المحاضرة التاسعة ن
5 – الصـــورة الشعريــة
الصورة الشعرية أداة فنية يستخدمها الشاعر، لنقل المعنى الذى اختمر في فكره، والإحساس الذى فاض به وجدانه من خلال عرضه لمشهد من الواقع والخيال، وتزداد أهمية الصورة، ويعظم دورها في العمل الفنى كلما ارتبطت بالتجربة الشعورية، وتناغتمت مع أجوائها، وكانت أداة لتنميتها، والكشف عن مكنونها ؛ لأن الطاقة الشعورية المنبعثة من التجربة لا تستطيع الألفاظ ـ وحدها ـ أن تعبر عنها، فتأتى الصور والظلال، لتستنفذ فائض الطاقة، من الحس والخيال والتى لم يستوعبها التعبير اللفظى المجرد ([1]).
بمعنى أن الأدب لا يقبل تصوير الحقائق والأفكار مجردة، ولا عرضها بالصورة التي هي عليها في الواقع، بل لابد أن يكون تصويرها من خلال المشاعر والانفعال، لتمنحها الحرارة والقوة وتجلوها في صورة أروع من حقيقتها وواقعها. إذ الوجدان والمشاعر لا ترى الأمور بالعين المجردة، حتى تراها كما هي، وإنما تراها بعين الخيال المحلق، وهى عين سحرية بعيدة الرؤية، ترى الحقيقة الواحدة في ألوان شتى، وأبعاد كثيرة، وأحجام مختلفة.
ومن هذا التحديد الموجز لمعنى الصورة الأدبية يتبين أنها قائمة على أساسين هامين:
أولاً : المعانى والأفكار والمشاعر، كمادة للصورة أو مضمون.
الثانى: العبارة المصورة لهذه المعانى والمشاعر، كشكل لها أو صورة.
وبذلك يتسع إطار الصورة الأدبية، فيشمل المضمون والشكل معاً في مزاج واحد ([2]).
" فالصورة الشعرية تركيب قائم على الإصابة في التنسيق الفنى الحى لوسائل التعبير التي ينتقيها وجود الشاعر ـ خواطره ومشاعره وعواطفه ـ المطلق من مؤثر، على نحو يوقظ الخواطر والمشاعر في الآخرين ([3]) ".
على أن جانب المشاعر لابد أن يطغى في المضمون على المعانى والأفكار طغياناً واضحاً، لترتفع درجة التأثير النفسى فوق التفكير العقلى. وتعطى الصورة ثمرتها من الإثارة والمتعة.
أما دور العبارات المصورة فلـه ثلاث جوانب، جانب وحى الألفاظ مفردة في التركيب، جانب الخيال بشعبه الكثيرة، وجانب الموسيقى والجرس.
وترجع أهمية الصورة الشعرية إلى تمكين المعنى في النفس والتأثير في مشاعر وخواطر الآخرين.
فالصورة تعد معياراً أساسياً، ومقوماً رئيسياً من معايير ومقومات الشعر.
أنواع الصورة:
صورة جزئية ـ صورة كلية
فالصورة الجزئية: تعبر عن جزء من أجزاء التجربة أو حدث من أحداثها، فهى تستقل بمشهد صغير أو فكرة محددة تبرزها في إطار خاص، يصلح لعرضها في كيان مستقل، ولا ترسم صورة كلية مركبة.
والصورة الجزئية: تدور بين التشبيه والاستعارة والكناية... الخ
والصورة الكلية: " هي مجموعة هذه الصور الجزئية التي يتبع بعضها بعضا في تتابع وتسلسل وفى اتساع ونمو، حتى تكتمل من مجموعها الصورة الكلية ([4]) " التي تشكل لوحة فنية متكاملة، يتوفر فيها التناسق في بنائها والإيحاء في تعبيرها، والدقة في اختيار أجزائها ويتعاون في تأليف أجزائها الألوان والظلال والحركات.
ومن الصور الجزئية ما جاء في قصيدة " فتى وفتاة " ([5]) للشاعر محمد رجب البيومى، حيث صور الفتى وقد تشبه بالفتاة يقول:
صففت
الشعر فانتظمت |
|
بمفرق
رأسك الخصل |
فعن طريق التشبيه صور الفتى وقد صفف شعره، ونظم خصله السوداء المنسدله على كتفيه بالليل، ثم شبه صوته المتميع إذا نطق به رن كالقبل.
وهى صورة تشبيهية حسية، حيث صور الشاعر محسوسا بمحسوس لغرض إبراز الصورة والتنفير منها.
ومن الصور الجزئية قول إيليا أبى ماضى في قصيدته الشهيرة: " كن جميلا ترى الوجود جميلا ":
أدركت
كنهها طيور الروابى |
|
فمن
العار أن تظل جـــــهولا |
فهذا التصوير ـ الذى يصور فيه الشاعر حال المتشائم ويقابل بينها وبين حال الطيور الشادية ـ لا يقصد من ورائه إلى أن هذه الطيور حقاً أدركت كنهها، وإنما يرى أن الإنسان يضل طريق السعادة إذا اعتمد على تفكيره الدائم فيما يكون في مستقبله أو في عاقبة أمره، على حين تصل تلك الطيور إلى سعادتها عن طريق اعتمادها على فطرتها السليمة التي لم يفسدها هذا التفكير، ويوحى هذا التصوير إلى المرء بإمكان رجوعه إلى فطرته كالطيور، فيتغافل عما يتهدده من أخطار يتناساها مؤقتاً، لينعم بالحياة ما يتيسر له النعيم، فلا ينغص ملذاتها بما كان أو بما يكون، فالشاعر ـ إذن ـ يوحى في هذا التصوير بأن الرجوع إلى الفطرة والعاطفة قد يكون أجدى عاقبة من الاعتماد على العقل والتفكير وحدهما، وهذه فكرة فلسفية طالما شغلت المفكرين وشعراء الإنسانية، وهى التي يهدف إليها الشاعر من وراء حجته، على أن هذه الحجة مسوقة في وصورة شعرية، ففيها ماء ورونق، بهما تخلصت من جفاف المنطق وتجريدياته، دون أن تجافى الصدق.
ولكن أشد ما يصنف الصورة فنيا هو أن يقف بها الشاعر عند حدود الحس مما تسميه البلاغة العربية: " الجامع في كل " دون نظر إلى ربط هذا التشابه الحسى بجوهر الشعور والفكرة في الموقف، فمثلا قول ابن المعتز في وصف هلال الفطر عقب رمضان:
أنظر
إليه كزورق من فضة |
|
قد
أثقلته حمولة من عنبر |
لا ينقل إلينا شعوراً صادقاً بجمال الهلال وروعته، لأن الشاعر بحث عن نظير حسى لما يراه، دون أن يتصل هذا بشعور محدد أو فكرة. وقد يكون في هذا التشبيه دلالة نفسية على رغبته في الهرب من عالم الواقع أو دلالة على بيئة الترف التي ألفها ابن المعتز، ولكن هذه الدلالة النفسية لا شعورية، ولا صلة لها بالمنظر الطبيعى الذى يقصد ابن المعتز إلى تصويره.
ولعل أول من نبه إلى ذلك ـ في النقد العربى الحديث ـ هو الاستاذ العقاد في الديوان إذ يقول:
" وإذا كان كدك من التشبيه أن تذكر شيئاً أحمر ثم تذكر شيئين أو أشياء مثله في الإحمرار، فمازدت على أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمراء بدل شىء واحد.
ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعك وفكرة صورة واضحة مما انطبع في ذات نفسك، وما ابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان محسوبة بذاتها كما تراها وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس، وبقوة الشعور وتيقظه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز الشاعر على سواه ولهذا لا لغيره كان كلامه مطرباً مؤثراً، وكانت النفوس تواقه إلى سماعه واستيعابه، لأنه يزيد الحياة حياة، كما تزيد المرآة النور نوراً.. وصفوة القول أن المحك الذى لا يخطىء نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره. فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كانت تلمح وراء الحواس شعوراً حياً ووجداناً تعود إليه المحسات.. فذلك شعر الطبع الحى والحقيقة الجوهرية. "
ومن الصور الكلية المؤلفة من صور جزئية مترابطة لترسم مشهداً
عاماً. الصورة التي رسمها الشاعر محمد هارون الحلو ليتيم في قصيدته:
" ما أجمل الإحسان " ([6]).
وهى صورة كلية تجمع بين المرئى والمسموع والساكن والمتحرك، وفيها يرسم الشاعر صورة مأساوية تنتزع الإشفاق والرحمة والعطف من قلب كل مسلم ليتيم بات جريحا، ومزقت آناته سكون الليل، وقد ألقى بالعراء، وافترش الثرى، تتقلب عيونه في ظلمات الليل الحالك، تطاردها الأشباح يستغيث ولا مغيث، وكلما مد كفه لم يجد عوناً سوى زاجر في كل اتجاه، فلا يملك سوى الركض والأسف على أنه ليس لـه في هذا الكون أب يحميه.
وقد حدد الشاعر الليل ميقاتا لرسم الصورة ؛ لأنه الوقت الذى يخلد فيه كل إنسان إلى بيته للراحة والإستأناس مع أهله وذويه. كما حدد المكان وهو ثرى الطريق.
وقد شكل الشاعر الزمان والمكان تشكيلا نفسياً خاصاً يتفق وحالته الشعورية
المسيطرة عليه، والصورة جاءت لتثير مشاعر وعواطف
المسلمين، وتحرك قلوبهم للعطف على الأيتام والرحمة بهم.
وهو ما قصد إليه الشاعر حين استعان بالصورة في توصيل عاطفته إلى جماهير المسلمين في كل زمان ومكان:
بنفسى
يتيم بات يقلقه الطوى |
|
وأناته
في الليل تنأى وتقرب |
ومن الصور الجميلة، الصورة التي رسمها الشاعر الغنائى المبدع رشيد أيوب شاعر المهجر، في قصيدته " وولى ما عرفناه " الذى يرسم صورة للدرويش الزاهد في أبعاد كثيرة يقول ([7]):
وقَفَنَا
عند مرآه |
|
حَيَارَى
ما عرَفنَاهُ |
وفى ضوء ما تقدم نهتدى إلى الآتى:
أولاً : الوسيلة الجوهرية الفنية لنقل التجربة هي الصورة، في معناها الجزئى والكلى، فما التجربة الشعرية كلها إلا صورة كبيرة ذات أجزاء هي بدورها صورة جزئية تقوم من الصورة الكلية مقام الحوادث الجزئية من الحدث الأساسى وإذن فالصورة جزء من التجربة، ويجب أن تتآزر مع الأجزاء الأخرى في نقل التجربة نقلا صادقاً فنياً وواقعياً.
ثانياً: على الرغم من أن صور الشعر وظيفتها التمثيل الحسى للتجربة الشعرية الكلية، ولما تشتمل عليه من مختلف الإحساسات والعواطف والأفكار الجزئية، فإنه لا يصح بحال الوقوف عند التشابه الحسى بين الأشياء من مرئيات أو مسموعات أو غيرهما دون ربط التشابه بالشعور المسيطر على الشاعر في نقل تجربته. وكلما كانت الصورة أكثر ارتباطاً بذلك الشعور كانت أقوى صدقاً وأعلى فناً.
ولهذا كان مما يضعف الأصالة اقتصار الشاعر ـ في تصويره شعوره ـ على حدود الصور المبتذلة التي تقف عليها الحواس جميعاً، والتى هي صور تقليدية، وذلك كتشبيه الخد بالورد أو التفاح مثلا.
ثالثاً: الصورة لابد أن تكون عضوية في التجربة الشعرية، ويقتضى هذا أن تؤدى كل صورة وظيفتها في داخل التجربة الشعرية التي هي الصورة الكلية، وذلك بأن تكون الصور الجزئية مسايرة للفكرة العامة أو الشعور العام في القصيدة، وأن تشارك في الحركة العامة للقصيدة حتى تبلغ الذروة في النماء.
رابعاً: نتيجة لعضوية الصورة يجب ألا تضطرب الصورة الشعرية، ويكون اضطراب الصورة الشعرية إذا تنافرت أجزاؤها في داخلها، أو تنافت مع الفكرة العامة، أو الشعور السائد في التجربة نفسها.
وننقل هنا مثال لاضطراب الصور وتنافرها للشاعرة العراقية نازك الملائكة في قصيدة: " الراقصة المذبوحة " وهى تحية الجزائر المكافحة، وفيها تخاطب الجزائر الجريحة قائلة:
"
أرقصى مذبوحة القلب وغنى |
فكيف تتلاءم رقصة المذبوح مع الضحك والغناء والاطمئنان ؟
خامساً: الصور التعبيرية الإيحائية أقوى فنياً من الصور الوصفية المباشرة، إذ أن للإيحاء فضلاً لا ينكر على التصريح وهذا ما تنبه لـه بعض النقاد الكلاسيكيين أنفسهم، ثم أفاضت فيه الرمزية.
ونود أن نخلص من كل ما تقدم، إلى أن الصورة الشعرية هي بنت التجربة، والانفعال، والفكرة، وأن الحكم على القصيدة لا يكون بالصورة، إنما بالتجربة ومادتها وأدواتها، ومن أبرزها الصورة بمكوناتها.
[1] ) انظر الصورة الشعرية في الكتابة الفنية الأصول والفروع / صبحى البستانى ط / دار الفكر العربى / الأولى 1986م / 30 .
[2] ) للتوسع راجع اتجاهات وآراء في النقد / 80 وما بعدها .
1) في الأدب المعاصر في مصر / د محروس منشاوى الجالى / ط / دار الطباعة المحمدية بالأزهر القاهرة / 1979م / 74 .
[5]) ديوان حنين الليالى / ط / مطبعة السعادة / ط الأولى 1987م / 164 .
[6] ) ديوان مزامير / 358 / 359 .
[7] ) ديوان أغانى الدرويش /ط/ 1928 / 48 .