الدلالة التاريخية
الدلالة التاريخية للشعر
ظاهرتا الغزل والنقائض في القرن الأول الهجريّ نموذجاً
الدكتور محمد العمري
كلية الآداب - الرباط
حين يُنظرُ إلى الوظيفة الجوهرية للشعر، أي التخييل، وإلى الآليات الأساسية لتحقيقها (وهي - حسب أقدم وأشهر النظريات الأدبية - المحاكاة والانزياح)، يتأكد لمنظر الشعر أن المسافة بين الشعر والتاريخ بعيدة. أما حين يُنظر إلى آليات اشتغال المحاكاة والانزياح، في ضوء المنجز من الشعر، عبر التاريخ، فإن تلك المسافة تبدأ في التقلص حتى لتكاد تضمحل. فيحس مؤرخ الأدب المتمكن أن عمله أَدْخَلُ في التاريخ من عمل المؤرخ العام نفسه. هذا ما عبر عنه لانسون في مقدمة مقاله المشهور: »منهج البحث في تاريخ الأدب«([1]). ولذلك كثيراً ما يظهر ما يُشبه التعارض بين زاويتي النظر. أما أقدم تفريق صريح بين الخطابين، الشعري (المحاكي) والتاريخي (الموثِّق)، هو ما جاء في كتاب "فن الشعر" لأرسطو، حيث قال مفرقاً بين عمل الشاعر وعمل المؤرخ:
واضح كذلك مما قلناه، إن مهمة الشاعر الحقيقية ليست في رواية الأمور كما وقعت فعلاً، بل رواية ما يمكن أن يقع. والأشياء ممكنة: إما بحسب الاحتمال، وإما بحسب الضرورة. ذلك أن المؤرخ والشاعر لا يختلفان لكون أحدهما يروي الأحداث شعراً والآخر يرويها نثراً (فقد كان من الممكن تأليف تاريخ هيرودوتس نظماً، ولكنه سيظل، مع ذلك، تاريخاً سواء كتب نثراً أو نظماً)، وإنما يتميَّزان من حيث كون أحدهما يروي الأحداث التي وقعت فعلاً، بينما الآخر يروي الأحداث التي يمكن أن تقع([2]).
ولا يقلل من أهمية هذا التفريق كون كلام أرسطو مبنياً على النظر إلى الشعر القصصي (الملحمة خاصة). ذلك أن مبدأ »الاحتمال« مبدأ أساسي في كل شعر، سواء أوغل في الخيال أو قارب الواقع والتصق به. وهو مبدأ ما انفك يتأكد عبر التاريخ: فالخطاب التاريخي يسعى لإعادة بناء ما وقع من خلال الوثائق والاستنتاجات الأكثر منطقية ورجحاناً، وصولاً إلى إعطاء ذلك الحدث دلالة (أو دلالات)، مع قابلية المراجعة وإعادة النظر كلما جد جديد في مجال التوثيق أو القراءة، في حين يهتم الخطاب الشعري بانسجام بنائه الداخلي. ومن ثم يصبح النص نهائياً بعد خروجه من يد الشاعر طامحاً إلى الخلود. وهذه الخصوصية مأخوذة بعين الاعتبار حتى من طرف مؤرخ الأدب. يقول لانسون نفسه:
موضوع التاريخ هو الماضي، ماض لم يبق منه إلا أمارات أو أنقاض بواسطتها يعاد بعثه؛ وموضوعنا نحن - يقصد مؤرخي الأدب - أيضاً هو الماضي، ولكنه ماض باق. فالأدب من الماضي والحاضر معاً([3]).
المؤرخ يقول: وقع الأمر على هذا الوجه ثم يبني استنتاجاته، في حين يقول الشاعر: يبدو كما لو وقع الأمر على هذا الوجه، أو يكاد الأمر يقع على هذا الوجه، حسب التوجه القصصي أو الغنائي الذاتي الذي يتبناه.
هذا هو الأساس بالنظر إلى جوهر الشعر باعتباره تخييلاً، وهو المبدأ الذي ما انفك يتقوى عبر تاريخه، كما تقدم. وقد أدى هذا المسار إلى اعتقاد الطليعيين، من الشعراء خاصة، أن الشعر قد حقق هويته بانغلاقه على نفسه. غير أن هذا الانغلاق ما لبث أن شكل أزمة تجلت في قلة التواصل معه، فبدأت حين عملية إعادة النظر في العلاقة بين الواقعي والمتخيل: فإذا كان التخييل مقياساً للشعر، فإن اشتغاله لا يتحقق إلا بمحاورة الواقع ومنازعته في إطار التفاعل بين العنصر المركزي الفاعل (البناء المتخيل) والعنصر المعارض له المساعد في إبرازه، وهو الواقع بشتى تجلياته. فالشعر ليس انعكاساً للواقع كما هو، ولكنه ليس أيضاً نتاجاً من فراغ؛ إنه اختيار وبناء تتفاعل فيه الذات مع الواقع: تختار من عناصره، وتغير العلاقات، وتشعب الدلالات.
ولذلك فإننا حين نرجع إلى المنجز - وهو الذي يهمنا -، نجد أن الشعر قد ارتبط بالواقع وسجل الأحداث بأشكال عدة مُباشِرة وغير مباشرة. وهذا حال الشعر القديم عامة، وضمنه الشعر العربي([4])، إذ نجد أن منه ما يشكل وثيقة تاريخية مباشرة، ومنه ما يشكل وثيقة غير مباشرة، تحتاج إلى قراءة وتأويل لاستنباط دلالتها التاريخية التي تضيف الكثير إلى الوثائق المباشرة. يكون الشعر وثيقة مباشرة حين يسجل وقائع وأحداثاً ومذاهب بأسمائها ورجالها، ويكون وثيقة غير مباشرة حين يصور الرؤية والأحلام والآمال مرهصاً بالتغيرات المحتملة (كما هو حال شعر الغزل وشعر النقائض)، كما سيأتي.
وقد أثارت صفة التوثيق الخطابية انتباه القدماء، فنعتوا بعض الشعر بالخطابية، مثل شعر الكميت بن زيد الأسدي شاعر الشيعة. كما أثارت جدلاً بين منظري الأدب في العصر الحديث، إذ كثيراً ما نُعت الشعر الكلاسيكي كله بالخطابية، أي استعمال وقائع واقعة أو محتملة الوقوع للتدليل على قضية أو الدفع إلى فعل. ولذلك ذهب بعض منظري الأدب الغربي إلى أن الشعر إنما وعى نفسه مع الرومانسية، حين صار أكثر ذاتية وأبعد عن النفس الخطابي الواقعي. والواقع أن الخطيب يبدو قريباً في منطقه من المؤرخ من حيث يدعي (فيما "يفترض" المؤرخ أو "يجزم") أن الأمر وقع على هذا الوجه، ويُجهد نفسه في تقديم الحجج على دعواه. غير أن حججه احتمالية تشوشها المؤثرات السيكولوجية (pathos) والأخلاقية (éthos) التي يحاول المؤرخ تحييدها متسلحاً بالوثائق والشواهد.
وقد أدت هذه الواقعية الخطابية في الشعر القديم إلى قيام نظرية للأدب تعتبر الشعر وثيقة، وتبحث فيه عن حقائق الأشياء، باعتباره انعكاساً لها، قبل أن يظهر ردَّ الفعل، مع الحركات الطليعية الجديدة وما رافقها من فلسفات جمالية مثالية، ليظهر الحديث عن الأدب كتحفة فنية قيمتها في ذاتها (الغائية ذاتية)، ثم ساهمت الصياغات السميائية الحديثة مستفيدة من المباحث اللسانية وفلسفة التأويل في تحقيق قدر من التوازن بين المتخيل والواقع، فصار ينظر إلى الأدب كعلامة (signe) تفاعلية تحاول الجمع بين البعدين الواقعي التوثيقي والجمالي التُّحَفِي من خلال التفاعل بين النص والمتلقي([5]).
وكان الفلاسفة والبلاغيون العرب قد انتبهوا قديماً إلى البعد الواقعي للشعر العربي القديم، وأن ما يصدق على النصوص المعتمدة عند أرسطو - وهي عندهم عبارة عن "الخرافات" وما أشبه الخرافات، كما قال ابن سينا - قد لا يصدق على الشعر العربي إلا بتأويل وتحويل يوجه مفهوم المحاكاة من معنى »التمثيل« إلى معنى إحداث أثر في النفس، أي التخييل والتوهيم: تخييل أحوال؛ من فرح وحزن وغيرهما. ثم أكدوا شيئاً صار في مناط اهتمام نظرية الأدب اليوم، وهو أن التخييل قد يتم عن طريق المتخيل المختلق، مثل الحكاية الخرافية وما إليها، وقد يتم عن طريق الأفعال الصادقة الواقعة: فالمواد المخيلة قد تكون »صادقة« ( واقعة)، وقد تكون »كاذبة« (خيالية)، وقد يكون بعضها صادقاً وبعضها كاذباً([6]). والمهم أن تحدث
أثراً في نفس المتلقي. فالمهم من حديث الكميت عن مآسي الشيعة، مثلاً، ليس كونها واقعة على الوجه الذي ذكر، بل كونها مؤثرة. والعنصر الشعري، فيها هو الاختيار والتنظيم، وهو الجزء الذي يتدخل فيه خيال الشاعر وفكره.
والخلاصة أنه سواء اعتبر الأثر الأدبي "وثيقة" أو "تحفة" أو "علامة"، فإنه يقدم للمؤرخ - كما يقول دانييل مادلينا (Daniel Madelénat) - »رؤية خاصة إلى العالم«، و»يكشف عما خفي من الأحداث والآمال المحبطة والاحتمالات المكبوتة، والنوايا المستشرفة. وبهذا فإن الأدب يقدم للمؤرخ مادة أساسية«([7]).
الأدب يكشف خيوط الامتداد والاستمرار بين اللحظات التاريخية التي تبدو منفصلة عن بعضها نتيجة التغيرات الكبرى في المسار العام للتاريخ، وهي التغيرات التي تشغل عادة المؤرخ التقليدي. فالأحداث، كبيرة كانت أو صغيرة، لا تعدو أن تكون - كما عبرت عن ذلك الحركة التاريخية الجديدة - نقطاً متفرقة فوق خريطة. وهذا يتطلب مدَّ الخطوط اعتماداً على عناصر الثبات الكامنة تحت سطح الواقع المتحول([8])؛ والأدب والفن مرجع أساسي في هذا المضمار.
ولعل من أحسن الأمثلة على ذلك استمرار القيم القبلية في الشعر بعد الدعوة الإسلامية، ليس لدى عموم الشعراء أو خصوم الدعوة منهم، بل أيضاً عند المقربين منها الذين انتدبوا للدفاع عنها مثل حسان بن ثابت شاعر الرسول r. بل أكثر من ذلك، سنجد أن هذه القيم تزدهر لتصبح مناط المفاخرة والهجاء في شعر النقائض في العصر الأموي قبل أن تتم عملية تحويلها نحو الهزل، والسخرية منها، كما سنلاحظ. ومن أقوى صور الإحباط التي صورها الشعر حال أهل الحجاز، كما ظهرت في شعر الغزل الأموي في الحواضر والبوادي الحجازية.
وعموماً، فإن القرن الأول للهجرة يبدو غريباً من حيث إنتاجه الأدبي. فهو إن كان عصر "الفتنة الكبرى" السياسية والدينية، فقد كان كذلك عصر فتنة أدبية، عرف ظواهر جديدة نسبت إليه وحصرت فيه، أو اعتُبِر على الأقل عصرها الذهبي.
فالعصر الأموي هو العصر الوحيد الذي تحدّث فيه مؤرخو الأدب عن الشعر السياسي منسوباً إلى أحزاب، وهو عصر النقائض بين جرير والفرزدق والأخطل، وآخرين كثيرين. والنقائض مرتبطة أساساً بالعصبية القبلية([9])، إلخ، وهو عصر الغزل العذري والحضري وما رافقه من موسيقى وغناء، وهو العصر الذهبي للخطابة، وهو عصر انفجار الرَّجَز واقتحامه مجال القصيد، والرجز فن بدوي لغة ومضامين. وهذه كلها ظواهر ليس لها في ما قبلها من الشعر العربي غير إرهاصات، وليس لها في ما بعدها غير امتداد ذابل، أو ليس لها امتداد على الإطلاق([10]). لقد كان الأدب إذاً شديد الارتباط بالعصر، عبّر عنه في كل جوانبه، بشكل مباشر أحياناً ورمزي أحياناً أخرى. ولذلك فهذه الظواهر المتفردة تُفسّر من عصرها وتفسّره. إن وجودها المتميز، في حد ذاته، ذو دلالة تاريخيَّة متشعبة وعميقة، ومن شأن هذا التفاعل القوي بين الشعر واللحظة الزمنية أن يجعل مورخ الأدب يستفيد من التاريخ العام في أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ كما يحتم على المؤرخ لهذه المجالات الاستفادةَ من الشعر وما يتصل به من أخبار وأساطير أحياناً([11]).
تهميش الحجاز في شعر الغزل
إن الشعر الغزلي الذي أنتجه شعراء مثل عمر بن أبي ربيعة([12]) والأحوص والعرجي وغيرهم من شعراء الحجاز في مكة والمدينة يمثل أكبر سند للأخبار المثيرة عن التحول المتسارع، بل المذهل، الذي عرفته هذه المنطقة عقوداً قليلة بعد موت الرسول r. وهي أخبار كان من السهل - دون دعم ذلك المتن الشعري القويّ - أن تعزى إلى الاختلاق والوضع من قبيل هذا »المغرض« أو ذاك. حيث تتواتر الأخبار عن نوادي الغناء واللهو تحت رعاية أحفاد الصحابة مثل سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وابن أبي عتيق حفيد أبي بكر ومن في طبقتهم، مثل عبد الله جعفر.
وقد عبر الناس، كالعادة، عن دهشتهم من تغير الأحوال بسرعة، فجعلوا ولادة عمر بن أبي ربيعة في ليلة قتل عمر بن الخطاب([13]). وهذا خبر موضوع، لا شك، لتصوير عمق الانقلاب، ومدى المسافة بين العصرين اللذين جعل كل واحد من الرجلين رمزاً لأحدهما. ولذلك علقوا على الخبر بقولهم: »فأيُّ حق رُفع، وأيُّ باطل وُضع«!. ويمكن أن يقرأ هذا الخبر بصيغة أخرى: لو بقي عمر حيّاً، ما وُجد مثل عمر بن أبي ربيعة، أو: الذي سمح بظهور عمر بن أبي ربيعة وأمثاله هو غياب عمر بن الخطاب وأمثاله. إن هذا الخبر المفعم بالروح الأسطورية لا يختلف كثيراً في دلالته التاريخية الرمزية عن الشعر الغزلي في ذلك العصر.
ويبدو من الأخبار المتصلة بالشعراء والمغنين أن الحجاز صار محجّاً للترفيه والمتعة. يروي صاحب "الأغاني" أن عبد الله بن جعفر المذكور ورد على يزيد بن معاوية بصحبة مولاه نافع فأعجبه غناء هذا الأخير، فقال لعبد الله: »إن يصلُح لنا هذا الأمر من قِبَل ابن الزبير فلعلنا نحُج فتلقانا بالمدينة، فإن هذا لا يصلح إلا هناك«([14]). وكان من عادة عبد الله أن يَفِد على الحكام الأمويين وينصرف بالمال والهدايا.
وأكثر من ذلك أن الفضل في حفظ تلك الأخبار يعود إلى الشعر نفسه باعتبارها شروحاً لإشاراته وتفصيلاً لما أجمل من حوادثه. هذا، على الرغم ممّا خالط هذه الأخبار من أساطير دالة في إطارها. أما السؤال: كيف وقع ذلك، أو كيف أمكن أن يقع؟ فهو سؤال لاحق، ومهمته ليس إثبات الظاهرة، بل رفع الغرابة عنها، وجعلها طبيعية وممكنة.
ولعل أول تساؤل يرد في هذا المقام هو: ماذا كان موقف الفقهاء وعلماء الدين من صحابة وتابعين من هذه الحركة الشعرية الغنائية؟ إن كل شيء في هذه الظاهرة يشير إلى أن العصر الذي يُنفَى فيه الشاعر "لإيغاله" في وصف المرأة، ويطالب فيه الشعراء بمراعاة الآداب مراعاة صارمة([15])، قد ولى. وهناك دلائل مادية وأخرى رمزية تشير إلى أن فقهاء الحجاز صاروا يعتبرون التسامح مع المتغزلين من مزايا مذهبهم الذي يميزهم عن جفاء طبع أهل الشام وتزمت أهل العراق.
من أمثلة هذه الوقائع التي تتراوح بين الواقع والرمز ما جاء في "الأغاني" من أن عبد الله بن عمر العمري سمع امرأة ترفث في كلامها، أثناء الحج، فعاب مسلكها، فأسفرت عن وجهها، وكانت حسناء، ثم أنشدته ما قاله العرجي متغزلاً بها:
أَماطَتْ كساءَ الخَزِّ عَنْ حُرِّ وَجْهِها |
|
وأدْنتْ على الخديْنِ بُرداً مُهَلْهَلاَ |
مِنَ اللاَّءِ لم يَحْجُجْنَ يَبْغِين حِسْبَةً |
|
ولَكِنْ لِيَقْتُلْن البَريءَ المُغَفَّلاَ |
فما كان منه إلا أن قال لها: »فإني أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار«.
ثم إن هذا الخبر بلغ إلى سعيد بن المسيب، فقال: »أما والله لو كان من بعض بغضاء العراق، لقال لها: اعْزُبِي قبحك الله! ولكنه ظرف عُباد أهل الحجاز«([16]).
قال صاحب "الأغاني" جادّاً مجتهداً في إبعاد الطابع المجازيّ عن هذه الحكاية:
وقد رويت هذه الحكاية عن أبي حازم الأعرج، وعن سلمة بن دينار، وقد روى أبو حازم عن أبي هريرة وسهل بن سعد وغيرهما، وروى عنه مالك وابن أبي أيوب. والحكاية عنه في هذا أصح منها عن عبد الله العمري. حدثنا بهذا وكيع.
والواقع أن القيمة التوثيقية لهذه الحكاية لا تتأثر كثيراً بكونها وقعت على هذا الوجه أو اخْتُلِقَت في ذلك العصر لتفسر واقعاً قائماً؛ إذ وجه الاختلاق فيها لا يعدو قول خبير بالأمر: لو أن واحداً من فقهاء الحجاز وآخر من العراق وثالثاً من الشام سمعوا أبيات العرجي ورأوا وجهاً جميلاً، لقال الحجاوي كذا والعراقي والشامي كذا... إن الافتراض الثاني يحول الحكاية من مستوى الوثيقة الواقعية المباشرة إلى مستوى الوثيقة الأدبية الرمزية. إنها بشكل ما أسطورة دالة، ولكنها أسطورة نص شعريّ يصر على الانتماء الواقعي لعصره.
وما قلناه عن هذه الحكاية يمهد للحديث عن مستويات الواقعية والرمزية في ظاهرة الغزل العذري برمتها. فهنا يتحدث مؤرخو الأدب مثلاً عن البطولة الوهمية الزائفة في شعر عمر بن أبي ربيعة([17]). وفي هذه "الوهمية" تكمن الدلالة التاريخية الإضافية لهذا الشعر، إذ تصبح تلك البطولة تعويضاً رمزياً عن الدور الريادي الذي ضاع من الحجاز، بعد انتقال الحل والعقد في السياسة والمال إلى العراق والشام. وعموماً، فإن شعر الغزل الأموي يمثل في نظر مؤرخي الأدب الفراغ والانكسار الناتجين عن الحصار مع البذخ في حواضر الحجاز، والحصار مع الفقر في البوادي المجاورة (وادي القرى، موطن الشعر العذري على وجه التحديد) ([18]).
واعتباراً لما تقدم يكون الشعر الغزلي مساعداً في كتابة التاريخ العام وفهمه من ثلاث زوايا:
الزاوية الأولى: حدوثُه وتَقَبُّلُه في حد ذاته، في تلك البيئة الدينية، أي باعتباره ظاهرة خارجة عن سياق المسار المتوقع للدعوة الإسلامية، كما تقدم. ولبيان ذلك، يكفي إجراء مقارنة بين هذا التقبل وبين الزجر الذي تعرض له شعراء الغزل (إقامة الحد على سحيم ونهايته المأساوية)، والخمر (سجن أبي محجن الثقفي)، والهجاء (سجن الحُطيئة) في العقود الأولى للإسلام([19]).
ويأتي ضمن هذه الدلالة وتتويجاً لها الدور التحريري الذي من المفترض أن يؤدِّيه أي فن حقيقي ناتج عن معاناة ومخاض عسير، وهو التليين والتلطيف بشكل غير مباشر، وفي هذا الإطار يرى مؤرخ الأدب أن الشعر الغزلي بقدر ما صور أزمة اجتماعية سياسية أدَّى دوراً تحريرياً باعتباره أداة تواصلية تتصل بالشاعر وتنفصل عنه. وفي هذا المعنى يقول الطاهر لبيب:
ولا ريب أن تجنيس اللسان إنما يتم على مستوى من الاتصال جنسي ولفظي بذات الوقت؛ كما أن تحرير المرأة الذي اتسع نسبياً لدى بعض الأوساط في العصر الأموي أغنى اللغة الجنسية. وبالمقابل، فإن ذلك قد يسر الاتصال بين الرجال والنساء على الرغم من التعاليم الدينية. ومع ذلك، فإن ما يثير الانتباه في هذا التقارب بين الجنسين هو إحلال الكلمة محل صاحبها، الشاعر على الخصوص. وكثيرة هي الحكايات التي تروي عن سيدات من عائلات رفيعة المقام سمحن لأنفسهن بأن يفتتن جنسياً أو يكدن، لا بالشاعر بل بشعره. إن الكلمة هي وحدها القادرة على خلع حجاب أولئك النسوة([20]).
ولا شك أن المؤلف يستحضر هنا شخصية سيدات مثل سكينة بنت الحسين التي تُروَى في تحررها أخبار كثيرة؛ منها إصرارها على أن تكون العصمة بيدها، وتعدد زيجاتها ومجالستها للشعراء والمغنين وأعيان القوم، مما هو معروف متداول في كتب الأدب والأخبار.
والزاوية الثانية، دلالته المضمونية، أي باعتماده أسلوب البطولة والمغامرة في موقع (الحواضر)، وأسلوب الهزيمة والانكسار في موقع آخر (البوادي). وفي هذا المستوى ستتبدى للدارس، بشكل عفوي، أواصر القرابة، في الرؤية والدلالة، بين الغزل الحضري وشعر الفخر الذي بلورته النقائض وكانت علامة عليه، من جهة، وبين شعر البوادي وشعر الشيعة المصور لمأساتهم بعد توالي الهزائم وقتل الأئمة، من جهة ثانية.
فكلٌّ من شاعر الحاضرة الحجازية (عمر بن أبي ربيعة)، وشاعر العصبية القبلية (الفرزدق كما سيأتي) يقاوم باللغة والكلمة هزيمة على أرض الواقع ما فتئت تتأكد بعد نقل المركز إلى الشام واستقواء بني أمية بعصبيات أخرى مغلفة بالحق الإلهيّ.
والرؤية التي يعبر عنها الشعر العذري توازي الرؤية المأساوية للشعر الشيعي: فكل من الطرفين يتمسك بحق مسلوب بقوة المال والسيف. فالعذري يتشبث بمحبوبة تعود إليه عاطفياً وشرعياً وتُمنع عنه اجتماعياً، والشيعي يتعلق بحق يراه موروثاً أخذ منه بالقوة، وكل منهما مرغم - أمام بطش الرقيب - على كتم مشاعره وركوب التقية.
والزاوية الثالثة، الدلالات الجزئية المتضمنة في النصوص المفصلة في الأخبار، أي ما اتصل بالتقاليد الاجتماعية في الزواج، والاتصال بين الرجل والمرأة في ذلك المجتمع، وتدخّل السّلط في العلاقة بين العشاق. وهذه جزئيات كثيرة لا يتسع المقام للخوض فيها.
البداوة والحضارة في شعر الصراع
إلى جانب الشعر السياسي الذي عبر عن وجهة نظر هذا الحزب أو ذاك (خاصة الشيعة والخوارج وبني أمية)، وسجل الأحداث وأسماء الأشخاص والأماكن أحياناً، ظهر شعر سجالي يقوم على الفخر والهجاء، وتختلط فيه الاعتبارات والقيم الذاتية والقبلية، صيغ أكثره في شكل نقائض([21]).
تبدو ظاهرة النقائض من حيث الشكل انعكاساً وتمثيلاً رمزياً للصراع الذي عرفه العصر في جميع المستويات السياسية والاجتماعية بخلفيات اقتصادية وشعارات دينية. ويمكن توسيع مفهومها ليشمل كل شعر الفخر والهجاء والاحتجاج لوجهات نظر الأحزاب السياسية؛ إذ يلتقي هذا الشعر - مع اختلافاته الشكلية ومضامين خطابه - في طابعه الحجاجي: الدفاع عن قيم وطروحات ودحض قيم وطروحات أخرى. ومع غلبة طابع المفاخرة والمنافرة على هذا الخطاب، فإنه صوَّر صراعاً بين القيم البدوية القبلية القائمة على العصبية والقيم الحضرية والمبادئ التوحيدية الجديدة.
كان الشعر شاهداً على عودة البداوة والعصبية مؤججاً لها، ثم صار - فيما يشبه سخرية القدر - عنصراً من عناصر تمييعها والسخرية منها بإحلال القيمة الفنية محل القيمة الاجتماعية، أي شَغْلُ الْمُتلقي بالصورة الفنية عن المحتوى الاجتماعي للفخر والهجاء، كما سنوضح.
وسنقتصر في هذه المناسبة على نموذج لتصوير هذا الشعر للنكوص نحو القبلية والبداوة من خلال شعر الفرزدق خاصة، ثم نقدم نموذجاً للتحويل الفني للظاهرة.
استبدال الولاء بالكسب المادي
من القضايا التي أثارها انتقال الشعراء إلى المراكز الحضرية الجديدة في العراق والشام (لما توفره من فرص عيش وجاه عند رجال الدولة الجديدة) قضية اضطراب الولاء بين القبيلة (والحزب أيضاً) وبين المصلحة الذاتية للشاعر. وقد سجل الشعراء هذا الاضطراب من خلال هجاء بعضهم بعضاً بالتخلي عن الولاء القبلي من أجل المال، بل حاول بعضهم تبرير مجيئه للحواضر بالدفاع عن شرف القبيلة. ومن أشهر المتمسكين بالولاء القبلي الفرزدق الذي قال في هجاء جرير([22]):
رأَيْتُ جَريراً لمْ يضعْ عنْ حِمَارِهِ، |
|
عليهِ من الثِّقلِ الذي هُوَ حامِلُهْ |
أتَى الشامَ يرجُو أن يبيعَ حِمَارَهُ |
|
وفارسَهُ، إذْ لم يجدْ من يُبَادِلُهْ |
أتَشْتُمُ قوماً أنتَ، تزعُمُ، منهمُ |
|
على مَطْعَمٍ، مِن مَطعَمٍ أنتَ آكِلُهْ؟! |
يَظلُّ بأسواقِ اليمامَةِ عاجِزاً، |
|
إذا قالَ بَيْتاً بالطَّعامِ يُكَايِلُهْ |
أَظنَّ بِنا ابنُ الْمَراغَةِ أنّهُ |
|
من الفقْرِ لاقِيه الهزالُ فقاتِلُهْ |
وقدْ كانَ في الدُّنْيَا مَرادٌ لقَعْبِه |
|
وَفي هَجَرٍ تَمْرٌ ثِقالٌ جَلائِلُهْ |
وكانتْ تَمِيمٌ مُطعميهِ ونابتٌ |
|
بِهمْ ريشُهُ حَتَّى تُوَازَى نَواصِلُهْ |
وقد يبدو غريباً أن جريراً كان يدعي بدوره أنه إنما جاء إلى السوق الحضرية للدفاع عن قبيلته. يفهم ذلك من قوله للراعي النميري في مواجهة شعرية بينهما: »إن أهلك بعثوك مائِراً من هبود، وبئس المائِرُ، وإنما بعثني أهلي لأجلس على قارعة هذا المربد، فلا يسبهم أحد إلا سببته«، وقوله أيضاً لحظة الإنشاد: »أبعثك نسوتك تكسبهن المال بالعراق؟! أما والذي نفس جرير بيده لترجعن إليهن بمير يسوؤهن«([23]).
والواقع هو أن هذا الاضطراب بين الممارسة والادعاء دليل على اضطراب حبل القيم في ذلك العصر، بين قيمة ما زالت تسكن النفوس باعتبارها قيمة حجاجية، وهي الإخلاص للقبيلة، وقيمة جديدة عملية ذات حجية حية ملموسة، وهي الكسب المادي. فالعصر عصر تردد واضطراب بين قيم البداوة والقبيلة وقيم الحضارة والدولة المركزية. ولم يخرج عن هذه الثنائية غير شعراء الخوارج الذين وقف شاعرهم عمران بن حطان على الفرزدق وهو يمدح، فقال له([24]):
أيها المادحُ العبادَ ليُعطَى |
|
إنَّ لله ما بأيْدي العِبَادِ |
فَاسْأَل الله ما طَلَبْتَ إلَيْهمْ |
|
وارجُ فضل المقسِّم العواد |
لا تقلْ في الجوادِ ما ليسَ فيهِ |
|
وتُسمِّي البخيلَ باسم الْجَوادِ |
غير أن الخيار الخارجي لم يستطع أن يبلور مساراً شعرياً قوياً أو مذهباً فكرياً متميزاً، فكان مجرد ترجمة تَقَوِيَّة للبداوة نفسها (بداوة الدين). أما شعراء الشيعة، فقد وجدوا في مبدإ التَّقية وسيلةً للتلاؤم مع إكراهات الدولة الجديدة التي لا تقبل الحياد، فمدحوا رجال الدولة.
البداوة شرط العروبة!
من صور التطرف التي عبر عنها شعر الفرزدق ربط مفهوم العروبة بالممارسة الجاهلية التي حاربها الإسلام مثل عبادة الأوثان، أو التي تغيرت مع الحياة الجديدة مثل الشرب في الجلود، وختان البنات، وركوب الخيل (بدل ركوب السفن)، إلخ، كما جاء في أبياته التالية التي هجا فيها الأزد (قوم المهلب بن أبي صفرة القائد الأموي) فقد رأى في تحولهم من ملاحين، يركبون السفن ويتقلدون الحبال الضخمة (القلوس) إلى فرسان يتقلدون أعنة الخيل ويتلثمون كما يتلثم العرب، منتهى العجب([25]):
ولَمَّا رأيتُ الأزدَ تهفو لحاهُمُ |
|
حَوالَيْ مَزونيٍّ لئيم الْمُركب |
مُقلدةً بعد الْقُنوسِ أعِنَّةً، |
|
عجبتُ، ومن يسمعْ بذلك يعجبِ |
تغُم أنوفاً لم تكن عَربية |
|
لِحَى نبطٍ أفواهُهَا لم تُعرّبِ |
فكيف ولم يأتوا بمكة مَنسِكاً، |
|
ولم يعبدُوا الأوثانَ عندَ الْمُحصَّبِ |
ولم يدعُ داعٍ: يا صباحاً، فيركبوا |
|
إلى الرَّوعِ إلاَّ في السَّفين الْمُضبَّبِ |
وما وجِعتْ أزْديةٌ من خِتانَةٍ، |
|
ولا شَرِبتْ في جِلدِ حَوْبٍ مُعلَّبِ |
وفي هذا السياق النكوصيّ، قارن الفرزدق ضمنياً بين المرأة البدوية الأعرابية والمرأة الحضرية. فالأولى جميلة وطليقة كالغزال، مصونة كدُرَّةِ غوّاص، مشرقة مثل الشمس، تهب عليها الريح من كل جانب؛ والثانية منقبضة كثيرة العَرَق، حسنة المظهر سيئة المخبر كالبطيخة الفاسدة، التي تصدم عند فلقها([26]):
لَعَمْري لأعْرابيَّةٌ في مِظلَّة |
|
تظلّ برَوْقَيْ بيتها الريحُ تخفقُ |
كأُمِّ غزالٍ، أو كدُرةِ غَائصٍ |
|
إذا ما بَدتْ مثلَ الغمامةِ تُشرقُ |
أحبُّ إلينا من ضناك ضِفِنَّةٍ |
|
إذا رُفعتْ عنها المراوحُ تعرقُ |
كبطِّيخَةِ الزَّرَّاعِ يُعجبُ لونُها |
|
صَحيحاً، ويبْدُو داؤُها حينَ تُفْلَقُ |
ولا شك أن صورة المرأة هذه هي خلاصة وجدانه وتصوره للحضارة الجديدة، إنها صورة جاءت من أعماق لاشعوره: شُبِّهتِ الحضارة بالمرأة، ثم شُبهت المرأة بالبطيخة الفاسدة. وهذا الارتباط بين حال المرأة والحضارة ما انفك قائماً في لاشعور الحركات النكوصية.
ويستغل الفرزدق خلافهُ مع معاوية حول "ميراث" أحد أقاربه ليعبّر عن حسرة عميقة على ذهاب الجاهلية([27]):
أبوكَ وعمي، يا مُعاويَ، أوْرَثا |
|
تُراثاً فأوْلَى بالتُّراثِ أقاربهْ |
فما بالُ ميراثِ الحُتاتِ أخذتَه، |
|
وميراثُ حربٍ جامدٌ لك ذائبُهْ |
فلو كان هذا الحكمُ في جاهلية |
|
عرفتَ: من المولى القليلُ حلائِبُهْ؟ |
ولو كان هذا الأمرُ في غير مُلكِكُم |
|
لأدَّيْتَهُ، أو غصَّ بالماء شاربُهْ |
ولو كان إذ كُنَّا وللكَفِّ بَسْطة |
|
لَصمَّمَ عَضْبٌ فيكَ، ماضٍ مضاربُهْ |
الأبيات تضع الإصبع على أحد أسباب النكوص، أعني بذلك شعور الكثيرين من أبناء القبائل (الكبيرة خاصة) بأن ما وقع في العصر الأموي لا يعدو استبدال عصبية بعصبية، وملكٍ بملك. وإذا كان الأمر كذلك، فما المانع من السعي لاسترجاع السيادة الضائعة ولو عن طريق القول والذكرى. لقد تقوَّى هذا الشعور في العصر الأمويِّ ليصل إلى حد التطرف بتقليص مفهوم العروبة في نمط الحياة الوثنية في البيئة البدوية الجاهلية المتقشفة. أما جذوره، فقد بدأت مع الدعوة الإسلامية وأفصحت عن نفسها بقوة في حركة الردة، بعد موت الرسول r حيث نجد شاعراً، مثل الحطيئة، رتب حياته على النمط القبلي الجاهلي. يقول:
أطعْنَا رسُولَ الله ما كَانَ بيْننَا |
|
فيا لَعِبادِ الله، ما بالُ أبي بَكْرِ! |
أيورثُها بكراً إذا ماتَ بعدَهُ، |
|
وتِلكَ، لَعمْرُ اللهِ قاصِمةُ الظَّهْرِ |
هذا، وقد أدى الرجوع إلى القيم العربية والتاريخ العربي باعتبارهما حجتين على السيادة والتقديم إلى استقصاء الشعراء لتاريخ القبائل مستعرضين حروبها، انتصاراتها وهزائم، حسب الموقع الذي يتحدثون منه. فكان أن وجدنا أجزاء من قصائدهم عبارة عن إحصاء للأيام والوقائع وأسماء الرجال ومآثرهم. ولذلك يَعُدُّ الدارسون شعر النقائض وشروحه من أهم مصادر أيام العرب في الجاهلية. من نماذج ذلك قول الفرزدق([28]):
ويوم جعلنا الظلَّ فيه لعامرٍ |
|
مُصمَّمةً تفْأى شُؤونَ الجماجِمِ |
فمنهُنَّ يومٌ للبَريكين، إذ ترى |
|
بنُو عامرٍ أنْ غانمٌ كلُّ سالِمِ |
ومنهنَّ إذْ أرخى طُفيلُ بنُ مالك |
|
على قُرْزُلٍ رِجْلَيْ رَكُوضِ الهزائمِ |
ونحن ضربنا من شُتير بن خالد |
|
على حيثُ تستقيه أمُّ الجماجِمِ |
ويومَ ابن ذي سيدانَ إذْ فوَّزتْ به |
|
إلى الموت أعْجازُ الرِّماحِ الغَواشِمِ |
ونحنُ ضربنا هامة ابنِ خُويلدٍ |
|
يزيدَ على أمِّ الفِراخِ الجواثمِ |
وهي قصيدة طويلة من 150 بيت، خصص القسم الأخير منها للوقائع والأيام في مسرد طويل.
ذبول القيم القبلية: سخرية الفن
قد يختلط الأمر، مرة أخرى، على قارئ شعر النقائض، وهو يلاحظ أن حياة البداوة التي جعلها الفرزدق مظهراً للعروبة والسيادة ومجلبة للفخر، وهو يتهكم من الأزد، قد بدأت منذ هذه المرحلة تتعرض هي الأخرى للازدراء من طرف شعراء النقائض أنفسهم، كقول جرير للراعي النميري([29]):
فيا عجباً أتُوعدُني نميرٌ |
|
براعي الإبْلِ يَحترشُ الضِّبابا |
إذا نهض الكرامُ إلى المعالي |
|
نهضْتَ بعلبة وأثرْتَ نابَا |
وقول الأخطل لجرير([30]):
وأبوكَ ذُو مَحنية وعباءةٍ |
|
قَمِلٌ كأجربَ مُنْتَشٍ مَوْرُودُ |
والأمر قابل للفهم في إطار اضطراب القيم، وتردد النفوس بين نموذج مضى لم ينفصلوا عنه كل الانفصال ونموذج جديد لم يندمجوا فيه كل الاندماج.
والمهم عندنا هو أن تبادل هذه النعوت بين الإيجاب والسلب واستعمالها في كل اتجاه حقيقةً أو ادعاءً ساهم في تمييعها وكسر حدتها المرجعية وتوجيه الاهتمام إلى الصورة التي أخرجت فيها، أي إلى المستوى البلاغي منها. وهذه إحدى الوظائف الخفية للفن: الترويض.
لقد ساهم شعر الفخر والهجاء نفسه - بعد تهييج القيم القبلية البدوية - في ترويضها، وذلك بتحويلها إلى صور بلاغية تَشْغَلُ المستمعين عن مرجعيتها الجارحة. فمن يرجع إلى أخبار شعراء النقائض في كتب الأدب والتاريخ يلاحظ كيف تحولت الأسواق، بل المساجد والمقابر، تدريجياً، إلى مجالس لإنشاد الشعر شبيهة بالمسارح، يجتمع فيها الناس بمختلف انتماءاتهم القبلية للاستماع للشعراء، وهم يحولون القيم القبلية وحياة البداوة إلى صور شعرية تثير الإعجاب وتحقق المتعة، حيث ترد الصور الساخرة المقذعة دون أن يؤدي ذلك إلى امتشاق سيف أو إرسال سهم أو رمح. بل قصارى ما يصدر عن الموتورين من أبناء القبائل استنهاض همم شعرائهم للرد بنفس السلاح، أي بالصورة الشعرية.
نكتفي هنا بإيراد نموذج واحد دال أعطيتْ الغلبة فيه للصورة الشعرية والمشهد المسرحي الذي أخرجت فيه. جاء في "الأغاني":
خرج العجاج متحفلاً عليه جبةُ خَزٍّ وعمامةُ خز على ناقة له قد أجاد رحلها حتى وقف بالمربد والناس مجتمعون، فأنشد قوله:
قد جَبر الدين الإلهُ فَجَبَرْ
فذكر فيه ربيعة وهجاهم. فجاء رجل من بكر بن وائل إلى أبي النجم وهو في بيته، فقال له: أنت جالس وهذا العجاج يهجونا بالمربد قد اجتمع عليه الناس! فقال: صف لي حاله وزيه الذي هو فيه، فوصف له. فقال: ابغني جملاً طحاناً قد أُكْثِرَ عليه الهناء. فجاء بالجمل إليه. فأخذ سراويل له، فجعل إحدى رجليه فيها واتزر بالأخرى، وركب الجمل، ودفع بخطامه إلى من يقوده، فانطلق حتى المربد. فلما دنا من الحجاج قال: اخْلَعْ خِطامَه، فخلعه وأنشد:
تَذكَّرَ القلبُ وجَهلاً ما ذَكَرْ
فجعل الجمل يدنو من الناقة يشمها ويتباعد عنه العجاج لِئلاَّ يُفسد ثيابه ورحله بالقطران، حتى إذا بلغ إلى قوله:
شَيطانُه أنثى وشَيطاني ذَكَرْ
تعلق الناس هذا البيت، وهرب العجاج عنه([31]).
ويهمنا كثيراً استعمال أبي الفرج كلمة "تعلق"، فهي تدل على أن البيت شغل الناس عن باقي المعاني، فهذا هو اللفظ الذي ما زال الناس يستعملونه للتعبير عن نسيان مجمل الكلام: علق منه بذهني كذا.
هكذا عبرت النقائض عن تأجج العصبية القبلية في ظرف سياسي خاص ثم كانت من جملة عناصر ذبولها وتراجعها أمام منطق المدينة والدولة.
وعندما تغيرت المواقع مع ذهاب الهيمنة العربية على شؤون الدولة واحتلال أبناء الأمم الأخرى مواقع القرار (مع مجيء الدولة العباسية)، وجدنا شعراء من أصول غير عربية يستغلون مظاهر الحياة البدوية العربية في التقليل من غلواء العروبية، في ما عرف بشعر الشعوبية، على نحو ما جاء في شعر بشار وأبي نواس. وبذلك تحولت القيمة الحجية لتلك الحياة البدوية من لعبة فنية بين شعراء عرب فرقتهم القبلية في الظاهر إلى حجة على العرب جميعاً، وتوسع مجال السخرية لينال كل التقاليد العربية. ولمَّا كانت المرحلة كانت مرحلة فكر ومذهبية، فقد كان رد الفعل إزاء هذا المنحى كله ما عبر عنه الجاحظ في محاوراته (مثل المحاورة بين الكلب والديك التي سخر فيها من المفاخرات بين العرب والعجم)، وفي تحليلاته العلمية العميقة مثل وضعه حمل العرب للعصا عند الخطابة - وكان محل سخرية من الشعوبية - في إطار سميائي عام.
وعموماً، فإن الجاحظ استطاع أن يصادم الأفكار والآراء والقيم ويعطي كلاًّ منها حظاً للدفاع بما يظهر نسبيتها، وهو في كل ذلك يضمر سخرية رقيقة، تصل إلى حد الالتباس، من الصراع الزائف واليقين الأعمى. وقد أبرزنا هذا البعد الحواري في سخريته في كتابنا "البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول"([32]).
وهذا مجال واسع لإغناء التاريخ الفكري للمراحل الأولى لتكون الدولة العربية الإسلامية، حيث يمكن أن تقدم هذه الوثائق الرمزية غير المباشرة إمكانية لفهم الحركة العميقة للفكر والواقع.
([1]) يقول: »يقولون إن الحس التاريخي هو حسن الفروق. وعلى هذا النحو نكون نحن أمْعَنَ في التاريخ بين المؤرخين. فالفروق التي يلتمسها المؤرخ بين الوقائع العامة نُمْعِن نحن فنلتمسها بين الأفراد«. (»منهج البحث في تاريخ الأدب«، ضمن كتاب: النقد المنهجي عند العرب، دار نهضة مصر، القاهرة، 1969، ص. 408).
([2]) أرسطو، فن الشعر، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت، ص. 26. وقوله: »يروي الأحداث شعراً« يجعل العبارة قلقة، والمقصود »نظماً«. ويفهم سياق هذا الاستعمال بالرجوع إلى الفصل الأول من الكتاب (صص. 5 - 7)، حيث ذكر استعمال الناس لفظ الشعر للدلالة على النظم تجوزاً.
([4]) من هنا الحديث عن انتقال وظيفة الشعر من التثقيف والمعرفة إلى الجمال والمتعة. (الغائبة الذاتية). انظر مقال تودوروف «La notion de littérature »، في كتابه: Les genres du discours, éd. du Seuil, Paris, 1978, pp. 13-26.
([5]) نحيل هنا على بحث مركز عميق لإبش وفوكيما، بعنوان: "نظرية الأدب في القرن العشرين"، ترجمة محمد العمري، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1996. وقد ظهرت طبعة ثانية منه سنة 2004.
([6]) يقول ابن سينا في كتابه "المجموع أو الحكمة العروضية" (دار الكتاب، 1969، ص. 16) في طبيعة المادة الشعرية: »وهذه المقدمات ليس من شرطها أن تكون صادقة ولا كاذبة ولا ذائعة ولا شنعة، بل أن تكون مخيلة«. وقد بسط حازم القول في هذا الموضوع بشكل يفيد المراجعات الحديثة المهتمة باسترجاع البعد الواقعي للشعر. (منهاج البلغاء، تحقيق محمد الحبيب بلخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986، صص. 71 - 86). وفي البحث عن ماهية الأدب ناقش تيري إيجلتون القول بأن الأدب عمل متخيل أو خيالي، ثم قدم أمثلة من إنتاجات متنوعة اعتبرت أدباً دون أن تكون لها صفة الخيالي أو المتخيل، وانتهى إلى القول: »يبدو أن التمييز بين الواقع (fact) والمتخيل (fiction) لن يذهب بنا بعيداً«. (مقدمة Terry Eagelton, Literary Theory. An introduction, Basil Blackwell, Oxford, 1988).
([7]) Danielle Madelénat, in Brunel, La critique littéraire, éd. PUF, 1977, p. 27.، نقلاً عن محمد الوالي في مقال بعنوان: »تاريخ الأدب يظهر«، ضمن ندوة تكريم العلامة الطرابلسي في كلية الآداب، المحمدية.
([8]) انظر عرضاً مطولاً بقلم مصطفى العبادي لكتاب: Theodore S. Hamerow, Reflections in History and Historians, The University of Wisconsin Press, 1987، تعرض فيه للتحولات الكبرى التي عرفها منهاج البحث في التاريخ (مجلة عالم الفكر، يونيو 1989، صص. 253 - 274).
([9]) نذكر كتب التاريخ عشرات من الشعراء الذين شاركوا في النقائض، كما تذكر أسباباً متعددة لانطلاق المناقضة بينهم. (انظر: أبو الفرج الإصفهاني، الأغاني، دار الثقافة، بيروت، ج 8، صص. 14 - 26).
([10]) من الكتب التي ألفت في هذه الظواهر الأدبية: "الشعر السياسي" لأحمد الشايب. وقد اقتفت طريقه كتب عديدة. ولأحمد الشايب، أيضاً، كتاب عن شعر النقائض. وألف إحسان النص كتاباً في علاقة الشعر، خاصة النقائض، بالعصبية القبلية بعنوان: العصبية وأثرها في الشعر الأموي، وكتاباً آخر عن الخطابة الأموية بعنوان: الخطابة في عصرها الذهبي. أما ما ألف في الغزل العذري، فكثير، لا حاجة للإطالة بذكره.
([11]) من مظاهر الاهتمام المبكر بالدلالة السوسيولوجية للشعر الأموي بحث فرانسيسكو كابرييلي: Gabrieli Francesco, «Tribu arabe et Etat musulman: dans la poésie de l’époque omayade », dans le colloque sur La sociologie mèusulmane, Actes: 11-14 sept. 1961, Bruxelles. ومن العناية بالتاريخ السياسي والاجتماعي لبيان أثره في الشعر كتاب: الطاهر لبيب، سوسيولوجيا الغزل العربي، ترجمة مصطفى المسناوي، دار الطليعة، 1987. وإذا ما قابلنا بين بحث كابرييلي والطاهر لبيب، تبين لنا كيف أن البحث عن سوسيولوجية الشعر من خلال العصر والبحث عن سوسيولوجيا العصر من خلال الشعر وجهان متكاملان لعملة واحدة.
([12]) يحتوي ديوان عمر بن أبي ربيعة على 421 قطعة شعرية، في غرض واحد هو الغزل. وبذلك شكل ظاهرة متفردة في الشعر العربي (ديوان عمر بن أبي ربيعة، دار بيروت، 1978).
([13]) الأغاني، المصدر السابق، ج 1، ص. 80. جاء فيه: »ولد عمر بن أبي ربيعة ليلة قَتْل عمر بن الخطاب، رحمة الله عليه«.
([16]) المصدر نفسه، ج 1، صص. 279 - 280. ومن الأخبار الدالة في هذا الصدد ما جاء في الأغاني،
ج 1، صص. 81 - 82، من أن ابن عباس كان جالساً بالمسجد الحرام مع نافع بن الأزرق وناس من الخوارج يسألونه، إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين موردين... فأقبل عليه ابن عباس فقال أنشدنا، فأنشده مطولته المشهورة: »أمن آل نعم«. حتى أتى على آخرها. فعاتبه ابن الأزرق قائلاً: »الله يا ابن عباس! إنا لنصرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنا، ويأتيك غلام مترف في قريش فيُنشدك...«. وهذا »الخبر« غني بالدلالات.
([17]) يتحدث عمر بن أبي ربيعة في أجزاء من قصائده عن الشوق والحرمان بنفس يُقربه من العذريين، ثم ينزاح عنهم بالحديث عن المغامرات الليلية، وتهافت المحبات عليه وبحثهن عنه وخوفهن من صرمه. وقد تركز اهتمام الدارسين على هذا الجانب المفارق.
([18]) لابد من الإشارة إلى أن نسبة هذا الشعر إلى عذرة يرجع، في الأساس، إلى تغليب العنصر الدال على مجموع الظاهرة، وإلا فقد ساهم في هذا الشعر شعراء من مناطق وقبائل أخرى، في أطراف الحجاز ونجْد، كعشاق بني عامر (انظر: أحمد الربيعي، كثير عزة، دار المعارف، صص. 74 - 76). وقد أفاض الطاهر لبيب في كتابه: سوسيولوجيا الغزل العربي (الشعر العذري نموذجاً)، في بيان كيف أغدق بنو أمية العطايا والأموال على أهل الحاضرتين، مكة والمدينة، لشغلهم عن السياسة، وكيف انهار اقتصاد وادي القرى مع مجيء الإسلام نتيجة اختلال اجتماعي في تركيبة الوادي، والحصار المضروب من قبل بني أمية على هذه البوادي نتيجة الصراع مع الخوارج. وهو في ذلك إنما ينظم ويدلل المعطيات الكثيرة التي استعرضها طه حسين في: الفتنة الكبرى.
([19]) انظر »الإسلام والشعر« في: عبد القادر القط، في الشعر الإسلامي والأموي، دار النهضة العربية، بيروت، 1979، صص. 9 - 68.
([21]) النقائض (جمع نقيضة)، وهي قصيدة مبنية في الغالب على وزن وقافية قصيدة سابقة مبادئة، أو منجزة، هي الأخرى، في إطار الرد على قصيدة سابقة عنها. والقصيدتان المتعارضتان بهذا الشكل نقيضتان. ومصدر الاسم سعيُ القصيدة اللاّحقة إلى نقض معاني الأولى بمواجهتها بما يضاد معناها من معاني الفخر والهجاء. فإذا قال الفرزدق:
إن الذي سَمَكَ السماءَ بَنى لنا |
|
بيتاً دَعَائمُه أعزُّ وأطولُ |
رد عليه جرير بقوله:
أخْزَى الذي سَمَكَ السماءَ مُجاشعاً |
|
وبنى بناءَك في الحضيض الأسفلِ |
([22]) ديوان الفرزدق، دار صادر، بيروت، 1966، صص. 108 - 109. وقد استحضر الحمار هنا كناية عن الفقر والدونية في مقابل الفرس الذي يمثل الفروسية والعزة. والمكايلة: المقايضة، كناية عن احتقاره شعره الذي صار مجرد بضاعة تباع، وكان أولى به أن يكون في خدمة القبيلة، كما هو الشأن في الجاهلية.
([27]) المصدر نفسه، ج 1، صص. 52 - 53؛ وانظر الخبر، مع بعض التغيير في الأبيات في: الطبري، ج 5، دار المعارف، ط. 4، 1979، ص. 243.
([31]) الأغاني، المصدر السابق، ج 10، ص. 160. وفي لسان العرب »طحن«: الطحانة والطحون: الإبل إذا كانت رفاقاً ومعها أهلها... أقصر القصار الطحنة. وانظر خبراً مشابهاً حول مهاجاة جرير للراعي في "الأغاني"، (ج 8، ص. 29). ومما جاء فيه: »ثم أصبح (أي جرير) حتى عرف أن الناس قد جلسوا في مجالسهم بالمربد... فأدهن وكف رأسه، وكان حسن الشعر، ثم قال: يا غلام، أسرج لي...«. وقد حسمت المواجهة - كما هو مشهور - بين جرير والراعي ببيت جرير البسيط الساخر:
فغض الطرف إنك من نمير |
|
فلا كعباً بلغت ولا كلابا |
([32]) إفريقيا الشرق،الدار البيضاء، 2004. ومن الخلاصات التي انتهينا إليها هناك أن الجاحظ استطاع، في إطار عصر الكتابة، »تحويل قضايا الصراع الاجتماعي والفكري والسياسي في عصره إلى قضايا أدبية تثير الخيال العام وتحقق المتعة الفنية بدل إثارة العواطف الفئوية وتأجيج الأحقاد... ومن هنا يصبح التفاخر والقدح (في مجال الأكل مثلاً) موضوعاً للنوادر والنكت. ويذكر الصراع بين العرب والعجم بالمفاخرة بين الكلب والديك