التناصّ الديني
شكّل الموروث الديني على تنوع دلالاته واختلاف مصادره مصدرا إلهاميا ،ومحورا دلاليا لكثير من المعاني والمضامين التي استوحاها شاعر المقاومة ،وحاول النفاذ من خلالها لتصوير معاناته ،والتعبير عن قضاياه ومواقفه،وتعميق تجاربه.
***ويعدّ النص القرآني مصدرا هاما من مصادر التعبير الشعري وتكثيف الدلالة ، وإثرائها بالرموز الخصبة. فاستلهم الشعراء بعض المعاني القرآنية ،أو الكلمات بفضل الاقتباس ،أو استحضار شخصيات الأنبياء والرسل ،يقول محمود درويش في قصيدته "أنا يوسف يا أبي":
يا أبي إخوتي لا يحبونني
لا يريدونني بينهم يا أبي
يعتدون عليّ ويرمونني بالحصا والكلام
يريدونني أن أموت ليمدحوني
وهم أوصدوا باب بيتك دوني
غاروا وثاروا علي وثاروا عليك
فماذا صنعت لهم يا أبي؟
فماذا فعلت أنا يا أبي؟
أنت سميتني يوسف
وهم أوقعوني في الجب
واتهموا الذئب
والذئب أرحم من إخوتي ..أبتِ
هل جنيت على أحد عندما قلت إني : رأيت أحد عشر كوكبا
والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين.
وهي هنا تعبّر عن واقع الأمة العربية المتردي والممزّق.
- ومن نماذج استدعاء النص الشعري للنص القرآني قول الله عز وجل:" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ " فجسّد من خلالها صاحب قصيدة "مخلوقات غير عادية" - ويعني بهم (الصهاينة)- طبيعة الصراع الفلسطيني الصهيوني، واقفا على معاني المقاومة والصمود في وجه الاحتلال وادعاءاته السخيفة بأحقيته في أرض فلسطين حين زيف التاريخ افتراء على الإنسانية جمعاء..
ويشهد بانتمائي
لن يأخذ المحتل ما ملكت يداي
بالادّعاء والافتراء
وأنا الفلسطيني،أصلي ثابت وفرعي في السماء
كل الغزاة لفظتهم،وكتبت تاريخي المشرف بالدماء
هذا ما يمنح النص عمقا ،حين يوحي بمعان خفية تفتح فضاء التأويل والتحليل،فما مزاعم الصهاينة إلا محض افتراء ،وكلام عابر لا يسمن ولا يغني من جوع.
-كما استلهم الشاعر (كمال أحمد غنيم) من قصة هاجر أم اسماعيل عليه السلام، في حوار تخوضه مع سيدنا ابراهيم عليه السلام في قصيدته (هاجر) :
الظمأ يجوس بأضلاعي
وعروقي تنزف في قبري
رحماك فلا كبش يثغو
رحماك ولا نبع يتفجر تحت الأقدام
رحماك ولا أفئدة تهوي
لاأسمع خطوات قادمة
لا أسمع حتى همس الأقلام
إنه استحضار لقوله تعالى :" رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ "
من خلال قصة السيدة هاجر عليها السلام،يجسد الشاعر الواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني وحالة انتظاره الغوث والمدد من أشقائه العرب ،فالحوار الدرامي بين السيدة هاجر وإبراهيم عليه السلام أثرى دلالة النص وأضاف إليه عمقا،إضافة إلى تكرار (رحماك .. لا أسمع) التي تثير مكامن الأحزان والأسى وألم الخذلان.
بينما يستلهم الشاعر فاروق جويدة في قصيدته"ماذا تبقى من بلاد الأنبياء" من قصة مريم عليها السلام قول الله سبحانه: " وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ".
حين يقول:
هزي بجذع النخلة العذراء
يساقط الأمل الوليد
على ربوع القدس
تنتفض المآذن،يبعث الشهداء
تتدفق الأنهار ،تشتعل الحرائق
تستغيث الأرض
تهدر ثورة الشرفاء
إنه تعبير عن الحاجة إلى معجزة سماوية لتغيير حالة العرب ،وهذه الحاجة مرتبطة بأرض القدس.فالنخلة العذراء المغروسة في أرض القدس هي رمز للانتفاضة، لكن لم يسبق لها أن أثمرت حركة مقاومة،إنها شجرة بِكر خصبة ، لذا فإن الشاعر يطلب منها أن تهتز لا لتساقط رطبا ،بل تهفو روحه إلى أمل لا يتحقق إلا بالانتفاضة وتضحية الشهداء..
وقد اختار لذلك الأفعال المضارعة التي توحي بالاستمرار والتجدد(يساقط،تنتفض،تشتعل،يبعث) مما أسهم في التعبير عن موقف الشاعر ورؤيته،الذي يحدوه الأمل لتحرير أرض المقدس.يقول:
هزي بجذع النخلة العذراء
رغم اختناق الضوء في عيني
ورغم الموت والأشلاء
مازلت أحلم أن أرى قبل الرحيل
رمادَ طاغية تناثَرَ في الفضاء
مازلت أحلم أن أرى فوق المشانق
وجهَ جلاد قبيح الوجه تصفعه السماء
مازلت أحلم أن أرى الأطفال
يقتسمون قرص الشمس
يختبئون كالأزهار في دفء الشتاء.
مازلت أحلم
أن أرى وطنا يعانق صرختي
ويثور في شمم ،ويرفض في إباء
-وفي قصيدة (لبيكِ يا جِنين)يظهر الشاعر الموقف المتخاذل لحكام العرب ،الذين قتلوا النخوة والكرامة بصمتهم وتآمرهم ضد القضية الفلسطينية ،فيعقدون اجتماع الخزي والعار في القمم العربية ليعلنوا الاستسلام براية التفاوض والسلام ،يقول في استهزاء وسخرية:
وسقطت قلوبهم ودارت العيون
وافتتحوا جلستهم بآية وأخذوا لها يرددون
"إن جنحوا للسلم فاجنح"
"إن جنحوا للسلم فاجنح"
هذا هو خيارنا
جاء به كتابنا المبين
وصية للمصطفى الأمين
قرت عيون القوم ... لكن
قومنا تشبهوا بمالك الحزين..!!
تجمعوا ... تسمعوا ... ثم عموا ..!
عن طفلة مسحوقة وعائل سجين !
تجردوا من نخوة المعتصم وكسروا سيف صلاح الدين !
تناعسوا ...
تقاعسوا... وبعدها
تحمسوا ...
تهامسوا ...
فوعدوا أن يرسلوا لكل رب أسرة
كيساً من الطحين!!
وقرروا
أن يشحذوا لجارنا السكين !!
لبيك يا جنين
يقول تعالى في محكم تنزيله:" وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "
***ومن نماذج استحضار الحديث النبوي الشريف ما ورد في قصيدة "حين يصيح الفجر قد نطق الحجر" ،يقول الشاعر على لسان الطفل الفلسطيني الشهيد "محمد الدرّة" مخاطبا أخته:
لا تخفي دموعك خلف جدران البيوت
فالليل يمضي
ثم ينفجر النهار
فتحفزي انتظري الصباح
إن كنت في محراب جمرك تنتظرين
فتهيئي
حتى يصيح الفجر قد نطق الحجر
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :" قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود" رواه مسلم
إن ّ التناص قد جسد الصراع بين ليل الظلم الحالك ونور الحق الساطع ،فما جرائم اليهود إلا شعلة تذكي لهيب المقاومة الفلسطينية.
ويظهر التناص مع هذا الحديث النبوي بشكل أكثر وضوحا ليجسد الصراع اليهودي الفلسطيني،مع التأكيد على الإيمان ببشرى النصر يوما ما.
يقول الشاعر (محمد العائد) في قصيدته "اليوم قد نطق الحجر"
هذا يهودي ورائي قد توارى واستتر
كما يصور في قصيدته"خلاصة القول" واقع الأمة العربية وما آلت إليه من ضعف وهوان وتفرق وانقسام:
غدونا من تفرقنا غثاء ** كمثل الشاه تصبح دون راع
فهل نحني الرؤوس رضا وذلا ** لشر الخلق أبناء الأفاع
وداء الخبث في دمهم قديم ** وداء الحقد جاء من الرضاع
وفي الحديث الشريف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت"