المحاضرة الأولي ال
تمهــيـد:
تعني كلمة " نقـد" في مفهومها اللغوي: التمييز بين الشيئين. يقال: نقدت الدراهم وانتقدتها أي: ميزت جيدها من رديئها. ووردت الكلمة كذلك بمعنى إبراز العيوب وإذاعتها، ومنه حديث أبي الدرداء: ".. إن نقدت الناس نقدوك، وإن تركتهم تركوك ". ووردت بمعنى اختلاس النظر الى الشيء، ففي أساس البلاغة قال: وهو ينقد بعينيه إلى الشيء: يديم النظر اليه حتى لا يفطن له ".
وهذه المعاني كلها ليست بعيدة عـن المفهوم الاصطلاحي للنقد الأدبي ؛ إذ هو يعني في جانب من دلالته كشف العيوب والتنبيه عليها، كما يعني بيان الجيد والرديء، ومهمة تكوين الرأي هذه تتطلب من الناقد النظر الهادئ والتأمل الدقيق للأثر الذي ينقده.
وهذا المفهوم الاصطلاحي للنقد الأدبي لم يكن معروفا عند العرب في عصورهم الأولى، فلم يشتهر المصطلح عندهم إلا في العصر العباسي بعد أن دُوِّنت العلوم وجمع التراث الشعري، فقد ورد في كلام للمفضل الضبي يعـلق فيه على تـَزَيُّـد حماد الراوية وإفساده للشعر يقــــول: " قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا. فقيل له وكيف ذلك أيخطئ في روايته أم يلحن ؟ قال: ليته كان كذلك فإن أهل العلـــم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم
بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه مذهب رجل ويدخله في شهره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء، ولا يميز الصحيح منها الا عند عالم ناقد وأين ذاك " !!.
ثم أصبح المصطلح معروفا في أواخر القرن الثالث الهجري وأوائل القرن الرابع حتى جعله قدامة بن جعفر عنوانا لكتابه: " نقد الشعر " كما سنرى، ثم غــدا المصطلح متداولا بين المشتغلين بالتأليف في علوم الأدب وبلاغة الكلام.
الذاتية والموضوعية:
في الأعمال الأدبية جانب ذاتي يعتمد على الذوق الشخصي الذي بسببه يتأثر المتذوق بالنتاج الأدبي، ويجد لديه ميلا له وتعاطفا معه. وهذا الجانب الذاتي أساس في عمل الناقد، فلابد لمن يعرض لنقد الأدب أن تكون لديه حاسة التذوق للأعمال الأدبية وتعاطف على نحو ما مع ما تبدعه قرائح الأدباء، ثم يحتاج الناقد بعد ذلك القدر الموهوب الى ثقافة وتمرس ؛ ليستعين بهذه المهارات المكتسبة على تقويم النتاج الذي ينقده ووضعه في مرتبته التي يستحقها قياسا على نظائره وأشباهه مما تحصل لديه من إبداعات السابقين في الفن الذي يعرض لنقده وتقويمه.
أما الموضوعية فتعني أن ينحي الناقد ميوله الخاصة وأهواءه وعلاقاته الشخصية من ميدان عمله، أو بعبارة أخرى أن ينظر الناقد في العمل الذي هو بصدد إصدار حكم عليه بحسبانه موضوعا خارج ذاته ليكون حكمه عليه خاليا من شوائب التعصب للشيء الذي يقومه أو مجاملة قائله لصلة ما تربطه به، أو التسخط عليه والانتقاص منه لعداوة أو منافسة أو تحزب يمكن أن يكون مطية للتحامل في القدح أو صداقة تكون باعثا على الإطراء والتغاضي عن العيوب.
والموضوعية أمر جوهري للنقد الذي يفرض على القراء احترامه، ويثري الحياة الأدبية، ويوجه مسيرة الأدب نحو النافع من التجارب والمؤثر من الإبداعات. وعندما تفتقد الموضوعية تختلط الأمور وتضطرب الحقائق وتسود الأهواء ولا يستطيع المتذوقون للأدب الاتفاق على معايير ثابتة أو أصول يحتكمون اليها.
وتتطلب الموضوعية التعليل المقنع للحكم أو الرأي الذي ينتهي إليه الناقد ؛ لأن إطلاق الحكم بالجودة أو الرداءة أو الاستحسان أو الاستهجان دون تعليل لا يقنع القاريء لذلك النقد ولا يفيده شيئا، ومن ثم يفتقد التواصل بين الناقد وقرائه، ومن الضروري أن يراعي الناقد أنه لا يكتب لنفسه بل إنه يكتب للجمهور الذي ينتظر منه أن يفسر له قيم الفـــــن وجمالياته ويدله عليها ويشرحها له، وبذلك تحدث الاستفادة
ويرتقي ذوق القراء ويتفهمون دلالات النتاج الأدبي ومراميه.
بين الناقد والأديب:
لا ريب أن مهمة الناقد تكمل رسالة الأديب وتحقق الغاية منها على النحو الأمثل ؛ فالأديب لا تمكنه طبيعة التعبير الأدبي من التصريح بكل ما يريد، فهو في كثير من الأحيان يلمس المعنى دون أن يقرره أو يشرحه، وقد يشير إلى ما يقصده إشارات دالة، تقرأ بين السطور، وتستوحى من سياق الكلام، ويستدل عليها بأمارات يدركها النقاد والمتذوقون، ومن ثم فالتواصل بين الناقد والأديب قائم، ودور الأديب يسانده جهد الناقد.
والأديب بحكم طبيعته موهوب، وإبداعه يعتمد أساسا على تلك الموهبة الممنوحة له التي تولد معه، بيد أن نتاج ذلك الأديب يزداد قوة وروعة بالتزود من نتاج المبدعين في الفن الذي يعالجه، وكلما غذى الأديب قريحته بالنتاج الجيد انعكس ذلك على أدبه، وظهرت آثاره في نتاجه.
أما الناقد فعماد عمله يرتكز على الثقافة الأدبية وسعة المعرفة وتنوعها، ويفترض فيه قبل ذلك كله أن تكون لديه حاسة التذوق للأدب والتعاطف مع فنونه وألوانه وبدون ذلك الاستعداد الأوليِّ لا يصح له أن يدعي القدرة على ممارسة مهمة النقد. فالمعرفة والدربة وسعة الاطلاع على الأعمال الأدبية وعلى الدراسات اللغوية والتاريخية والنفسية ذات الصلة بالأدب تفيد الناقد وتثري عمله وتساعده على أن يكون نقده أكثر عمقا وأبعد أثرا وأجدى فائدة. وسعة الثقافة بصفة عامة سواء ما كان منها من قبيل الثقافات اللغوية والبلاغية أم ما كان من قبيـل الثقافة العامة _ تثري عمل النـــاقد، وتعينه على التحليــل والتفسير والشرح، كما تمكنه من التعليل المقنع، تأسيسا على الموازنة الصحيحة بين الأعمال الأدبية، واستعراض النماذج الجيدة والتدليل على مقومات الجودة وأسباب التقصير...، وذلك كله لا يتأتى للناقد إلا من خلال الثقافة المتنوعة والاطلاع الواسع.
وهناك مرحلة أخرى تتجلى في نطاقها الصلة القوية بين مهنتي الناقد والأديب ؛ فالناقد الأريب ذو الفكر الثاقب والرؤية المتبصرة يفيد نتاجه الحركة الأدبية إذ يوجه مسيرتها الوجهة الصحيحة، ويقدم للشداة النصح ويضع لهم المعالم التي ينبغي عليهم الاهتداء بها، كما يرسم لهم الأهداف التي يجب عليهم توخيها، والغايات التي يجدر بهم أن يتغيوها، بحيث يأتي أدبهم مؤكدا على قيم إنسانية عليا، ومثريا لفكر ووجدان الأمة التي يتوجهون بنتاجهم إليها، معبرا عن آمالهم وآلامهم، يتحسس مواجعهم، ويتغنى بأمجادهم، ويرسم صورة محببة لما يطمحون اليه من غايات، ويحدو مسيرة كفاحهم، ويرتقي بأذواقهم، ويهذب نفوسهم...، وفي هذه المرحلة أو الدورة من التواصل بين المُهمَّـتـين يفيد الأدباء الأصلاء من جهود النقاد، ويحرصون على الانتفاع بها، والاستضاءة بهديها.
ويقابل تلك المرحلة مرحلة أخرى إذ نرى أديبا متميزا ينبغ في حقبة بعينها، وقد يكون ذلك الأديب شاعرا أو كاتبا أو روائيا، فيبتكر بحسه وفكر ه وموهبته نموذجا رفيعا في الفن الذي يحذقه، فيغدو ابتكاره ذاك غاية في بابه، ونقطة تحول في موضوعه، يعجب به الــذواقون والنقاد، ويعدونه إضافة غير مسبوقة، ومثالا يجب أن يحتذي، وتكون مهمة الناقد في تلك الحالة هي استخلاص القيم والخواص الفنية التي برع بسببها ذلك الأديب، ومن ثم الإشادة بها والدعوة إلى احتذائها
وهكذا يبقى الترابط قائما بين جهد الناقد وابتكار الأديب: يسبق الناقد بفكره مرة فيوجه الأديب ويقوم مسيرة الأدب، ويسبق الأديب بفنه وموهبته مرة أخرى فينبه الناقد ليستخلص القيم ويستنبط المعايير لتبقى المسيرة الأدبية على الدوام ناضجة واعـدة.
النقد والعلوم الإنسانية:
أفاد النقد الأدبي في العصر الحديث من التقـدم الذي بلغته العلوم والدراسات الإنسانية، مثل دراسات علم النفس والاجتماع والأخلاق والتاريخ والجمال ؛ وذلك لأن النتاج الأدبي يتصل بالإنسان من حيث تكوينه النفسي والأخلاقي، وذلك مرتبط بطبيعة الحال بالوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه الأديب ويتأثر بأجوائه وتفاعلاته، كما أن العمل الأدبي فيه إبداع يصبو من خلاله الأديب لبلوغ المستوى الفني المحبب دون الاقتصار على طرح الفكرة وتحقيق الهدف الإنساني المجرد، ومن ثم يكون الأثر الأدبي ذا صلة وثقي بالعلوم الإنسانية.
وقد غالى بعض النقاد والباحثين في الأدب في تطبيق نظريات بعض الــعلوم الإنسانية على النقد الأدبي حتى خرجوا بها عن إطارها الصحيح، كما أسرف آخرون منهم في إقحام نتائج العلوم الطبيعية على البحث النقدي دون مراعاة لاختلاف ميادين البحث في كل، كالذي فعله " هيبوليت تين " عندما ربط النتاج الأدبي بعوامل الجنس والبيئة والقوة الموجهة للعصر، وكما فعل " برونتيير " عندما ربط تطور الأجناس الأدبية بنظرية التطور التي ذهب اليها " داروين " - وهؤلاء وأولئك حادوا عن المنهج الصحيح ؛ إذ للأدب ميدانه وكيانه المتميز، ولا يصح أن نقحم على الدراسات التي تنقده وتقومه دراسات ونظريات لا تمت له بصلة، ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قررنا أن نقد الأدب علم له مقوماته ولـــه أدواته، وهو بحكم كــونه نتاجــا إنسانيا يرتبــط نوعا ما ببعض العلوم الإنسانية ويفيد من نظرياتها، وقد أفاد البحث الحديث في النقد الأدبي من دراسات علم النفس في التعرف على شخصية الأديب وميوله واتجاهاته العاطفية.
كما أفادت دراسات علم الاجتماع الباحثين في النقد الأدبي في التعرف على المؤثرات البيئية في شخصية الأديب ونتاجه، ومعرفة العلاقة بين النتاج الأدبي والمؤثرات الاجتماعية الفاعلة فيه كالعادات والأعراف والمستوى الثقافي، ومن جملة تلك المؤثرات يستطيع الناقد أن يفسر كثيرا من الظواهر الأدبية ويوازن بينها، ومن ثم يتسنى له أن يقومها تقويما صحيحا، إذ يمكنه الوقوف على أهميتها في البيئة التي ظهرت فيها، ومدى حاجة الناس اليها، وتأثرهم بها، ومبلغ تصويرها للمجتمع الذي ينتمي اليه الأديب وتفاعلها مع مشكلاته وقضاياه.
وجملة القول أن الناقد بحاجة الى أن يوسع من روافد ثقافته الأدبية واللغوية وما يتصل منها بالعلوم الإنسانية ؛ لأنها جميعها تثري عمله، وتكسبه عمقا ونفاذ رؤية ودقة تحليل واستنتاج، ولكن الناقد مع ذلك مطالب بأن يضع في حسبانه على الدوام أنه باحث في الأدب، وأن يعي دوره وإطار عمله فلا يسمح لثقافة أخرى غريبة عن مجال البحث الأدبي أن تطغى على عمله أو تصرفه عن مهمته، فالقاريء يطلب من الناقد أن يقدم له رأيا واضحا عن عمــل الأديب، لا أن يدخلـــه في متاهات البحث في العلوم الأخرى فيبتعد به عن مقصده وبغيته.
النقد والتذوق:
الذوق: ملكة الإحساس بالجمال، والتمييز بـدقة بين حسنات الأثر الفني وعيوبه، وإصدار الحكم عليه. والذوق في أصله عاطفة ولذلك يتبدل تبعا لأنواع البشر وأزمنتهم وأطوار الأدب وألوانه الرائجة....، ومع ذلك التنوع في الذوق فثمة آثار أدبية مجمع على روعتها تتقبلها الأذواق على اختلاف العصور والبيئات ؛ لأنها تشف عن عبقرية لا مراء فيها ولا خلاف عليها. وبذلك يتأكد لنا أن الذوق مع تطوره وتبدله يتضمن عنصرا مهما وخفيا يجعل منه حـَكَما صادقا في كثير من الأحوال والمواقف([1])
والذوق بتعبير آخر يعني قدرة الإنسان على التفاعل مع القيم الجمالية في الأشياء وبخاصة الأعمال الفنية، وهو أحد مقاييس النقد الأدبي عند العرب. وهو عند الآمدي ثلاثة أقسام:
ا - الطبع: وهو القوة التي فطر عليها الناقد.
ب - الحـذق: وهو القوة التي يكتسبها الناقد بالمران والدربة.
ج - الفطنة: وهو امتزاج الطبع بالحذق.
وصاحب الفطنة أقدر على الحكم من صاحب الطبع وحده أو صاحب الحذق وحده (1). ([2])
وتأسيسا على هذا المفهوم المحدد للذوق يمكننا أن نقرر أن التذوق هو الاستناد الى ملكة الذوق المطبوع عليها الناقد المؤهل لتلك المهمة أمرا جوهريا في العملية النقدية، وقد أوضحنا فيما تقدم أن حاسة التذوق أساسية بالإضافة للناقد، ولا يتأتى له مهما اتسعت ثقافته أن يكـوِّن رأيا صحيحا أو يحكم حكما صائبا ما لم تكن لديه تلك الحاسة، فهي الأساس الذي يبنى عليه الجهد الفكري والتنظير العقلي الذي يقوم به الناقد، وينتهي من خلاله الى تقويم الأثر الأدبي.