّي سَامِعٌ، حَارِ
فَاخْتَرْ، وَمَا فِيهِمَا حَظٌّ لِمُخْتَارِ
اذْبَحْ هَدِيَّكَ، إِنِّي مَانِعٌ جَارِي
وَإِنْ قَتَلْتَ كَرِيمـاً غَيْرَ عَـوَّارِ
وَإِخْـوَةً مِثْلَـهُ لَيْسُوا بِأَشْـرَارِ
وَلاَ إِذَا شَمَّرَتْ حَرْبٌ بِأَغْمَـارِ
رَبٌّ كَرِيمٌ وَبِيضٌ ذَاتُ أَطْهَـارِ
وَكَاتِمَاتٌ إِذَا اسْتُودِعْـنَ أَسْرَارِي
أَشْرِفْ سَمَوْأَلُ فَانْظُرْ لِلدَّمِ الْجَارِي
طَوْعـاً؟ فَأَنْكَرَ هَـذَا أَيَّ إِنْكَـارِ
عَلَيْـهِ مُنْطَوِياً كَاللَّذْعِ بِالنَّـارِ
وَلَمْ يَكُنْ عَهْـدُهُ فِيهَـا بِخَتَّـارِ
فَاخْتَـارَ مَكْرُمَةَ الدُّنْيَا عَلَى الْعَارِ
وَزَنْدُهُ فِي الْوَفَـاءِ الثَّاقِبِ الْوَارِي
ويمكن لنا - ونحن نعرض لهذه القصيدة التي نالت إعجاب غير واحد من النقاد القدامى - أن نسوق تعليق ابن طباطبا على الأبيات الستة عشر الأخيرة، التي رأى أن الأعشى قد اقتصّ فيها خبر السموأل؛ يقول ابن طباطباً: «فانظر إلى استواء هذا الكلام وسهولة مخرجه، وتمام معانيه، وصدق الحكاية فيه، ووقوع كل كلمة موقعها الذي أُريدت له، من غير حشد مجتلب، ولا خلل شائن، وتأمل لطف الأعشى في ما حكاه واختصره في قوله: «أأقتل ابنك صبراً أو تجيء بها؟»، فأضمر ضمير الهاء في قوله: «واختار أدراعه، أن لا يُسبّ بها»، فتلافى ذلك الخلل بهذا الشرح، فاستغنى سامع هذه الأبيات عن استماع القصة فيها، ولاشتمالها على الخبر كله بأوجز كلام، وأبلغ حكاية، وأحسن تأليف، وألطف إيماءة» (9).
نحن نقف أمام نص نقدي سابق لعصره، إن جاز لنا القول بهذه الأسبقية، حيث نلحظ إدراك ابن طباطبا ذوبان الفوارق والحدود بين الأجناس الأدبية، وقد أشاد بروكلمان بصنيع الأعشى فقال: «أما محاولة الأعشى إنشاء شعر القصة، واختراع أسلوب الملحمة، في إشادته بوفاء السموأل، فقد بقيت عملاً فذّاً لم ينسج أحد على منواله»(10). ومن بين مظاهر هذه الأسبقية كذلك: رعاية سياقات التلقي، تلك التي يتم فيها تلقي النص الشعري، ومنها كذلك: ربط المتلقي السامع إلى النص الحالي الذي يستدعي في نفسه النص السابق المقتص منه، ثم نلحظ كذلك من مظاهر تلك الأسبقية الإشارة إلى التناص بالمفهوم المعاصر، في إشارته إلى اشتمال القصيدة على الخبر كله بأوجز كلام، وذلك ما يستدعي واحدة من آليات التناص، هي امتصاص النص القديم أو اقتصاصه بمفهوم ابن فارس، وإعادة كتابته في سياق جديد وثوب لغوي يتسم بالتكثيف والإيجاز.
والتكثيف والإيجاز يستدعي كلاهما موقف ابن أبي الإصبع المصري الذي يعُدّ الاقتصاص من باب الإيجاز، وهو يعرف الاقتصاص بقوله: «أن يقتص المتكلم قصة، بحيث لا يغادر منها شيئاً، في ألفاظ قليلة موجزة جدّاً، بحيث لو اقتصها غيره ممن لم يكن في مثل طبقته من البلاغة، أتى بها في أكثر من تلك الألفاظ»(11). وهو وإن كان يشير إلى التفرقة بين الأدباء من حيث الطبقة البلاغية، فإنه يحرص على تحديد الاقتصاص وربطه بالقصة وحدها، دون أن يعمم الدلالة، كالذي رأيناه عند ابن فارس، حيث جعل الاقتصاص شاملاً للقصة وغيرها، باستخدامه دالة كلام منكرة مفيدة بتنكيرها العموم والشمول، وليقترب بذلك من مفهوم التناص في اللسانيات النصية؛ حيث لا يقتصر فعل التناص على النص القصصي وحده، وإنما يشمل فعل التناص كل النصوص التي ترتبط مع النص الحالي بأية صورة من صور التعالق النصي.
ونلحظ أن ابن أبي الإصبع قد فصل فكرته باستدعاء أبيات الأعشى سالفة الذكر، ويعلق عليها بمثل تعليق ابن طباطبا، أو بقريب منه، مع اختلاف يسير لا ينفي النقل، وكذلك باستدعاء خبر ما كان بين النابغة الذبياني والنعمان بن المنذر؛ يقول: «ومن أمثلة الإيجاز قول النابغة الذبياني في اقتصاصه قصة الزرقاء»(12). وأما الأبيات التي دلل بها على القصة فهي من القصيدة الدالية الأولى من الديوان، يقول النابغة في خطاب النعمان بن المنذر (13) (بسيط ):
يَحُفُّـهُ جَـانِبَـا نِيـقٍ، وَتُتْبِعُـهُ
قَالَتْ: أَلا لَيْتَمَا هَذَا الْحَمَامُ لَنَا
فَحَسَّبُوهُ فَأَلْفَـوْهُ كَمَـا حَسِبَتْ
فَكَمَّلَتْ مِائَـةً فِيهَـا حَمَامَتُهَـا
فَلا لَعَمْرُ الَّذِي مَسَّحْتُ كَعْبَتَـهُ
وَالْمُؤْمِنِ الْعَائِذَاتِ الطَّيْرَ يَمْسَحُهَا
مَا قُلْتُ مِنْ سَيّئٍٍ مِمَّا أُتِيتَ بِهِ
إِلاَّ مَقَالـَةَ أَقْـوَامٍ شَقِيتُ بِهَـا
إِلَى حَمَـامٍ شِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَـدِ
مِثْلَ الزُّجَاجَةِ لَمْ تُكْحَلْ مِنَ الرَّمَدِ
إِلَى حَمَـامَتِنَـا وَنِصْفُـهُ فَقـَدِ
تِسْعاً وَتِسْعِينَ لَمْ تَنْقُصْ وَلَمْ تَزِدِ
وَأَسْرَعَتْ حِسْبَـةً فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ
وَمَا هُرِيقَ عَلَى الأَنْصَابِ مِنْ جَسَدِ
رُكْبَـانُ مَكَّـةَ بَيْنَ الْغَيْلِ والسَّعَدِ
إِذًا فَلا رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَيَّ يَدِي
كَانَتْ مَقَالَتُهُمْ قَـرْعاً عَلَى الْكَبِـدِ
ويبدو أن قصة الزرقاء هذه قد كانت مشهورة أيام النابغة، وقبله كذلك، حيث ورد ذكرها عند بعض الشعراء الجاهليين من أمثال النمر بن تولب والأعشى وحسان وغيرهم (14)، وأنه كان ثمت اتفاق على أخبارها، وما ارتبط بها من أوصاف ارتكزت حول حدّة البصر وثقابة الرأي، ورجاحة العقل والحكمة التي يلتمس النابغة من النعمان أن يكون مثلها في الأبيات السابقة تلك التي علّق عليها ابن أبي الإصبع بقوله : »فإن النابغة سرد هذه القصة بألفاظ الحقيقة، عرية عن الحشو الخشن والمعيب، ولم يغادر منها شيئاً« (15). مما يعني استيعاب النص الجديد للنص السابق عليه واهتضامه، بحيث غدا جزءاً أساسياً منه، ثم نلحظ من التعليق الإشارة إلى عُروّ القصة من الحشو المعيب والخشن، وهو ما يستدعي فكرة الإيجاز، واقتناص ما يتناسب والنص الجديد من النص القديم، من دون أن يُخل ذلك بما تم اقتناصه أو اقتصاصه. لقد قام النابغة بغربلة النص القصصي السابق، والتقط منه ما يخدم فكرته، وما يتساوق وموضوعه من حيث النصح للملك النعمان بن المنذر.
ونجد دلالات «القطع، والإيراد، والإخبار» عند أبي هلال العسكري في سياق حديثه عن كيفية عمل الشعر: «وإذا دعت الضرورة إلى سوق خبر، واقتصاص كلام، فتحتاج إلى أن تتوخى فيه الصدق، وتتحرى الحق؛ فإن الكلام حينئـذٍ يملكك، ويحوجك إلى اتباعه والانقياد له»(16). ولعلنا نلحظ دور العطف بين سَوق الخبر واقتصاص الكلام، في ترجيح دلالة القصّ هنا، وأن «الاقتصاص بمعنى سوق القصة»(17). ولا يعني ذلك غياب دلالة القطع؛ إذ يبدو أن الدلالتين متلازمتان عند العسكري، وكذلك عند ابن أبي الإصبع المصري، الذي يجعل الاقتصاص من بين صور الإيجاز على النحو الذي مرّ.