المثاقفة النقدية :
منذ منتصف القرن العشرين الميلادي والنقد العربي يعيش انفتاحاً على النقد الغربي بكافة تحولاته ابتداءً بمناهج الحتمية العلمية ( المنهج التاريخي - والمنهج النفسي - والمنهج الاجتماعي ) ومروراً بالأسلوبية والنقد الجديد وانتهاءً باللسانيات ونظريّة التلقي والنقد النسائي والنقد الثقافي .
وهذه المناهج تختلف في إجراءاتها وتصوّراتها وممارساتها ، فإذا كانت مناهج الحتمية العلميّة تتعامل فيما بينها مع النص الأدبي على أنه وثيقة تاريخية أو نفسية أو اجتماعية وتقف عند حدود المحيط الخارجي للنص ، فلا نجد في المنهج التاريخي إلاّ أسماء الناس والأماكن ، ولا نلمس في المنهج النفسي إلا عقد الكاتب وحصاراته ولا نستدل من المنهج الاجتماعي إلاّ على أحوال الناس وسلوكياتهم ومستوى المعيشة في المجتمع ، فإن الأسلوبيّة ركزت على النص وأولته اهتماماً خاصاً ، ما لبث عند أصحاب النقد الجديد أن تحول إلى بنية مغلقة على ذاتها ، فإذا كان النقد عند أصحاب الحتمية العلميّة مؤلفاً بلا نصّ ، فقد أصبح عند النقد الجديد نصاً بلا مؤلف([29]) .
وجاءت البنيوية لتجمع بين الطرفين وتضيف طرفاً ثالثاً هو المتلقي في البحث عن أنظمة النص ووحداته مع التركيز على النص الأدبي ، وما لبثت التفكيكيّة أن أماتت المؤلف ، والنص ، واستبقت المتلقي لتجعله مبدعاً يكتب نصاً موازياً للنص المكتوب([30]) .
وقد حاول الدكتور محمود أمين العالم أن يحصر لنا اتجاهات المثاقفة مع هذه المناهج النقدية في أربع مدارس تجمع عدداً من المناهج المختلفة في طرائق الإجراء المتفقة في جذورها الأبستمولوجية والفلسفية ، هي :
1 - المدرسة الوجدانية التي تضم النظرية الرومانتيكية كما في ممارسات مدرسة الديوان ، ومدرسة أبولو ، وجهود جبران خليل جبران ، وميخائيل نعيمة ، وتطبيقات المنهج النفسي عند أحمد محمد خلف الله ، والنويهي ، والخولي ، ومصطفى سويف ، ويحيى الرخاوي .
2 - مدرسة الذوق الفني كما تجلّت في نقد طه حسين الذي بدأه تقليدياً ثم متأثراً بمناهج الحتمية العلمية التاريخي عند هيبولت تين ، ثم الجمع بين منهج البحث العلمي والتذوق الفني بعد ذلك وكما نجد لدى محمد مندور - في نظراته النقدية
3 - المدرسة النقدية الجدلية : التي تتخذ من مفهوم الانعكاس أساساً في فحص العمل الأدبي ، كما في كتابات عصام حفني ناصف ، وسلامة موسى ، ومجلة الطليعة السورية ، وعمر فاخوري ، ومفيد الشوباشي ، ورئيف خوري . ثم مجلة الثقافة الجديدة ، وحسين مروّه ، والشرقاوي ، والخميسي ، ولويس عوض ، ومحمد دكروب ، وصلاح حافظ ، وعبد العظيم أنيس ، ومحمود العالم، وعبد المحسن طه بدر ، وغالي شكري ... الخ
ثم في أتباع البينوية التكوينية عند ( غولدمان ) أمثال : جابر عصفور ، ومحمد بنّيس ، ومحمد برادة ، وأتباع باختين أمثال : يُمنى العيد ، وسيد البحراوي ، وأمينة رشيد .
4 - المدرسة النقديّة الوضعيّة والبنيويّة كما في كتابات أدونيس ، وصلاح فضل ، وفريال غزول ، وسيزا قاسم ، وخالدة سعيد ، وكمال أبو ديب ، وعبد الفتاح كليطو ، والغذامي ، وعبد الكريم الخطيبـي([31]) .
وفي نهاية عرضه يسجل ملاحظات مهمة أهمها أن : (( التصورات الأساسيّة لهذا الفكر النقدي صدى لتصورات ومفاهيم نقدية أوروبيّة ، وإن كانت استجابة في أغلب الأحيان لاحتياجات اجتماعية موضوعية أسهمت في استيعابها وتشكيلها تشكيلاً خاصاً يتلاءم وهذه الاحتاجات ، ويعبر عنها بمستوى آخر )) ([32]) .
* هذه المناهج النقديّة التي استنسخها النقد العربي الحديث نتاج خصوصيّة ثقافية ، وتحوّلات فكرية واجتماعية مغايرة ، ولهذا لا يمكن تجريدها من خصوصيتها الثقافية وحمولاتها الفكريّة ، فهي (( بوصفها نظريات أو مقاربات أو أدوات بحثية تحليلية للأدب تحمل مضامين ثقافية تجعلها متلائمة مع بيئتها الحضارية الغربية ، وأن الناقد غير الغربي ، ونقصد به هنا الناقد الذي يحمل ثقافة عربية إسلامية مضطر إن هو أراد تطبيق أيٍّ من تلك المناهج على أدب أنتجته تلك الثقافة العربية إلى سلوك أحد سبيلين :
1 - أن يطبق تلك المناهج كما هي ، وبالتالي يتبنى سواءً أراد أم لم يرد المضامين والتوجهات الفكرية التي شكلت تلك المناهج ، ومثل ذلك التطبيق سيؤدي في الأغلب إلى إساءة فهم المادة الأدبية موضوع التحليل النقدي .
2 - أن يُحدث تغييراً جوهرياً في المنهج الغربي الذي يطبّقه إلى حد يجعل من الصعب القول بأن المنهج المطبق هو المنهج الأصلي ذاته .
أما القول بإمكانية فصل المنهج عن سياقه دون إحداث أية تغييرات ، أو بعد إدخال تعديلات طفيفة ، فهو نوع من الوهم الذي سرعان ما يتكشف تحت محك التحليل التاريخي للخلفية الثقافية الفلسفية التي تحملها تلك المناهج ))([33]) .
لكننا نجد عدداً من النقاد العرب يرفض هذا التصوّر ، ويرى إمكانية الفصل بين المنهج النقدي ومضمونه الفلسفي ، فعبد الله العروي مثلاً يقول :
(( يمكن أن ترفض التاريخانية أو البنيويّة كفلسفة ، وتوظف كمنهج للتحليل في حدود معيّنة ))([34]) ويذهب أبو ديب إلى أن البينوية ليست فلسفة (( لكنها طريقة في الرؤية والمنهج ومعاينة الوجود ))([35]) .
وهذا المنطق التبريري لا يثبت أمام البحث العلمي وقبل ذلك أمام صيرورة الأفكار ، وطبيعة الأشياء ، فالمناهج النقدية لا يمكن أن تنشأ من فراغ ، وما تحولات الخطاب النقدي الغربي إلا نتيجة لكشوفات العلوم التجريبية ، وتراكمات البنية الثقافيّة .
فالحتمية العلمية ثمرة من ثمار “ المادية ” التي كانت تشكل عصب الفكر الغربي في القرن التاسع عشر في الفيزياء والفسيولوجيا والفلسفة الوضعيّة .
المادية هي التي تفسر لنا حتمية العلاقة بين النص ومحيطه الخارجي ، وتربط بين الواقع والإبداع ، فالإبداع انعكاس لعلاقات الإنتاج ، ونتيجة حتمية للبيئة والمناخ والعرق([36]) .
وهي التي تكشف لنا منهج السلوكية ، والتحليل النفسي لدراسة النفس الإنسانية ، فالحقيقة كل ما هو مادي يمكن إدراكه بإحدى الحواس ، ولأن العقل لا يمكن إدراكه بإحدى الحواس قامت السلوكية بدراسة السلوك متخذة من نظرية الفعل المنعكس الشرطي سنداً لها . وذهبت مدرسة التحليل النفسي إلى أن الشعور لا أثر له في سلوك الإنسان ، فاللاشعور هو الذي يحدد سلوكيات الإنسان ، ويحكم حركته في الحياة . فالشخصية مثل كتلة الجليد العائمة لا يعلو منها إلا أقلها أما معظمها فهو مغمور بالماء([37]) .
وجاءت فيزياء القرن العشرين لتنقض هذه المسلمات التي قامت في ظلالها تلك المناهج فتحطمت فيزياء نيوتن على يدي إنشتاين ونظريته في النسبية التي أثبتت أن علاقات المكان والزمان وقوانين الحركة لا تُعرف إلا بالمواقف الشخصية للمراقب ، وليس بالحياد كما أقر نيوتن . وبناءً على هذا اكتشف الغربيون أن الميكانزم الآلي لا يطاق في فرع من فروع المعرفة مكرّس لخدمة البشر يُنظر من خلاله إلى الإنسان على أنه حيوان أو آلة صماء ، فهو قوّة واعية يجرّب ويقرّر ويتصرّف([38]) .
وجاءت الشكلانية والبنيويّة كنتيجة من نتائج العلم التجريبـي الذي لا يرى للذات دوراً في معرفة العالم ، لأنه لا يمكن إخضاعها لمبادئ القياس التجريبـي فكان محتوى اللغة هو اللغة ؛ لأن اللغة يمكن إخضاعها وقياسها بالمعايير التجريبية([39]) . وهذا يفسر لنا الاهتمام بالنص الأدبي عند هؤلاء .
وحين ثار الفكر الغربي على التجربة وآمن بقدرة العقل على إدراك المعرفة الكاملة جاءت التفكيكية ارتداداً إلى الذات وإيماناً بقيمة العقل في إدراك المعرفة، وهكذا ينشأ منهج نقدي في ظل التجريبية ، ليقوم على أنقاضه منهج آخر في ظلال “ المثاليّة ” .
إن البحث عن العقد والحصارات في النص الأدبي لا يمكن فصلها عن “ غريزة الجنس ” التي جعلها فرويد أم الغرائز ، وجعل كل نشاط إبداعي تسامياً بهذه العقدة المكبوتة ، حتى الله تعالى يفسره تفسيراً جنسياً ، تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً .
|