المحاضرة الأولي :
تاريخ الأندلس ذلك الفردوس المفقود، الذي سيظل عنوانا للحضارة الإسلامية على مر التاريخ الإسلامي.. فما قصة الإسلام في الأندلس؟ وما تاريخ المسلمين في الأندلس؟ وما أسباب سقوط الأندلس؟ وما أبرز معارك المسلمين في الأندلس؟ وغير ذلك الكثير مما يتعلق بقصة الأندلس من البداية إلى السقوط 0
مقدمة في الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إسبانيا قبيل الفتح العربي
تقع شبه جزيرة « إيبريا الأندلس : إسبانيا والبرتغال» في الطرف الجنوبي الغربي من قارة أوروبا، وتقابل المغرب الأقصى، وتتصل بالقارة عن طريق جبال شاهقة وعرة هي جبال البرينيه التي تكوَّن حاجزاً منيعاً بينها وبين أوروبا ؛ ولا يمكن لأحد اجتيازها إلا من ممرين يخترقانها في الشرق والغرب، وبينهما ممرات متعوجة ملتوية ضيقة سماها العرب باسم الأبواب مما جعلهم يسمون تلك الجبال جبال الأبواب. وفى وسط الجزيرة هضبة كبرى تنحدر نحو الشرق مطلة على البحر المتوسط، كما تنحدر نحو الغرب مطلة على المحيط الأطلسي، وهو يطوق شماليها الغربي فى خليج بسكاى ويتصل في جنوبيها بالبحر المتوسط عن طريق مضيق الزقاق الذي سمى بعد الفتح العربي إلى اليوم باسم مضيق جبل طارق. وتمتد في هضبة إيبريا الوسطى سلاسل جبال « البرانس » من الشرق إلى الغرب تصعب التواصل بين أجزائها في الداخل، وبها أنهار كثيرة وخاصة فى الغرب حيث تصب في المحيط الأطلسي وهى من الشمال إلى الجنوب نهر المنيو ثم نهر دُوَيرة، ويليه نهر تاجُه وتقع عليه مدريد ومدينة طليطلة، ويصب عند أشبونة، ثم نهر آنه وتقع عليه بطليوس، فنهر الوادي الكبير وتقع عليه قرطبة وأشبيلية ومنه يتفرع نهر شنِّيل ماداً ذراعاً له إلى غرناطة، وجنوبيه نُهَيْر لكه ويصب فى المحيط بالقرب من قادس، ويصب فى البحر المتوسط أنهار مثل نهر إبرو فئ الشمال وهو متعدد الفروع غزير المياه، وينبع من شرقى إقليم قشتالة ويمر بإقليم أراجون فإقليم سرقسطة فى الثغر الأعلى فإقليم قطالونية ويصب عند طرطوشة جنوبى برشلونة، ويليه جنوبا نُهَيْر الوادي الأبيض ويصب عند بلنسية.
وبسبب هذا الحاجز الكبير ، كان الفارق الحضاري بين ما يقع جنوبي الجبال وشمالها، فرقاً جسيماً يلاحظه الإنسان بمجرد الانتقال من إسبانيا إلى فرنسا.
وشبه جزيرة إيبريا إقليم واسع تصل مساحته إلى ستمائة ألف كيلومتر مربع، وإسبانيا تحتل خمسة أسداس شبه الجزيرة، تعتبر ثالثة بلاد أوروبا فى المساحة بعد روسيا وفرنسا فإن مساحتها516000 كم2 – خمسمائة وستة عشر ألف كيلو مترا مربعاً. –
اسم الأندلس :
ويطلقون عليها « جزيرة الأندلس » تساهلاً، كما سمو جزيرة العرب، وسميت « أسبانيا » أخذاً من « إشبان » ملك الروم الذي أسس مدينة إشبيلية، فشبه الجزيرة كلها يسميه العرب « الأندلس » ويسميه اليونان « إيبريا »، ويسميه الرومان « اسبانيا »وإن أطلق العرب عليه اسم الجزيرة مع أن الماء لا يحيط به من جميع جهاته، بيد أنهم شاهدوا الماء يحيط بما رأوا منها فأطلقوا عليه جزيرة تجاوزاً، كما أطلقوا على شبه الجزيرة كلها اسم الأندلس، وإن كان اسم الأندلس إنما يطلق على الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة فحسب.
وجو هذه البلاد فى جملته معتدل الحرارة صيفاً وشتاءً، فبينما تصعد جبال البرانس عنها الرياح الباردة تمر عليها تيارات دافئة تكسبه دفئاً وحرارة، وتسقط الأمطار على شرقها شتاء وعلى شمالها وغربها طول العام، فتفيض الأنهار بماء الأمطار الهاطلة الغزيرة، وتخصب بها تربة الأرض فتنبت الغابات والحبوب، والفواكه والكروم، وتكثر المراعى التي تربى عليها الأغنام.
ومن الهضبة الأندلسية يستخرج النحاس والزئبق والقصدير فالبلاد عموما تمتاز بجمال الطبيعة، وخصب التربة، وكثرة الأمطار، مما كان له أثر في توجيه حضارتها وجهة خاصة مستقلة.
ومن يرى مخطط بلاد الأندلس وكثرة ما يجرى فيها من أنهار يصب بعضها في المحيط الأطلسي وبعضها في البحر المتوسط، يحس جمال هذه البلاد وجمال مناظرها وأوضاعها الطبيعة، وقد أفاض مؤرخو العرب في وصف مشاهدها، كما أفاض الشعراء في التغني بمناظرها، يقول ابن سعيد: « ميزان وصف الأندلس أنها جزيرة قد أحدقت بها البحار فأكثرت فيها الخصب والعمارة من كل جهة، فمتى سافرت من مدينة إلى مدينة لا تكاد تنقطع من العمارة ما بين قرى ومياه ومزارع، ومما اختصت به أن قُراها في نهاية من الجمال لتصنيع أهلها في أوضاعها وتبيضها لئلا تنبو العيون عنها، فهي كما قال بعض الشعراء فيها :-
لاحت قُراها بين خضرة أيْكها
كالدر بين زبرجدٍ مكنون( )
ويقول لسان الدين بن الخطيب في خصائص الأندلس :-
« وخص الله تعالى بلاد الأندلس من الريع، وغدق السقيا، ولذاذة الأقوات وفراهة الحيوان، ودرور الفواكه، وكثرة المياه، وتبحر العمران، وجودة اللباس، وشرف الآنية، وكثرة السلاح، وصحة الهواء، وابيضاض ألوان الإنسان، ونبل الأذهان، وفنون الصنائع، وشهامة الطباع، ونفوذ الإدراك، وإحكام التمدن والاعتمار بما حرمه الكثير من الأقطار مما سواها ».
ويقول ابن اليسع إنه :- « لا يتزود فيها أحد ما حيث سلك لكثرة أنهارها وعيونها، وربما لقى المسافر فيها فى اليوم الواحد أربع مدائن من المعاقل والقرى ما لا يحصى، وهى بطاح خضر وقصور بيض » ( ).
وما أحسن قول ابن خفاجة فى الأندلس ومدنها :-
إن للجنة بالأندلس
مجتلى حسن وريا نفس
فسنا صبحتها من شنب
ودجا ليلتها من لعس
وإذا ما هب الريح هبا
صحت : وا شوقى إلى الأندلس
وقول ابن سفر المرينى :-
في أرض أندلس تلتذ نعماء
ولا يفارق فيها القلب سراء
وكيف لا تبهج الأبصار رؤيتها
وكل روض بها في الوشي صنعاء
أنهارها فضة والمسك ترتبها
والخز روضتها والدر حصباء
أورد الباحثون تعليلات كثيرة لهذه التسمية منها :-
أن كلمة (أندلس) مأخوذة من (أنلوشيا) وأصلها (فانلوشيا) نسبة إلى (الفندال) أو (الوندال) وهو اسم لبعض القبائل الأوروبية المتبربرة التي غزت هذه البلاد في القرن الخامس الميلادي، وأطلق عليهم كثير من الباحثين اسم(الوندال) أو (الفندال) وقد وصلوا إلى جنوب أسبانيا وأطلقوا عليه اسم (فندلسيا) مسبة إليهم.
وجاء العرب وأطلقوا على (الوندلس) (أندلس) بإبدال الواو همزة.
ونقل المقري عن ابن سعيد من أن تلك البلاد سميت باسم الأندلس بن طوبال بن يافث بن نوح أول من سكنها، فإن سبت بن يافث، أخو الأندلس بن يافث، عبر المضيق إلى أفريقا، ونزل بالعدوة المقابلة للأندلس، وخط رحاله في مكان نسب إليه، وحملت المدينة التى نزلها اسمه، فكانت مدينة سبتة Ceuta ولا تزال قائمة.
بعد أن فتح عمرو بن العاص مصر سار فى سنة 22هـ - 643م وفتح برقة صُلحا. وقبل أن تنتهي سنة 23هـ كان العرب، قد فتحوا جميع ليبيا في أيام عمر بن الخطاب وفى أول سنة 27هـ - 647م أذن الخليفة عثمان بن عفان لواليه على مصر عبد الله بن أبى السرح بأن يسير إلى فتح إفريقية (القطر التونسي) واستطاع العرب في عام واحد أن يفتحوا القطر التونسي.
غير أن الفتن التحى حدثت في المشرق فى أيام عثمان وعلى ومحاولات الروم في استرداد ما كانوا قد خسروه في المغرب – بعد أن توطد حكم العرب في المشرق – جعلت العرب يتراجعون عن إفريقية وعن أجزاء من ليبيا مرة بعد مرة.
ولم يثبت الحكم العربي في المغرب إلا بعد الفتح الرابع، سنة 46هـ - 666م بقيادة عقبة بن نافع، وفى سنة 50هـ - 670م بني عقبة قيروانا(معسكراً) وخط فيه مسجداً (عين اتجاهه نحو القبلة، أي نحو مكة) فأصبح هذا المعسكر مع الأيام مهماً لتجمع الجيوش وللسكنى وسرعان ما أصبح هذا (القيروان) مدينة عظيمة مشهورة ومركزاً من مراكز العلم والحضارة في العالم الإسلامي.
وتابع عقبة بن نافع نفسه الفتح في المغرب حتى وصل إلى ساحل البحر، على البحر الأخضر (المحيط الأطلنطى) غير أن عقبة ترك الحزم وعاد في عدد قليل من أتباعه، فانتهز الروم والافرنجة فيه الفرصة، وهاجموه عند تهودة في بلاد الزاب جنوب جبال أوراس قريباً من بسكرة (في المغرب الأوسط) فاستشهد ومن معه في أواخر سنة 63هـ - 683م.
وقضى العرب عشرين سنة أخرى أو تزيد حتى قضوا على كل نفوذ الروم وللإفرنجة فى المغرب. عندئذ استقر المغرب إلى الحكم العربي وبدا الإسلام ينتشر فيه.
وفى سنة 86هـ - 705م جاء الوليد بن عبد الملك إلى الخلافة ففصل إفريقية وسائر المغرب عن ولاية مصر وولى عليها موسى بن نصير( ).
92 هـ - 711 م – 897 هـ - 1492م
أتم موسى بن نصير( ) والى المغرب منذ سنة 86هـ - 706م فتح بلاد المغرب حتى المحيط الأطلسي غربا وجبال السوس الأقصى جنوبا، واتبع موسى سياسة حميدة : أن يرسل مع الجيوش الغازية طائفة من الفقهاء ليدخلوا البربر في الدين الحنيف ويلقنوهم تعاليمه، مما عمل على تعريبهم سريعاً وأسس في بلاد المغرب الأوسط ولاية جعل حاضرتها (تلمسان) وأسس في بلاد المغرب الأقصى ولاية ثانية جعل حاضرتها (طنجة)المطلة على مضيق الزقاق، وولَّى عليها أحد قواده من البربر هو طارق بن زياد ( ). وأبقى موسى على سبته شرقيها على الزقاق لواليها الرومي البيزنطي يوليان، وكان قد سارع إلى موسى حين وصوله إلى إقليم طنجة سنة 89هـ - 709م فأعلن له ولاءه وطاعته. ويُظن أنه أغراه حينئذ بغزو إيبريا. وكان ملكها (غيطشة) ( ) قد توفى سنة 708م، واغتصب (لذريق)Roderic حاكم قرطبة العرش، ونشبت حروب بينه وبين أبناء غيطشة وانتصر عليهم ، ويبدو أنهم استغاثوا بيوليان حاكم سبتة البيزنطى حليف أبيهم ، ورأى أنه لا قبل له بلذريق وفكر أن يستعين عليه بالعرب، فأغرى موسى بن نصير – حين لقيه فى طنجة – بغزوها، فأخذ يرشد موسى بن نصير إلى مواطن الضعف من القوط، ويحبب إليه فتح البلاد، ويضع أسطوله تحت تصرفه.
* ويقال أن دافع يوليان حاكم مدينة سبتة إلى حث موسى بن نصير على هذا الغزو مسألة شخصية هى عدوان الملك الجديد لذريق على ابنته فى قصره، فأراد أن يثأر لانتهاك عرضه. ولم يبد مما فى نفسه شيئاً إلا أنه عرض بما أراد ؛ إذ كان لذريق يطلب منه أن يهدى إليه صقوراً للصيد فأجاب يوليان : لأرسلن إليك صقوراً ما رأيتها من قبل.
- وربما أراد يوليان أراد أن ينتقم للملك المخلوع الذي كان صهره.
- وربما أراد يوليان أراد أن يأمن غارة العرب الذين يحيطون به وتقض قوتهم مضجعه، فجعل يغرى موسى بن نصير والى إفريقية من قبل الوليد بن عبد الملك بملك لذريق وجمال بلاده ووفرة الخيرات، وقلة الخطر، وأنه ليس بها جيش حقيقى يحميها، فتطلع موسى بن نصير إلى الاستيلاء عليها ونشر الإسلام بها، وشاور في ذلك الخليفة الوليد بن عبد الملك، وكان شديد الطموح للفتوح، وكانت جيوشه تتغلغل فى أقصى الشرق وفى أواسط آسيا وفى الهند فشجع موسى، غير أنه أمره بالتمهل والتريث حتى يرسل حملات استكشافية، يتبين بها أين ينزل الجيش الفاتح وكيف يتحرك، فأرسل موسى قائداً من قواده هو طريف بن مالك عام 91هـ - 710م مع أربعمائة من الجند ومائة فارس، اجتازوا الطريق المسمى الآن بوغاز جبل طارق على أربع سفن قدمها إليهم يوليان، ونزل فى موضع أقيمت به بلدة سميت باسمه، وقام طريف بعدة غارات تبين له منها مسالك البلاد، وأنه لا توجد بها وسائل دفاع تحميها وتذود عنها، وكانت سرية موفقة.
وأغرى هذا التوفيق موسى في العام التالي 92هـ - 711م فأرسل طارق بن زياد في سبعة آلاف جندي نزل بهم عند جبل سمى فيما بعد إلى الآن جبل طارق، ودخل البلاد دون مقاومة، وتابع مسيرته على المحيط وعلم أن لذريق يعد جيشاً للقائه فأرسل إلى موسى بن نصير يستمده، فأمده بخمسة آلاف بقيادة طريف، جاوزوا المضيق في سفن عربية. ويرى أن طارقاً لما بلغه قرب جيش لذريق منه قام وخطب في أصحابه خطبته المشهورة فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حث المسلمين على الجهاد، ورغبهم فيه، فكان مما قال : أيها الناس، أين المفر، البحر من ورائكم، والعدو أمامكم وليس لكم، والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمراً.. ذهب ريحكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة عن أمركم بمناجزة هذا الطاغية ؛ فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمراً أنا عنه بنجوة، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم بأوفر من حظي، وقد بلغكم ما حوت هذه الجزيرة من الخيرات العميمة، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين، من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان – ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصاً لكم من دونه ومن دون المؤمنين. والله تعالى ولى إنجادكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين واعلموا أنى أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه. وإنى – عند ملتقى الجمعين – حامل بنفس على طاغية القوم (لذريق) فقاتله إن شاء الله تعالى – فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره، ولم يعوزكم بطل عامل تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولى إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه واكتفوا من فتح هذه الجزيرة بقتله.
والتقى طارق مع لذريق فى السهول المنبسطة شرقى قادس وهزمه هزيمة ساحقة، وفر لذريق إلى الشرق، وقتل على نهر (شقورة)، وبانتصار طارق جعل كثيراً من مدن إيبريا تفتح أبوابها له ولجنده، وتوالت انتصاراته فلم يلبث أن أرسل سبعمائة من رجاله إلى قرطبة فاستولوا عليها. ورأى طارق أن يعجلهم ويسرع إلى طليطلة قبل أن يولوا عليها ملكاً يجمع كلمتهم ويلم شعثهم، فتقدم قاصداَ طليطلة، بعد أن فرق جيشه فرقاً، فأرسل فرقة إلى قرطبة، وأخرى إلى مالقة، وثالثة إلى غرناطة، فاستولت كل فرقة على البلد الذي قصدته، وسار هو إلى طليطلة عاصمة البلاد.
ولما بلغ طارق طليطلة فى وسط إيبيريا رأى موسى بن نصير أن يسير إليه في قوة كبيرة ليشد أزره ويثبت فتحه ويمكن له، ويساعد طارقاً على التمهيد للإسلام وللعرب فى هذه البلاد، ولما بلغ موسى بن نصير ميدان القتال وجد طارقاً قد كاد يبلغ الشمال.
وتقول بعض الروايات أن موسى بن نصير امتلأ غيظاً وحقداً على طارق لما فتح الله على يديه من البلاد، وبدلاً من تهنئته بانتصاراته شد وثاقه وهم بقتله، لأنه أراد أن يكون هو الفاتح لا طارقا، والحقيقة أن موسى كان يخاف على المسلمين وكانت سياسته أن يتم فتح البلاد على التدريج. فقد روى أن ابن نصير قال لمولاه طارق عند اللقاء : كيف غررت بنفسك وبالمسلمين ولم تخف ألا أستطيع أن أمدك بمال ولا رجال؟!
ويدل أقوى الدلالة على صحة ما نقول أن طارقا ظل الساعد الأيمن فى استكمال الفتح.
وأقام موسى مع طارق فى طليطلة فى سنتى 94 ،95 هـ- 713/714م، وضرب للبلاد عملة جديدة تحمل على أحد وجهيها شهادة أن لا إله إلا الله، وبذلك كان أول عربي حكم قطرا أوربياً. واستطاعا طارق وموسى أن يتما فتح شبه جزيرة الأندلس إلا جانباً يسيراً منها « فى الشمال الغربى».
وجاء أمر من الخليفة الوليد بن عبد الملك إلى موسى بن نصير يدعوه إلى الرجوع إلى دمشق، فاستخلف موسى ابنه عبد العزيز على الأندلس وأسكنه في إشبيلية 95-97هـ وكان قد اتخذها عاصمة له، واتجه منها إلى الغرب فاستكمل فتح غرب إيبريا لتوطيد الفتح.
وجاز موسى إلى إفريقية وعين ابنه مروان على طنجة وابنه عبدالله على القيروان، ثم تابع سيره إلى المشرق فى أول سنة 96هـ - 714م فلما وصل إلى طبرية من أرض فلسطين وافاه رسول من سليمان بن عبد الملك – وهو ولى العهد – يطلب إليه أن يتريث فى المسير حتى يكون قدومه على دمشق وسليمان خليفة، لأن الوليد كان مريضاً مرض الموت، غير أن موسى أغَذَّ السير فوصل إلى دمشق والوليد حىُّ فى الأغلب.
وخلفه أخوه سليمان 96-99هـ فلم يحسن لقاء الفاتحين العظيمين ولم يعود إلى إيبيريا بعد ذلك.
ويقال أنه ألقى موسى بن نصير فى السجن وأرسل محمد بن يزيد والياً على المغرب وأمره بأن يأخذ آل موسى بن نصير بالتعذيب والقتل وأن يغرمهم ثلاثمائة ألف دينار وقد كان سجن موسى بن نصير ومقتل ولديه عبدالله وعبد العزيز من الوصمات التى لَصِقَتْ بسليمان بن عبد الملك أبد الدهر، ولم يكن لها تفسير أو تعليل سوى القسوة والفظاظة والحقد فى قلب سليمان. ويقال إن موسى حج مع سليمان سنة 97هـ وإنه توفى بالطريق فى المدينة أو فى وادى القرى.
أما طارق بن زياد فيبدو أنه عاد إلى موطنه مكتفياً بما أدى فى سبيل الله من جهاد وفتوح عظيمة، فقضى بقية عمره خاملاً لا ندرى كيف تقلب الدهر به ثم توفى سنة 102هـ - 702م ( ).
95هـ -714م – 138هـ - 756م
عدة عوامل عملت على كثرة الاضطرابات فى هذا العصر، أولها كثرة العناصر التي تكون منها الشعب الأندلسي، إذ كان منه أسبان مختلفو الجنسيات، ويهود، وبربر وعرب.
وعامل ثان هيأ لها هو كثرة تعيين الولاة هناك حتى بلغوا في نحو أربعين عاما اثنين وعشرين والياً( )، فلم يكن الوالي يشعر بشئ من الاستقرار.
وعامل ثالث هيأ بدوره لكثرة الاضطرابات في الأندلس هو بعدها عن السلطة المركزية في دمشق، فكان الخلفاء الأمويون لا يعرفون شئونها معرفة واضحة، مما جعلهم يكلون تعيين ولاتها إلى ولاتهم على المغرب.
وبعد مقتل عبد العزيز بن موسى في مطلع سنة98هـ، بقيت الأندلس ستة أشهر بلا والٍ، ثم قدم أهل الأندلس أيوب بن حبيب اللخمى، ابن أخت موسى بن نصير – وكان رجلاً صالحاً – ليؤمهم في صلاتهم. بعدئذ ارتضوه والياً غير أن والى إفريقية محمد بن يزيد أرسل الحر بن عبد الرحمن الثقفى ليلى الأندلس مكان أيوب بن حبيب في السنة نفسها.
وفى أيام الحر بن عبد الرحمن تحولت العاصمة من أشبيلية إلى قرطبة لأن أشبيلية كانت ميداناً واسعاً لنشاط الأسبان ضد الحكم العربي، ولأن قرطبة أقرب إلى طريق القوافل ومنذ أيام الحر بن عبد الرحمن بدأت غزوات العرب وراء جبال البرانس (فى بلاد الإفرنجة – فرنسة) لأن البابوية وملوك أوربا كانوا قد جعلوا بلاد الإفرنجة مركزاً يمونون منه الأسبان لقتال العرب.
وفى سنة 99هـ-717م توفى سليمان بن عبد الملك وخلفه عمر بن عبد العزيز، فقام عمر بعزل محمد بن يزيد عن إفريقية وولى مكانه إسماعيل بن أبى الهاجر، كما ولّى على الأندلس السمح بن مالك الخولانى، وكان عمر قد قال للسمح أن ينظر في أمور الأندلس، فإذا كان فيها خطرٌ على المسلمين فليردهم إلى إفريقية وينسحب من الأندلس، فكتب السمح إلى عمر بأن لا خطر على المسلمين وأن أحوالهم مستقرة. عندئذ أمر عمر بالبقاء فى الأندلس وبالقيام بعدد من الإصلاحات ، وقام السمح بغزوتين إلى فرنسا سنة 100هـ، وسنة 102هـ، فقتل في الثانية منهما فاستطاع أحد القادة فى جيشه – وهو عبد الرحمن الغافقى أن ينسحب بالجيش بمهارة فائقة، فقدمه الجند وجعلوه والياً مؤقتاً على الأندلس.
ويعتبر الخليفة عمر بن عبد العزيز هو الخليفة الوحيد الذي فصل ولاية الأندلس عن ولاية المغرب بعد أن تنبه إلى أن أهل الأندلس يأنفون من التبعية لأهل المغرب.
وفى سنة 101هـ توفى عمر بن عبد العزيز وخلفه يزيد بن عبد الملك فولى على إفريقية يزيد بن أبى مسلم فلما وصل يزيد بن أبى مسلم إلى القيروان 103هـ ولى على الأندلس عنبسة بن سحيم الكلبى، وغزا عنبسة فرنسا 105-107هـ واستشهد.
ولى عبد الرحمن الغافقى الأندلس للمرة الثانية سنة 112هـ-730م، فأعاد إلى الأندلس الهدوء والنظام وقاد جيشاً كبيراً لغزو غالة، وكان شارل مارتل قد حشد له جيشاً كثيفاً من الفرنج والألمان وشعوب الشمال الأوروبي، والتقى به لسنة114هـ-732م بين مدينة تور ومدينة بواتييه على بعد مائتي كيلومتراً من باريس جنوباً، وصمد المسلمون عشرة أيام ينازلون أعدادا ضخمة، وفاجأهم استشهاد قائدهم عبد الرحمن في المعركة فانسحبوا، وعرفت هذه الموقعة بواقعة بلاط الشهداء لكثرة ما استشهد فيها من المسلمين، أولئك الذين سقوا أرض فرنسا بدمائهم الذكية لتهتز فتربو بالإيمان وبالإسلام، ولكن كان غير ما كانوا يريدون، ويعتبرها التاريخ من مواقفه الحاسمة، فقد حيل بها بين المسلمين وبين ما كانوا يشتهون، وانتصبت حداً فاصلا بين المسيحية وبين تقدم الإسلام.
وولى الأندلس عبد الملك بن قطن الفهرى لمدة سنتين وخلفه عليها سنة 116هـ عقبة بن الحجاج القيسى وظل يليها خمس سنوات محمود السيرة، ورابط فى جليقية بأقصى الشمال الغربي من إيبيريا حتى لم يبق فيها قرية إلا فتحت ما عدا حصن بلاى بالقرب من خليج بسكاى لوعورة الطريق إليه، واستشهد فى قرقشونة، وباستشهاده يتوقف هذا المد العربي الإسلامي وراء جبال البرينيه فى غالة (فرنسا) بعد استمراره عشرين سنة أو تزيد سجل فيها العرب صفحات انتصار مجيدة بجانب انتصاراتهم وفتوحاتهم العظيمة فى إيبيريا.