التناصّ الأدبي:
هل غادر الشعراء من متردم *** أم هل عرفت الدار بعد توهم
ليعبرعن موقف حكام العرب المتخاذل في القمة العربية ،قائلا:
هل غادر الرؤساء من متردم *** أم هل عرفت حقيقة المتكلم
سنة على سنة تراكم فوقها تعب *** الطريق وسوء حال المسلم
سنة على سنة وأمتنا على جمر *** الغضى والحزن يشرب من دمي
قمم تشيد فوق أرض خضوعنا *** أرأيت قصراً يُبتنى في قمقم؟!
يا دار مأساة الشعوب تكلمي *** وعمي صباح الذل فينا واسلمي
إنا على المأساة نشرب ليلنا سهراً *** وفي حضن التوجس نرتمي
ما بين مؤتمر ومؤتمر نرى *** شبحاً يعبر عن خيال مبهم
التوصيات تنام فوق رفوفها *** نوم الفقير أمام باب الأشأم
شجب وإنكار وتلك حكاية ماتت *** لتحيا صرخة المستسلم
كما يستدعي شخصية (عنترة) كرمز للبطولة والإقدام ،وشخصية (عبلة) رمز فلسطين الأسيرة التي دنّس شرفها الاستيطان الصهيوني،وذلك ليجمع بين موقفين متناقضين:تضحية عنترة في سبيل عبلة قديما ، مقابل جُبن وتراجع العرب في مواجهة الصهاينة وتحرير فلسطين حاضرا .يقول:
أأبا الفوارس وجه عبلة شاحب ** وأمام خيمتها حبائل مجرم
أأبا الفوارس صوت عبلة لم يزل ** فينا ينادي ويك عنترة أقدم
ترنو إليك الخيل وهي حبيسة ** تشكو إليك بعبرة وتحمحم
هلا غسلت السيف من صدأ الثرى ** وعزفت في الميدان ركض الأدهم
هلاّ أثرت النقع حتى ينجلي ** عن قبح وجه الخائن المتلثم
إلى أن يقول:
إني ذكرتك والجراح نواهل ** وحرفي قد تلجلج في فمي
فوددت تمزيق الحروف لأنها ** وجمت وجوم جبينك المتورم
ها هي المأساة تتجلى في أشد صورها ألما وغضبا..
كما نجد أثرا للتناص الأدبي في قصيدته (جِنين) ،حين جعل فلسطين وجها آخر للأندلس ،من خلال استحضار نصوص غائبة من فن رثاء الممالك والمدن الأندلسية، كسينية ابن الأبار،مطلعها:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ** إن السبيل إلى منجاتها درسا
ونونية أبي البقاء الرندي ومطلعها:
لكل شئ إذا ما تم نقصان ** فلا يغرّ بطيب العيش إنسان
يقول:
خبِّريْنا يا قلوبَ الوالهينْ *** عن جراحٍ ودموعٍ وأنينْ
خبِّريْنا عن جريحٍ لم يزلْ *** يلفظ الأنفاسَ بين الراحلينْ
وعن الأجساد لما أصبحت *** قِطَعاً تُغْمَس في ماءٍ وطينْ
وعن الرُّعب الذي نُبصرُهُ *** كلَّ يومٍ في وجوه النازحينْ
عن صغارٍ أصبحوا في فَزَعٍ *** تحت زخَّاتِ رصاص الغاصبينْ
وعن الأنقاضِ ماذا تحتَها *** من ضحايا قُتِلُوا مُسْتَبسلينْ
نستشعر إيقاع الحزن والألم ،ونغم اللوعة والأسى بين ثنايا الأبيات ،بيد أن القصيدة قد صورت روح البطولة والتضحية والمقاومة الباسلة ،لتغدو (جنين) رمزا من رموز التحدي والصمود في وجه الغاصبين، يقول:
خبِّريْنا عن فتاةٍ فَجَّرتْ *** نفسَها وهزَّتْ قلوبَ الواهمينْ
هي في عمر الصَّبايا خَرجتْ *** حرَّةً من نظرات الحالمينْ
غرَّدتْ للموت لمَّا أبصرتْ *** قومَها بين قتيلٍ وسَجينْ
ورأتْ جُرحَ أخيها نازفاً *** غسلتْهُ الأُمُّ بالدمعِ السَّخينْ
أَنِفَتْ أنْ تُسْنِدَ الأمرَ إلى *** وَعْد شُذَّاذِ اليهودِ الخائنينْ
أو إلى تدبيرِ غَرْبٍ لم يزلْ *** يجد العُذْرَ لشارونَ اللَّعينْ
يَدُها الناعمةُ امتدَّتْ إلى *** جَذْوةٍ تَشوي وجوهَ الحاقدينْ
قدَّمتْ زَهْوَ صِبَاها ثمناً *** غالياً في نُصْرَةِ المستضعفينْ
وفي قصيدة أخرى هي (فلسطين أمّي) للشاعر "محمد وليد" يظهر التناص مع نونية أبي البقاء الرندي إذ يقول:
يا راكبين عتاق الخيل ضامرة ** كأنها في مجال السبق عقبان
وحاملين سيوف الهند مرهفة **كأنها في ظلام النقع نيران
وراتعين وراء البحر في دعة ** لهم بأوطانهم عز وسلطان
أعندكم نبأ من أهل أندلس ** فقد سرى بحديث القوم ركبان
يقول محمد الوليد:
فلسطينُ أمي ..
تنوحُ بصوت حزين ..
تعيشُ على ضفة الموت ..
بين الصراخ وبين الأنين ..
وأعداؤها يقرعون الطبول ..
ويحتفلون بنصر مبين ..
لك الله .. يا قدسُ ..
يا حبة القلب ..
يا درة في الجبين ..
لقد باعك الأقربون
وضيعك التائهون بهذا الزمان المهين..
فغرقي يقودون ركب السّفين ..
وعُميٌ يعادون طب العيون ..
فلسطين أمي ..
تنادي أباة الرجال ..
لقد قيدوني ..
وشدوا بصدري الحبالْ
وفي ساحتي سامريّ
يجوسُ خلال الديار ..
ينقّبُ عن جده في الرمالْ
ويرعى الخنازير فوق سهولي ..
وفوق الجبالْ
ويعصر أعنابي الحُمرَ خمراً ..
ليسقي رؤوس الضلالْ
لقد ألحقوني .. بركب الضلال ..
وقد هوّدوني ..
فيا راكبين عتاق الخيول ..
لمن تتركوني؟
حنانك يا أمُ إني فداك
برغم العذاب ورغم السجون
وإني سآتيك فوق سروج الغمام
وفوق الحُزون
سأحمي حماك
بخفق الفؤاد.. ونبض الوتين
وأشعلُ قنديل حُبك ..
خلف الوهاد .. وفوق الوكون
وإن جوّعوني ..
وهبتك لقمة عيشي .. وكدّ اليمين..
وإن قتلوني ..
وهبتك روحي ..
ترف عليك بنور اليقين ..
سأقهركم أيها الغاصبون
برغم العذاب ورغم السجون ..
فلا تفرحوا باعتقالي وقهري ..
وتشريد أهلي بليل حزين ..
ولا تفرحوا بسلام مُهين ..
جناهُ الجناة بعصر مهين ..
فلسطين أرضي وأرض جدودي ..
وإن ما غصبتم ثراها لبضع سنين ..
وإن ما ظننتم دوام المقام ..
فلا تسرفوا في الظنون ..
فموسى لنا .. ولك سامريّ
يبيع هواه بعجل سمين ..
وجيش محمد آتٍ بنصر مبين
يبشرنا أنكم راحلون ولو بعد حين ..
لم يتقتصر استحضار الشعراء لنصوص قديمة ،بل تعدى ذلك إلى نصوص حديثة ،كما فعل الشاعر محمد جعفر في قصيدته (فلسطينية العينين) يقول:
فلسطينية العينين والأحجار لن تهزم
فلسطينية العينين والدار
جروح أنبتت نارا على نار
دماء أشعلت في قلبي المحزون أشعاري
وإن صمتوا..وإن ناموا... وإن قاموا ...
فأنت لهيب إعصاري...
والتناص جليّ معقصيدة محمود درويش (عاشق من فلسطين) يقول:
فلسطينيةُ العينينِ والوشْمِ
فلسطينية الاسمِ
فلسطينية الأحلامِ والهمِّ
فلسطينية المنديل والقدميْن والجِسْمِ
فلسطينية الكلماتِ والصمتِ
فلسطينية الصوت
فلسطينية الميلادِ والموتِ