المتنبي بين الإباء




"الشاعر بين أَلم المرض وأَلم الاغْتِرَاب" لأبي الطيِّبِ المُتَنَبِّي
لقد عُرف أبو الطيِّب المتَنَبِّي بالجانب الذاتيّ في شِعره، وكذلك بتعبيره عن الإباء العربيّ، وعدم الخضوع والاستسلام للآلام والخطوب مَهْما عَظُمَتْ وكَبُرَتْ؛ فلقد عبَّر المتنبِّي في شِعره عن فِكْرِهِ وفَلْسَفَةِ ذاته؛ وهو ما يوحي بِمَدَى التطوُّر الذي وصل إليه الشِّعرُ العربيُّ في العصر العباسي، حيث وجد الشعراء مَن يحترم كلامهم، ويُقَدِّرُ إبداعَهم، بخلاف عصرنا الذي نحن فيه، فلقد جَنَتِ المَدَنِيَّة على الشِّعر العربيّ، وأفقدته جمهوره ومَلَكَتَهُ النَّقْدِيَّة المُعَبِّرَة والمُشَجِّعَة؛ وهو ما أدَّى إلى انْحِدار مُسْتواهُ، وانْحِسار مساحة قُرَّائِهِ، على خِلاف ما كان عليه قديمًا.
وقدِ انْمَازَتْ فلسفةُ الشخصية العربية في الشِّعْر العَرَبِي بِالشهامة والمروءة، وعدم التَّكاسُلِ والقناعةِ بِالقليل؛ بل لا بد من السَّعْيِ والاجتهادِ؛ لتحقيق الأمجاد والبُطولات، مَهْمَا كَلَّفَ ذلك من جُهد ومن تَعَب، يقول أبو الطيِّب:
وَمَنْ يَجِدُ الطَّرِيقَ إِلَى المَعَالِي فَلا يَذَرِ المَطِيَّ بِلا سَنَامِ وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ شَيْئًا كَنَقْصِ القَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ |
بَصُرْتَ بِالرَّاحَةِ الكُبْرَى فَلَمْ تَرَهَا تُنَالُ إِلاَّ عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ |
يبدأ قصيدته تلك "الشاعر بين ألم المرض وألم الاغتراب":
مَلُومُكُمَا يَجِلُّ عَنِ المَلامِ وَوَقْعُ فَعَالِهِ فَوْقَ الكَلامِ |
فإن المتنبِّي ذهب إلى مصر رغبةً في تحقيق مَجْد ومَنْصِب، ونَيْل مكانةٍ لدى كافور - بعد ما حدث بينَهُ وبين سيف الدولة الحَمَدَانِيِّ من وِشَايَةٍ - فأتتِ الرياحُ بما لا تَشْتَهِي السُّفنُ؛ فبعد أنِ امتدح كافورًا قائلاً:
أَبَا المِسْكِ أَرْجُو مِنْكَ نَصْرًا عَلَى العِدَا وَآمُلُ عِزًّا يَخْضِبُ البِيضَ بِالدَّمِ |
أَبَا المِسْكِ هَلْ فِي الكَأْسِ فَضْلٌ أَنَالُهُ فَإِنِّي أُغَنِّي مُنْذُ حِينٍ وَتَشْرَبُ |
وَكَمْ ذَا بِمِصْرَ مِنَ المُضْحِكَاتِ وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالبُكَا |
لا تَشْتَرِ العَبْدَ إِلاَّ وَالعَصَا مَعَهُ إِنَّ العَبِيدَ لأَنْجَاسٌ مَنَاكِيدُ |
ذَرَانِي وَالْفَلاةَ بِلا دَلِيل وَوَجْهِيَ وَالْهَجِيرَ بِلا لِثَامِ فَإِنِّي أَسْتَرِيحُ بِذِي وَهَذَا وَأَتْعَبُ بِالإِنَاخَةِ وَالْمُقَامِ |
وفي هذه القصيدة أيضًا تَحدَّث الشاعر عن مبادئ ذاتِيَّته وفخرِهِ؛ بأنه لا يَفْخَر بأبيه ولا جَدِّه، بل يَفْخَرُ بما حَقَّقَه بنفسِهِ من مآثِرَ وأمجاد، وبأنه يَنْفِر من كلِّ قريب له إذا لم يَنْهَج نَهْج الكِرام، فيقول:
وَآنَفُ مِنْ أَخِي لأَبِي وَأُمِّي إِذَا مَا لَمْ أََجِدْهُ مِنَ الكِرَامِ أَرَى الأَجْدَادَ تَغْلِبُهَا كَثِيرًا عَلَى الأَوْلادِ أَخْلاقُ اللِّئَامِ وَلَسْتُ بِقَانِعٍ مِنْ كُلِّ فَضْل بِأَنْ أُعْزَى إِلَى جَدٍّ هُمَامِ |
وَزَائِرَتِي كَأَنَّ بِهَا حَيَاءً فَلَيْسَ تَزُورُ إِلاَّ فِي الظَّلاَمِ بَذَلْتُ لَهَا المَطَارِفَ وَالْحَشَايَا فَعَافَتْهَا وَبَاتَتْ فِي عِظَامِي يَضِيقُ الجِلْدُ عَنْ نَفَسِي وَعَنْهَا فَتُوسِعُهُ بِأَنْوَاعِ السِّقَامِ كَأَنَّ الصُّبْحَ يَطْرُدُهَا فَتَجْرِي مَدَامِعُهَا بِأَرْبَعةٍ سِجَامِ أُرَاقِبُ وَقْتَهَا مِنْ غَيْرِ شَوْق مُرَاقَبَةَ المَشُوقِ المُسْتَهَامِ وَيَصْدُقُ وَعْدُهَا وَالصِّدْقُ شَرٌّ إِذَا القَاكَ فِي الكُرَبِ العِظَامِ أَبِنْتَ الدَّهْرِ عِنْدِي كُلُّ بِنْت فَكَيْفَ وَصَلْتِ أَنْتِ مِنَ الزِّحَامِ جَرَحْتِ مُجَرَّحًا لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَكَانٌ لِلسُّيُوفِ وَلا السِّهَامِ |
يَقُولُ لِيَ الطَّبِيبُ أَكَلْتَ شَيْئًا وَدَاؤُكَ فِي شَرَابِكَ وَالطَّعَامِ وَمَا فِي طِبِّهِ أَنِّي جَوَادٌ أَضَرَّ بِجِسْمِهِ طُولُ الجَمَامِ تَعَوَّدَ أَنْ يُغَبِّرَ فِي السَّرَايَا وَيَدْخُلَ مِنْ قَتَامٍ فِي قَتَامِ فَأُمْسِكَ لا يُطَالُ لَهُ فَيَرْعَى وَلا هُوَ فِي العَلِيقِ وَلا اللِّجَامِ |
فَإِنْ أَمْرَضْ فَمَا مَرِضَ اصْطِبَارِي وَإِنْ أُحْمَمْ فَمَا حُمَّ اعْتِزَامِي وَإِنْ أَسْلَمْ فَمَا أَبْقَى وَلَكِنْ سَلِمْتُ مِنَ الحِمَامِ إِلَى الحِمَامِ تَمَتَّعْ مِنْ سُهَادٍ أَوْ رُقَادِ وَلا تَأْمُلْ كَرًى تَحْتَ الرِّجَامِ فَإِنَّ لِثَالِثِ الحَالَيْنِ مَعْنًى سِوَى مَعْنَى انْتِبَاهِكَ وَالْمَنَامِ |
القصيدةُ كاملةً:
1- مَلُومُكُمَا يَجِلُّ عَنِ المَلامِ وَوَقْعُ فِعَالِهِ فَوْقَ الكَلامِ 2- ذَرَانِي وَالْفَلاةَ بِلا دَلِيلِ وَوَجْهِيَ وَالْهَجِيرَ بِلا لِثَامِ 3- فَإِنِّي أَسْتَرِيحُ بِذِي وَهَذَا وَأَتْعَبُ بِالإِنَاخَةِ وَالْمُقَامِ 4- عُيُونُ رَوَاحِلِي إِنْ حِرْتُ عَيْنِي وَكُلُّ بُغَامِ رَازِحَةٍ بُغَامِي 5- فَقَدْ أَرِدُ المِيَاهَ بِغَيْرِ هَادٍ سِوَى عَدِّي لَهَا بَرْقَ الغَمَامِ 6- يُذِمُّ لِمُهْجَتِي رَبِّي وَسَيْفِي إِذَا احْتَاجَ الوَحِيدُ إِلَى الذِّمَامِ[1] 7- وَلا أُمْسِي لأَهْلِ البُخْلِ ضَيْفًا وَلَيْسَ قِرًى سِوَى مُخِّ النَّعَامِ 8- وَلَمَّا صَارَ وُدُّ النَّاسِ خِبًّا جَزَيْتُ عَلَى ابْتِسَامٍ بِابْتِسَامِ 9- وَصِرْتُ أَشُكُّ فِيمَنْ أَصْطَفِيهِ لِعِلْمِي أَنَّهُ بَعْضُ الأَنَامِ 10- يُحِبُّ العَاقِلُونَ عَلَى التَّصَافِي وَحُبُّ الجَاهِلِينَ عَلَى الوسَامِ 11- وَآنَفُ مِنْ أَخِي لأَبِي وَأُمِّي إِذَا مَا لَمْ أََجِدْهُ مِنَ الكِرَامِ 12- أَرَى الأَجْدَادَ تَغْلِبُهَا كَثِيرًا عَلَى الأَوْلادِ أَخْلاقُ اللِّئَامِ 13- وَلَسْتُ بِقَانِعٍ مِنْ كُلِّ فَضْل بِأَنْ أُعْزَى إِلَى جَدٍّ هُمَامِ 14- عَجِبْتُ لِمَنَ لَهُ قَدٌّ وَحَدٌّ وَيَنْبُو نَبْوَةَ القَضِمِ الكَهَامِ 15- وَمَنْ يَجِدِ الطَّرِيقَ إِلَى المَعَالِي فَلا يَذَرِ المَطِيَّ بِلا سَنَامِ 16- وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ شَيْئًا كَنَقْصِ القَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ 17- أَقَمْتُ بِأَرْضِ مِصْرَ فَلا وَرَائِي تَخُبُّ بِيَ الرِّكَابُ وَلا أَمَامِي 18- وَمَلَّنِيَ الفِرَاشُ وَكَانَ جَنْبِي يَمَلُّ لِقَاءَهُ فِي كُلِّ عَامِ 19- قَلِيلٌ عَائِدِي سَقِمٌ فُؤَادِي كَثِيرٌ حَاسِدِي صَعْبٌ مَرَامِي 20- عَلِيلُ الجِسْمِ مُمْتَنِعُ القِيَامِ شَدِيدُ السُّكْرِ مِنْ غَيْرِ المُدَامِ 21- وَزَائِرَتِي كَأَنَّ بِهَا حَيَاءً فَلَيْسَ تَزُورُ إِلاَّ فِي الظَّلاَمِ 22-بَذَلْتُ لَهَا المَطَارِفَ وَالْحَشَايَا فَعَافَتْهَا وَبَاتَتْ فِي عِظَامِي 23- يَضِيقُ الجِلْدُ عَنْ نَفَسِي وَعَنْهَا فَتُوسِعُهُ بِأَنْوَاعِ السِّقَامِ 24- كَأَنَّ الصُّبْحَ يَطْرُدُهَا فَتَجْرِي مَدَامِعُهَا بِأَرْبَعةٍ سِجَامِ 25- أُرَاقِبُ وَقْتَهَا مِنْ غَيْرِ شَوْق مُرَاقَبَةَ المَشُوقِ المُسْتَهَامِ 26- وَيَصْدُقُ وَعْدُهَا وَالصِّدْقُ شَرٌّ إِذَا ألقَاكَ فِي الكُرَبِ العِظَامِ 27- أَبِنْتَ الدَّهْرِ ، عِنْدِي كُلُّ بِنْت فَكَيْفَ وَصَلْتِ أَنْتِ مِنَ الزِّحَامِ؟! 28- جَرَحْتِ مُجَرَّحًا لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَكَانٌ لِلسُّيُوفِ وَلا السِّهَامِ 29- أَلاَ يَا لَيْتَ شِعْرَ يَدِي أَتُمْسِي تَصَرَّفُ فِي عِنَانٍ أَوْ زِمَامِ 30- وَهَلْ أَرْمِي هَوَايَ بِرَاقِصَات مُحَلاَّةِ المَقَاوِدِ بِاللُّغَامِ 31- فَرُبَّتَمَا شَفَيْتُ غَلِيلَ صَدْرِي بِسَيْرٍ أَوْ قَنَاةٍ أَوْ حُسَامِ 32- وَضَاقَتْ خُطَّةٌ فَخَلَصْتُ مِنْهَا خَلاصَ الخَمْرِ مِنْ نَسْجِ الفِدَامِ 33- وَفَارَقْتُ الحَبِيبَ بِلا وَدَاع وَوَدَّعْتُ البِلادَ بِلا سَلامِ 34- يَقُولُ لِيَ الطَّبِيبُ أَكَلْتَ شَيْئًا وَدَاؤُكَ فِي شَرَابِكَ وَالطَّعَامِ 35- وَمَا فِي طِبِّهِ أَنِّي جَوَادٌ أَضَرَّ بِجِسْمِهِ طُولُ الجَمَامِ 36- تَعَوَّدَ أَنْ يُغَبِّرَ فِي السَّرَايَا وَيَدْخُلَ مِنْ قَتَامٍ فِي قَتَامِ 37- فَأُمْسِكَ لا يُطَالُ لَهُ فَيَرْعَى وَلا هُوَ فِي العَلِيقِ وَلا اللِّجَامِ 38- فَإِنْ أَمْرَضْ فَمَا مَرِضَ اصْطِبَارِي وَإِنْ أُحْمَمْ فَمَا حُمَّ اعْتِزَامِي 39- وَإِنْ أَسْلَمْ فَمَا أَبْقَى وَلَكِنْ سَلِمْتُ مِنَ الحِمَامِ إِلَى الحِمَامِ 40- تَمَتَّعْ مِنْ سُهَادٍ أَوْ رُقَاد وَلا تَأْمُلْ كَرًى تَحْتَ الرِّجَامِ 41- فَإِنَّ لِثَالِثِ الحَالَيْنِ مَعْنًى سِوَى مَعْنَى انْتِبَاهِكَ وَالْمَنَامِ |
يُذِمُّ لِمُهْجَتِي رَبِّي وَسَيْفِي إِذَا احْتَاجَ الوَحِيدُ إِلَى الذِّمَامِ |
يقول: إذا سرت فإنّما أسير في ذمة الله تعالى. وذمّة سيفي، ولا أحتاج إلى خفير يُجيرُنِي إذا احْتاج إليه غيري.
وحكى أنه لما رجع من عند عضد الدولة وبلغ الأهواز أحضر خفيرَ العرب وقاطعهم على الخفارة فوقع النزاع بينه وبينهم في نصف دينار، سألوه زيادة على ما بذل لهم فلم يجبهم إليه، وضرب فرسه وهو ينشد هذا البيت. يُذِمُّ لِمُهْجَتِي رَبِّي وَسَيْفِي.. البيت. فقتل عند دير العاقول.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Literature_Language/0/1869/#ixzz2Trl2hiTk