المحاضرة الثالثة ا
محور القضية
يتمحور هذا الموضوع حول الطريق التي
وصل بها الشعر الجاهلي إلى العصر الذي دون فيه تدويناً مستفيضاً فكانت هذه الكتب
وهذه الدواوين التي بين أيدينا الآن عنه .
تجمع الآراء قديماً وحديثاً أو تكاد
على أن الرواية الشفهية كانت الطريق الأول لحفظ هذا الشعر إذ لم تكن الكتابة وسيلة
أساسية في هذا الشأن .
فابن سلام والجاحظ مثلاً كانا لا يريان العربي يقيد شعره
أو يدونه وهنا يرى ابن سلام أن العرب عندما أستقروا في الأمصار بعد الفتوح لم يجدوا
كتاياً دون فيه الشعر العربي قبل الإسلام .
يرى بعض الدارسين المحدثين ما رآه
ابن سلام ومن هؤلاء الدكتور إبراهيم عبد الرحمن في كتابه الشعر الجاهلي حيث يقول (
كانت الرواية الشفوية وسيلة الجاهليين إلى رواية أشعارهم وحفظها وعن طريق هذه
الرواية وحدها وصل إلينا قدر كبير من قصائده ومقطعاته ) ومن هنا فإن الرواية
بالمشافهة كانت المصدر الأول لرواية هذا الشعر
هل عرف العرب قبل الإسلام الكتابة
؟
تكاد تجمع الروايات على أن العرب قبل الإسلام قد عرفوا القراءة والكتابة
. وذلك بعد نمو الخط النبطي وتطوره إلى الخط العربي يدلنا على ذلك أمران
1- النقوش العربية التي اكتشفت مثل نقش ( النمارة ) الذي اكتشفه
المستشرقان ديسو ومالكر في عام 1902م وهو شاهد لقبر الملك امرئ القيس بن عمرو ثاني
ملوك بني نصر اللخميين الذين حكموا الحيرة وهذا النقش كما اكتشف هو ( تي نفس مر
القيس بن عمرو ,ملك العرب كله , ذو أسر التج , وملك الأسدين , ونزرو وهرب مذحجو
عكدي , وجاء يزجي في حبج نجران مدينة شمر , وملك معدو, ونزل بينه الشعوب ووكلن فرس
لروم , فلم يبلغ ملك مبلغه عكدي . هلك سنة 223يوم 7بكسول , بلسعد ذو ولده) وتقريبه
للعربية كما يلي :
( هذا قبر امرئ القيس بن عمرو , ملك العرب كلها , الذي عصب
التاج , وملك قبيلة أسد ونزار , وفرق مذحج بالقوة , وجاء مندفعاً إلى مشارف نجران
مدينة الملك شمر , وملك معداً , وملك بنيه الشعوب , ووكله الفرس والروم , فلم يبلغ
ملكٌ مبلغه ) راجع المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج1 ص199
.
ومن يقرأ هذا النقش يدرك تماماً أن الخط العربي قد بدأ يتبلور من فجر
القرن الرابع الميلادي إلى الخط الذي نزل به القرآن الكريم , فالآثار الآرامية
والنبطية فيه ضئيلة جدا مثل ( بر ) الآرامية التي بمعنى إبن وإضافة الواو على
الأعلام التي هي أثر من آثار الخط النبطي هذا أمر
والأمر الثاني ما ورد من شعر الجاهليين الذي تضمن بعض الإشارات إلى
الكتب والكتابة , مثل قول لبيدبن ربيعة في طويلته حيث يقول
:
وجلا السيول عن الطلول كأنها زبر تجد متونها
أقلامها
وقول المرقش الأكبر :
الدار قفر والرسوم كما رقش في ظهر
الأديم قلم
وتدل الروايات على أن من العرب من كان يحسن القراءة
والكتابة بل ويحسن كذلك لغة بعض الأمم الأخرى مثل لقيط بن يعمر الأيادي الذي كان
كاتباً في إيوان كسرى والذي أرسل لقومه إياد رسالة يخبرهم بعزم كسرى على إنهاء
العرب وكانت رسالته قصيدة طويلة مكتوبة يقول فيها
:
سلام في الصحيفة من لقيط إلى من بالجزيرة من
أياد
بأن الليث كسر قد أتاكم فلا يشغلكموا سوق
النقاد
وكان هناك كثير من العرب يحسنون القراءة والكتابة مهنم سويد بن الصامت
وعبدالله بن رواحه وغيرهم كثير وكثير وكانت العرب تدون مواثيقها وعهودها وأحلافها
وقد أشار على ذلك الحارث بن حلزه حيث يقول
وأذكروا حلف ذي المجاز وما قدم فيه العهود
والكفلاء
وعرف عن العرب أنهم كانوا يدونون حسابتهم التجارية وحقوق الغير كما يقول
علباء بن أرقم البكري :
أخذت لدين مطمئن صحيفة وخالفة فيها
كل من جار أو ظلم .
من هذا كله ندرك أن العرب كانوا يعرفون القراءة والكتابة
ولكنهم لم يدونوا أشعارهم لعلمهم أنها ستحفظ لاهتمام العرب بروايتها وهنا يبرز
السؤال هل دون العرب شعرهم وحفظوه للأجيال التي جاءت بعدهم
.
وللإجابة على هذا السؤال يجد نفسه أمام أمرين
:
الأول : أن هناك إشارات في الشعر الجاهلي تدل على التدوين لبعض الشعر
الثاني : أن بعض الباحثين قد ذهب إلى القول بتدوين الشعر الجاهلي مثل
الدكتور ناصر الدين الأسد الذي قال ( فاذا كانت القبائل العربية تقيد عهودها
ومواثيقها – كما مر بنا – أفليس من الطبيعي إذا أن تقيد شعر شعرائها الذين يدافعون
به عن حياتها ويذودون عن أمجادها ويسجلون به وقائعها وأيامها ويعددون فيه
انتصاراتها ومآثرها ) ولكن برغم هذين الأمرين فإن كثيراً من الباحثين يرون أن هذا
الشعر قد وصل إلى عصر التدوين عن طريق الرواية وليس عن طريق الكتابة ولهم في ذلك
أسباب ثلاثة :
الأول : أن ما وصل إلينا من نصوص تدل على ان العرب لم
يتخذوا الكتابة وسيلة للتدوين شعرهم وحفظه لمن يأتي بعدهم فقد نقل إلينا ابن سلام
قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال( لما كثر الإسلام , وجاءت الفتوح , واطمأنت
العرب بالأمصار , راجعوا رواية الشعر فلم يئلوا إلى ديوان مدون, ولا كتاب مكتوب ,
فألفَوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل , فحفظوا اقل ذلك وذهب عنهم منه
الكثير) كما نقل ابن سلام ايضا قول شيخ رواة البصرة أبي عمرو بن العلاء ( ما انتهى
إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير )
الثاني : لو عرفت العرب تدوين آدابها بقصد حفظها للأجيال القادمة لكن
القرآن الكريم وأحاديث الرسول في حياته صلى الله عليه وسلم
...
الثالث : وهو أهم الأسباب أنه لم يصل إلينا دليل مادي يؤكد أنهم أتخذوا
التسجيل وسيلة لتسجيل وحفظ الشعر وهذا ما قره الدكتور شوقي
ضيف.
( والحق أنه ليس بين أيدينا أي دليل مادي على أن الجاهليين اتخذوا
الكتابة وسيلة لحفظ أشعارهم ربما ما كتبوا بها بعض قطع أو بعض قصائد ولكنهم لم
يتحولوا من ذلك على استخدامها أداة في نقل دواوينهم إلى الأجيال التالية)
وخلاصة القول : فإن الرواية كانت هي الوسيلة العظمى التي وصل عن طريقها
الشعر الجاهلي إلى عصر التدووين . وكانت تقوم على دعامتين
:
الأولى : رواية الشعراء عن بعضهم
الثانية : رواية القبائل لشعر
شعرائها لحفظ مناقبها ومآثرها .
وهناك دعامة ثالثة ولكنها أقل من
الأوليين وهي أن هناك حفظة للشعر والأخبار كانوا يتناقلون الشعر وأخبار الشعراء
ويذيعونها في مجالس القبائل .
بهذه الدعامات الثلاث وصل الشعر
الجاهلي إلى عصر الإسلام ولما جاء الإسلام لم يهمل العرب رواية الشعر بل ظلوا
محافظين عليها بل إن كبار الصحابة رضوان الله عليهم كعمر رضي الله عنه وأبو بكر
الصديق رضي الله عنه وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانوا يروون الشعر ويستشهدون
به .