الصورة الشعرية لدى
تتضمن الصورة الشعرية لدى الماغوط العديد من الانزياحات الدلالية المدهشة والمبتكرة، وإن هذا الأسلوب الفني «الانزياح الدلالي» يشكل مع غرائبية الصورة السمة الغنية الأبرز في مجمل شعر الماغوط، وفي مجال هذه الظاهرة الأسلوبية الفنية «الانزياح الدلالي» يمكن القول دونما تردد أن شاعرنا الماغوط هو الشاعر العربي الابرز الذي استخدم هذه التقنية، وذلك على صعيدي الكم والنوع على حد سواء.
أي أننا اذا وضعنا الماغوط كـ« ظاهرة شعرية» ملفتة ضمن سياقها التاريخي الشعري العربي نجد لدى اجراء أيةمقارنة بنيه وبين مجايليه من الشعراء العرب المعروفين أمثال: السياب والبياتي ونزار قباني وغيرهم فيما يتعلق باستخدام هذه الظاهرة الأسلوبية « الانزياح الدلالي انه كان الابرز بينهم في هذا المجال. بل إنه أثر في أسلوبه الفني هذا على عشرات الشعراء العرب من الأجيال الشعرية اللاحقة.وقبل الخوض في الامثلة التطبيقية يجدر بنا أن نقف قليلاً عند هذه الظاهرة الأسلوبية الفنية: مفهومها، وأهميتها.
يقول عنها الناقد محمد عزام:«... ولعل من أبرز ظواهر اختراق الشعر للمألوف ظاهرة الانزياح وهي انحراف الشعر عن قواعد قانون الكلام، او اختراق ضوابط المعيار، او المقياس وهي ظاهرة أسلوبية تظهر عبقرية ، حين تسمح بالابتعاد عن الاستعمال المألوف، فتوقع في نظام اللغة اضطرابًا، يصبح هو نفسه انتظاماً جديداً، ذلك ان «الانزياح» اذا كان خطأ في الاصل، فإنه خطأ يمكن اصلاحه بتأويله:« فعندما يحطم الشعر اللغة العادية للوهلة الاولى، فإنه يعيد بناءها بعد ذلك ، حسب جان كوهن ، على مستوى أعلى..(1).
أما الناقد صلاح فضل فيقول عن مفهوم الانحراف« الانزياح» :«... وفكرة الانحرافdefleection» يعتبر خرقاً منظماً لشفرة اللغة يعتبر في حقيقة الأمر الوجه المعكوس لعملية اساسية اخرى، إذ ان الشعر لايدمر اللعة العادية إلا لكي يعيد بناءها على مستوى اعلى فعقب فك البنية الذي يقوم به الشكل البلاغي، تحدث عملية إعادة بنية اخرى في نظام جديد(2).
ويقول فضل في موضع آخر:« إن مصطلح» الانحراف» يعني ان شعرية اللغة تقتضي خروجها السافر على العرف النثري المعتاد وكسر قواعد الاداء المألوفةلابتداع وسائلها الخاصة في التعبير عمالايستطيع النثر تحقيقه ومن قيم جمالية...(3)
ومما له دلالة بالغة على أهمية« الانزياح» أن بعض النقاد الغربيين جعله معياراً للشعرية لنقرأ هذه الآراء المهمة: «..ومعيار الشعرية اونموذجها مختلف زمنياً ومكانياً، فهو عند ارسطو المحاكاة، وهو عند كوهين الانزياح، وعند جاكبسون التماثل، وعند جيرار جينيث وجوليا كريستيفا التناص، وعند بارت وإيكو النص المفتوح..(4)
استخدم الماغوط هذه الظاهرة الاسلوبية بغزارة وبشكل ملفت للنظر حتى أصبحت واحدة من أهم السمات الفنية التي تسم صورته الشعرية، وعموم تجربته الشعرية كما اسلفت فهاهو يقول في قصيدته:« حزن في ضوء القمر»: «أيتها العشيقة المتغضنة/ ذات الجسد المغطى بالسعال والجواهر»(5)
الانزياح الدلالي يمكن في قوله: المغطى بالسعال والجواهر فالمعنى الطبيعي والمتوقع الذي يحيل اليه السياق الشعري هو ان جسد العشيقة مغطى بالسعال والحمى مثلاً، او الوهن، او الالم او اية مفردة تحيل الى المرض، اما ان يأتي الشاعر بمفردة اخرى مناقضة كليا لمفردة« السعال» وهي« الجواهر» وماترمز اليه هذه المفردة من البريق واللمعان والاشعاع.. الخ، فان هذا هو الشيء المباغت، والخارج عن المألوف والبعيد عن التوقع ما ادى الى اثارة الدهشة والمتعة الفنية في نفس المتلقي عن طريق هذا الانزياح الدلالي المبتكر واليانع، وقوله في هذه الصورة الاستعارية من قصيدته:
« جنازة النشر»: « أيها الحزن... ياسيفي الطويل المجعد/ الرصيف الحامل طفله الاشقر/ يسأل عن وردة او أسير/ عن سفينة وغيمة من الوطن../ والكلمات الحرة تكتسحني كالطاعون / لاامرأة لي ولاعقيدة / لامقهى ولا شتاء/ ضمني بقوة يا لبنان/ أحبك أكثر من التبغ والحدائق/ أكثر من جندي عاري الفخذين/ يشعل لفافته بين الانقاض..»(6)
الانزياح الدلالي في هذا المقطع الشعري يكمن في قوله: «يسأل عن وردة او أسير» فالمتوقع او الطبيعي والمألوف الذي ينسجم مع السياق الشعري ان يقول الشاعرمثلاً:« يسأل عن وردة او غصن او بحر.. الخ ،فالوردة هي رمز الحب والعطر والفرح والحلم وكان من المتوقع ان يستخدم الشاعر مفردة ذات طابع حلمي جميل قريب من عالم الوردة وماتوحي به من دلالات ومعاني، الا أنه استخدم مفردة مناقضة لعالم الوردة وطابعها الحلمي ( الاسير) حيث توحي هذه الاخيرة بالاضطهاد والمعاناة والألم وهو استخدام مفاجئ ومباغت للتوقع وخارج عن المألوف.
ان هذا الانزياح الدلالي يمنح افقاً للتأويل، وتعود القراءة، وذلك باعتبار المتلقي يساهم في صياغة النص وانتاجه من جديد، كمايؤكد رولان بارت:« ذلك ان القارئ، حسب بارت، ليس مستهلكاً للنص فحسب، بل هو منتج له ايضاً، وهومجموعة من النصوص الاخرى الذاتية والموضوعية»(7).
الصورة الكلية في المقطع الشعري المذكور، إضافة الى المناخ الشعري العالم لهذا المقطع، توحي بالعديد من الدلالات والمعاني: الحزن، الاغتراب، الفقدان ، الحنين الى الوطن، اما الصورة الجزئية مدار حديثنا« الرصيف الحامل طفله الاشقر/ يسأل عن وردة أو أسير » فهي صورة استعارية حيث شبه الشاعر الرصيف بإنسان يحمل طفله ثم حذف المشبه به، الانسان ويمكن قراءتها تأويلية متعددة، فرمز«الرصيف » يشير الى هامش الاشياء والظواهر، وهو هنا ملاذ الناس الهامشيين الفقراء،وكأن الرصيف هنا يبحث عن« الاسير باعتباره انساناً هامشياً مضطهداً لكي يمنحه الملاذ الآمن، ولكي يحتويه.
هذه احدى القراءات المحتملة، وثمة قراءة اخرى ممكنة وهي ان هذا« الرصيف» اي الانسان المهمش الذي حمل طفله الاشقر يعاني من الوحدة والاغتراب وحالة الفقدان فهو يبحث عن« وردة أو أسير» أو أي شيء آخر لكي ينقذه من حالة العزلة ووطأة الفقدان وينقله إلى حالة الامتلاء والمشاركة. والتفاعل الحي.
إن حالة الفقدان تدفع الانسان المهمش والمغترب الى البحث عن أية وسيلة للخلاص.. عن شريك حميم، حتى ولو كان « أسيراً» ومماهو واضح هنا حالة الشبه التي تجمع بين الانسان المهمش« الرصيف» وبين الاسير باعتباره طاقة مهمشة ايضاً، بل ومكبلة ومعدومة الفاعلية.
وأُغلب هنا ان هذه هي الدلالة النفسية الغائرة في أعماق لاوعي الشاعر الذي تعاني ذاته من التشظي والاغتراب التي استدعت حالة« الاسر» وماتشير اليه من دلالات نفسية وشعورية ومعنوية، والغريب هنا أن الشاعر لايبحث عن الشريك، او المنقذ بوصفه انساناًحراً وفعالاً وقادراً على تبديد عزلته، بل يبحث عن إنسان من نفس طينته، أو من نفس نسيجه الروحي، عن ذات مأسورة، مكبلة تعاني من قهر الشرط الموضوعي كما هي حالة الشاعر، او الانسان المهمش« الرصيف» ولعلها حالة نفسية تدل على اعتداء الشاعر المهمش بذاته ورفضه للاستنجاد بالأقوى منه، وهكذا تتعدد إمكانية القراءة السيميو لوجية، والتي تختلف من شخص الى آخر، وهذا دليل على خصب، وغنى النص المفقود.
سنكتفي بالمثالين التطبيقيين الآنفين اللذين يدلان دلالة واضحة على أن صور الماغوط تضمنت العديد من الانزياحات الدلالية المشرقة والمبتكرة، مما شكل سمة فنية وأسلوبية بارزة في تجربته الشعرية الرائدة التي تركت بصمة متميزة، وعلامة فارقة، في الحداثة الشعرية العربية برمتها، والتي أثرت على العديد من الأجيال الشعرية المختلفة منذ الستينات وحتى وقتنا الحاضر.
الهوامش:
1 محمد عزّام/ النقد والدلالة... نحو تحليل سيميائي للأدب /ص 139 دمشق/ وزارة الثقافة السورية/1996/.
2 علاء الدين رمضان السيد/ ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث /ص142/ اتحاد الكتاب العرب في سورية/ 1996/.
3 المصدر السابق /ص141/.
4 الدكتور خليل الموسى/ مجلة المعرفة/ النص الشعري ومستويات القراءة / العدد 428/ أيار مايو/ 1999/.
5 أعمال محمد الماغوط /ص12/ دار المدى/ الطبعة الاولى /1998/ دمشق/.
6 المصور السابق/ص16/.
7 محمد عزّام/ النقد والدلالة نحو تحليل سيميائي للأدب/ ص143/ وزارة الثقافة السورية/ دمشق/ 1996/.