المحاضرة الأولي ال
الاتـجـــــاه المحافـــــظ " مدرســـــة المحافظـــــين "
المدرســة الإتباعيـــة " الكلاسيكيــة "
" حركة إحياء التراث "
ظهر هذا الإتجاه فى بداية النهضة الأدبية الحديثة وسبق كل الاتجاهات اللاحقة ، وتعتبر المدرسة المحافظة هى الأساس الذى اعتمدت عليه سائر المدارس الأخرى .
ومن أهم الأسباب التى ساعدت على ظهور هذا الاتجاه :
أولاً : الوعى الناضج لدى بعض المثقفين ، الأمر الذى حمل على الالتفات إلى مجد الماضى وتراث الأمس ، للاتكاء عليه ومواجهة تحدى الحضارة الغربية به .
ثانياً : النضال الذى شهدته
الفترة التى نسوق عنها الحديث وخاصة عند جمهرة المثقفين الذين يؤمنون بفكرة
الجامعة الإسلامية ويرتبطون تبعاً لها بالتراث الإسلامى العربى من أمثال الشيخ
محمد عبده والشيخ على يوسف ، وإبراهيم محمد المويلحى والمنفلوطى ومن هنا كان شغف
جمهرة من كبار الشعراء بهذا الاتجاه الداعى إلى إحياء التراث من خلال حذو الشعر
العربى القديم فى صورته البيانية الجيدة ، التى خلفتها عصور الازدهار فى المشرق
والأندلس . وكان ذلك متفقاً تماما مع روح الفترة ، تلك الروح الناضجة الواعية
النافرة من الأنماط التقليدية والكارهة للمحسنات البديعية المتكلفة والألاعيب
اللغوية ، الباحثة عن أمجاد الماضى العربى المشرق ، لتتكئ عليها الأمة فى كفاحها ،
ولتجمع بها شملها ، وتقوى عزيمتها وتواجه بذلك كله مزاعم من ينكرون أصالتها وقوتها
ويريدون أن يسلبوا
كل مقدارتها .
وكان فى طليعة هذه الطائفة من الشعراء : البارودى فهو رائد هذه المدرسة ، وزعيم المجددين فى الشعر العربى المعاصر ، وسار على نهجه تلامذته ومريدوه منهم ، إسماعيل صبرى ، أحمد شوقى ، حفنى ناصف ، ولى الدين يكن ، حافظ إبراهيم ، أحمد محرم ، الرصافى ، الزهاوى ، الكاظمى ، فؤاد الخطيب ، شكيب ارسلان .
وقد التزم جميعهم باتجاه البارودى فى شعره فى شتى نواحيه من لفظ ، ومعنى ، وصورة ، وأسلوب ، وخيال ، وغرض .
وزاد بعض المتأخرين تجديداً فى مدرسة البارودى فأضافوا إلى المعنى والصور والأخيلة والأغراض .
ومنهم الجارم ، والأسمر ، وعلى محمود طه ، وعزيز أباظه ، ومحمود غنيم ، وعلى الجندى ، ومحمد عبد الغنى حسن ، وغيرهم .
وسأعرض لبعض شعراء هذه المدرسة ، لنتبين من خلال شعرهم أهم الخصائص الفنية
لهذه المدرسة ، وأثرها فى رقى الأدب العربى فى
العصر الحديث .
1) محمود سامى البارودى : ( 1255 – 1322 هـ - 1839 – 1904 م ) :
يعد رائد المجددين ، وباعث النهضة الشعرية فى الأدب العربى الحديـث ، وكان لحياته أثر عميق فى تكوين شاعريته . فقد ولد بمصر سنة 1838 ، وكان أبوه من أمراء المدفعية فى عهد محمد على ، ثم كان مديراً لبربر ودنقله فى السودان ، وقد توفى الوالد ومحمود فى الثانية عشرة من عمره ، ولكن أهله قاموا بعد أبيه بواجب تربيته ، فألحق بالمدرسة الحربية ، وحيت تخرج لم يجد عملا عسكرياً ، لأن البلاد كانت تجتاز محنة عباس وسعيد اللذين رجعا بالبلاد إلى الخلف ، وقد انتهز محمود الفرصة فأكب على قراءة الأدب والشعر ، ثم سافر إلى الآستانة وعمل بها فى وزارة الخارجية . وحين زار إسماعيل تركيا سنة 1863 اختار البارودى فى حاشيته ، فعاد معه إلى مصر ، ثم عين فى سلاح الفرسان ، وسافر إلى فرنسا مع بعض الضباط ليشاهدوا استعراض الجيش الفرنسى السنوى ، واشتراك فى المعارك الحربيـة ، وبعد رجوعه إلى مصر عين مديراً للشرقية ، ثم محافظاً للعاصمة ، وفى عهد توفيق عين وزيراً للأوقاف ، ثم وزيراً للحربية ، ولكن البارودى ما لبث أن استقال ، ثم عاد وزيراً ، بل اسندت إليه رئاسة الوزراء، وحين شبت ثورة عرابى انضم إليها ، ولما أخفقت نتيجة للخيانات من خصومها وللغدر من الخديوى والانجليز ، قدم إلى المحاكمة ، ثم نفى إلى سرنديب ، وظل بها سبعة عشر عاماً وبضعة أشهر ، ثم صدر عنه العفو سنه 1900م ، فرجع إلى مصر ، وتوفى سنة 1904 . وقد ترك ديواناً طبعته من بعده أرملته ، ومختارات من الشعر العربى لثلاثين شاعراً وقد طبعتها أرملته بعد وفاته .([1])
وقد اتجه البارودى بالشعر إلى محاكاة الشعر القديم وليس المراد بالمحاكاة والتقليد هنا المعنى الردئ ، الذى تلغى معه سمات وشخصية الشاعر وما يحيط بها من قضايا وأفكار . وإنما المراد بالتقليد اتخاذ النمط الشعرى العربى فى عصوره الذهبية مثلاً أعلى فى الأسلوب الشعرى ، فتقوى ملكته ، وتنمى شاعريته وتتعمق فكرته ، وتتسع مداركه ، ويفسح المجال لخياله . وهذا النمط تمثله تلك النماذج الرائعة من الشعر التى خلفها قمم الشعراء فى عصور الازدهار . من أمثال أبى تمام والبحترى والمتنبى فى المشرق ، وابن زيدون وابن خفاجة فى الأندلس .
ويتحدث عن البارودى أستاذه المرصفى فى الوسيلة الأدبية
فيقول : " أولع البارودى وهو غض الحداثة بحفظ الشعر ، وأخذ نفسه بدرس دواوين
الفحول من شعراء المتقدمين ، حتى شب فصيح اللسان ، مطبوعاً على الإعراب دون أن
يتعلم النحو ، فانطلق يقول الشعر فى أغراضه المختلفة ، ونهض به نهضة عظيمة وأعاد
إليه حلته العربية ، وبهجته
البدوية ، حتى شاكل الشريف الرضى فى جزالة اللفظ ، ومتانة النسج وقوة الكلام ، ولم
يتخلف عن متقدمى الشعراء فى شئ ، على أنه أربى عليهم بما جال فى فنون المعانى ،
التى تجلت بها الحضارة الجديدة ، وما وصف من مخترعات أخرجها العلم الحديث . "
ووصف مطران جهود البارودى فى البعث الشعرى بقوله : " هو أول شعراء
البعثة الحديثة ، بمعنى أنه أول من رد الديباجة إلى بهائها وصفائها القديمين ، وما
أبرز قريضه لقريض جيله ، فإنك لتجد الواحدة من قصائده ذاهبة صعداً إلى عهد أرقى
أزمنة العرب ، فهى كالجبال الشامخة وحولها القصائد الأخرى كالأركان المقامة من
حجارة وأطلال بلا اختيار ولا نسق
ولا هندام . "
ومهما يكن من أمر . فقد استطاع البارودى بأسلوبه المحافظ المجدد أن يعبر به
عن حياة الشاعر الخاصة وتجاربه وأحاسيسه الذاتية . ثم عن قضايا بلده ومشكلاته
القومية ، وأحداث عصره ، الخارجة عن نطاق
الذات والوطن .
وهكذا لم يكن استخدام هذا الاتجاه ، حاملاً للشعراء من أصحابه على حصر
أنفسهم فى أغراض الأقدمين وإنما للتعبير عن أغراض تشبه أغراض الأقدمين حيناً ،
وتختلف عنها في كثير من الأحايين . "على أن الشاعر من أصحاب هذا الاتجاه كان
يتخذ من العالم العربي القديم عالماً مثالياً ، يخفق له قلبه ، ويهيم به خياله ،
ويشد إليه وجدانه ؛ لأنه عالم الآباء الأماجد
والتاريخ العريق ، والدولة العربية الإسلامية الغالية . ومن هنا كان يستمد الشاعر
كثيراً من صوره من هذا العالم ([2]) . "
فالبارودى مثلا يعبر عن تجربة البعد عن الوطن والحنين إلى الأهل والأحباب أيام كان بعيداً عن مصر ليشارك فى حرب البلقان ، فيقول :
هُوَ
الْبَيْنُ حَتَّى لا سَلامٌ وَلا رَدُّ |
|
وَلا
نَظْرَةٌ يَقْضِي بِهَا حَقَّهُ الْوَجْدُ |
وفى قصيدة أخرى نراه يضيق بما وصل إليه حال البلاد من تأزم وفسـاد ، فيحرض على الثورة والحرب ، وانتهاز الفرصة للقضاء على الحكام الغاصبين ، وحصد رؤوسهم كما أنه يحفز همم الشعب لبناء الوطن والحفاظ عليه فيقول :
فَيَا
قَوْمُ هُبُّوا إِنَّمَا الْعُمْرُ فُرْصَةٌ |
|
وَفِي
الدَّهْرِ طُرْقٌ جَمَّةٌ وَمَنافِعُ |
أَرَى
أَرْؤُسَاً قَدْ أَيْنَعَتْ لِحَصَادِهَا |
|
فَأَيْنَ وَلا أَيْنَ السُّيُوفُ
الْقَوَاطِعُ |
ومن شعره الاجتماعى قوله يذم زمانه وينعى على معاصريه تلونهم وعدم وفائهم وهو أشد ما يلاقه الانسان فى حياته :
أَنا
في زَمانٍ غادِرٍ وَمَعَاشِرٍ |
|
يَتَلَوَّنُونَ تَلَوُّنَ الْحِرْباءِ |
وبعد فالشعر العربى الحديث يدين للبارودى بأنه النموذج الحى الذى احتذاه الشعراء من بعده وساروا على نهجه فى أسلوبه وأغراضه ، وذلك لأن تجديد البارودى قائم على أساسين ـ الأول : بعث الشعر بأسلوبه القديم بحيث تعود إليه جزالته ورصانته ونغماته العذبه فى حقبة ساد فيها شعر الضعف والصنعة وضحالة المعنى وعقم الخيال ، الثانى : تمثيل العصر الذى يعيش فيه الشاعر أتم تمثيل ، فكان صدى لبيئته وقومه ونفسه وبذلك سار الشعر من بعده إلى الأمام .
ونقول مع هيكل : إنه كان مجدداً فى كل بيت من أبياته ، حتى فى معارضته للقدماء والنهج على منهجهم .
" هذا وقد حاول البارودى التجديد فى الأوزان فنظم قصيدة من تسعة عشر بيتاً على وزن جديد هو مجزوء المتدارك ، ولم يسبق للعرب أن نظموا منه ، وإنما ورد المتدارك عندهم كاملاً أو مشطوراً ، تلك أبيات منها يقول فى أولها :
امْلإِ
الْقدَحْ |
|
واعْصِ مَنْ نَصَحْ |
وقد نظم شوقى من هذا الوزن الذى اخترعه البارودى قصيدته التى مطلعها :
مالَ
وَاِحتَجَب |
|
وَاِدَّعى الغَضَب |
2) شوقـــى : ( 1285 ـ 1351 هـ ، 1869 ـ 1932م ) :
من زعماء المجددين ، تلقى قوالب شعره عن البارودى ، ولكنه صب فيها مشاعره من خلال مشاعر أمته والأمم العربية . وقد توافرت عوامل كثيرة أدت إلى تكوين شاعريته وشخصيته الأدبية ، وعبقريته الفذة ، من أهمها :
أ ) جنسه ـ فهو عربى كردى شركسى يونانى .
واجتماع هذه العناصر الجنسية فيه ميزته عن غيره من شعراء عصره .
ب ) موهبته الشعرية ، وشدة ذكائه ، واتقاد ذهنه ، فقد كان ينظم الشعر فى كل مكان .
ج ) عكوفه على قراءة النماذج العباسية الحية مثل أبى نواس والبحترى وأبى تمام والمتنبى والشريف الرضى ، وأبى فراس وأمثالهم .
د ) ثقافته الواسعة فقد حذق العربية والفرنسية وتيارهما يجرى واضحاً فى شعره ، وإن كان قد تلقى التركيه فى بيته ، إلا أن أثرها لم يكن واسعا فى فنه سوى بعض أبيات ترجمها منها وأثبتها فى ديوانه .
هـ) نفيه إلى بـلاد الأندلس وإبعاده عن وطنه كان لـه أكبر الأثر فى قوة شاعريته ، وفى تجديد معانيه وأخيلته وصوره وأغراضه الشعرية ، بالإضافة إلى جرأته وصراحته فى الرأى .
و ) الأحداث الكبرى التى أحاطت بشوقى ، فجرت فى نفسه الثورة عليها وظهر هذا واضحاً فى شعره مثل سيطرة الاستعمار على الوطن العربى ، وحادثة دنشواى ، ونفى سعد زغلول ، ومصطفى كامل ، وثورة عرابى ، والأحزاب الكثيرة المتضاربة .
ى ) نشأته المرفهة . ففى مهد من مهاد الترف والثراء ولد شوقى سنة 1869م لأب وأم تنحدر إليهما عناصر مختلفة ، فقد كان أبوه يجرى فيه الدم العربى والكردى والشركسى ، وكانت أمه يجرى فيها الدم التركى واليونانى وكان مولده بالقاهرة ، وعاش فيها ، ونشأ فى بيئة أرستقراطية مترفة ، وأخذ يختلف منذ سنته الرابعة إلى الكتاب ، ثم انتقل إلى المدارس الابتدائية والثانوية ، فكان ذلك فرصة لـه ليختلط بأبناء الشعب وحياتهم الديمقراطية ، ولكنه سرعان ما كان يعود إلى بيئته وما بها من نعيم الحياة ، وقد كفلته جدته لأمه ، ونشأ معها فى ترف ونعيم فى قصر الخديوى ، حيث كانت من وصائف القصر .
ولما أتم تعليمه الثانوى فى سنة 1885م ألحقه أبوه بمدرسة الحقوق ليدرس فيها القانون ، وأنشىء بها قسم للترجمة فالتحق به . وفى هذه المدرسة تعرف إلى أستاذه فى العربية الشيخ محمد البسيونى ، وكان قد أخذ يتفجر ينبوع الشعر على لسانه ، فأعجب به أستاذه . وتخرج شوقى فى قسم الترجمة 1887م ، فعينه توفيق بالقصر ، ثم أرسله فى بعثه إلى فرنسا ليدرس الحقوق ، فانتظم فى مدرسة بمبونبلييه لمدة عامين ، ثم انتقل إلى باريس ، وظل بها عامين آخرين ، حصل فيهما على إجازته النهائية وكان طوال إقامته فى باريس يشاهد مسارحها ويتصل بحياتها الأدبية ، وأقبل على قراءة فيكتور هيجو ودى موسيه ولافونتين ولامرتين ، وترجم للأخير قصيدة البحيرة شعراً . وعاد إلى مصر ، فعمل فى القلم الافرنجى فى قصر الخديوى ، وسرعان ما أصبح شاعر عباس وبعد إعلان الحرب العالمية الأولى ، نظم شوقى قصيدة تحدث فيها عن الحماية التى أعلنتها إنجلترا على مصر وقال فيها : " إن الرواية لم تتم فصولا " فنفاه الانجليز إلى أسبانيا ، وظل بها طوال الحرب هو وأسرته ، وهناك أخذ ينظم قصائده فى أمجاد العرب ودولتهم الزاهرة التى اندثرت فى الأندلس ، ويضمنها حنيناً شديداً إلى وطنه . ثم عاد إلى وطنه ، فوجد أرضه تنعم بالحرية فأخلص لفنه ولشعبه وأخذ يغنيه أغانى وطنية رائعة ولم يغن مواطنيه وحدهم ، بل أخذ يغنى الشعوب العربية أهواءها وعواطفهم السياسية والقومية . يقول :
وَنَحنُ في الشَرقِ وَالفُصحى بَنو رَحِمٍ |
|
وَنَحنُ في الجُرحِ وَالآلامِ إِخوانُ |
وفى سنة 1927م أقيم لـه حفل تكريم عظيم اشتركت فيه الحكومة المصرية والبلاد العربية ، إذ قدمتْ منها وفود مختلفة تمجد شاعر مصر وتشيد بعبقريته ونبوغه ، وقد وضع الشعراء فى هذا الحفل على مفرقه تاج إمارة الشعر لا فى مصر وحدها بل فى سائر الأقطار العربية ، وأعلن حافظ هذا التتويج أو هذه البيعة قائلاً :
أَميرَ
القَوافي قَد أَتَيتُ مُبايِعاً |
|
وَهَذي وُفودُ الشَرقِ قَد بايَعَت
مَعي
|
وطمحت نفس شوقى إلى أن تحقق أملاً منشودا كان يراود دعاة التجديد منذ أوائل هذا القرن وهو ادخال الشعر التمثيلى إلى دوائر الشعر العربى ، ومن مسرحياته الشعرية : كليوباترا ، ومجنون ليلى ، وقمبيز ، وعنترة ، وعلى بك الكبير وغيرها . ويعد بهذا رائد هذا الفن فهو الذى هذبه وصقله وعمقه حتى صار ينسب إليه ، وتتلمذ عليه من نظم بعده فيها مثل عزيز أباظة ، وعلى أحمد باكثير وصلاح عبدالصبور وغيرهم .
ورأى أن يصوغ بعض الأزجال للغناء ، فنظم منها طائفة بديعة من
مثل زجله :
النيل
نجاشى |
|
حليوه أسمر |
ومن الممكن أن نقسم شعر شوقى إلى قسمين واضحين : قسم قبل منفاه وقسم بعده ـ
وهو فى القسم الأول يعيش فى القصر ويسوق شعره فى قيود هذه المعيشة ، فهو شاعر
الخديو عباس الثانى ، وشعره يكاد يكون مقصوراً على ما يتصل به من قريب أو بعيد ،
فهو يمدحه فى جميع المناسبات ، وهو يشيد لـه بالترك والخلافة العثمانية وهو فى ذلك
يسير سيرة الشعراء
القدماء ، وإن كان يتأثر بالثقافة الأوربية ، وقد حدث فى هذه الحقبة من حياته تطور
فى فنه ، كالذى يحدث عند شعراء العصر العباسى فهو يُعْنَى أحياناً بالأوزان
القصيرة وبوصف الخمر والرقص على نحو ما جاء فى قصيدته :
حَفَّ
كَأسَها الحَبَبُ |
|
فَهيَ فِضَّةٌ ذَهَبُ |
وحدث تطور آخر إذ تأثر بشعراء الغرب فى شعرهم التاريخى وما كانوا يقولونه من أطلال اليونان والرومان ، فنظم قصيدته " كبار الحوادث فى وادى النيل " ، ونظم قصيدة النيل ومنها :
مِن
أَيِّ عَهدٍ في القُرى تَتَدَفَّقُ |
|
وَبِأَيِّ كَفٍّ في المَدائِنِ
تُغدِقُ |
وبعد نفيه إلى أسبانيا نظم قصائد يقارن فيها بين فردوسه المفقود وفردوس
العرب الضائع فىالأندلس وقد صاغ سينيته على نسق قصيدة البحترى فى إيوان كسرى كما
صاغ نونيته على نسق قصيدة لابن زيدون ومعنى ذلك أنه كان لا يزال فى الأندلس شاعراً
تقليدياً من بعض جوانبه ، إذ يعنى ببعض القصائد القديمة الرائعة ، فيعارضها ،
وينظم من وزنها
وقافيتها ، وإن اختلفت القوالب بالقياس إلى ما تؤديه ، فإن القوالب القديمة عنده
دائماً لا تستعصى على أداء ما يريد من معان وأفكار ، وهى لذلك تصبح عنده كياناً
فنياً حياً لـه روعته وجماله ([6]) .
وعلى أية حال يمكن القول بأن أهم ما يميز شعر شوقى فى القسم الثانى من حياته أنه تحول من القصر إلى الشعب فصوره فى آماله الوطنية ، وحركاته السياسية ، ولم يعد شاعراً تقليدياً ، بل أصبح شاعراً شعبياً ، ولكن بطريقته الفنية الخاصة . وهى طريقة لم تعتمد فقط على معارضة الشعراء القدماء ، وإنما تعتمد اعتماداً عاماً على الجزالة والمتانة . ومن خير ما قاله فى هذه الفترة قصيدته التى نظمها فى سنة 1924م يدعو فيها الأحزاب إلى الاتحاد والائتلاف ، ومطلعها :
إِلامَ
الخُلفُ بَينَكُمُ إِلاما |
|
وَهَذي الضَجَّةُ الكُبرى عَلاما |
وفيها صوّر تطاحن الأحزاب على كراسى الحكم ونسيانهم لمصالح الأمة العامة فى سبيل مصالحهم الشخصية .
ولم يكتف بوطنه ، فقد تغنى بأمجاد العرب ، وموشحته فى " عبدالرحمن الداخل " " صقر قريش " من آياته ، ولـه ديوان شعر سماه " دول العرب وعظماء الإسلام " ومن عنوانه يتضح أنه قصره على تاريخ العرب فى عصورهم الزاهية وقد قابل بين حاضر العرب وماضيهم وصدق قوله :
كان شعرى الغناء فى فرح الشــر |
|
ق وكان العزاء فى أحزانه |
وللرثاء جزء خاص من دواوينه ، وللمخترعات العصرية ، وعلى هذا النحو نستطيع القول بأن أمير الشعراء كان محلقا بشعره فى كل الأجواء . مما لا يزال مثار الدهشة وموضع الإعجاب بين الأدباء والنقاد .
فقد نظم أمير الشعراء فى كل الأغراض الشعرية القديمة من مدح وفخر ورثاء
ووصف وغزل وشكوى وعتاب . وغير ذلك من الشعر التاريخى والاجتماعى والسياسى ورثاء
الحضارات ووصف الرثاء ، ما عدا الهجاء ؛ لأنه كان عف اللسان ، وكان أيضا فى نسيبه
لا يعبر فيه عن عاطفة صادقة ، بل يغلب عليه الوصف ، ويجارى فيه الشعراء مثل
معارضته للحصرى
فى قوله :
مُضناكَ
جَفاهُ مَرقَدُهُ |
|
وَبَكاهُ وَرَحَّمَ عُوَّدُهُ |
ثم قصائده فى إنشاء الجامعة والصحافة ، وبنك مصر ، وقضية المرأة والسفور والحجاب ، والعمال ودورهم فى النهضة ، والأخلاق وأثرها فى تقدم الأمم ، كما نادى بالتعليم ونشره وتقدير العلم والعلماء يقول :
قُم
لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا |
|
كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا |
وفى سنة 1932م لبى نداء ربه ، مخلفا لمصر والبلاد العربية تراثه الشعرى الخالد .
الخصائص الفنية لمدرسة المحافظين :
ـ أولاً : الأساليب ـ تميزت أساليبهم بالبلاغة العربية
الأصيلة ،
والفصاحة ، والبعد عن المبالغات ، وقلة المحسنات البديعية وما جاء منها أتى عفواً
، مع العناية بالمعانى ، وما تتضمنه من أفكار .
ـ ثانياً : الألفاظ ـ نرى فى شعرهم جزالة اللفظ ، وفخامة الكلمة ، وإحكام الاسلوب ، ورصانة التركيب ، ووضوح النهج ، وشرف الغرض ، وجلال المعنى ، وتلاحم النسج وعذوبة الموسيقى ، وإشراق الديباجة ، ورعاية الوزن والموسيقى .
ـ ثالثاً : المعانى ـ كانت واضحة ،
ظاهرة عميقة ، جديدة ، لا التواء
فيها ولا تعقيد .
ـ رابعاً : الأغراض الشعرية ـ نظم شعراء هذه المدرسة فى شتى الأغراض ، كما صوروا بشعرهم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وأنشدوا الشعر الوطنى والأدب القومى .
الاتجاه المحافظ فى الميزان :
أسهم الاتجاه المحافظ فى النضال الذى خاضته البلاد وقتئذ فى كل الميادين ، كما جود المحافظون التعبير الشعرى ووصلوا به إلى الغاية من حلاوة الموسيقى وروعة البيان وإشراق الصياغة . إلا أن هذا الإسهام كان لـه بعض المساوىء . الأولى هى أن كثرة خوض الشعر للمعارك جره إلى كثير من المناسبات والمواقف المحفلية ، حتى أصبح شعر المناسبات والمجاملات ظاهرة توشك أن تطغى على بقية الظواهر الشعرية الفنية الأخرى ، وقد جرت هذه الظاهرة السيئة ـ ظاهرة المناسبات والمحافل ـ إلى عدة ظواهر سيئة تفرعت عنها ، من أهمها عدم تعبير الشعر فى كثير من الأحيان عن تجارب صادقة ، وأيضا تشكل أسلوب الشعر ، بما يلائم المحافل ومجامع الجماهير ومواقف خطابهم ، ومن هنا كثر التعبير المباشر الذى يجعل الشعر أحيانا قريباً من النثر ، فيفسد عليه كثيراً من قيمه الفنية .
كما أن كثرة العناية بالصياغة والإفراط فى تجويدها ، جعل المثل الأعلى فى
الأداء الشعرى مثلا متعلقاً بالشكل ، مهتما باللفظ ، غير مكترث بالمضمون أو معنى
بالمعنى . ومن هنا أوشك الشعر أن يتحول إلى صياغات جميلة ، وأساليب آسرة ، وموسيقى
تملأ الأذان . وقد جرت هذه الظاهرة السيئة إلى عدة ظواهر سيئة أخرى تفرعت عنها .
من أبرزها إهمال جانب الأفكار الدقيقة والتجارب النفسية العميقة ، واتضاح شخصية
الشاعر
وطبيعته ، ولون نظرته إلى الحياة والكون . وظاهرة سيئة أخرى جاءت أيضاً نتيجة لعدم
رعاية الجانب المعنوى فى الشعر ، وهى عدم رعاية الوحدة العضوية ، بحيث جاءت أغلب
قصائد الشعراء المحافظين مشتملة على عدد من الأغراض أولاً ، ثم جاء الغرض الواحد
غير مترابط المعانى ، ولا مرتبها ترتيباً بنائياً .
وهكذا أصبح المذهب المحافظ ليس المثل الفنى الأعلى وثار النقاد على شوقى وحافظ وغيرهم من شعراء المدرسة الكلاسيكية ، وأخذوا ينادون بقيم جديدة فى الشعر الحديث متأثرين بمذاهب الأدب فى أوروبا ، وحينئذ ظهر الاتجاه الابتداعى فى الشعر " المدرسة الرومانسية " .
[1] ) راجع ترجمته / فى مقدمة ديوانه / بقلم د / محمد حسين هيكل
شعراء مصر وبيئاتهم فى الجيل الماضى / للعقاد / فى الأدب الحديث / عمر الدسوقى
[2] ) انظر تطور الأدب الحديث فى مصر /د/ أحمد هيكل / 62 .
[3] ) ديوان البارودى /1/161 وما بعدها .
[4] ) المصدر نفسه /2/211 وما بعدها
[5] ) فى الأدب الحديث / عمر الدسوقى /1/238 .
[6] ) الأدب العربى المعاصر فى مصر / شوقى ضيف / 117 ، 118 .