البكاء بين يدى زرق
البكاء بين يدى زرقاء اليمامة.. شعر أمل دنقل
تقديم : سميـــر العركى
كانت هزيمة الخامس من يونيو 67 بمثابة
الصدمة لمعظم الفئات الذين ارتبطوا بعبد الناصر ونظام حكمه فكرياً كان الارتباط أو وجدانياً ، إذ مثل المشروع الناصرى لديهم طوق
النجاة لحل مشاكل الأمة وفى القلب منها قضية فلسطين ، ولعب الإعلام وقتها دوراً
كبيراً فى تزييف الحقائق ، وترويج الأكاذيب ، وبات الشعب ينتظر اللحظة التى سيستيقظ
فيها من نومه وقد دخلت الجيوش العربية إلى قلب فلسطين والقبض على العصابات التى
استولت عليها ، ولكن الشعب صحا واستيقظ على الحقيقة الناصعة الواضحة وهى أننا لم
نستطع أرضنا وهاهي ذي سيناء تضيع ومعها الجولان والضفة الغربية وما تبقى من القدس
... كانت الصدمة قوية أحدثت هزة عنيفة فى النفوس فأدت إلى ظهور ما نستطيع أن نطلق
عليه تجاوزاً أدب النكسة ... وقصيدة اليوم التى نقدمها تمثل صوتاً احتجاجياً عنيفاً
على تردى الأوضاع آنذاك فى مصر كتبها ناظمها بعد حوالى أسبوع من وقوع الهزيمة وقد
أحدثت دوياً كبيراً ... فقد وضع فيها أمل دنقل كل زفرات الأسى التى تعتمل فى صدره
وتشعر وأنت تقرأها أنها كتبت بمداد الرفض والحزن ... الرفض للأوضاع التى كانت سائدة
آنذاك والحزن على سوق الشعب إلى مقصلة الهزيمة دون ذنب منه أو جريرة ... اتخذ أمل
دنقل من شخصية زرقاء اليمامة ـ التى كانت معروفة فى الجاهلية بحدة بصرها ـ رمزاً
لصوت الاحتجاج الذى كان يحذر قبل وقوع الهزيمة من احتمال الحرب ، ومن احتمال
الهزيمة ولكن لم يسمع لها أحد ، ولم يلتفت إليها أحد ، وحين وقعت النكسة التمس الجميع النجاة
والفرار يقول أمل : قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ..
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار!
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار..
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار!
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف: قايضوا بنا..
والتمسوا النجاةَ والفرار!
ونحن جرحى القلبِ،
جرحى الروحِ والفم.
لم يبق إلا الموتُ..
والحطامُ..
والدمارْ..
جاءت قصيدة أمل دنقل مفعمة بالحزن والأسى مليئة بالصور المعبرة ، والإسقاطات الموحية ، كما أنها تحتوى على بعض الألفاظ المخالفة للعقيدة والتي سيلحظها القارىء ... ولكن تبقى القصيدة صوتاً احتجاجياً قوياً على مأساة 67
أما عن أمل دنقل نفسه فقد ولد في بلدة القلعة بمحافظة قنا في صعيد مصر عام 1940، وله ست مجموعات شعرية وهي: «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»، و«تعليق على ما حدث»، و«مقتل القمر»، و«العهد الآتي»، و«أحاديث في غرفة مغلقة»، وآخر مجموعاته الشعرية خلال فترة مرضه، هي «أوراق الغرفة رقم 8». ويعد دنقل من أبرز الشعراء المصريين في الجيل الذي تلا صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي. أصيب دنقل بالسرطان، ورحل في القاهرة عام 1983 والآن إلى القصيدة :
أيتها العرافة المقدَّسهْ..
جئتُ إليك.. مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسهْ
منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ.
أسأل يا زرقاءْ..
عن فمكِ الياقوتِ عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسهْ
عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء
عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاصُ رأسَه.. في لحظة الملامسهْ!
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء!!
أسأل يا زرقاء..
عن وقفتي العزلاء بين السيف.. والجدارْ!
عن صرخة المرأة بين السَّبي. والفرارْ؟
كيف حملتُ العار..
ثم مشيتُ؟ دون أن أقتل نفسي؟! دون أن أنهارْ؟!
ودون أن يسقط لحمي.. من غبار التربة المدنسهْ؟!
تكلَّمي أيتها النبية المقدسهْ
تكلمي.. باللهِ .. باللعنةِ.. بالشيطانْ
لا تغمضي عينيكِ، فالجرذان..
تلعقَ من دمي حساءَها.. ولا أردُّها!
تكلمي.. لشدَّ ما أنا مُهان
لا اللَّيل يُخفي عورتي.. ولا الجدرانْ!
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها..
ولا احتمائي في سحائب الدخانْ!
.. تقفز حولي طفلةٌ واسعةُ العينين.. عذبةُ المشاكسهْ
(ـ كان يَقُصُّ عنك يا صغيرتي.. ونحن في الخنادقْ
فنفتح الأزرار في ستراتنا.. ونسند البنادقْ
وحين مات عَطَشاً في الصحراء المشمسهْ..
رطَّب باسمك الشفاه اليابسهْ..
وارتخت العينان!)
فأين أخفي وجهيَ المتَّهمَ المدانْ؟
والضحكةُ الطروب: ضحكته..
والوجهُ.. والغمازتانْ!؟
* * *
أيتها النبية المقدسهْ..
لا تسكتي.. فقد سَكَتُّ سَنَةً فَسَنَةً..
لكي أنال فضلة الأمانْ
قيل ليَ «اخرسْ..»
فخرستُ.. وعميت.. وائتممتُ بالخصيانْ!
ظللتُ في عبيد (عبسِ) أحرس القطعان
أجتزُّ صوفَها.. أردُّ نوقها..
أنام في حظائر النسيان
طعاميَ: الكسرةُ.. والماءُ.. وبعض الثمرات اليابسهْ.
وها أنا في ساعة الطعانْ
ساعةَ أن تخاذل الكماةُ.. والرماةُ.. والفرسانْ
دُعيت للميدانْ!
أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأنْ..
أنا الذي لا حولَ لي أو شأنْ..
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيانْ،
أدعى إلى الموت.. ولم أدع إلى المجالسة!!
تكلمي أيتها النبية المقدسهْ
تكلمي.. تكلمي..
فها أنا على التراب سائلً دمي
وهو ظمئً. يطلب المزيدا.
أسائل الصمتَ الذي يخنقني:
«ما للجمال مشيُها وئيدا.. ؟!»
أجندلاً يحملن أم حديدا..؟!»
فمن تُرى يصدُقْني؟
أسائل الركَّع والسجودا
أسائل القيودا:
«ما للجمال مشيُها وئيدا..؟!»
«ما للجمال مشيُها وئيدا..؟!»
أيتها العَّرافة المقدسهْ..
ماذا تفيد الكلمات البائسهْ؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ..
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار!
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار..
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار!
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف: قايضوا بنا..
والتمسوا النجاةَ والفرار!
ونحن جرحى القلبِ،
جرحى الروحِ والفم.
لم يبق إلا الموتُ..
والحطامُ..
والدمارْ..
وصبيةٌ مشرّدون يعبرون آخرَ الأنهارْ
ونسوةٌ يسقن في سلاسل الأسرِ،
وفي ثياب العارْ
مطأطئات الرأس.. لا يملكن إلا الصرخات الناعسة!
ها أنت يا زرقاءْ
وحيدةٌ.. عمياءْ!
وما تزال أغنياتُ الحبِّ.. والأضواءْ
والعرباتُ الفارهاتُ.. والأزياءْ!
فأين أخفي وجهيَ المُشَوَّها
كي لا أعكِّر الصفاء.. الأبله.. المموَّها..