التناص:
التناص:
لقد آثرنا البدء بالحديث عن الاقتصاص بالمفهوم
الذي أراده ابن فارس، وعوّلنا على استخدامات البلاغيين القدامى له، لدافع منطقيٍّ
مستحقٍ،ّ وهو أنه مصطلح تراثي، والتراث متقدم على المعاصرة أو الحداثة، تقدماً
زمنيّاً، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أردنا أن نعطي لهذا التراث حق التقدمة التي
هو جدير بها ومستحق لها، إن زمناً، وإن تنظيراً واشتمالاً على ما أتت به المعاصرة
والحداثة من نظريات ومصطلحات. صحيح أنها نظريات ومصطلحات لم ترد في تراثنا العربي
بالعناوين التي أتت بها الحداثة، ولكن القسمات والملامح التي جاءت عليها في التراث
لا تكاد تبعدها كثيراً عما جاءت به الحداثة، بيد أن الظروف الثقافية والسياقات
الاجتماعية التي نبتت فيها القضايا التراثية لم تدع مجالاً لإطلاق التسميات
الحداثية التي نبتت مع التقدم الكبير في علوم اللغة والعلوم المؤازرة لها، مثل علوم
النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ والفلسفة والمنطق وغيرها من العلوم.
كل ذلك يدفعنا إلى
اجترار مقولة القدماء - شعراءَ وغيرَ شعراء - أنه «ما ترك الأقدمون للمحدثين من
شيء»، فجلُّ ما أتى به المحدثون وعته الذاكرة التراثية وعياً أعطاها بحقٍّ الريادة
في التنظير، والتقدمة في التطبيق، وإن ارتبطت اصطلاحات المحدثين بالظروف والسياقات
المختلفة التي نبت فيها فكرهم، ولم تكن تلك الظروف والسياقات نفسها عند القدماء
الذين خرجت اصطلاحاتهم هي الأخرى متشحة بوشاحات ظروفهم وسياقاتهم الاجتماعية
والثقافية والدينية والعلمية، وأظن أن أبرز المصطلحات الحداثية التي تؤكد ما نذهب
إليه هو مصطلح التناص؛ ذلك المصطلح الذي برز مع الفكر الغربي، وانتقل إلى ثقافتنا
العربية مع التطور والاتساع الثقافي، وازدهار الترجمة التي تشير فيما تشير إلى عدم
تقوقع العقلية العربية الحديثة على التراث العربي وحده، وإنما رغبت في مطالعة
الثقافات الغربية وغيرها ؛ راغبة في الأخذ بيد الثقافة العربية الحديثة إلى حيث
المكانة التي تليق بها بين الثقافات العالمية المعاصرة.
لقد ارتبط التناص في الدرس اللساني الحديث
بالتعالق النصي بين نص وآخر، أو بتداخل النصوص بما يعنيه من حضور نص في نص آخر،
استدعاءً أو تأثراً، أو توارد خاطرة، أو غير ذلك من الأسباب التي تعلل حضور النص في
نص آخر، انطلاقاً من فكرة انتفاء المؤلف الواحد للنص، ومن ثمة فكرة شيوعية الإنتاج
التي تسند إلى الذات الجمعية عملية الخلق والإبداع، وقد تطورت هذه الفكرة مع
البنيوية وبروز قضايا التأويل والتلقي، واعتبار المتلقي منتجاً مشاركاً للمنتج
الأصلي، بل غالى البعض في إنكار المؤلف الأصلي فيما عُرف بموت المؤلف، وما ارتبط به
من التنبؤ «بضرورة وضع اللغة نفسها مكان ذاك الذي اعتُبر إلى هذا الوقت مالكاً لها،
فاللغة بالنسبة إليه كما هي الحال بالنسبة إلينا هي التي تتكلم، وليس المؤلف»(18)،
الذي لقي التعنت والتجاهل من مختلف الاتجاهات الفكرية والنقدية، فالسريالية مثلاً
قد «شاركت في نزع هالة القداسة عن المؤلف»(19)، ودعت إلى مبدأ أو فكرة الكتابة
الجماعية التي تحيلنا على فكرة الذات الجمعية المنتجة للعمل الأدبي الذي يتفرق من
ثم مداده بين أفراد المجتمع جميعهم.
كذلك نجد الفكر اللساني يدلي بدلوه في هذا الأمر الذي يغض من
شأن المؤلف، وينال منه، ليعطي اللغة المكانة الأولى بل الوحيدة وهو ما يعني الدعوة
إلى تناسي المؤلف تناسياً يضعنا أمام منتج جديد «إن اللسانيات قدمت أداة تحليلية
نفيسة لتدمير المؤلف»(20)، رغم أنه لولا وجود المؤلف لما خرج النص إلى الوجود، ولما
أثيرت أمثال هذه القضايا التي ربما لا تؤدي إثارتها إلى فائدة كبيرة في التعامل مع
نص لا يمكن أن يستقل بحال من الأحوال عن مؤلفه.
إن رولان بارت صاحب فكرة موت المؤلف يقترب بشكل
كبير من مفهوم التناص في حديثه عن النص بأنه »فضاء لأبعاد متعددة تتزاوج فيها
كتابات مختلفة، وتتنازع دون أن يكون أيٌّ منها أصلياً، فالنص نسيج لأقوال ناتجة عن
ألف بؤرة من بؤر الثقافة (21). وهذا التزاوج لكتابات مختلفة داخل فضاء النص يستدعي
مقولة جوليا كريستيفا المنظّرة الرائدة للتناص عن النص باعتباره جهازاً عبر لسانيّ
ترتكز وظيفته حول إعادة توزيع النظام اللساني من خلال الربط بين الكلام المنتج
للتواصل، سعياً إلى الإخبار المباشر، وبين أشكال من الملفوظات السابقة عليه أو
المتزامنة معه، ومن هذا المنطلق يُعرف النص على «أنه ترحال للنصوص، وتداخل نصي، ففي
فضاء نصٍّ معين تتقاطع وتتنافى ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى»(22). وهذا
التقاطع والتلاقي بين النص والنصوص الأخرى، إنما يتم في ضياء علاقة مقصودة، لا
تختفي في خضمها خصوصية النص اللاحق والنص السابق، بل «يبقى خطاب الآخَر النص السابق
خارج خطاب المؤلِّف النص اللاحق، لكن خطاب المؤلف يأخذ خطاب الآخَر في الحسبان،
ويؤسس معه علاقة»(23)، تستدعي ما يتمخض عنه تداخلهما وتعالقهما من النتائج
والممارسات التي لا تضيع معها الخصوصية النصية.
أما إذا انتقلنا إلى النقد العربي فإننا نجد أن
دالة التناص كانت الأشهر من بين الدوال العربية التي ترجمت لمصطلح
(Inter,,,,uality)، أما الدوال العربية الأخرى التي جاءت مرادفة للتناص فهي:
«التعالق النصي» الذي استنبطه محمد مفتاح من كريستيفا وميشيل أريفي ولورانت
وريفاتير، وهو يعني عند محمد مفتاح «تعالق الدخول في علاقة نصوص مع نص حدث بكيفيات
مختلفة»(24). والتعالق يشير إلى الارتباط، وهذا بدوره يستدعي التفاعل بين النصوص؛
ولذلك ذهب سعيد يقطين إلى استخدام مصطلح «التفاعل النصي» مرادفاً للتناص، وآثره على
غيره من الدوال العربية التي ترجمت له من مثل: «المتعاليات النصية» ، أو «عبر
النصية» عند جيرار جينيت، ويُعلل يقطين هذا الإيثار بقوله: «فبما أن النص ينتج ضمن
بنية نصية سابقة، فهو يتعالق بها ويتفاعل معها، تحويلاً أو تضميناً أو خرقاً،
وبمختلف الأشكال التي تتم بها هذه التفاعلات»(25). ويذهب في موضع آخر إلى «أن هذا
المفهوم مفتوح على كل العلاقات الكائنة والممكنة»(26). ويزيد يقطين في تأكيد إيثاره
للتفاعل النصي على غيره من الترجمات العربية لمصطلح (Inter,,,,uality) من خلال
العلاقة بين الإعلاميات والنص الإلكتروني تلك العلاقة التي تبين له بجلاء ملاءمة
التفاعل لمصطلح (Inter,,,,uality) وانسجامه معه.
وإذا عدنا إلى محمد مفتاح وجدناه يستخدم مصطلحاً
عربياً مرادفاً للتناص، وإن لم ينص عليه، وهذا المصطلح هو الحوارية التي تكشف
مباشرة عما بين النصوص من التحاور والتجادل الذي يشير إلى وجود نصوص مركزية وأخرى
فرعية قد تكون من القرآن الكريم والحديث الشريف وأقوال السابقين وأشعارهم، وقد تكون
من الثقافات الشعبية السائدة زمن التوظيف، وكلها يتم استقطابها جميعاً داخل النص
المحدد، وعلى ذلك «يصح القول إن كل نص مركزي يحتوي بالضرورة على نصوص فرعية تختلف
نسب وجودها»(27)، وتختلف بالتالي درجات جدلياتها مع النص المركزي.
ومصطلح «الحوارية» الذي
يستخدمه محمد مفتاح هنا، يستدعي إلى الذاكرة المبدأ الحواري لميخائيل باختين ذلك
الذي عوّلت عليه جوليا كريستيفا، وأفادت منه في نظريتها للتناص، أقول: إن تزفيتان
تودروف في كتابه «ميخائيل باختين: المبدأ الحواري» يذهب إلى أن «التوجيه الحواري هو
- بوضوح - ظاهرةٌ مشخِّصةلكل خطاب، وهو الغاية الطبيعية لكل خطاب حيّ، يفاجئ
الخطابَ خطابُ الآخر بكل الطرق التي تقود إلى غايته، ولا يستطيع شيئاً سوى الدخول
معه في تفاعل حاد وحيّ»(28)، وهو ما يعني انتباه تودروف ومن قبله باختين لهذا
التحاور التفاعلي بين النصوص المختلفة.
ويستخدم عبد الله الغذامي «التداخل النصي» مرادفاً للتناص،
وهو يرى أن «تداخل النصوص يتم بين نص واحد من جهة، وتقابله في الجهة الأخرى نصوص لا
تحصى»(29). والتداخل يعني كذلك التفاعل بين هذه النصوص جميعها، والتفاعل يستدعي
علاقات التأثير والتأثر والمثاقفة وغيرها من المصطلحات التي تؤكد عملية التعالق بين
النصوص قديمها وحديثها، وإذا كان الثور - كما ورد على لسان بعض النقاد الغربيين -
هو مجموعة خراف مهضومة، فالنص كذلك يتشكل من مجموعة من النصوص السابقة التي تفاعل
معها وتأثر بها، وبدا على صورته الآنية التي نتلقاه بها.
وفي الكتاب نفسه ترجم الغذامي المصطلح الإنجليزي
(Inter,,,,uality) بـ «النصوص المتداخلة»، وينقل عن روبرت شولز رأيه فيه، فهو يراه
من المصطلحات المرتبطة بالسيميولوجية والتشريح، ويربطه بكلٍّ من: بارت وجينيه
وكريستيفا وريفاتير، ويقول شولز إن «المبدأ العام فيه هو أن النصوص تشير إلى نصوص
أخرى»(30). والإشارة تستدعي ما بين النصوص من علاقات التأثير والتأثر التي تغذي
النص اللاحق وترسم كينونته.
وإذا ما حاولنا بحث العلاقة بين الاقتصاص بالمفهوم الذي أتى
به ابن فارس، وبين مفهومات التناص في السطور السابقة، نجد أن مفهوم الاقتصاص الذي
قاله ابن فارس يتفق وما جاء عن التناص بأنه تعالق نصٍّ مع نصوص أخرى، من خلال
مجموعة من العلاقات التي تتعدد بتعدد الدواعي لهذا التعالق النصي، ومن ثمة تكون
علاقات مفتوحة على كل الاحتمالات الممكنة وغير الممكنة، علاقات يمكن أن تنتج مع
السياق أو تنتج مع الدلالة أو حتى مع اللفظ، من دون أن تكون تلك العلاقات محدودة
بحد معين، أو مرتهنة بدلالات دون أخرى، ما دام النص المركزي حاملاً لكل التخمينات
والتوقعات التي تستدعي حضور النص الآخر إلى فضائه، وهو حضور لا يُفقد الآخر
خصوصيته، وإنما يشارك النص المركزي في إنتاج الدلالة المزدوجة لكلا النصين؛ السابق
واللاحق، حيث تأسيس علاقة، واشتراك في العمل والتأثير الذي لا يشير إلى إعادة إنتاج
النص السابق بتأويل جديد، ولكنه يسهم بقدر ما في توجيه الدلالة المرتبطة بالنص
اللاحق أو المقتص من النص السابق.
ومن خلال ما أورده ابن فارس من الآيات الكريمة، مستدلاًّ على
المقتص والمقتص منه، وتعليقه على علة الاقتصاص، نستطيع إدراك بعض صور تلك العلاقات
بين النص المقتص / النص المركزي والنص المقتصِّ منه / النص الآخر، واقتراب هذا
الفعل التأويلي لابن فارس من مفهومات التناص على النحو التالي
:
أورد ابن فارس قول
الله تعالى من سورة العنكبوت:}وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ{[ الآية: 27]. ورأى أنها مقتصة عن قول الله تعالى
من سورة طه: }وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ
لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى{[الآية: 75]. وعلق على هذا الاقتصاص بقوله: «والآخرة
دار ثواب لا عمل»(31). والحق أن الآية المقتصّ منها تمثل القانون العام، والثواب
الأعم الذي يندرج تحته الصالحون في الآخرة، كما ورد في الآية الأولى الخاصة
بإبراهيم عليه السلام، ومن ثمة تكون العلاقة بين الآية الثانية المقتصّ عنها
والأولى المقتصة هي علاقة العموم بعد الخصوص، قال الألوسي في تفسير قوله تعالى:
}وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ{ «أيْ لفي عِداد الكاملين في
الصلاح؛ من التعميم بعد التخصيص، بأنه لمّا عدّد عليه من النعم الدينية والدنيوية،
قال سبحانه: وجمعنا له مع ما ذُكر خيرَ الدارين»(32).
وإلى جانب هذه العلاقة التناصية بين نصيْ
الآيتين، نرى هذا التناص الدلالي المتعلق بحتمية ثواب الآخرة : الصالحين = الدرجات
العلا، لما قدّمه هؤلاء الصالحون في الدنيا من عمل الصالحات، الذي استحقوا عليه
ثواب الآخرة، فضلاً عن ثواب الدنيا، وازدواجية الثواب بين الدنيا والآخرة نراها في
قول الله تعالى من سورة البقرة: }وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {[الآية:
201].
وقد يتعدد النص
المقتصّ منه / السابق، فيكون اثنين؛ من ذلك ما يورده ابن فارس (33) حول قول الله
عزّ وجلّ من سورة الصافّات: }وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ
الْمُحْضَرِينَ{ [الآية: 57]، حيث يرى ابن فارس أنه »مأخوذ من قوله جلّ ثناؤه:
}فَأُولَئِكَ فِي
الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ{[الروم: 16]. وقوله: }ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ
جَهَنَّمَ جِثِيّاً{[مريم: 68]. إن النص المقتص هنا يمثل مرحلة البَعْدية الزمنية،
حيث تأخر النزول، فضلاً عن الترتيب المصحفي، حيث جاءت سورة الصافات متأخرة عن
سورتيْ مريم والروم، ونرى أن العلاقة التناصية هنا هي علاقة العموم بعد الخصوص
أيضاً؛ ذلك أن الآية المقتصة كانت على لسان الرجل المؤمن الذي أدركته نعمة ربه وآمن
بالله تعالى، وشكر نعمه عليه، فأقر بذلك، خاصة عندما رأى قرينه في الدنيا ذلك الذي
كان جاحداً فضل ربه، فكانت عاقبته الإحضار في النار، وهو ما نجا منه المؤمن(34)،
بينما جاءت الآيتان المقتص عنهما عامتين في الدلالة؛ حيث بنيت آية الروم على
التفرقة العامة بين المؤمنين والكافرين في قوله تعالى: }وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ
مُحْضَرُونَ{ [الروم: 13ـ 16]. وفي سورة مريم شمل الحديث كلاًّ من المشركين
المنكرين للبعث وقرنائهم من الشياطين الذين أضلوهم في الدنيا، قال الله تعالى:
}فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ
جَهَنَّمَ جِثِيّاً{.
وإذا رجعنا إلى تعقيب ابن فارس على الاقتصاص هنا نراه لا يذكر
»الاقتصاص« أو أيّاً من مشتقاتها، وإنما يستعين بدالة الأخذ »مأخوذ من« وهو ما
يستدعي بلا شك فكرة السرقات، ونحسب أنه كان متأثراً هنا بقضية السرقات ومصطلحاتها
التي دارت في فلكها، ومنها بالطبع فكرة الأخذ، التي نرى عدم توفيقه بذكرها في هذا
السياق القرآني إلا أن يكون أراد تقريب الفكرة لا الالتزام بمضمون اللفظ؛ إذ لا
يُقال في الآيات القرآنية مأخوذ بعضها من بعض، ولعله أدرك خطورة إطلاق لفظ الأخذ،
وخطأه في حق الذكر الكريم؛ لأنه لم يرددها مرة أخرى، وإنما رجع لفكرة الاقتصاص،
بدلالتها على الاستدعاء المقصود لنصوص بعينها في سياقات نصوص أخرى تكفلت فكرة
التناص التي نقول بها بالدقة الاصطلاحية في التعبير عنها.
وإمعاناً في تعدد النص المقتصّ عنه نجد ابن فارس
يأتي بنص آية ؛ ليحدد أنه مقتص عن أربعة نصوص قرآنية: »فأما قوله جلّ ثناؤه:
}وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ{[غافر: 51]، فيُقال إنها مقتصة عن أربع آيات؛ لأن
الأشهاد أربعة: الملائكة في قوله جلّ ثناؤه:}وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا
سَائِقٌ وَشَهِيدٌ{[ق:21]، والأنبياء صلوات الله عليهم: }فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً{ [النساء:
41]، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله جلّ ثناؤه:
}وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ{ [البقرة: 143]، والأعضاء لقوله جلّ ثناؤه:
}يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ{[النور: 24] (35).
لعلنا - ونحن نقرأ هذه النصوص القرآنية الأربعة المقتصّ عنها
- ندرك أن ابن فارس قد اعتمد الدلالة اللغوية للفظة »الأشهاد«، رغم تراوح دلالتها
بين الشهادة، قال الفخر الرازي: »والظاهر أن المراد بالأشهاد كل مَنْ يشهد بأعمال
العباد يوم القيامة من مَلَكٍ ونبيٍّ ومؤمن«(37). وهو أيضاً ما ارتضاه أبو حيان
التوحيدي« (37). ولعل وجود حرف الجر على مقترناً بدالة »شهيد« أو مجموعها في آيات
البقرة والنساء والنور، مما يؤكد ارتباط الدلالة فيها بالشهادة، وما تستدعيه من
الأدلة والحجج الدامغة التي ينتفي معها الظلم، وهو ما يؤكده السياق النصي لآية سورة
النساء؛ حيث »وجهُ النظم هو أنه تعالى بيّنَ أنّ في الآخرة لا يجري على أحدٍ ظلمٌ،
وأنه تعالى يجازي المحسن على إحسانه، ويزيده على قدر حقه، فبيَّنَ تعالى في هذه
الآية أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق؛ لتكون الحجة على
المسيء أبلغ، والتبكيت له أعظم، وحسرته أشد«(38). وبين الحضور الذي يشير إليه قول
الله تعالى:
}وَإِنَّ
مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ
أَنْعَمَ اللَه عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً{ [النساء: 72]، أو
الحضور وما يستدعيه من الرؤية، قال الله تعالى: }أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ
وَصَّاكُمُ الله بِهَذَا{ [الأنعام: 144].
ومن تراوح الدلالتين نجد الاقتصاص عن آية سورة (ق) وربطها
بالملائكة، أمراً يحصر الدلالة في دور الملائكة الموكلين ببني آدم، على ما روي عن
عثمان بن عفان ومجاهد: «والشهيد هو الكاتب»(39). وإن كان ذلك غير مانع من كون
الشهيد في سورة (ق) شاملاً الإنسان الذي يشهد على نفسه بعمله، وكذلك الأيدي والأرجل
التي تشهد عليه بعمله» (40). وأيّاً كان الشهيد هنا، فالمعروف أن الشهيد والشاهد
حاضر، وحضوره أوقع في الحجة وأدمغ لها، ومن ثمة يكون المراد بالأشهاد في الآية
المقتصة الذين يشهدون على أعمال العباد؛ لأنهم كانوا حاضرين لحظة الحدوث، سواءٌ
كانوا الملائكة، أو الأنبياء، أو الأمة المحمدية، أو الأعضاء.
وإذا عرضنا للسياق
النصي في الآية المقتصة، وجدنا أن دلالة الحضور أنسب لهذا السياق؛ لأن يوم الأشهاد
هو يوم القيامة، ذلك اليوم الذي لا ينفع الظالمين معذرتهم، بينما نرى أن آية سورة
هود التي يقول فيها ربنا عز وجل: }وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ{ [هود: 18] هي
الأنسب لتكون مقتصة عن الآيات الأربع التي ذكرها ابن فارس حيث تتوافق دلالة الأشهاد
فيها مع الشهداء في الآيات الأربعة، على أن الشهداء هم الملائكة والأنبياء
والرسل(41) الذين يؤكدون أن هؤلاء هم الكاذبون الظالمون الذين كذبوا على ربهم، ومن
ثمة استحقوا لعنة الله.
وعلى ذلك ندرك ما بين هذه الآية الأخيرة والآيات السابقة من
التعالق النصي، حيث ارتضينا أن تكون العلاقة النصية بينها جميعاً هي علاقة التفصيل
بعد الإجمال، حيث كانت سورة هود أسبق زمناً في النزول من بقية السور ومن بينها سورة
(ق) المكية، فهي متأخرة في نزولها عن سورة هود، والأمر عينه - أعني أمر الأسبقية
الزمنية - يُقال مع النص الذي قدّمه ابن فارس من سورة غافر المكية، وإن كانت متأخرة
في تاريخ نزولها عن سورة (ق)، في حين أن سور البقرة والنساء والنور سور مدنية، على
هذا الترتيب في النزول، فضلاً عن الترتيب في المصحف، وهو ترتيب توقيفي ارتضاه النبي
صلى الله عليه وسلم، ومات عليه، وارتضاه الصحابة من بعده، وعندما استقر أمر توحيد
المصحف على عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه كان هذا هو الترتيب التوقيفي الذي
اجتمعت عليه كلمة المسلمين بأمر الخليفة ذي النورين رضي الله عنه، وهو أمر يكاد
المسلمون يجمعون عليه(42 ).
وفي إطار الاقتصاص يستعين ابن فارس بعلم القراءات القرآنية
ليحلل في ضيائها قول الله عزّ وجلّ على لسان مؤمن آل فرعون: }وَيَا قَوْمِ إِنِّي
أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَاد«{ [غافر: 32]، حيث قرئت كلمة التناد مخففة
ومشددة، فأما من قرأوها مخففة فهم: عاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي، وأما
قارئوها مشددة فهم: أبو بكر الصدّيق، وابن عباس، وسعيد بن المسيب وابن جُبَير، وأبو
العالية والضحاك (43)، يقول ابن فارس: »فمن شدّد، فهو »ندَّ« إذا نفر، وهو مقتصٌّ
من قوله: }يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ{ [عبس: 34]، إلى آخر القصة، ومن
خفَّف فهو تفاعل من النداء، مقتصٌّ من قوله جلّ ثناؤه:
}وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ
النَّارِ{ [الأعراف: 44]، }وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّة{
[الأعراف: 50]، }وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ
بِسِيمَاهُمْ{ [الأعراف: 48](44).
وعندما نحاور ابن فارس في هذا الاقتصاص، نجده يتكئ في مذهبه
على الدلالة اللغوية لدالة واحدة اختلفت حولها القراءة ما بين التخفيف والتشديد،
وقد ذكر الفرّاء (ت: 207هـ) القراءتين، مسنداً كل واحدة إلى أصحابها، وأرجع قراءة
التشديد إلى دلالة الهرب والفرار، حيث رؤية أهل النار النارَ ومحاولتهم الفرار
منها: «فندُّوا في الأرض كما تندُّ الإبل، فلا يتوجهون قُطْراً إلا رأوا ملائكة،
فيرجعون من حيث جاؤوا» (45). وقد أورد الضحاك [ت: 105هـ] خبر نزول الملائكة بأمر
الله تعالى، ونقله عنه الفرّاء (46) الذي فسّر قراءة التخفيف بقوله: «أراد: يوم
يدعو أهلُ الجنة أهلَ النار، وأهلُ النار أهلَ الجنة، وأصحاب الأعراف رجالاً
يعرفونهم بسيماهم»(47). وقال الزجاج (ت: 311هـ) مثل ذلك، مؤكدًا أن دلالة التشديد
موثقة بالآية التالية للتناد، وهي قوله عز وجل: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا
لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِم{ [غافر: 33]، وقوله عز وجل:
}يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ{ [عبس:
34](48). والاتكاء على الدلالة اللغوية كوجه جامع بين النص المقتص والنص المقتص
منه، هو آلية من الآليات التي يثبت في ضيائها التناص باعتباره علاقة بين نصين، في
إطار زمنيٍّ يتحدد من خلاله المقتصّ والمقتصّ منه.
وهذا الإطار الزمني يعيدنا إلى المكي والمدني،
وترتيب النزول، لتحديد نوع العلاقة بين المقتص والمقتص منه، فقد حدّد ابن فارس النص
المقتصّ بالآية من سورة غافر، وهي سورة مكية ترتيبها الستون، والمقتصّ منه مع قراءة
التشديد النص من سورة عبس المكية، وترتيبها الرابع والعشرون من السور المكية،
والنصوص المقتص منها في قراءة التخفيف من سورة الأعراف المكية وترتيبها التاسع
والثلاثون (49)، وهذا ما يعني أن النص المقتص متأخر زمنيّاً عن النصوص المقتص منها
أو المتعالق معها.
وعندما نبحث عن العلاقة بين هذه النصوص في حال التشديد أو
التخفيف، نجد أن النص المقتص أو المتناصّ قد انتهى بدالة مبهمة مرتبطة بالمضاف الذي
لا يقل إبهاماً، رغم ما ينتجه التركيب الإضافي «يوم التناد» من تعريف، والإبهام ليس
مقصوداً لذاته، وإنما لما يثيره في نفس المتلقي من تشويق وإثارة، تربطه إلى النص
ربطاً قد يستدعي تفخيم ذلك المبهم أو تعظيمه، فـ «إن المعنى المقصود إذا ورد في
الكلام مبهماً، فإنه يفيده بلاغة ويُكسبه إعجاباً وفخامة، وذلك لأنه إذا قرع السمع
على جهة الإبهام، فإن السامع له يذهب في إبهامه كل مذهب»(50)، وذلك من بين آثار
الإبهام في النفس؛ فإن »إبهام الشيء حامل على الطموح إليه، وباعث على اشتداد الحرص
عليه، لولوع النفس أبداً بإخراج ما في القوة إلى الفعل، ومنه تفصيل المجمل، وبيان
المبهم« (51)، فيجيء تفسير بعده، أو تفصيله من أجل تحديد مذهب محدد يوجه المتلقي
نحو الدلالة المقصودة، وذلك ما نلحظه في الآيات المقتصّ منها، فقد وجدنا ابن فارس
يربط النص المقتص في قراءة التشديد بالآية من سورة عبس، حيث فرار الأخ من أخيه وأمه
وأبيه وزوجته وأبنائه، وذاك ما حدده ابن فارس، رغم أن الآية التالية للآية المقتصة
كفيلة بتحديد المراد من التنادّ بالتشديد، وهي قوله عز وجلّ: }يَوْمَ تُوَلُّونَ
مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ{ [غافر: 33].
والأمر نفسه مع قراءة
التخفيف؛ فقد استدعى ابن فارس ثلاثة نصوص لآيات قرآنية تم الاقتصاص منها، وإذا
بحثنا عن علاقة هذه الآيات بالآية المقتصة، لوجدناها تدخل في باب التتميم، بالمعنى
الذي خصه به البغدادي في قانون البلاغة، حيث قال: »ومن نعوت المعاني: التتميم، وهو
أن توجد في المعنى كتابة أو خطابة، فيوفي بجميع المعاني المتممة لصحته المكملة
لجودته من غير أن يُخل ببعضها، ولا أن يغادر شيئاً منها«(52)، وذلك ما رأيناه في
الآيات الثلاثة المقتص منها من سورة الأعراف، فقد دارت هذه الآيات حول التنادي بين
أهل الجنة وأهل النار، وكذلك نداء أصحاب الأعراف من كانوا يعرفونهم في
الدنيا.
وإذا ما عدنا
إلى نصوص الآيات الكريمة التي أوردها ابن فارس أدلة وشواهد على الاقتصاص، فإننا نجد
أن النصوص المقتص منها لم تمارس سيطرتها باعتبار السبق الزمني على النصوص اللاحقة
في توجيه الدلالة الجديدة، أو إعادة إنتاج النص الجديد، وتحديد دلالة أخرى مرتبطة
بحضور النص السابق، وإنما وجدنا للنصوص السابقة مع اللاحقة علاقات مؤسسة مشيرة إلى
ما بين النصوص جميعها من الترابط والتلاحم، رغم البُعد المكاني النصي، حيث ينتمي
النص المقتص إلى سورة قرآنية، والمقتصّ منه إلى سورة أخرى، أو حتى في السورة معه،
لكنه بعيد عنه بُعداً تتسع أو تضيق مساحته. والاقتصاص على هذا النحو الذي عرضنا، لا
يكاد يختلف عن التناص بالمفهوم الذي أوردناه سواء في النقد الغربي أو النقد العربي،
وليس الأمر فيه أمر التكرار والإعادة، وإنما هو أمر الترابط والتلاحم الدلالي، أمر
استنفار ذاكرة المتلقي، وربطه بالنص القرآني الكريم، ليس فقط على أنه النص المتعبّد
بتلاوته، بل على أنه النص الذي يثير في قارئه ومتلقيه غرائز المتعة الذوقية،
والفنية الجمالية التي
تكتشفها العقلية الإنسانية في كل توجه نقدي جديد تنتجه، أو كل
تقدم علمي تقبل عليه، كذلك يشير الاقتصاص واقترابه على هذا النحو من التناص إلى أن
التراث العربي لم يكن بحال من الأحوال غُفلاً مما أنتجته الحضارة المعاصرة، وإنما
كانت له ريادته التي لا يمكن للمرء أن يَغضّ الطرف عنها.