الغموض واحتقار الق




منذ أن فشَتْ في الأدب العربي المعاصِر فاشِيَة الحداثَة المستوردة الهجينة، حملت معها - فيما حملت من أوشاب - نزعة الغموض المقيت، الذي أحالَ الأدب - ولا سيما الشعر - إلى طلاسمَ وأحاجٍ، لا يكاد يبلغ المتلقِّيَ منها معنًى أو شعورٌ ذو بال.
وبدا الغموض واحتقار التواصُل مع القارئ من معالم الحداثَة البارزة، وممَّا يتباهَى به بعض القوم؛ يقول أدونيس:
حَيْثُ الغُمُوضُ أَنْ تَحْيَا
حَيْثُ الوُضُوحُ أَنْ تَمُوتْ
ويقول محمود درويش متباهيًا بانعدام التواصُل:
طُوبَى لِشَيْءٍ غَامِضٍ
طُوبَى لِشَيْءٍ لَمْ يَصِلْ[1]
ويقول في موضع آخر:
لَنْ تَفْهَمُونِي دُونَ مُعْجِزَةٍ
لِأَنَّ لُغَاتِكُمْ مَفْهُومَةٌ
إِنَّ الوُضُوحَ جَرِيمَةٌ[2]
ولم تقتصِر الشكوى من غموض أدب الحداثَة على المتلقِّي العادي، بل عمَّت جميع فئات المتلقِّين، وفيهم أدباءُ وشعراء ونقَّاد وأساتذة متخصِّصون في الأدب والفنون، بل فيهم كثير من الحداثيِّين أنفسِهم.
وفي غمرة النقاش المحتَدِم حول مشكلة "الغموض والتواصل"، تمخَّضت النزعة الحداثيَّة عن تقليعة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الآداب، وهي "احتقار القارئ" والاستعلاء عليه، أو "موت القارئ"، على شاكلة ما سُمِّي "موت المؤلف" الذي أشاعَتْه البنيوية. وقد أخذت هذه النزعة عِدَّة وجوه؛ فقال قائل منهم: إن الغموض من طبيعة الشعر، فهو بحكم تشكيله اللغوي والفكري الخاص أعمق من النثر، وأحوج إلى الغوص والاستبطان، وقال قائل: إن الجماهير العربية أميَّة، سطحية الثقافة، ولمَّا ترقَ بعدُ إلى المستوى الثقافي المطلوب لتفهُّم تقانات الشعر الحديث، وآليَّاته الجديدة المتطوِّرة.
وقال قائل: إن الشعر ثقافة الخاصة، ومن ثَمَّ فهو مستعصٍ على الغالبية العظمى من جماهير الناس.
وقال قائل: إن ثقافة الجمهور العربي تقليدية تراثية؛ ولذلك فهو لا يسيغ الأشكال الجديدة، ولا يتذوَّقها... وقيل غير ذلك.
ومن الواضح عُوار كثير من هذه الادِّعاءات والمزاعم، فغموض غالبية الشعر الحديث غير مقصور على العامة، بل شكا منه الخاصة، بل خاصة الخاصة في أحيان غير قليلة، وادِّعاء أن ذوق الجماهير تقليدي لا يُسِيغ الجديد يدحضه ما استُقبِلت به موجات التجديد الأصيلة من حظوة وتقدير، وغموض الشعر الذي يتحدَّث عنه النقد هو الغموض الإيجابي الأصيل، ولا علاقة له بهذا الهذيان المحموم الذي يغرق فيه شعر هذه الأيام.
وفي تسويغٍ لغيبة التواصُل بين شعر الحداثَة والمتلقِّي، عُرِفت هذه الدعوة - المحمومة العجيبة - إلى احتقار القارئ، ونفيه التام من معادلة العمل الفني، بحيث يصير النتاج الشعري - بتعبير أحدهم - نتاجًا في ذاته ولذاته؛ أي: كأن الشاعر يكتب لنفسه فقط، وسمعنا مَن يقول: "لا مفرَّ من الاعتراف بأن التواصُل مع القارئ والجمهور كان وهمًا خاصًّا بمرحلة الستينيات، وقد استمرَّ أكثر ممَّا يجب...".
وهكذا يفقد كثيرٌ من الشعر الحداثي وهو يُحدَر إلى هذه الوَهْدَة كلَّ هدف، ويصبح ثرثرة لا تهمُّ أحدًا، ولا تهتمُّ بأحد، وإذا كان الشاعر الحداثي لا يُبالِي بالقارئ، ولا يضعه في حسبانه؛ فلمَن يكتب إذًا؟! وإذا كان هذا الشعر نتاجًا في ذاته ولذاته، فلماذا يُذِيعه صاحبه في الناس؟! ولماذا لا يُرِيحهم ممَّا لا طائل من ورائه؛ حفاظًا على هذه الذاتية المزعومة؟!
إن الوصول إلى المتلقِّي - مهما كانت الغاية من هذا الوصول - هو من صلب الفن، وإن كل عمل أدبي لا يحفل بمتلقٍّ يستقبله هو عبث لا يفضل عبثَ الأطفال، إن لم يفضُله عبثُ الأطفال؛ فقد يكون في نفس الطفل ما ينشد إيصاله من وراء هذا العبث.
الغموض الأصيل:
وعلى أن هنالك غموضًا أصيلاً، وذلك الذي هو من طبيعة لغة الأدب، ومن ملامحها المميزة، وهي ملامح تميِّزها مثلاً من لغة العلم، ومن لغة الكلام العادي، بل عن ضروب أخرى كثيرة من ضروب اللغة.
ولا يخفى على أحدٍ أن لغة الأدب عامَّة - والشعر خاصة - هي لغة غامضة بطبيعتها؛ لأنها تعتمد على الإيماء والرمز، وعلى التلويح دون التصريح، فدلالاتها – بسبب من هذا - مكسوَّة بثوب من الشفافية والستر، يُوحِي بها ولا يُجَلِّيها، ويُشِير إليها ولكنه لا يمسِّك بها.
وينبع هذا الغموض في العادة من كون اللغة الأدبية - كما هو من المعروف الذي لا يخفى لغةً مجازية تصويرية، في حين لا تحفل اللغة العادية بالمجاز والتخييل، فتبدو - من غير شك - أوضحَ وأظهر، وأقل حاجة إلى التأمُّل والغوص، والجهد والكدّ، من لغة الأدب.
تسابق إلى الإغماض:
وإنه ليبدو لِمَن ابتُلِي بمتابعة الإبداع الأدبي الحديث - شعرًا ونثرًا - وكأن هنالك تسابقًا بين الكُتَّاب إلى تغميض الكلام، وطلسمة العبارة، وإبهام المعنى، وإلى الإغراب في اشتقاق الألفاظ والكلمات على نحوٍ لا تُسِيغه قواعد اللغة العربية، ولا ذوقها الموسيقي الجميل، ولا ذوق الثقافة العربية عامَّة.
ويبدو واضحًا لكلِّ متتبِّع أن كُتَّاب هذا الزمان - إلا صفوةً، ما أندرَها! - لو خُيِّر أحدهم في أداء المعنى الواحد بين أسلوبين: أحدهما مستقيم واضح، والآخر ملتوٍ غامض - لاختار الثاني من غير تردُّد.
إن تزويرًا فاضِحًا يمارسه اليومَ بعضُ نقَّاد الأدب؛ وهو أن الغموض - على أيِّ وجه من الوجوه - ميزة فنية، حتى فشا هذا السرطان الخبيث في الغالبية الكاسحة من كتابات الكُتَّاب في هذا الزمان.
وهو غموض يُزَهِّد المتذوِّقين في الأدب، بل يحمل حملاً على الانصراف عنه، والإدبار عن قراءته إدبارًا لا تغري معه أناقة الكتاب، ولا نفاسة الورق، ولا بهرجة الصُّوَر والألوان.
إن الغموض - ما لم يؤدِّ غرضًا فنيًّا صرفًا - هو صفة سلبية، وهو علامة قصور؛ بل هو من ملامح العجز والانحطاط والضعف في الكتابة.
وإن الغموض الذي يستدعيه الفن هو ذلك الستر الشفَّاف الذي ينسجه عمق في الفكرة، أو طرافة في المعنى، أو ابتكار في الصُّوَر، أو رموز خلاَّبة، وإيثار للإيحاء على التصريح و... وإن هذه كلها - ووجوهًا أخرى غيرها - تغمِّض النص من غير شكٍّ، ولكنها لا تحجبه حتى يصير لغزًا غير قابل للحلِّ، أو طلسمًا يحتاج إلى طائفة من الخبراء حتى تفك رموزه وأسراره، وقد يوجد هذا الخبير في كلِّ ألف، وقد لا يوجد.
الغموض في النقد العربي:
ويَرِدُ في نقدنا العربي كلامٌ غير قليل عن الغموض، وخاصة في الشعر، وقد يُؤثِره قوم، وقد نسمع مَن يقول: "أفخر الشعر ما غمُض"، ولكن ما قدَّمنا هو - في رأينا - مفهوم ما يَرِدُ من كلامٍ على الغموض في نقدنا الأدبي التراثي، وفي ضوئه يُفهَم مثل قول أبي إسحاق الصابئ: "أفضل الشعر ما غمض؛ فلم يُعطِك غرضه إلا بعد مماطلة"[3].
ومثل قول عبدالقاهر الجرجاني: "إذا قرأتَ ما قالته العلماء في الفصاحة، وجدت كلّه أو جلَّه رمزًا روحيًّا، وكناية وتعريضًا، وإيماء إلى الغرض من وجه لا يفطن له إلا مَن غلغل الفكر، وأدقَّ النظر، ومَن يرجع من طبعه إلى ألمعيةٍ يقوى معها على الغامض، ويصل بها إلى الخفي، حتى كأن بَسَلاً حرامًا أن تتجلَّى معانيهم سافرة الأوجه لا نقاب لها، وبادية الصفحة لا حجاب دونها، حتى كأن الإفصاح بها حرام، وذكرها - إلا على سبيل الكناية والتعريض - غير سائغ"[4].
وذلك كله مفهوم عن الغموض، لا يعني - كما هو ظاهر، وكما أشرنا إلى ذلك - عدمَ التواصل في النص، إن اللغة فيه لا تُفرَّغ من دلالاتها المعنوية، ولا تتجرَّد من منطقيتها وترابطها العقلي، حتى تغدو كما يقول واحد مثل أدونيس وغيره في تعريف اللغة العربية: "اللغة العربية لغة انبثاق وتفجُّر، وليست لغة منطق أو ترابط سببيّ..."[5].
إن اللغة في هذا الضَرْبِ من الغموض تُستَعمل بشكل صحيح، وبحسب القواعد السليمة المقرَّرة في علم اللغة، ولكن إذا كان للغة - في هذا الإطار من المنطقية والترابط السببي - مستويان: المستوى الإشاري أو الرمزي، والمستوى الانفعالي - كما يقول ريتشاردز - فإن اللغة - في الأدب عامة، والشعر خاصة - تنحو منحى المستوى الانفعالي، فتكون غامضةً من غير انقطاع، خفيَّة من غير إبهام، مستورة من غير غياب.
إن هذا الغموض - بالمفهوم العربي التراثي - ليس نقيضًا للتواصُل، ولا متضادًّا مع البيان؛ لأنهما متحقِّقان فيه بقليل أو كثير من الجهد.
إن هذا الغموض - بتعبير الجرجاني[6] - يحتاج إلى غوَّاص ماهر، ولكنه لن يعود من غوصه بـ"لا شيء"؛ بل يعود بالجوهر الثمين، والدرّ النفيس.
إن هذا الغموض نقيض السطحية والمباشرة، وهو عدوُّ التعبير المبتَذَل الرخيص، والكلام المتداول المطروح الذي لا جهد فيه، ولا مهارة، ولا فن، ولكنه ليس عدوَّ الإبانة، وهو لا يعني قطُّ التعمية والإلغاز والأحجية.
إن الشعر كما وصفه البحتري:
وَالشِّعْرُ لَمْحٌ تَكْفِي إِشَارَتُهُ وَلَيْسَ بِالْهَذْرِ طُوِّلَتْ خُطَبُهْ
وكل تلميح أغمض من كل تصريح، ولكنه لا يعني: انعدام التبيين، ولا انحجاب الاتِّصال والإفهام، كما يفهم قومٌ معنى الغموض، وكما يريدون أن يروِّجوا، حتى صار الوضوح نقيصةً ما مثلها نقيصة، وحتى صار "اللف والدوران"، والقفز فوق دلالات الألفاظ هو اللعبةَ المفضَّلة لكثيرٍ من أدباء هذه الأيام وشعرائها.
إن أولئك المغمِّضين المعقِّدين المطلسِمِين هم قوم مفلِسون في صناعة الفكر، ليس عندهم ما يقولون، فهم يجمجمون بالكلام جمجمة المفحم البطيء، أو العاجز البكيء.
وإن أمورًا كثيرة - في هذا الزمان خاصة - ينبغي أن تحمِل الكاتب على الإفصاح والإبانة، لا على التغميض والتعقيد، منها على سبيل التمثيل:
أن اللغة جُعِلت في الأصل للاتِّصال والتفاهم، وليس صحيحًا ما يُذِيعه بعضهم من أن هذا خاصٌّ بلغة الكلام العادي، وليس صحيحًا – كذلك - ما يُشِيعه بعضهم من أن الإشارة أو الانفعال أو الإيحاء لا يتحقَّق بالإبانة.
إن غموض الحياة الذي يحتجُّ به أصحاب الغموض - إن صحّ - لا يسوِّغ غموض الأدب؛ لأن الأدب الأصيل ينبغي أن يكون في عون الإنسان، وفي سبيل إسعاده، وتبديد الظلام من حوله، لا زيادته عمًى وضياعًا.
إن عصر السرعة الخارِق الذي نعيش فيه يتنافى مع الغموض؛ إذ إن من المجافِي لطبيعة الأشياء - ونحن نحرص على الوقت، ولا نفوِّت تِقانة لتوفيره - أن ينفق قارئٌ الوقتَ الطويل في فهم نص شعري، وأن يصرف ساعاتٍ ذوات عدد في فكِّ طلاسمه، ولعله يكتشف بعد هذا العناء الطويل، وبعد هذا الوقت المهدور - أنه لا طائل من تحته، فينصرف عن قراءة الأدب انصرافًا لا رجعة بعده.
وضوحًا - أيها الكُتَّاب - من غير ابتذال، وضوحًا في عمق، وضوحًا في تركيز ومهارة، وضوحًا في إيحاء وشفافية.
اعلموا ماذا تريدون أن تقولوا؛ حتى تستطيعوا أن تقولوه بوضوح وإبانة، فيفهمَه الآخَرون ويتذوَّقوه، وإلا فالقطيعة السرمدية بينكم وبينهم.
ــــــــــــــــــــــ
[1] ديوانه "محاولة رقم 7": (ص506).
[2] السابق، (ص481).
[3] انظر: "المثل السائر"؛ لابن الأثير، (2/414).
[4] "أسرار البلاغة"؛ لعبدالقاهر الجرجاني، (ص130).
[5] انظر: "ديوان الشعر العربي"؛ لأدونيس، (1/11).
[6] "أسرار البلاغة".
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Web/alkassab/10511/19780/#ixzz2XALBhx39