الحكاية الشعرية
الحكاية الشعرية
2-أمل دنقل: وحكاية الطوفان-
عبر تقصّي أعمال الشعراء المحدثين، برزت بعض الأعمال الشعرية القليلة في هذا المضمار الغني- باستثناء أمل دنقل- فالحكاية الشعرية لديه تشكل العمود الفقري لموضوعاته الشعرية وأفكاره، لتشكّل في النهاية جزءاً أساسياً في البنية الفنية للقصيدة، من حيث البداية والتقطيع، وتنوع التفعيلة، والدخول في بعض التفاصيل، والإحجام عن تفاصيل أخرى كما في "مقابلة خاصة مع ابن نوح" –2-وهي من القصائد الهامة في هذا المجال بحيث تستحق وقفة خاصة.
إن أمل دنقل لم يكتب قصيدة واحدة إلاّ وفي نفسه حكاية ما، قصة ما، أو واقعة ما؛ إنها روح الشعب الممتلئة بالحكايا الشعبية والأساطير التاريخية، التي يستلهمها الشاعر تعبيراً عن هموم عصره وشعبه. فهو غارق حتى النخاع في مشكلات الواقع المعاصر بكل معطياته وإفرازاته.
لذا فإن تناول الحكاية الشعرية عند "أمل دنقل" يتطلّب تعاملاً خاصاً معها، يكاد يكون متفرّداً، انطلاقاً من مفهوم الأدب كانعكاس لعلاقات الواقع الاجتماعية بهدف تغييرها. لكنه ليس انعكاساً آلياً –كما يحلو للبعض أن يفسّره- وليس انعكاساً يتشابه مع ما تحدّده ماهية الثقافة الأيديولوجية. إنما هو انعكاس يتم عبر تشكل جمالي باللغة قائم على علاقة جدلية بين الصورة والدلالة
والموضوع. قادر على كشف التناقضات عبر خصوصية هذا الشاعر أو ذاك، ميزانها الأساسي إنتاج الفن الخلاق.
إن الفنان –شاعراً كان أو غير ذلك- حين تجتاحه العملية الإبداعية- وهي عملية مستمرة، تبدأ بلحظةٍ، ما غير محددة أو معلومة- يدخل في حالة صراع مع الواقع، ثم في حالة تمرّد، نظراً لحساسيته الخاصة والمتفردة يحكم وعيه لتلك العلاقة الجدلية في العملية الإبداعية.
وانطلاقاً مما ذكرتُ سأورد نص القصيدة كاملاً في البداية ثم انتقل إلى مرحة أخرى في قراءة القصيدة.
-((مقابلة خاصة مع ابن نوح))-
جاء طوفان نوحْ!
... … … …
المدينة تغرق شيئاً.. فشيئاً
تفرّ العصافيرُ،
والماء يعلو
على درجات البيوت –الحوانيت- مبنى البريد- البنوكِ
التماثيل (أجدادنا الخالدين) –المعابد- أجولة القمح-
مستشفيات الولادةِ –بوابة السجن –دار الولايةِ-
أروقة الثكنات الحصينةْ.
العصافير تجلو..
رويداً..
رويداً..
ويطفو الإوزُّ على الماء،
يطفو الأثاث..
ولعبة طفل..
وشهقة أمّ حزينهْ
والصّبايا يلوّحن فوق السطوحْ!
جاء طوفان نوحْ
هاهم الحكماء يفرّونَ نحو السفينة.
المغنّونَ –سائسَ خيلِ الأميرِ- المرابون-
قاضي القضاةِ
(… وملوكُهُ!)-
حامل السيف –راقصة المعبد
(ابتهجت عندما انتشلت شعرها المستعار)
جباةُ الضرائب –مستورد شحنات السلاحِ-
عشيق الأميرة في سمتهِ الأنثوي الصبوح!
-جاء طوفان نوحْ
هاهم الجبناء يفرّون نحو السفينهْ
بينما كنت..
كان شباب المدينهْ
يلجمون جواد المياه الجموحْ
ينقلون المياه على الكتفينِ
ويستبقون الزمن
يبتنون سدود الحجارةِ
علّهم ينقذون مهاد الصبا والحضارةِ
علّهم ينقذون.. الوطن!
… صاح بي سيد الفلكِ –قبل حلول السكينة
"أنجُ من بلدٍ.. لم تعد فيه روحْ!"
قلت: طوبى لمن طعموا خبزه..
في الزمان الحسن
وأداروا له الظهر.. يوم المحنْ..؟
ولنا المجد –نحن الذين وقفنا
(وقد طمسَ الله أسماءنا)
نتحدّى الدمارَ..
ونأوى إلى جيل لا يموتُ
(يسمونه الشّعب!)
نأبى الفرار.. ونأبى النّزوحْ
… … … …
… … … …
كان قلبي الذي نسجته الجروح
كان قلبي الذي لعنته الشروح
يرقد –الآن- فوق بقايا المدينةْ
وردة من عطن
هادئاً
بعد أن قال "لا" للسفينة
… وأحبّ الوطن!
هنا لابد من التنويه أن المقطع الأخير من القصيدة قد أجرى الشاعر عليه تعديلات جوهرية واضحة لم تلحظها طبعة الأعمال الكاملة للشاعر الصادرة عن /دار العودة/ بيروت/ 1985-:
((… قبل حلول السكينة
أُنج من بلدٍ لم تعد فيه روح
قلتُ.. طوبى لمن طعموا خبزه في الزمان الحسن
وأداروا له الظهر يوم المحن
ولنا المجد –نحن الذين وقفنا نحمي أحياءنا
نتحدى جياد المياه
وسلطانها البربري الجموح
كان قلبي الذي نسجته الجروح
كان قلبي الذي لعنته الشروح
يرقد الآن
فوق بقايا المدينة
زهرة من عطن
هادئاً
بعد أن قال "لا"
للسفينة
وأحبّ الوطن))*
- - - -
1-افتتاحية القصيدة تنبئ عن وقوع حدث ماض.. يجري استحضاره بجملة فعلية، تحمل دلالات الفعل الماضي وحضوره بذهن ومخيلة الشاعر في آن معاً:
"جاء طوفان نوح".
وحين يستخدم الشاعر أو الكاتب جملة فعلية، يعني أن هناك حدثاً ما قد وقع، أو يقع، تتناولـه حركة الفعل على لسان الراوي أو الشاهد، والجملة بتكوينها هذا تشير إلى أن طوفان نوح حدثٌ قد وقع فعلاً في الزمن الماضي.. البعيد، لكن حركة الفعل داخل النّص الشعري /الحكاية/ وما يوحيه لنا العنوان، تشي أن المقابلة مع ابن نوح جرت في الزمن الراهن، وليس لنوح أية علاقة بالمقابلة وبالتالي فالحكاية القصيدة، ليست رصداً للحادثة التاريخية. فالمقطع الثاني من القصيدة يخلو تماماً من الفعل الماضي، بينما يعتمد على الأفعال المضارعة المتعددة: //المدينة تغرق.. والعصافير تفرّ.. ويطفو الأوزّ على الماء.. والصبايا يلوّحن فوق السطوح.. إلخ//.
هنا تدخل القصيدة /الحكاية/ في لعبة الزمن. فطوفان نوح ضارب في القدم لكنّ طبيعة الأسماء ودلالات الأمكنة، ومفردات الحياة الواردة في محور القصيدة، طبيعة معاصرة وحاضرة في الذهن والواقع: ((مبنى البريد –البنوك- مستشفيات الولادة- بوابة السجن- أروقة الثكنات- إلخ)).
ثم نتلمس في المقطع الثالث –رغم استخدامه للفعل المضارع- طبيعة الأسماء الحاضرة في التاريخ القديم. وليس لها علاقة بالراهن كمفردات تحمل دلالات الزمن الذي تنتمي إليه: //الحكماء –قاضي القضاة- حامل السيف- راقصة المعبد-)). ثم في المقطع الرابع يعود الزمن الراهن بمفرداته المعاشة: ((الجبناء –السفينة- شباب المدينة- مهاد الصبا- الوطن.. الخ)).
هكذا يتيسّر لنا أن نكتشف تداخل الأزمنة عبر صراع الحركة والتحول، كعنصر هام من عناصر الفن الحكائي- القصصي- لدى أمل دنقل، مستفيداً من أشكال وبنى فنية تعامل معها فن القصة والرواية. مما أثرى فن الحكاية الشعرية لديه. وطوّره بشكل يكاد يكون كثيفاً في مرحلة ما بعد السياب وعبد الصبور وأدونيس ودرويش وسعدي يوسف- فالزمن لديه ليس في تحديد زمن وقوع الفعل فحسب، وإنّما أيضاً مدى الحركة والحيوية.. حيوية العلاقة بالراهن التي يمنحها للنص الشعري، لتكتسب في النهاية رموزها ودلالاتها الفكرية والفنية.
2-يشير عنوان القصيدة إلى /الحكاية/ الأسطورة التي وردت في "التوراة" و"القرآن"، وفي أساطير شعوب أخرى كثيرة مثل الهند وبلاد ما بين النهرين /أسطورة جلجامش/.
وقد ركّزت تلك الأساطير –كما في طوفان نوح- على الدلالة الأخيرة التي توجّت الطوفان الذي يرمز بشكل واضح- في الأسطورة- إلى بدايةٍ جديدة للحياة على الأرض. أو بداية تكوين العالم من السديم. وبالتالي هو رمز الولادة الجديدة للحياة، هو إنقاذ حفنة نيّرة من البشرية، من شرور حفنة من "الكافرين".
غير أننا سنكتشف /في القصيدة/ أن أمل دنقل قد نسف المعادل الرمزي للأسطورة، وحوّلها إلى دلالة أخرى تماماً، هي دلالة الهدم والخراب والفزع، حتى العصافير ولّت هاربة، من رهبة هذا الطوفان المدمّر.. الذي أغرق كل شيء على وجه الأرض: ((البيوت- الحوانيت- مبنى البريد- البنوك- التماثيل لأجدادنا الخالدين –المعابد- أجولة القمح- مستشفيات الولادة.. دار الولاية.. الخ)).
ثم تشي لنا القصيدة أن جزءاً كبيراً منها يرصد حركة الطوفان وحركة البشر معتمداً على النص القرآني* الذي يبدأ مباشرة بوصف السفينة الناجية، وذكر ابن نوح- الذي لم يذكره النص التوراتي** الحافل بالتفاصيل في وصف حركة الطوفان:
/كيف محى الله- بالطوفان- كل قائم على الأرض/-:
//فتغطّت الجبال. فمات كل ذي جسد كان يدبّ على الأرض. من الطيور والبهائم والوحوش وكل الزحافات والتي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس)).
ولم يبق سوى نوح والذين صعدوا إلى السفينة من "الطاهرين". غير أن الشاعر يرى –عبر المفارقة في الرمز والدلالة- أن الناجين من الموت في الطوفان هم: الجبناء –الحكماء –المغنون- سائس الخيل- المرابون- قاضي القضاة /ومملوكه/ -حامل السيف- راقصة المعبد- جباة الضرائب- مستوردو الأسلحة- عشيق الأميرة في سمته الأنثوي.. الخ)).
كل هذه الرموز، بما تحمله من دلالات اجتماعية وفكرية وسياسية، تنفي فكرة إنقاذ البشر الطيبين من الشرور، وتعترف بشكل خفي بوحدة التناقض وصراع الأضداد في الطبيعة والبشر، عبر مفارقة فكرية فلسفية بين الشاعر والأسطورة، مستخدماً إياها للتدليل على حركة الخراب الراهنة.
هكذا تبنى القصيدة /الحكاية/ عبر حركة التحام وتداخل مع الواقع المعاصر، نكتشفها شيئاً فشيئاً في حركة طوفان من نوح آخر، حركة تغرق الأشياء المادّية المكوّنة للحياة- للحضارة بصفة عامة. فالطوفان هنا يمثل الغزو بمعناه الشمولي، كمقدمة للخراب الاجتماعي والثقافي والسياسي؛ على نقيض المعنى الدلالي للأسطورة /الطوفان" الذي يمثل إنقاذ البشرية من المهانة والفساد والشرور.
لذلك جاءت بعض أجزاء القصيدة –التي تحفل بدرجة عالية من الرصد الخارجي- الموضوعي- لتعزّز بناء الحكاية في رصد حركة الحدث وانعكاسه الداخلي /الذاتي/ على موقف ومعاناة الشاعر في الزمن الراهن. فالتحمت حركة الصراع الخارجي- أي طغيان الطوفان- وحركة المجتمع- برؤية الشاعر الطبقية إزاء هذا الطوفان- مع الموقف الفكري للشاعر، الذي تماثل مع موقف "ابن نوح" برفض النزوح، والتمرّد، وهذا هو أساس وجذر القصيدة الحكاية وغايتها، وهذا ما يفسر أيضاً استخدام ضمير المتكلم، عبر حالة الصراع /الفعل/ متخذاً "ابن نوح" قناعاً له. تحقّقت فيه خصائص القناع التراثي، /كما سنرى لدى أدونيس، والبياتي في مكان آخر من هذا البحث- كتقنية فنيّة يتوحّد بها الشاعر تماماً للتعبير عن موقف تمرّدي أيديولوجي.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الشاعر كثيراً ما يتخذ من التراث قناعاً، ويتبناه في كثير من قصائده، مع ملاحظة أن الشخصيات التي يختارها "قناعاً" هي في الغالب شخصيات قلقة، متمرّدة، وعناصر مناوئة وانقلابية، وليست سلطوية؛ عناصر تمثل فكرة الرفض في التراث العربي "زرقاء اليمامة –عنترة العبسي- المتنبي- أبو موسى الأشعري- أبو نواس.. الخ- وسبارتاكوس من التراث العالمي.
ومن الملاحظ أيضاً أن كل من هذه الشخصيات التراثية، صاحب قضية، يناضل من أجلها بطريقة أو بأخرى- بعضها قدم حياته من أجل قضيته- وهي في الغالب شخصيات معادية للسلطة، غير أنها جميعاً- وهذه ملاحظة هامة- شخصيات فردية وليست جماعية، لذلك لم تصل إلى حالة ثورية- باستثناء سبارتاكوس- أو إلى حالة تناقض فكري مع السلطة والتقاليد، رغم أن تمرّدها اكتسب في عصرنا الراهن قيماً عظيمة، ولا شك أن اختيار الشاعر لهذه الشخصيات ينسجم مع منطق التمرّد المطلق الذي تبنّاه أمل دنقل طيلة حياته*.
3-إن الحنين إلى الماضي عند أمل دنقل يمكن أن يفسّر لنا هاجس البحث عن المثل الأعلى، الكامن في ذهنه، والغائب عن الحياة المعاصرة، إنه يحنّ دائماً إلى المجتمع البدائي في كثير من قصائده –زرقاء اليمامة- حرب البسوس- لا تصالح- الخيول- في انتظار السيف- حكايا المدينة القصيّة-.. الخ.
وهذا يقودنا إلى ميّزة أخرى لدى أمل دنقل –ليس متفرداً بها- هي (التناص): أي اعتماد نصّ على نصّ آخر أو أكثر-، ولعله ميزة أساسية في شعر "دنقل" وبالتالي هو أحد أهم خصائص الشعر العربي المعاصر، حيث برز عند كبار الشعراء الذين يحملون همّ وقلق البحث عن شكل وأسلوب ومضامين جديدة للقصيدة العربية، ويتخذون من التناص، أو القناع، -وهو أحد أشكال التناص-، منطلقاً للتعبير عمّا لا يستطيعون الإفصاح عنه أو الإجهار به.
وبهذا المعنى فإن التناص هو أبرز عناصر قصيدة أمل دنقل، حيث اعتمد على نصّ أسطوري ورد في "التوراة"** والقرآن*** لكن موقف الشاعر –كما ذكرت –مختلف تماماً- وهذه ميزة أخرى داخل التناص نفسه، فهو على نقيض فكري، يعتبر الطوفان كما مرّ معنا بمثابة اجتياح استعماري لغزوٍ يحمل كل معاني الموت والخراب؛ وهذا الطوفان المدمّر لم يكن يحمل يوماً معنى الإنقاذ سوى بالأسطورة التوراتية، فالتجربة البشرية عبر التاريخ لا تزال تعاني من الشرور والفساد والقهر والقمع والجوع مما لم تستطع أن تعبر عنه كفاية المخيلة البشرية في عصرنا الراهن*.
لذلك اختار الشاعر "ابن نوح" الذي لم يصعد إلى "الفلك"؛ والذي لم يكن له وجود في النصّ التوراتي، كمعنى للرفض والتمرّد.
4-تأسيساً على ما سبق نستطيع أن نرصد حركية القصيدة /الحدث/ فهي تبدأ بصراع متواصل تطغى فيه حركية الخارج الوصفي، على حركية الداخلي، النفسي ثم يتوازنان في المقاطع الوسط. عبر رؤية فكرية تعلن عن موقفها الانقلابي الرافض لمفهوم الطوفان.
غير أن امتداد القصيدة وحتى النهاية، يعبر عن حالة الرفض السّلبي الذي لا يستطيع الانتقال إلى المعنى الإيجابي لهذا الرفض: /كان قلبي الذي نسجته الجروح -.. يرقد الآن فوق المدينة وردةً من عطن- أو زهرة من عطن- بعد أن قال "لا" للسفينة، وأحبّ الوطن /..، هذا الرافض الأعزل، يشير بعد بدء الطوفان وانحسار الحالة التمرديّة، إلى عودة الفرد، الطاغية،:
//صالح بي سيّد الفلك" قبل حلول السكينة –انج من بلدٍ… لم تعد فيه روح//.
هكذا نجد في جسد القصيدة معالم الهزيمة والصمود معاً، فقد قال الشاعر /بن نوح/: لا للسفينة.. وأحبّ الوطن /فهو بذلك ينسف فكرة اللا جدوى من موقف الرفض –كما يحلو لبعض الدارسين أن يفسّروا ذلك، لتجنيب الشاعر تلك المفارقة الفكرية مع النصّ القرآني فيما يتعلق بالأسطورة وما ترمز إليه في إنقاذ البشرية من الشرور؛ فلولا تلك المفارقة لما لجأ الشاعر إلى استخدام الأسطورة للتعبير عن الخراب الذي أحدثه الطوفان الجديد، في الواقع الراهن. الذي يدعو الشاعر إلى رفضه والتمرّد عليه ثم تغييره:
//لنا المجد –نحن الذين وقفنا –وقد طمس الله أسماءنا-.. نتحدّى الدمار- ونأوي إلى جبل لا يموت- يسمونه الشعب- نأبى الفرار ونأبى النزوح-))، ثم يأتي مقطع فارغ، فاصل زمني تغيب فيه الكائنات والأسماء ومعالم الحياة؛ دلالة على حدوث الطوفان العنيف، الذي ألغى لوهلةٍ من الزمن الفكر وأعجز اللسان عن الكلام، ثم يصحو الشاعر من الصدمة في المقطع الأخير "كان قلبي".." لتنتهي القصيدة /الحكاية/ بانتصار الحركة الداخلية التي تتوضح بامتياز في المحور الأخيرة القصيدة/ عبر سيطرة الذات على المحور الدرامي فيها. إذ يخلص الشاعر إلى تجربته الصادقة التي تتمثل في معاناته الخفيّة. ثم اختياره للموقف الرافض، الذي يصرّ عليه دائماً في معظم قصائده. معتمداً على فكرة التناص أو القناع.
فالطوفان في القصيدة دلالة واضحة ترمز إلى بدء زمن الانفتاح الاقتصادي- في زمن القصيدة- وما كان يعنيه من خراب ودمار للوطن بالنسبة لشاعر مثل أمل دنقل، يسكنه الحزن والصخب معاً، والحلم والعدمية معاً، والرفض والتمرد رغم إيمانه بحتمية موته الذي قد يباغته بين لحظة وأخرى.
أخيراً لابد من التنويه إلى أن أمل دنقل –كغيره من الشعراء المجددين كسر ألفة القيود التي تؤطر مفهوم الحكاية الكلاسيكي في الشعر – حيث لا يمكن الثبات في مكان، أو تجاهل هذا السيل من التجدد والتجريب المستمر في الحركة الشعرية العربية، فجاءت حكايته مع /ابن نوح/ حاملة لعناصرها الجديدة. كما حدث للقصة والرواية والفنون الأخرى… وما زال يحدث.
3-أدونيس:
"المقنع بصقر قريش"
من المؤشرات الفنية الهامة، التي برزت في الحكاية الشعرية المعاصرة ما قدمه أدونيس في بداياته – ولم يستمر-، حيث برز في تلك البدايات نفس ملحمي هام- كما في الصقر- وتحولات الصقر-3-، مولعاً بعض الشيء بالتفاصيل، دون الاعتماد على تكثيف العنصر القصصي، غير أن تلك التفاصيل التي يقدمها أدونيس ليست زائدة، وليست متطفلة على جسد القصيدة /الحكاية/، ولعلها تضفي نفحة جمالية، قلّ ما نجدها لدى الآخرين.
فأدونيس إلى جانب معرفته أسرار اللغة العربية، وقدرته على خلخلة ما استقرّ منها، لا يقدم كلاماً زائداً أو مفردة طفيلية أو صيغة لا عمل لها.
وكما خلخل أدونيس اللغة الشعرية، استطاع أيضاً أن يخلخل بموهبته الفذّة- كثيراً من المفاهيم، ويفتح آفاقاً جديدة في الشعر العربي المعاصر، منها: الشكل التقليدي للحكاية الشعرية. حيث نزع منها –عن قصد أو دون قصد- لغة السرد الحكائية، وانسياب الزمن الهادئ والموقف الرومانسي الدرامي في رسم الشخصية، فأدونيس يشغله في رأس همومه الإبداعية فنّية القصيدة، وشحنها بدلالات جديدة غير مألوفة- تنبع من السّياق الكّلي الذي تستخدم فيه، ومن الوظيفة التي تؤديها ضمنه، ولا يتحقق هذا إلاّ حين تكون القصيدة شيئاً تاماً، تتداخل وتتقاطع بحيث أن كل جزء منها يأخذ معناه من الكل –أي شكل القصيدة هو القصيدة كلها.
ضمن هذا التصور يمكن الدخول إلى عالم أدونيس الشعري/ التمردي- الصوفي-الأسطوري –التاريخي- عبر سيرة /صقر قريش وتحولاته/. هذه السيرة الذاتية الملحمية التي تشكل /في زمن صدورها/ ذروة أعمال أدونيس الشعرية على الإطلاق. لأنها أدونيس نفسه، في لحظة التجلي والصدق مع الذات.
ففي "الصقر" تتم استعادة الذات التاريخية، بهدف العودة إلى التراث، على أن تنشأ علاقة معرفية مندغمة مع الشخصية التاريخية الهامة فالقصيدة تحكي قصة "عبد الرحمن الداخل" وتغريبته، منذ فراره من بغداد وسعيه المستميت لاستعادة مجدٍ مضى لبني أمية فوجد له منفذاً في أضعف حلقة تابعةٍ لبني العباس- في الأندلس- حيث استولى عليها أخيراً:
((افتحي يا بَراري مصاريعَ أبوابكِ الصدئات
ملكٌ والفضاء خراجي، ومملكتي خطواتي
ملك أتقدّم أبني فتوحي
فوق هذا الجليد المؤصّلِ فوق الجموحِ)) ص31جـ2
في سيرة "صقر قريش" هذه، وعبر تقنية عالية، ومحكمة في بناء القصيدة ذات النفس الملحمي، حافظ أدونيس على الارتقاء الفني في تداخل الأزمنة الثلاثة، عبر "البعث" والتجدّد وتواصل الحركة، وفي الحقيقة أن سبب ارتقاء هذه القصيدة وتفوّقها، إنّما يكمن في تفاعل ماهو شعري مع ماهو فكري. فقد استطاع أدونيس بقدرة فائقة أن يحيل الفكرة إلى صورة شعرية نكاد نلامسها:
((غيّر رنينكَ يا صوتْ. أسمع صوت الفرات:
-قريش..
لؤلؤة تشعّ من دمشق
يخبئها الصندل واللّبان..
أجمل ما حدّث عنه الشرقْ
-لم يبق من قريش
غير الدّم النافرِ مثل الرّمحْ
لم يبق غيرَ الجرح)) ص30.
والفرات هنا رمز الحركة والحياة.. رمز الوجود والتحول الدائم، رمز الأمل والتجدد الذي تحول إلى هاجس مستمر، يدوّي في أعماق "الصقر". وفي هذه القصيدة- كما في مهيار الدمشقي- يلجأ أدونيس إلى استخدام "القناع" كحالة من حالات الاندغام بالشخصية، كالتي استخدمها البياتي في "الذي يأتي ولا يأتي" لكن لدى أدونيس تكاد تكون ظاهرة عامة في شعره- حتى في عمله الأخير- الكتاب جـ 1، ظهر الشاعر مقنعاً بالمتنبي-، فهو يدخل تحت جلد الأشياء والشخصيات، ويندغم معها اندغاماً كلياً في حالة توحّدٍ كامل، حيث تصبح الشخصية هي الشاعر نفسه، ففي الصقر، يتوحد أدونيس مع الشخصية توحداً يكاد يكون كاملاً، وفي اعتقادي أن اختيار أدونيس لصقر قريش وسيرته نابع من التشابه الكبير بين الشخصيتين، فأدونيس شُرّد في الآفاق، وطاردته دمشق، واغترب عنها قسراً، لكنه بقي عاشقاً لها حتى الاحتراق، كذلك كان عبد الرحمن الداخل، طارده العباسيون، وطالبوا برأسه، وتشرد واغترب وهو يحمل حنيناً /يجرف الجبال/، إلى دمشق وبغداد، حتى بني /الأندلس الطالعة من دمشق/. وظل الصقر – رغم مكانته في غرناطة.. يسمع صوت الفرات.. ويحلم بلؤلؤة اسمها دمشق.
إننا أمام شخصية متناقضة ومتوحدة في آن معاً.. قلقة.. متوترة وخلاّقة، يحتدم فيها زرادشت والحلاج- وهيجل وابن عربي وباطنيه الإسلام- /المنابع الثقافية لأدونيس/ -ضمن معادلة الخير والشر وصيرورة الحياة والكون(1) لذلك فالحكاية الشعرية لديه خرجت عن أن تكون حكاية مستقلة بكافة عناصرها الفنية والموضوعية/ كما رأيناها عند عبد الصبور مثلاً/، فقد كان انشغال أدونيس الأساسي في: الصورة الشعرية والتشكيل الفني، واللغة التي اكتسبت قيمة استثنائية لديه، وهو من أهم الشعراء المعاصرين الذين أخرجوا اللغة الشعرية من ركودها المزمن، وتمرّده على المفاهيم السائدة في ذلك الزمن – ولا يزال يتابع تجربته الشعرية المتمردة – فمن الطبيعي أن يكون أدونيس متفرداً، مع الكبار القلائل – في تناول عنصر القص والسرد في الحكاية الشعرية، ففي –الصقر وتحولاته ينطلق الشاعر من فكرة الموت والانبعاث والتجدد، والتوالد المستمر، عبْرَ التناقض في الشيء الواحد، ولكن هذه الانطلاقة لا تتم دفعة واحدة بل تبدو عبر حالة من الاستلاب الشبيهة بالموت، حيث غادر "الصقر" بغداد، بعد آخر مشهد ذبحٍ رآه، وكان لأخيه:
-"مات بلا غسلٍ ولا قبرٍ ولا صلاهْ".
وقلتُ للأشياء والفصولْ
تواصلي كهذه الأجواء
مدّي لي الفرات
خليّه ماءً دافقاً أخضر كالزيتون
في دمي العاشق في تاريخي المسنون"ص30
تماماً كما لو أن "طائر الفينيق" في حالة الترمّد والاستعداد للولادة الثانية حيث غادر الصقر الفرات حاملاً عذابات الواقع الخائب، وأمنيات المستقبل الصعب، إنه "يجرح الرّمل" في القحط ويزرع النخيل.. ويفتح البراري، ويرى الأهوال في طريق التحوّل، فالولادة عسيرة وإنْ كانت الرؤية واضحة، وليس على الصقر إلاّ أن يتحمل هذه المعاناة:
"في الشقوق تفيّأتُ
كنت أحسُّ الدقائقَ
أمخضُ ثدي القفارْ
سرتُ
أمْضي من السّهم أمضي
عصرْتُ الحصى والغبار
كانتْ الأرضُ أضيق من ظلّ رُمْحيَ- مُتُّ
سمعتُ العقارب كيف تصيءُ، هديت القطا في المجاهل-
مُتُّ، تلبدت بالأرض أكثر صبراً من الأرض- متُ
.. انكببْتُ على كاهل الريحِ
صليتُ
وشوشتُ حتى الحجار"ص33
إنه يتمتع بكفاءة مذهلة.. يتابع سيره، يعض الحصى ويشق البراري بصبر وجلد الإبل المسافرة في الصحاري، وتُبعث الحياة في الصقر وهو يصعد نحو القمة، ليُبعث من جديد، إنه يهيء "رماد الفينيق" لينثره فوق الفرات، والحجارة، والبراري القاحلة، الميتة، لتُبعث ولتزدهر:
"صاعدٌ لبروج التحولِ حيث الفجيعةْ
حيث يساقط الرّمادُ
حيث يستيقظُ النشيجُ وينطفئ السندبادُ"ص34
ثم يتمنّى "الصقر" لو أنه يمتلك القدرة على تغيير الفصول ليمدّ الفرات إليه "ماءً أخضر كالزيتون" ويجعل من كل "حجرٍ" سحابة" تمطر فوق الشام والفرات" توقاً إلى حالة الخصب والطمأنينة في ظل تلك الأمجاد التي تبخرت.. وضاعت..
هنا يدخل "الصقر" إلى عالمه الداخلي، عالم الحلم والأمنيات في "بادية العروق" وفي "مدائن السريرة" يصنع تاريخه بيديه من جديد، يجتاح الضحى ويكشف المجهول، ويستزيد معرفة وإصراراً ليُبعث الفينيق من رماده:
"والصّقر في متاهه، في يأسه الخلاّقْ
يبني على الذروة في نهاية الأعماقْ
أندلس الأعماق
أندلس الطالعة من دمشقْ
يحمل للغرب حصاد الشرق" ص40
ويتداخل الزمن والشاعر والشخصية في الحكاية، ويمتزج الأسطوري بالواقعي، والذات التاريخية بالذات الراهنة، وتتعدد الأمكنة حسب معطياتها ورموزها، ودلالاتها التاريخية: من بغداد إلى دمشق إلى الأندلس، حيث "هدأت صيحة الرجوع" بعد أن استقر "الصّقر" في غرناطة، ليبدأ معاناة من نوع آخر، يبثّ فيها حنيناً جارفاً إلى دمشق، إلى أمجاد الأوائل من بني أميّة:
"هدأتْ صيحة الرجوع:
-نغم جارح في القرار
-إن جسمي ومالكيه بأرضٍ
وفؤادي ومالكيه بأرضِ"ص46*
إن الصقر يدرك، عبر إحساسه بالاغتراب، أنه غريب فوق أرض غريبة، مهما تحقق له من مجد، هذا المجد المؤقت الذي ليس له جذور:
"هدأت صيحة الرجوع
أسألُها – دمشق لا تجيبْ
لا تنقذ الغريبْ"ص45
دمشق البعيدة الآن، تتحول عبر مخاض الولادة الثانية إلى حلم ميئوس منه، ولهذا ترى في "تحولات الصقر" لازمة ثابتة تتكرر في فصل الدمع، وتنطوي على شيء من اليأس، والتسليم بالحالة الراهنة.. /هدأت صيحة الرجوع/.. ومن ثم الانطلاق نحو الولادة الجديدة في فصل /الصعود إلى أبراج الموت/ حيث يرتقي أدونيس بفنية عالية إلى جدلية اللغة والفكر والفن، جدلية الحياة والموت:
"من حجرٍ يصير ياسمينهْ
يحبل صمت الأرض بالأغاني
وتُولدُ المدينةْ"
ويجتاز الصقر مرحلة المخاض إلى مرحلة التكوين، وأصبح يعرف الآن كيف يمزج العصور.. ويحيلها إلى قصيدة أو ثورة أو حلم (ص29)
وفي الطريق إلى القمة.. تخضرّ الحياة، تنكشف الأشياء وتغسل جرار الدموع جبين الصباح.. والسحابة تسرع في سيرها، حاملة الخصوبة- كل شيء يتحرك نحو الحياة…، لقد تمت الولادة الجديدة، بعد الموت الذي بدأت به الحكاية القصيدة، حيث تدخل مع /فصل الصورة القديمة/ فصلاً من أجمل وأبهى لحظاتها، إذ يمتزج فيها التأمل الفلسفي بالزمن الماضي والراهن عبر تداعيات الصقر، المحمولة على الصورة الشعرية الخلاقة، والأخيلة المتدفقة، لتصل إلى الذروة الدرامية، عبر جدلية الموت والحياة، فماذا بعد ذلك.. ماذا بعد هذا المجد الأندلسي..؟، إنه:
"زمنٌ ينتهي، وخيولٌ من الفجر محلولةٌ الشكيمةْ
ترسمُ الصورة القديمةْ
في الضفاف الحزينة.. في آخر الصحارى" ص79
وهاجس الصقر في إحياء الموات يُدخله في عالم الحلم.. لينقله إلى بغداد / في رئة عصفور/ بعد أن عاش حالة النفي المزمن هذه، والتي صنعت منه قوة الخلق والتجدّد.. بعد الهدم:
"جئت إلى بغداد
أخطو على سجادةٍ
بين خيوط الماء والأشجار
أسيرُ في أغواري البعيدة
ألبس وجه النار
أستنطق الأرض الفراتية" ص89
فماذا قالت الأرض الفراتية؟:
"أسمع في الأحجار
أغنية الفصول
أسمع ما تقول:..
-الزّمنُ اخضرّ، نما، وطالْ
أورق في الجدران والحصونْ
والزمنُ العيون:
قاماتُ أحجارٍ ربيعيةْ
في غابة الروح الفراتية.."ص93
وهذا يعني أن التاريخ لا يعرف التوقف، إنه الحركة الدائبة المستمرة في جدلية الموت والحياة، إنه الصورة التي تمزج الواقعي بالخيالي والفكري بالفني، خاصة في الفصل الأخير "فصل الأشجار" – مرثيات الصقر وشواهد على قبره* وهذا الفصل لا يحمل أي معنى للرثاء مطلقاً، بل ينتهي بصورة زوجةٍ حبلى تنتظر / في الصمت في التمزق المضيء /طفلها الذي سيولد، ولنكتشف أخيراً أن الصقر، وقد تحول إلى رمز الخلق والحركة والتجدد، لا يعرف الموت، مثل طائر الفينيق:
"وقيل: بعد القبر، شقّ القبرَ، ألقى
موته وطار
يبحث عن أمومةٍ/ في وطن الإنسان،
وقيل: كانت زوجة فقيرةْ
هنا وراء التلّة الصغيرة
حبلى
وبين الليل والنهارْ
في الصمت / في التمزق المضيءْ
تنتظر الطفل الذي يجيء"
أخيراً يمكن القول أن "الصقر وتحولاته" تشكل وحدة عضوية متكاملة على طريق خلق سيرة ملحمية – في البحث عن الذات والوجود عبر جدلية الموت والحياة، دون إهمال العنصر القصصي لهذه السيرة التي تشكل عالم أدونيس الفني والفكري معاً، والتي تمنحه ريادة شعرية لم يثابر عليها لأسباب فنية وفكرية* ليست موضوع بحثنا الآن.
* ((نقلاً عن حوار مع الشاعر في تلفزيون أبو ظبي –أورده /د.سيد البحراوي- في كتابه: -في البحث عن لؤلؤة المستحيل –ص/201/- سلسلة الكتاب الجديد- بيروت- 1988)).
* سورة هود –من الآية /36 حتى 47/.
** التوراة- سفر التكوين: الإصحاح السابع.
* راجع الحوار مع الشاعر –ملحق الأعمال الكاملة- دار العودة- مصدر سابق.
** سفر التكوين –الإصحاح /7-8-9/ فيما يخصّ الطوفان.
*** "سورة الشعراء" الآية /119-120/ وكذلك "سورة هود" الآية /36 ولغاية 47/.
* للتوسع في فكرة (التناص) يراجع كتاب (البحث عن لؤلؤة المستحيل) مصدر سابق.
(1) الشعر العربي المعاصر – د. يوسف سامي اليوسف دراسة – اتحاد الكتاب العرب – دمشق /1980/ ص /185-202/ وهو من الكتب الهامة في دراسة الشعر المعاصر.
* من شعر عبد الرحمن الداخل /صقر قريش/
* انظر القصيدة كاملة، في الأعمال الكاملة المجلد الثاني: بيروت دار العودة ط2/ 1985/.
* يراجع في هذا المجال كتاب "بنية القصيدة القصيرة في شعر أدونيس"= د. علي الشرع- اتحاد الكتاب العرب- دمشق /1987/- حيث يتوصل في إحدى استنتاجاته الهامة إلى أن أدونيس /بدأ أكثر غموضاً وتعقيداً والتواءً في مراحله الشعرية المتأخرة/ ص/69/.