العنونة الشعرية
العنـونـة الشعـرية والانزياح الـدلالي
هو علامة لغوية مرابطة على غلاف الديوان أو عند مدخل القصيدة.. هو جواز المرور نحو أفق التلقي ومآلات الدلالة.. وهو - أيضاً - الوسيط الفاعل بين النص والتداول وجواز مرور كل منهما إلى الآخر. هذا هو العنوان الشعري في أبسط تعريفاته. وقد تشكل عناوين القصائد التي يتألف منها ديوان شعري ما دوالاً صغرى فرعية في دالة رئيسة هي دالة العنوان الرئيس لذلك الديوان.
وقد يحيل العنوان الرئيس إلى عنوان مواز في مخيلة التلقي مما يحدو بتلك المخيلة إلى التعاطي مع منظومة دلالية موازية تتقاطع بدرجات متفاوتة مع مثيلتها التي ينتجها العنوان الرئيس بدرجات مختلفة تختلف باختلاف التداول.
عند مقاربة ديوان إبراهيم بوهندي، الصادر عن دار فراديس للنشر والتوزيع (المنامة 2006) حاملاً العنوان ‘’قيام السيد الذبيح’’، سرعان ما يتبادر إلى مخيلة التلقي العنوان ‘’قيام السيد المسيح’’ بوصفه عنواناً موازياً يكاد يتماهى دلالياً بشكل كبير مع عنوان الديوان لولا أن علامة لغوية فاعلة اختلفت في العنوانين لتحدث انقلابة في تأويل الخطاب الشعري الذي تشكله قصائد هذا الديوان، وتنزاح بمآلات الدلالة إلى قيامٍ آخر، وسيد آخر يتجادلان التأويل مع القيامِ، والسيد في العنوان الموازي الذي ترسمه مخيلة التلقي فتأخذ مآلات الدلالة في العنوان الأول من مآلاتها في العنوان الموازي وتترك، بحيث تصبحُ مفارقةً لها متناصةً معها إلى حدٍ ما في آنٍ.
وهذا ما يفصح عنه بوضوح المقطع الآتي:
تجلَّى.. وللنور صلى
أصابت رؤاه
فما صلبوه.
وما قتلوه
ولكن من باع في حبه
واشترى
صار حبر المكانِ
وبدر الزمانِ
وصدر الورى. ص5
هنا وعبْر هذا النص يتحقق الانزياح والمفارقة عبر عنصرين مهمين يشكلان محور الدلالة من وراء هذا المقطع:
العنصر الأول..
توجيه التداول (التلقي في معناه المتعدد) في اتجاه استحضار المآل الدلالي للعنوان الموازي بعناصره: الفاعل، والمفعول والفعل، ولكن بدلالات منزاحة تمامة لا تتعالق مع الدلالات الأصل كما هي مستقرة في الوجدان الثقافي والتاريخي والديني، وإنما تتجاوزها إلى دلالات أبعد تؤكد خطورة الفعل ومأساة المفعول ودهاء الفاعل الذي ترك السيد الذبيح غنيمة لمن باع في حبهِ واشترى.
العنصر الثاني..
ويتجلى هذا العنصر في دقة اختيار الجملة/ العلامة اللغوية (ولكن من باع في حبهِ/ واشترى)، ووضعها في سياق يجعل فعل البيع والشراء متشعب الدلالة يتجاوز الحب والمشاعر بوصفهما مفعولين مباشرين ثانويين لا يعول عليهما النص كثيراً، إلى القيم والأفكار والثقافة والرؤى.. بوصفها مفعولات رئيسة ضمنية ماورائية تشكل في مجموعها الرؤى العميقة الثاقبة الصائبة للسيد الذبيح.
هذا وتأخذ جميع قصائد الديوان من الدلالات المركزية والفرعية للعنوان الرئيس للديوان والعنوان الموازي اللذين سبقت الإشارة إليهما، غير أن هذه الدلالات تحضر مكثفةً في موقعين اثنين من هذا الديوان:
؟ الموقع الأول: المقطع السابق ذكره والذي جاء بوصفه مفتتحاً دلالياً مركزياً عاماً.
؟ الموقع الثاني: وهو القصيدة الموسومة ‘’قيام السيد الذبيح’’ (عنوان الديوان) ص59 التي يتكرر فيها فعل الذبح بوصفه المعادل الموضوعي لفعل الصلب في العنوان الموازي بأشكال متنوعة مختلفة تتجاوز المرئي والمنظور من عمليات الذبح/ الصلب إلى ما هو مجرد منها.
فحين يستــدعي الشاعر سيـــده الذبيــح يرســـم المشــهد الشعــري أشكـــالاً متعددة ومتنوعة لفعل الذبح تختط لنفسهـــا خطوطاً مجازية، ويمارس المشهد ذلك الفعــل تجاه الذات الشاعـــرة - هنا - بوصفــها مفعـــولاً بديلاً تأثر بشارات الغصـــة وعلامات الأسى التي تبدت على سيده الذبيح لحظة حضـــــــوره:
جاءني مثقلاً بالوجوم
فألقى بثقل السنين التي
قد طوتهُ
على قلمٍ فوق حبر الهموم.
فقد تضمن هذا المقطع عدداً من علامات الأسى وبوادر الحزن والانتهاك البادية على السيد الذبيح، والتي لفت نفسها حول عنق الذات الشاعرة محدثة أثرها الأعمق، كأن فعل الذبح قد انتقل برمته وتوابعه إلى تلك الذات.
وهذه العلامات هي (مثقلاً، الوجوم، ثقل، السنين، الهموم) وقد تركت أثرها الأعمق على الذات الشاعرة فتلظت دماؤها في خطى السيد الذبيح:
فتحت له في سكوني طريقاً
تلظى دمي في خطاهُ
حريقاً تكون الصلاةُ
إذا سبَّحت في علاها النجوم.
وقد اختــارت اللحظـــة الشعريـــة هنا أيضاً علامتها/ جملتها اللغوية القوية التي تأكـــد بها مشهد التفاعــــل الـــروحي الخــــلاق الــــذي تعاطت من خلاله ذاتان ذبيحتان، وهذه العــــلامــة/ الجملة اللغويـــة هي ‘’حريقاً تكون الصلاةُ/ إذا سبَّحت في علاها النجوم’’.