2- قضيـة الالهـام الفنـى
الطبـع والصنعـة
من القضايا النقدية التى طال الحديث عنها قديما وحديثاً ففى عهد سيطرة
الأساطير كانت هناك اعتقادات تذهب إلى أن الموهبة الشعرية تمنحها قوة خارجية، تلهم
الشاعر أو توحى لـه بما يقول. فذكر اليونان أن هناك تسع
" ربات " أو ـ تزيد ـ وظيفتهن التسلط على الشعراء، والاستحواذ عليهم،
وقلما كان شاعر يبدأ قصيدته دون استدعاء لربة الشعر فأول بيت فى إلياذة هوميروس
يقول:
" تغَّنْى أيتها الربة غضب أخيل " ([1])
وكل واحدة تختص بنوع معين من الشعر، أو كما أشار " سقراط " لكل
شاعر " ربة " هو معلق بها أو مأخوذ بها فهو ينتظر بثها، فإذا بثته كانت
مقدرته ربانية، وغير ذلك لا تخرج مقدرته عن حدود مقدرة الإنسان العادى، فكانت
إحداهن لإلهام الشعر الملحمى البطولى، وثانية للتاريخ، وثالثة لشعر الغزل، ورابعة
للتراجيديا، وخامسة للرقص الدينى، وسادسة للعزف على القيثارة، ورب هؤلاء الأرباب
هو "أبولو ": رب الشعر والفن الأعظم وقد تناول أفلاطون قضية الإلهام فى
بعض حواراته، وخصص لها حوار إيون (Ion) وهو حوار قصير، يتجلى فيه الاعتقاد بأن الشاعر، ملحميا كان أو
غنائياً، متصل بقوة سماوية " إلهية " تلهمه ما يقول.
وعند الرومان استقر هذا الرأى أيضاً، واكتسب الشعراء منه لقب الربوبية وشرفها،
حتى إنهم أطلقوا على الشاعر والنبى كليهما لفظة واحدة هى " فاتيس ـ Wates) على الرغم مما بينهما من بون فى تقدير المتدينين وغيرهم اليوم.
وقد اعتقد العرب قبل الإسلام بأن الشاعر متصل بشيطان خاص به يلهمه الشعر،
ويروون فى هذا قول الراجز:
*
إنى وإن كنت صغير السن *
* وكان فىالعين نبوِّعنى *
* فإن شيطانى أمير الجن *
* يذهب بى فى الشعر كل فن *
|
وقول أبى النجم:
*
تذكر القلب وجهلا ما ذكر *
* أنى ! وكل شاعر من البشر *
* شيطانه أنثى وشيطانى ذكر *
|
وحين يقول حسان بن ثابت:
وَلي
صاحِبٌ مِن بَني الشَيصَبانِ
|
|
فَطَوراً
أَقولُ وَطَوراً هُوَه
|
فإنه يقرر ثلاثة أمور:
أولهما:- أن لـه صاحباً غير إنسى، وثانيهما
أن هذا الصاحب ينتسب إلى الشيصبان، وهواسم للشيطان " وبنو الشيصبان إما أن
يكونوا أبناء جنى يعرف بهذا الاسم أو يكون اسم قبيلة من قبائل الجن " ؛
ثالثهما أن حسان وشيطانه يتناوبان القول فتارة يقول حسان وتارة يقول شيطانه، وهذا
إذا أخذ على وجهه الظاهرى يعنى أن الشيطان يرفد صاحبه أو يستقل بقصيدة ويستقل
الشاعر بأخرى ولا يتولى الالهام كله.
وزاد ادعاؤهم لذلك حتى سموا شياطين الشعراء
بأسماء يعرفونها ومنها:
ـ لافظ شيطان امرىء القيس
ـ هبيد شيطان عبيد
بن الأبرص
ـ هاذر شيطان النابغة الذبيانـى
ـ مسجل شيطان الأعشى
ـ واغم شيطان الكميت
ـ سنقناق شيطان بشار بن برد
ولما جاء الإسلام حارب هذه الأوهام، وأمر
المسلم أن يستمد عونه من الله وحده، ولكن خرافة شيطان الشاعر بقيت ماثلة عند
النقاد العرب، وإن كانوا قد أبدلوا من الشيطان " الملك ". فلما أدرك
حسان الإسلام وتبدل الشيطان ملكا، قيل تراجع شعره، ورك قوله أى (رق وضعف)، فعلم أن
الشيطان كان أصلح للشعر، وأليق به، وأذهب فى طريقه من الملك.
وبظهور مجموعة من الشعر الجاهليين وبعض
المخضرمين بالغوا فى تجويد شعرهم وتجويده وتنقيحه، وعرفوا لدى النقاد باسم "
عبيد الشعر " أضعف لدى العرب إبراز دور الإلهام، ومن ثم أضعف لديهم الحاجة
إلى الاتكاء على قوة " الخيال "، قال الأصمعى: زهير بن أبى سلمى
والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر . وهذا يعنى التجويد وإعادة النظر فى كل بيت حتى
تكون أبيات القصيدة كلها مستوية فى الجودة، أى أن الشعر استعبدهم واستفرغ مجهودهم
حتى أدخلهم فى باب التكلف وأصحاب الصنعة ولولا ذلك لذهبوا مذهب المطبوعين الذين
تأتيهم المعانى سهوا ورهوا وتنثال عليهم الألفاظ انثيالاً.
يقول الحطيئة: خير الشعر الحولى المحكك.
ومعنى كلمة الحولى أن القصيدة الطويلة كان
صاحبها ينفق الوقت الطويل (كأنه الحول) ينقحها ويردد النظر فيها والمحكك المثقف.
ويبدو أننا إزاء موقفين متعارضين: القول
بالإلهام والقول بالتجويد. بمعنى أن الشعراء أنفسهم انقسموا إلى مطبوعين وأصحاب
صنعة.
وقد انحاز الشعراء أنفسهم إلى جانب المعاناة
وبذل الجهد فى نظمهم للشعر، وفى أبيات نسبت لامرىء القيس (شاعر الطبع) أن القوافى
حين تتكاثر عليه يتخير منهن ما يحسن ويعزل ما يعزله جانبا ويستبقى الجيد من الدر
يقول:
أَذود
القَوافيَ عَني ذيادا
فَأَعزِلُ مَرجانَها جانِباً
|
|
ذيادَ
غلامٍ جَرىءٍ جَوادا
وَآخذَ مِن دُرِّها المُستَجادا
|
ويقول ابن رشيق معلقاً:
" فإذا كان أشعر الشعراء يصنع هكذا ويحكيه عن نفسه فكيف ينبغى لغيره أن يصنع
؛ وإذا قلنا أن هذه الأبيات لم يقلها امرؤ القيس فإن نسبتها إليه ذات دلالة مهمة
كذلك ؛ يقول الأعشى " وهو ممن كان يكثر الحديث عن شيطانه الملهم " وحين
هجا سويد بن كراع العكلى بعض الناس استعدوا عليه سعيد بن عثمان بن عفان، فهرب
وتوارى، وفى تواريه يصور حاله وهو ينظم القصيدة. فكأن القصيدة سرب من الحيوانات
الوحشية فهو يداريها ليصيد منها شيئا، ويأخذ فى مراقبتها حتى يجىء وقت السحر، وهى
أبية تعصى ولا تطاوع، بعيدة شأو لا يردها طالبها إلا بعد أن يكل ويتعب، ويربط سويد
بين عملية النظم وخوف ابن عفان، فهو لا يظهر القصيدة وإنما يردها ويخضعها للتثقيف
حولا كاملاً وربيعاً، يقول:
أَبيتُ
بِأَبوابِ القَوافي كَأَنَّما
أُكَالِئُها حَتّى أُعرِّسَ بَعدَما
عَواصي إِلاّ ما جَعَلتُ أَمامَها
بَعيدَةَ شَأوٍ لا يَكادُ يَرُدُّها
وَجَشَّمَني خَوفُ اِبنِ عَفّانَ رَدَّها
|
|
أُصادي بِها سِرباً مِنَ الوَحشِ
نُزَّعا([2])
يَكونُ
سُحَيراً أَو بُعَيدُاً فَأَهجِعا([3])
عَصا مِربَدٍ تَغشى نُحوراً وَأَذرُعا([4])
لَها طالِبٌ حَتّى يَكِلَّ وَيَظلَعا
فثقفتها حَولاً حَريداً وَمَربَعا([5])
|
فالمطبوع من الشعراء من
كانت موهبته وطبعه أقوى من ثقافته
ودرسه، وكان سلطان تلك الموهبة عليه أكبر من سلطان الصنعة وبهرجها، فاستجاب لطبعه،
واستعان من الصنعة بقدر.
وقد عرّف ابن قتيبة المطبوع من الشعراء بأنه:
" من سمح بالشعر، واقتدر على القوافى، وأراك فى صدر بيته عجزه، وفى فاتحته
قافيته، وتبينت على شعره رونق الطبع، ووشى الغريزة، وإذا امتحن لم يتلعثم ولم
يتزحر. "([6])
وعند ابن قتيبة أن الشعراء مختلفون فى الطبع
فمنهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء، ومنهم من يتيسر لـه الرثاء ويتعذر
عليه الغزل ويذكر مثالا مما قيل للعجاج: إنك لا تحسن الهجاء، فقال إن لنا أحلاما
تمنعنا من أن نكون ظالمين وأحسابا تمنعنا من أن نكون مظلومين وهل رأيت بانيا لا
يحسن أن يهدم. ويخالف ابن قتيبة هذا المنطق فيقول: " وليس هذا كما ذكر العجاج
ولا المثل الذى ضربه للهجاء والمديح بشكل ؛ لأن المديح بناء والهجاء بناء، وليس كل
بان يضرب بانيا بغيره ونحن نجد هذا بعينه فى أشعارهم كثيراً، فهذا ذو الرمة أحسن
الناس تشبيها، وأجودهم تشبيبا، وأوصفهم لرمل وهاجرة وفلاة وماء وقراد وحية، فإذا
صار إلى المديح والهجاء، خانه الطبع، وذاك أخره عن الفحول، فقالوا فى شعره أبعار
غزلان ونقط عروس.
وكان الفرزدق زير نساء وصاحب غزل، وكان مع
ذلك لا يجيد التشبيب، وكان جرير عفيفا عزهاة (أى عازفا) عن النساء، وهو مع ذلك
أحسن الناس تشبيبا، وكان الفرزدق يقول: ما أحوجه ـ مع عفته ـ إلى صلابة شعرى، وما
أحوجنى إلى رقة شعره، لما ترون. "
ونقاد العرب يكادون يجمعون على أن الشاعر
وإن كان عبقريا يعود إلى شعره فيقومه، ويهذبه، ويغير من قوافيه إذا كانت قلقة
نافرة، ومن عبارته حتى تسلس وتنقاد ويبدل من كلماته ما يرى وجوبوأأ
تبديله، ومن وضع أبياته، حتى يتم الربط بينها فى
تسلس واضح، ويزيد فى القصيدة بين الأبيات ما يسد الفجوات، ويكمل المعانى الناقصة.
يقول ابن طباطبا: ".... فإذا كملت لـه
المعانى، وكثرت الأبيات، ووفق بينها بأبيات، تكون نظاماً لها، وسلكا جامعاً لما
تشتت منها. ثم يتأمل ما قد أداه إليه طبعه ونتجته فكرته، فيستقصى انتقاده، ويرم ما
وهى منه، ويبدل بكل لفظة مستكرهه لفظة سهلة نقية، وإن اتفقت لـه قافية قد شغلها فى
معنى من المعانى، واتفق لـه معنى آخر مضاد للمعنى الأول، وكانت تلك القافية أوقع
فى المعنى الثانى منها فى المعنى الأول، نقلها إلى المعنى المختار الذى هو أحسن،
وأبطل ذلك البيت، أو نقض بعضه، وطلب لمعناه قافية تشاكله. "
ويقول العسكرى: " وتخير الألفاظ وإبدال
بعضها من بعض يوجب التئام الكلام، وهو من أحسن نعوته، وأزين صفاته ".
إذا فمعظم النقاد العرب يرون أنه لا منافاة
بين الطبع والتجويد
والتثقيف، وأن الشاعر المطبوع يزيد شعره جودة وجمالا بمراجعة نظرة فيما أنتجه،
ليقوم معوجه، ويثقف منآده، بل إن ذلك من ضروريات الشاعر المجيد.
أما المتكلف فيقول فيه القاضى الجرجانى:
"... إن رام أحدهم الإغراب.. لم يتمكن من بعض ما يرومه إلا بأشد تكلف، وأتم
تصنع، ومع التكلف المقت، وللنفس عن التصنع نفرة، وفى مفارقة الطبع قلة الحلاوة،
وذهاب الرونق، وإخلاق الديباجة، وربما كان ذلك سببا لطمس المحاسن، فصار هذا الجنس..
إذا قرع السمع لم يصل إلى القلب، إلا بعد إتعاب الفكر وكد الخاطر، والحمل على
القريحة، فإن ظفر به فمن بعد العناء والمشقة، وحين حسره الإعياء، وأوهن قوته
الكلال. وتلك حال لا تهش فيها النفس للاستمتاع بحسن أو الاستلذاذ بمستطرف. وهذه
جريرة التكلف. "
ويعرف ابن رشيق المطبوع والمصنوع، إذ يقول:
" ومن الشعر مطبوع ومصنوع، فالمطبوع هو الأصل الذى وضع أولاً، وعليه المدار،
والمصنوع وإن وقع عليه هذا الاسم، فليس متكلفا تكلف أشعار المولدين ولكن وقع فيه
هذا النوع الذى سموه صنعة، من غير قصد ولا تعمل، لكن بطباع القوم عفوا، فاستحسنوه
ومالوا إليه بعض الميل بعد أن عرفوا وجه اختياره على غيره.
ومما
سبق يتضح أن أسلوب الشعر على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول المطبوع:
وهو ذلك الذى يقصد به أولاً وقبل كل شىء إبراز المعنى وبسطه، وإبلاغه إلى النفس فى
صورة قوية محكمة، لها حظها من فصاحة الكلام وجزالته، يقف فيها الشاعر أمام نتاجه
يقومه ويثقفه وينقحه، وليس ثمة ما يمنع أن يكون فى الشعر المطبوع بعض ألوان
الزخارف البديعية، ولكنها تأتى فى الكلام غير مقصودة ولا متعمدة، بل تأتى عفوا
والكلام المطبوع فيه جهد مبذول، إلا أنه جهد بذل ليستقيم المعنى، ويتضح، فلا يكاد
يتبينه القارىء.
الضرب
الثانى مصنوع أشبه بالمطبوع: وهو ذلك الذى يقف فيه الشاعر عند
نتاجه يغير فيه ويبدل، كى يظفر بمحسن بديعى، ولكن الشاعر لا يتلمس البعيد من ذلك،
ولا يضنى نفسه فى إخضاع المعنى لهذا المحسن البديعى، بل يكون قريب المأخذ، تكاد
تكون الكلمة فى موضعها، ولا يبدو أن فيها محسنا بديعيا إلا بالتفتيش والتنقيب
وترديد النظر. ويعيب هذا الضرب الاستكثار من ألوان المحسنات.
الضرب
الثالث المصنوع المتكلف: ويكون هم الشاعر أن يملأ شعره بألوان
الزخارف والمحسنات البديعية، يتلمسها طوعاً وكرها، ولا يبالى بالمعنى. كقول أبى
تمام:
ذَهَبَت
بِمُذهَبِهِ السَماحَةُ فَاِلتَوَت
|
|
فيهِ
الظُنونُ أَمَذهَبٌ أَم مُذهَبُ
|
يقول عبدالقاهر معلقا على هذا البيت:
"
لم يزدك بمذهب ومذهب على أن أسمعك حروفا مكررة، تروم لها فائدة فلا تجدها إلا
مجهولة منكرة. "
والفرق بين الطبع والتكلف: أن المطبوع منطلق
يجرى بالمعنى المقصود إلى غايته، لا يقف إلا ليزيد المعنى وضوحاً وقوة تأثير. هدفه
الأول والأخير الوصول بالمعنى إلى أن يظهر فى أكمل صورة. أما التكلف فيصرف جهد
الشاعر عن الوفاء بحق المعنى ([7]).
وواضح مما سبق أن الصنعة لا تستغنى عن الطبع،
فإنما ترجع القدرة فى الصنعة والبراعة فيها إلى الأصالة والصدق، وهذان من الأمور
التى تستند إلى الطبيعة والاستعداد، وليس فى إمكاننا أن نتصور صنعة فى الفن لا
ترتد إلى حس مرهف وقلب حى وعقل نابض، إلا أن تكون صنعة باهته، وقشور طلاء، وعرضاً
من أعراض الجواهر، وكل ذلك يزول بعد حين، ولا يبقى إلا بمقدار اللذة منه، وهى لذة
موقوتة، لا يقدر لها أن تعيش فى أعماق الزمان.
وقد أبان " الفاربى " صلة ما بين
الطبع والصنعة فى تقسيمه الشعراء إلى ثلاث فئات:
1- ذوو الطبيعة المتهيئة لقول الشعر، والمعرفة
بطرائق صناعته على ما ينبغى، فهم يجيدون فيما يتأتى لهم من تشبيه، وتمثيل وتخييلات
فيما يتاح لهم من أنواع الشعر.
2- الذى يقتصرون على جودة طباعهم وتأتيهم لما هم
ميسرون لـه ولا يكونون على معرفة بصناعة الشعر، وهؤلاء لا تتم لهم آلة الشعر ولا
يتفوقون فيه.
3- الذين يقلدون هاتين الفئتين، فيحفظون عنهما
فعالهما، ويحتذون فى التشبيه والتمثيل والتخييل حذوهم، من غير أن تكون لهم طباع
شعرية ولا وقوف على قوانين الصناعة، وهؤلاء أكثر ذللا وخطأ.
ومما يجب التنبه لـه أن ثم فرقاً بين الصنعة
والتصنع فالصنعة عمل قد يكون إبداعاً، ويتأتى لمن حصل أدوات الفن وامتلك آلاته،
والتصنع تكلف ففيه افتئات على الصنعة أو تورط فيها، وكلاهما لا يؤهل صاحبه لأن يعد
من المبدعين، وذوى الأصالة الفنية.
وحين جاء دور النهضة فى أوروبا، غلبت فكرة
الجهد والصنعة فى العصر الكلاسيكى، إذ كانت فلسفة أرسطو هى السائدة لدى
الكلاسيكيين، حتى إذا جاء الرومانتيكيون أحيوا آراء أفلاطون من جديد، فأصبح
الإلهام واللاشعور منابع الشعر الصادق، ولم يكن ذلك إلا اعتداداً من الرومانتيكين
بالشخصية، وترجيحاً لحقوق القلب على حقوق العقل، انتصارا للفردية التى كانوا
يقدسونها.
يقول الشاعر الانجليزى " سبندر "
" أن كل شىء فى الشعر جهد، وقد يستمر الجهد فى النظم يوماً أو أسابيع أو سنين،
حتى يبدو أن الشعر فى هذه المدة كأنه قد كتب من تلقاء نفسه، وليس للإلهام معنى سوى
انبثاق الفكرة الأولى، مما تثيرها من قرائن تستغلها قريحة الشاعر، ثم يأتى بعد ذلك
عمل الشاعر الذى يصبغها بصبغتها الكاملة فى الشعر ([8]). "
فرأى "سبندر" فى هذا النص صريح فى
معنى الصنعة وجهد الشاعر
فيها، كما هو صريح فى تفسير معنى الالهام، وأنه انبثاق الفكرة الأولى، وقريب من
هذا التفسير للالهام، ما ذهب إليه " كروتشيه "، " وكرمبى " من
أنه التأمل والاستبطان الفكرى الذى يصاحب التجربة ([9]).
على أن قضية الإلهام فى الشعر قد اتخذت شكلا
آخر ذا طابع علمى فى النقد الحديث، منذ ان اكتشف علماء النفس عالم اللاشعور،
وبخاصة عند "سيجموند فرويد" (1856 ـ 1939) وقد قرر فى كتابه " عالم
الأحلام " 1900م أن أحلام النوم ترجمة للرغبات المكبوته فى عالم اللاشعور،
وأن أحلام اليقظة هى تعبير عن رغبات مكبوته فى منطقة اللاشعور، لم يستطع الانسان
تحقيقها لأسباب خارجة عن إرادته، ومن ثم يطفو على سطح الحياة فى صورة رموز، وما
الأدب إلا رموز وأن هذه الرغبات تتصل كثيراً بالأمراض العصبية والشذوذ الجنسى عند
رجال الفن.
فالشعر عند " فرويد " كالحلم:
تحقيق وهمى للرغبات المكبوتة المختزنة فى منطقة اللاشعور.
وعند " فرويد " أن المفتن مريض
مرضاً نفسياً لأنه لا يقوى على مواجهة الواقع، ولهذا يلجأ إلى الرمز، الذى يخرجه
فنا، وربما كان هذا الفن ـ عنده ـ نتائج مرحلة " أوديبية " أو "
ألكتراوية " أو " نرجسية " ([10]).
وقد رجع فرويد كل الغرائز الإنسانية إلى
غريزة الجنس أو الرغبة وإلى غريزة الموت.
وقد استدرك يونج أحد تلاميذ فرويد عليه،
ورأى أنه أخطأ حين رجع كل الدوافع إلى الغريزة الجنسية فى صورتها الحسية أو فى
صورة التسامى بها، لأن منها ما يرجع إلى غرائز أخرى كثيرة، واتجه بنظريته اتجاها
اجتماعيا، فاعتبر المفتن يمثل ثنائية، فهو كائن بشرى لـه شخصيته الخاصة من ناحية،
وهو ممثل للجنس البشرى من ناحية أخرى، ولهذا يقوم المفتن باعادة الأساطير المستمده
من تجارب الإنسانية الأولى ـ أو كما يسميها " يونج " النماذج العليا،
وهذه النماذج موجودة دائما فى كل حلقات التطور البشرى كتصورات فى العقل الباطن عند
المنشىء وعند المتذوق على حد سواء. وهى مصدر كثير من الخيالات والصور الخاصة بالجن
والأرواح والسحرة، وهى صور تغذى الفن والشعر، وتنعكس فى المنطقة العليا من الفكر،
وفيها تتجلى أثار غريزية اجتماعية عامة تتأثر بها الإنسانية كلها وتستجيب لها وهو
ما يدعوه " يونج " " اللاشعور الجماعى " فى الفرد، إذ يرى أن فى
أعمق مناطق اللاشعور تكمن صور يشترك فيها الجنس البشرى.
تعقيـب:
نظرية فرويد لا تصلح أساساً عاما لتفسير
العمل الأدبى أو الفنى وغاية ما تصلح لـه أن تكون تفسيراً ضيقاً لحالات نادرة،
تعرض فيها بعض الشعراء والمفتنين لأمراض الكبت والشذوذ والعقد النفسية، ولا تكشف
هذه النظرية عن أسرار العبقرية الفنية فى الشعر وغيره من الفنون ؛ لأنها اعتمدت
على تفسير فلسفى نفسى، لا يتصل بالقيم الجمالية وهذه القيم الجمالية هى وحدها سمات
العبقرية، وليست تلك الأمراض والشذوذ، ولا عجب أن يظهر الإلهام فى أثناء النوم أو
عقب الراحة، لأن الراحة وتلاشى الانتباه يساعدان الإنسان على مواصلة تفكيره من غير
عائق، ولا يجوز أن نترك الأمر للمصادفة، فالإنسان هو الذى يهيء ظروف المصادفة،
وليست المصادفة هى التى تهيء لـه إلهاماته ([11]).
وبعد:
فالشعر وسائر الفنون الرفيعة، حصيلة الطبع
والموهبة ورقة الشعور، مع الصنعة الدقيقة من خلال الدربة الواعية، والثقافة
الواسعة، وعلى قدر إمكانية الشاعر من هذه الحصيلة، يكون حظه من الإبداع والنبوغ فى
نتاجه الأدبى.
```
[1] ) هى فى ترجمة سليمان
البستانى :
ربة الشعر عن أخيل بن فيلا
|
|
حدثينا واروى غناءً طويلاً
|
[3] ) أكالئها : أراقبها ،
أعرس انزل قبيل السحر .
[4] ) المربد : مناخ الإبل .
[6] ) من الزحير وهو اخراج
النفس أو الصوت بأنين عند عمل أو شدة .
[7] ) أسس النقد الادبى عند
العرب / أحمد بدوى / 489 .
[8] ) النقد الأدبى الحديث /
محمد غنيمى هلال / 349 .
[9] ) للتوسع / راجع المرجع
السابق /350 وما بعدها .
[10] ) من الرغبات المكبوتة عند
فرويد رغبة الابن فى حيازة أمه واحتلال مكان الأب لديها وتسمى عقدة " أوديب
" ورغبة الابنة فى الاستحواذ على أبيها واحتلال مكان أمها لديه وتسمى عقدة (
ألكترا ) ، أما النرجسية فأصلها خرافة إغريقية تمثل مأساة النفس الإنسانية ذات
الشفافية المتعالية فى نزوع عميق للخلاص من الواقع وفى سبيل ذلك تتمرد فى وجه
المجتمع والآلهة وتنشد الارتفاع بالوجود البشرى المرتبط بالأرض . والنرجس يبدو لمن
يراه أنه يتعالى على غيره من الزهور ، ويعجب بحسنه ، وتفرده ، فهو ذو أثرة .
[11] ) انظر / الأسس الفنية
للنقد الأدبى / عبدالحميد يونس /112 .