الشيخ علي الطنطاوي

الشيخ علي الطنطاوي كما عرفته
المصدر: مجلة الأدب الإسلامي - المجلد التاسع العددان الرابع والثلاثون والخامس والثلاثون 1423هـ - 2002م ص4.
مقالات متعلقة
تاريخ الإضافة: 21/11/2007 ميلادي - 12/11/1428 هجري
زيارة: 8559




كانت أول معرفتي به في مسجد الجامعة السورية، التي سميت بعد ذلك بجامعة دمشق بعد أن كثرت الجامعات في سورية. ومع أن أول حديث سمعته منه قد مضى عليه نحو من نصف قرن، فإني مازلت أتمثله، وأتمثل فيه شخصية الطنطاوي التي لم تتغير في خاطري: شخصية الأديب المطبوع، الذي يجمع بين بلاغة الكلام وخفه الروح، وشخصية الداعية الذي يطرق موضوعه بصراحة واضحة، وجرأة نادرة مما جر عليه غضب المسؤولين في كثير من المواقف، ولكنه أكسبه محبة وشعبية ومصداقية لدى معظم الناس؛ خاصتهم وعامتهم ومثقفيهم وأمييهم، لا نستثنى من ذلك إلا أدعياء التحرر الزائف ودعاة التغريب.
أيام لا تنسى:
وكانت مجالسة الشيخ في تلك السهرة لا تمل، فهو قطب السهرة، وهو ينتقل في حديثه - على طريقة الجاحظ - من موضوع إلى خبر إلى شعر، ويتخلل ذلك نوادره التي منها ما يحفظه، ومنها ما يكون مما حدث معه في حياته المديدة، سواء في سلك القضاء، أم في سلك التعليم، أم في مخالطته للناس خارج إطار الوظيفة التي تحدث في ذكرياته عن كثير من نوادره الواقعية في أثنائها.
ومع أن سهرتنا مع الشيخ كانت في منزل صديق عزب فإنها كانت تتخذ أحياناً صورة تسمى بالدور، وهنا أذكر من طرائف الشيخ التي كانت بديهته تدفعه إليها، فتولد في لحظة سريعة أن دور السهرة كان في منزلي، وكان أن جلسنا على السطح، وقد صفا الجو، وطابت نسمات الصبا في ليالي الرياض، ولما فرغ الضيوف مما يقدم عادة في مثل تلك السهرة ناديت الخادمة التي كانت تعمل في منزلي، وكانت تسمى غزالة، ولما سمعني الشيخ أردد قولي: يا غزالة تعالي خذي السفرة، إذا به يقول: أي غزالة تلك التي تناديها، والله ما يحمل هذه السفرة إلا حمار، فكيف تحملها غزالة؟! وضحك الضيوف الكرام حين رأوني لا أمد يدي لحمل السفرة التي لا يحملها في رأي الشيخ إلا حمار.
وكان الشيخ على سجيته في تلك السهرة لا يتكلف، ولا يتورع أن يكون مثل شبيهه الجاحظ فيورد من النوادر ما يخطر على باله دون تحرج، وكان معنا صديق يميل إلى الرّصانة والشدة، فقال له: يا شيخ على: إنه لا يليق أن تذكر من النوادر ما لا يليق بمقامك. واستجاب الشيخ فوراً وقال له: أرجو أن تكون أميراً على. حتى إذا رأيتني أقول ما لا تراه لائقاً نبهتني فارعويت. وقبِل الزميل هذه الإمارة على الشيخ، فما مضت برهة من الوقت حتى خطرت على ذهن الطنطاوي إحدى تلك النوادر التي لا تعجب الزميل المتشدد، فقال الطنطاوي: بالإذن من الأمير سأقول هذه النادرة، ثم تكرر ذلك الاستئذان في تلك السهرة مرات ومرات، وعندئذ قال الزميل: اشهدوا أني استقلت من هذه الإمارة التي (تبهدلتُ) بها.
ومما لم يذكره شيخنا الطنطاوي في ذكرياته عن الرياض أنه لم يكن يصبر على مادة واحدة، وكان يجرب تدريس المادة أسبوعاً أو أسبوعين ثم يقول: "هذه المادة ما صلحت لي وما صلحت لها". ولما أعيا الأمر عرض على عميد الكليتين - كلية الشريعة وكلية اللغة العربية - أن يلقي محاضرة أسبوعية عامة، يدعى إليها الناس مساء، وكانت المحاضرة العامة نادرة أو قليلة في الرياض آنذاك، وقبلت إدارة الكليات والمعاهد اقتراح الشيخ، وتهافت الناس على محاضراته التي كانت فريدة في جمعها بين العلم والتوجيه، مع ما يملك الطنطاوي من سر الجاذبية في أحاديثه الخاصة والعامة، وفي مشهد الناس أو في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية.
ولكن ما هي إلا أن جاء الأسبوع الأخير من شعبان، ونحن في منتصف العام الدراسي، وإذا بالشيخ الطنطاوي يفجأ الناس بعد أن انتهى من محاضرته قائلاً: "إن هذه المحاضرة هي آخر محاضراته؛ لأنه ولأن الناس سوف يستثقلون الحضور في ليالي رمضان".
فيض الذكريات:
ولما أردت أن أكتب عن الشيخ الطنطاوي كما عرفته، بدأت بالرجوع إلى "ذكريات الطنطاوي" التي صدرت في ثمانية أجزاء كاملة وكان هدفي أن أطلع على ما كتبه عن العام الدراسي الذي نعمنا فيه بزمالته في الكليات والمعاهد العلمية. وكنت قد اطلعت على الذكريات اطلاع العجلان، ولم أتجاوز قراءة الجزء الأول منها، وها أنا ذا أراني أقلب في فهارس الكتاب، وأغرق في قراءة كثير من حلقاتها حتى شغلت بها نحواً من يومين أو أكثر، وقد نقلتني هذه الذكريات إلى بلدي الحبيب، وإلى دمشق بخاصة، حيث يصف الأديب الكبير دمشق؛ دورها وأحياءها، وبساتينها وغوطتها وكتاتيبها ومدارسها وجامعتها الناشئة، كما صور أفراحها ومآسيها والأحداث والوقائع التي شهدها أو أسهم فيها.
نعم لقد تحدث الطنطاوي عما مر بسورية في أيام الاتحاديين العنصريين، وفي زمن الفرنسيين المستعمرين، ثم تحدث عن الجلاء والاستقلال، وتحدث عن الوَحدة والانفصال، وكان لفلسطين في غمار تناوله للحياة السياسية النصب الأوفى.
وتحدث في الحياة الاجتماعية عن مجالس الخاصة وسهرات الناس، وعن الأعراس والمآتم، وعن قضية السفور والحجاب، وندب نفسه مدافعاً عن الفضيلة، وبخاصة في رسائل الإصلاح التي نشرها.
وكان مما قاله عن الحياة الأدبية في سورية: "والحياة الأدبية في الشام أحوج ما تكون إلى المداواة والعلاج، إن كان في الشام حياة أدبية لها وجود، ولها آثار يستطيع الناقد أن يصفها ويتحدث عنها. وأنا أشك في وجود هذه الحياة، فلا أستطيع أن أجزم بوجودها لأني لا أرى أي عَلاقة من علاقات الحياة في أدباء دمشق وأدبها، ولا أستطيع أن أنفيها؛ لأن في دمشق أدباء كباراً معروفين، ولأن دمشق - كما يعرفها الناس جميعاً - عاصمة من عواصم البيان العربي. وإنما أقول: إن أدباء دمشق في منزلة بين الموت الكامل، والحياة الصحية، هي كالسبات العميق، والنوم الطويل، وإلا فما يصنع كتاب دمشق وشعراؤها؟! وأين هي منتجاتهم الأدبية؟! وهل يكفي شاعراً أن يقول كل سنتين قصيدة واحدة، تضطره إليها المناسبات اضطراراً، ثم لا يكون في القصيدة أثر من نفسه، ولا تصف شيئاً من عواطفه؟!
وهل يكفي الكاتب أن ينشر كل عام مقالة تطلب منه، أو مقدمة كتاب يسأل كتابتها؟! بل هل يستطيع أن يملك لسانه الشاعر، فلا يقول شيئاً، وهو يرى كل يوم ما ينطق الصخر بالشعر، من مصائب الأمة ونكباتها، بل من همومه هو ومتاعبه، وما يشاهده في حياته في بيته، وحياته في عمله؟![2].
موقف من الأدب:
وها هو ذا يقول في معرِض حديثه عن زيارته لوالد الشاعرة نازك الملائكة: "وقد نشرت أول العهد بها في الرسالة شعراً نفيساً، أثار إعجابنا وتقديرنا، لا هذا الشعر الذي سمَّوه حراً، أو شعر الحداثة، فهل يبقى الحدث حدثاً أم يشب ويعقل. وسمَّوه حراً، ومن الحرية ما هو فوضى. فإن رأيت الجند يمشون صفاً واحداً مرتباً منظوماً نظم اللآلئ في العِقد. فخرج واحد منهم على الصف وعلى نظامه، فمشى على غير مِشيتهم، وبسرعة غير سرعتهم. أليس هو ما يسمونه بشعر التفعيلة؟! شعر تفعيلاته صحيحة الوزن، ولكن لا ارتباط بين أبياته ولا تناسق بينها. وإن الشعر الحق هو الذي يثير الشجون، ويحرك العواطف، مع اتساقه في الآذان ومحافظته على الإيقاع.
إن علينا أن نقول الحق ولو على أنفسنا، والحق أن معاني الشعر الغربي - الفرنسي أو الإنجليزي - أوسع مدى وأكثر عمقاً، وأن ميزة شعرنا في النظم، في الموسيقى الشعرية، تلك هي الميزة التي يحاول هؤلاء أن يحرمونا منها"[4].
وقال في معرض حديثه عن كتب المطالعة: "جنبوا كتب المطالعة هذا الأدب الذي تسمونه يوماً بأدب الحداثة، ويوماً بالشعر المنثور، ويوماً بالنثر المشعور - كما قال المازني رحمه الله مازحاً ساخراً لما سألوه عنه - ويوماً بقصيدة النثر، وكل ذلك من مظاهر العجز عن نظم الشعر البليغ، كالثعلب لما لم يصل إلى عنقود العنب، قال: إنه حامض. واختاروا لهم مما يقوي ملكتهم العربية؛ لأن العربية والإسلام لا يكادان يفترقان.
لقد حاقت بالعربية نكبات، واعترضت طريقها عقبات، ونزلت عليها من نوازل الدهر المعضلات، ولكن ما مر بها يوم هو أشد عليها وأنكى أثراً فيها من هذا الأدب المزوَّر الذي سميتموه بأدب الحداثة. إنه ليس انتقالاً من مذهب في الشعر إلى مذهب، ولا من أسلوب إلى أسلوب، ولكنه لون من ألوان الكيد للإسلام. بدأ به أعداؤه لما عجزوا عن مس القرآن؛ لأن الله الذي أنزله هو الذي تعهد بحفظه، فداروا علينا دورة، وجاؤونا من ورائنا.
مفهومه للأدب الإسلامي:
عاشق مكة:
وقد أشرت في مطلع هذا المقال إلى بعض ذكرياته في السنة الأولى التي قدم فيها إلى المملكة سنة 1383هـ/ 1963م، وقد خصص معظم الجزء الثامن من ذكرياته للحديث عن ذكريات إقامته في المملكة، وكان من أجمل ما استهل به ذكرياته عن مكة قوله: "أريد أن أكتب عن المملكة، عن مكة، عن العاصمة الروحية لها ولبلاد المسلمين كلها، وأنا حين أهم بالكتابة عن بلد لا أصف طبيعة أرضه، ولا تحديد مساحته وحاصلاته، ولكن أحاول أن أصف مدى شعوري به، ومبلغ ما له في نفسي.
وهل أستطيع أن أصور المشاعر والعواطف التي ينطوي عليها قلبي لمكة أمِّ القرى، وقبلة المسلمين، ومبعث النور، وأحب البلاد إلي بعد بلدي؟! لا، بل قبل بلدي، فهي بلدي الأول، وبلد كل مسلم، ما يسرني أن يسلم بلدي بأذاها، بل إني أدفع عنها الأذى ببلدي وداري وأهلي؛ لأنها إن سلمت فكل شيء سالم، وإن أصابها شيء لم يسلم لنا بعدها شيء؛ لأنها تكاد تكون لنا كل شيء.
ومع أن ذكريات الشيخ الطنطاوي عن المملكة تختلط أحياناً على طريقة الاستطراد بذكرياته السورية فإننا نجد في عناوين ذكرياته عن المملكة ما يلي: (كيف جئت إلى المملكة)، (الدراسات العليا في المملكة)، (الفقيدان الوزير والمدير) - وهما معالي الشيخ حسن آل الشيخ وزير المعارف، والشيخ عبد الرحمن بن صالح التونسي مدير مدارس الثغر - (تعليق على التلبية في الحج)، (في كلية التربية).
موقف شجاع:
ذلك أن خصلة الشجاعة والجرأة لم تفارق الطنطاوي في حياته كلها، وكانت هذه الشجاعة أجلى ما تكون أمام الحكام، حينما يرى جَوراً في الحكم، أو انحرافاً عن جادة الدين والخلق، ومواقفه في ذلك مشهودة ومشهورة أمام أديب الشيشكلي - الحاكم العسكري في سورية - وأمام الحسيني - قائد الشرطة فيها - وأمام السراج - رئيس المخابرات في أيام الوَحدة بين سورية ومصر - وأمام كمال الدين حسين - عضو قيادة الثورة ووزير المعارف في أيام الوحدة - ولنستمع إلى قوله في مقابلته له مع وفد من العلماء: "نحن ما جئنا من أجل الرواتب، ولكن جئنا مدافعين عن الدين وعن الأخلاق، ومطالبين بالإصلاح. هل تعلم سيادتكم أننا لسنا هنا أحراراً، كل واحد منا مراقب، يبعث إليه من يحصي عليه حركاته وسكناته، فكيف نعيش مطمئنين آمنين ألا تصيبنا جائحة؟! حتى أنت، إنَّ معك اثنين يراقبانك، ويرفعان عنك تقريراً بكل ما تقول أو تفعل، وهذا التقرير لا يرفع إلى سيادة الرئيس، بل إلى رب الرئيس ورب العالمين، يعلن على رؤوس الأشهاد يوم المعاد، يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولا وزارة ولا رياسة، فأرجو ألا تهيئ جواباً يرضينا الآن، بل تُعِد الجواب لرب العالمين يوم الحساب"[8].
مواقف طريفة:
وهنالك تبخرت حماسة هذا الرجل، وضاعت جرأته، وهربت شجاعته، وجعل يقول: أرجوك، أرجوك يا سيدي. أُقبِّل يدك. سامحني، لا توقعني معه في ورطة، وأنا ساكت لا أقول شيئاً، حتى وصل العسكري، وصار لون وجه الرجل بلون قشرة الليمون، فقلت للعسكري: يبدو عليك أنك رجل خير، ومن يعمل خيراً يكافئه الله. فاذهب وحاول أن تصلح بينهما، أو الحقنا إلى المحكمة؛ لعلك توفق بإقناع قريبتك وزوجها لإزالة الخلاف بينهما، ولحقنا وتم الصلح بينهما. أما الرجل فما صدق أنه خلص من هذه الورطة، وأحسب أنه لم يعد إلى هذه العنترية الفارغة. والعوام عندنا في الشام يقولون: إن من يهدد لا يفعل، والذي يفعل حقيقة لا يهدد"[9].
درس في التواضع:
قوة في الحق:
قصة الاستسقاء:
ودعا العلماء أهل دمشق إلى صلاة الاستسقاء في سفح جبل قاسيون. وقال الشيخ يصف ذلك بقوله: "غص السفح كله بالناس كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء، وصلينا صلاة الاستسقاء، ثم قمت بعدها، فخطبت خطبة لم أتعمد فيها بلاغة اللفظ، ولم أنظر فيها إلى عمق التأثير، ولم أطلب إعجاب الناس، بل لقد حاولت بمقدار ما استطعت أن أنساهم، وأن أوجه قلبي كله لله، ثم تكلم السيد مكي الكتاني - رحمه الله - فكان كلامه أعظم من كلامي؛ لأنه كان من أرباب القلوب، وإن لم يكن من كبار العلماء. فبلغ كلامه من نفوس الناس ما لم يبلغ كلامي، وسيطرت على الجميع عاطفة إيمانية عجيبة، ليست من صنعي ولا من صنعه، ولم تكن لخطبته ولا لخطبتي، ولكنها نفحة من نفحات الله، فلم تكن تسمع إلا دعاء مختلطاً بنشيج، وبكاء يخالطه دعاء.
دعوة بظهر الغيب:
قلت لكم: إني أفكر في الموت، وأعرف أني على عتباته، إنه يمكن أن أعيش عشرين سنة أخرى كما عاش بعض مشايخي، وكما يعيش اليوم ناس من معارفي، ولكن هل ينجيني ذلك من الموت؟! فما الذي أعددته للقاء ربي؟! اللهم إني ما أعددت إلا توحيداً خالصاً خالياً من الشرك، وإني ما عبدت غيرك، ولا وجهت شيئاً مما يُعَد عبادة إلى سواك، وإني أرجو مغفرتك، وأخشى عواقب ذنبي. فاللهم ارحمني واغفر لي"[12].
ويقول في مناجاة أخرى لله يختمها بطلب الدعاء من القراء: "يا رب أيقظ قلوبنا، لنتوب فتغفر لنا، فإني امرؤ قسا قلبه، حتى لتمر به المواعظ فلا يتعظ، ويمر هو بالعبر فلا يعتبر، وقد صرت على أبواب القبر، قد جاوزت الثمانين، فيا ربي متى يستقيظ ضميري، وينتبه إيماني، فأعود إليك ولا مفر من العودة إليك؟!
اللهم ارحم شيخنا وأديبنا الطنطاوي كفاء ما قدم للإسلام ولأمه الإسلام.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/1534/#ixzz3bk5cfZCX