السّخرية فنٌ
السّخرية بعيدةٌ عن التهكّم المُبتذل أو الهزل السمج. فهي تعطي للمواضيع الصارمةِ الجادةِ نكهتها الإنسانية, و لا تحرمُها من تهويَّات التلطيف و كأنها تعيد أكبر القضايا الإنسانية إلى بيئتها الأولى..!! حيث لا يُفرض عليها الوقار المشبوه و لا الابتذالُ الفاضح السخيف..!!
و لعل تيّارًا وقورَ التطفّلِ يحب تسمّية الأدب الساخر بـ"الكتابة الساذَجة" و هذا يؤكّد ما ذهبنا إليه.. نعم كم احتفى الغرب بهذا "الفن الساذَج", و علّه ما فعل ذلك إلاَّ لأنه يعيش تُخمةً في إنتاجه الأدبي الهادف الوقور, صاحب الرسائل الفكرية الدسمة, لذلك رأوا أن أقوى و أجمل ما في هذا "الفنِّ الساذج" هو أنّه بلا رسالة في عالم أتعبته الصَّرامة و الجدِّية و القضايا الكبرى..!! و إن كنّا ندرك أنه أدبٌ يودُّ استراحةً لا تقاعدًا, كما تبادر لذهن هؤلاء الذين تتلمذوا بشكل سيِّء و غير نجيب في مدرسة الكتابة..!!
السّخرية صفة يغار منها الوقار, و يقف واجمًا أمام انتصارها في حلبات الشموخ الروحي الواثق..!! السّخرية صهوة ما بعد الفكاهة, تحُطُّ رحالها بعيدًا عن أسواق الميوعة و بعيدًا عن واحات التهريج الكاذبات مهما أمعنت فيها الخضرة و الترحاب..!! السّخرية لا تجتذب الساذَج من العقول و لا المَخصيَّ من العيون حتى و إن تعلّقت بالأهذاب و اكتحلت بالمعدن المتاح, فالسّخرية ُ أكبر من مِنَّة الكُحل..!! السّخرية صرح تتهاوى فيه و به و حوله كل أشكال السذاجة و التحلُّم..!! السّخرية رسالة أدبية مشفّرة, حرفٌ استثنائي تقضي به اللغة وطرها..!! السّخرية ملامحٌ لا تغازل و في ذات الوجدان لا تهادن..!! آسرةٌ لمحاربٍ أتعبه انتظار الانتصارات الحاسمة فارتمى في حضن الهزيمة الباسمة..!! السّخرية قسمات لا تحابي و لا تسالم و لا تستسلم و لا تطاوع حتى و إن طوّقتها كثبان الألم..!! السّخرية كالمِلاحَة إبحار داخل الموج و فوقه, عرفت كل أنواع القراصنة و الربابنة, فما اطمأنت لجرأة هؤلاء و لا رَسَت بفضل حنكة الآخرين..!! كانت دائمًا صعبة المنال, عسيرة الاكتشاف..!! السّخرية أرض خلت من ساكنيها لما استأسد الأدبُ الباردُ و غصَّ الجوار بهراء القذف و أكذوبة الاختلاف..!! نعم السّخرية ليست كل هذا بعينه و لا كل ذاك بأطرافه, و لسنا نجري من أجل القبض عليها, و لكنها برغم كل هذا مطلوبة لجناية ارتكبتها في حقّنا أو ارتكبناها في حقّها و دون أن ندري..!!
أقول هذا لعلمي أن هذه السذاجة المُفترى عليها أصبحت مخرجًا لكل بليد و مطيَّةً لكل صاحب وجدان عقيم, حتى أن أغلب كتابات هذا الفن, و على كثرتها, لا تصلُح و لو لجلب أبسط القرّاء, فكيف إذا تعلّق الأمر باستراحة فكر..!!
و يبقى فن الكتابة الساخرة صاحب الرسائل النبيلة متهكّمًا, مسلّيًا, مقلقًا, مؤلمًا و متألِّمًا.. فاضحًا لتوازنات القبح, كاشفًا لرداءة التجميل السياسي, ساخرًا من مسلّمات التواطؤ الاجتماعي, و ضاحكًا حد أن يفقد بعض صوابه اللّغوي.. فن تراجيدي-ضاحك و بامتياز..!!
لا أنكر أن باعث هذا الكلام عن هذا الجنس الأدبي هو كونه لا يخلو من بعض المدَّعين المُتطفلين و المُغيرين.. لكن النباتات الطفيلية في حقول الإبداع لا تحتاج إلى مبيدات, لأنها تُخلق ميِّتةً, و هي أشد موتًا إذا تعلّق الأمر بفنٍّ يستمدُّ نجاحه و خلوده من رهافةِ و جرأةِ صدقه..!! و إن كنتُ أستغرب أن هذا الفن في بلداننا ظلَّ محتشمًا بمبدعيه القلائل, برغم أن أوضاعنا "الكاريكاتيرية" المهترئة تمنح هذا الفن أرضيةً خصبةً و مجالاً ضخمًا للإبداع و العطاء..!!
و