محاضرة الثالثةعشرة
الفصل الرابع
من نصوص الأدب الأندلسي
1- نونية ابن زيدون فى الغزل
نص القصيدة :
أَضْحَى التنائى بَدِيلاً مِنْ تَدَانِينا |
|
ونابَ عن طيب لَقْيانا تَجَافينا ([1]) |
||
أَلاَّ وقد حانَ صُبحُ البَيْنِ صَبَّحَنا |
|
حَيْنٌ فقامَ بنا للحَيْن ناعينا ([2]) |
||
من مُبْلغُ المُلْبِسينا بانتزاحِهمُ |
|
حُزْناً مع الدهرِ لايَبْلَى ويُيْلينا |
||
أنَّ الزمانَ الذى مازال يُضْحِكنا |
|
أُنْساً بقربِهِمُ قد عادَ يُبْكينا |
||
غِيظَ العِدامِنْ تْسَاقينا الهوى فدعوا |
|
بأن نَغَصَّ فقالَ الدهُر آمينا ([3]) |
||
فانحلَّ ما كانَ معقوداً بأنفسنا |
|
وانْبَتَّ ما كانَ مَوْصُولاً بأيدينا |
||
وقدْ نَكُونُ وما يُخْشى تفرُّقُنا |
|
فاليومَ نحن وما يُرْجَى تلاقينا |
||
ياليتَ شِعْرى ولم نُعتِبْ أَعَاديكُمْ |
|
هل نالَ حَظٌّامن العُتْبَى أعادينا([4]) |
||
لم نعتقدْ بعدَكُمْ إِلاَّ الوفاءَ لكمْ |
|
رأياَ ولم نتقلدْ غيرَهُ دِينا |
||
ما حقُّنا أَن تُقِروُّا عَيْنَ ذى حَسَدٍ |
|
بنا ولا أَن تَسُرُّوا كاشِحاً فِينا ([5]) |
||
كُنَّا نَرَى اليأْسَ تُسلينا عوارضُهُ |
|
وقد يئسنا فما لليأْسِ يُغْرينا |
||
|
|
|
||
يِنْتُمْ وبِنَّا فما ابتلَّتْ جوانحُنَا |
|
شَوْقاً إليكم ولا جَفَّتْ مَآقينا ([6]) |
||
نكادُ، حينَ تُناجيكم ضمائرُنا |
|
يقْضى علينا الأَسَى لولا تَأَسَّينا ([7]) |
||
حالتْ لِفَقْدِكُمُ أَيامُنا فغدتْ |
|
سُودًاو كانَتْ بِكُمْ بِيضاً ليالينا ([8]) |
||
إذْ جانِبُ العَيْش طَلْقٌ من تَأَلُّفِنا |
|
ومَرْبعُ اللهو صِافٍ من تصافينا |
||
وإذ هَصَرنْا غصونَ الوصل دانيةً |
|
قُطُوفُها فَجَنَيْنَا منه ماشِينا ([9]) |
||
ليُسْقَ عهدُكُمُ عهدُ السُّرُور فما |
|
كُنْتُمْ لأَرْواحِنَا إِلاَّ رياحينا |
||
لا تحسَبُوا نَأيَكُمْ عنا يُغَيَّرنا |
|
إن طالَ ما غيَّرَ النأْىُ المحبينا |
||
واللهِ ما طلبتْ أَهواؤنا بَدَلاً |
|
منكم ولا انصرفتْ عنكم أَمانينا |
||
|
%%% |
|
||
ياسارىَ البرق غادِ القَصْرَ واسقِ بهِ |
|
مَنْ كان صِرْفَ الهوى والوَدَّيَسْقينا ([10]) |
||
واسأَلْ هنالك هل عَنَّ تَذَكُّرنا |
|
إلفاً تَذَكُّرُهُ أَمسى يُعَنَّينا ([11]) |
||
ويا نسيمَ الصَّبا بَلَّغْ تَحِيتَّنَا |
|
مَنْ لوْ على القُرب حَيَّا كان يُحيينا |
||
فهلْ أَرى الدهرَ يَقْضِينا مُساعَفَةً |
|
منه وإنْ لم يكنْ غِبًّا تَقاضيِنا ([12]) |
||
%%% |
||||
ربيبَ مُلْكٍ كأَنَّ الله أَنشأَهُ |
|
مِسْكاً وقدَّرَ إنشاءَ الوَرَى طِينا |
||
أَو صاغَهُ وَرِقاً مَحْضاً وتَوَّجَهُ |
|
مِنْ ناصع التَّبرِ إبداعاً وتحْسينا ([13]) |
||
إذا تأَوَّدَ آدَتْهُ رفاهيةً |
|
تُومُ العقود وأَدْمَتْه الُبرَى لِينا ([14]) |
||
كانتْ له الشمسُ ظِئْراً فى أَكِلَّتِه |
|
بلْ مَا تَجَلَّى لَهَا إلا أَحَايِينا ([15]) |
||
كأَنما أُثْبِتَتْ فى صَحْنِ وَجْنتِهِ |
|
زُهْرُ الكواكبِ تَعْوِيذاً وتَزْيينا ([16]) |
||
ماضرَّ أَن لم نكن أَكفاءَه شَرَفاً |
|
وفى المَوَدَّةِ كافٍ مِنْ تَكافينا |
||
%%% |
||||
يا روضةً طالما أَجْنَتْ لواحِظَنَا |
|
وَرْداً جَلاَهُ الصَّبا غَضًّا ونِسْرينا ([17]) |
||
ويا حياةً تَمَلَّيْنَا بِزَهْرَتها |
|
مُنًى ضروباً ولذاتٍ أَفانينا ([18]) |
||
ويا نعيماً خَطَرْنا من غضارته |
|
فى وَشْى نُعْمى سَحَبْنا ذيلَه حينا ([19]) |
||
لسنا نُسَمَّيكِ إِجلالاً وتكْرمةً |
|
وقَدْرك المعْتَلى عن ذاكَ يُغْنينا |
||
إذا انفردْتِ وماشُورِ كْتِ فى صفةٍ |
|
فَحْسبنا الوصف إيضاحاً وتبيينا |
||
يا جنَّةَ الخُلْدِ أُبْدِلْنا بِسِدْرَتها |
|
والكَوْثر العذبِ زقوماً وغِسْلينا([20]) |
||
كأننا لم نَبِتْ والوصلُ ثالثُنا |
|
والسعدُ قد غَضَّ مِن أجفانِ واشينا |
||
سِرَّان فى خاطر الظلماءِ يَكْتُمنا |
|
حتى يكادَ لسانُ الصبح يُفشينا |
||
لاغروفى أَنْ ذَكَرْناالحزنَ حين نَهت |
|
عنهُ النُّهَى وَتَرَكْنَا الصَّبْرَ ناسينا ([21]) |
||
إنَّا قَرَأْنا الأَسَى يومَ النَّوى سُوَراً |
|
مَكْتُوبةً وأَخَذْنَا الصَّبْرَ تَلْقينا |
||
أمّا هواكِ فلم نَعْدِلْ بمنهله |
|
شِرْباً وإن كان يُروينا فيُظمِينا([22]) |
||
لم نَجْفُ أُفْقَ جمالٍ أَنتِ كوكبُهُ |
|
سالينَ عنه ولم نَهْجُرْه قالينا |
||
ولا اختياراً تَجَنَّبناه عن كَثَبٍ |
|
لكنْ عَدتْنا على كُرْهٍ عوادينا ([23]) |
||
تَأْسَى عليكِ إِذا حُثَّتْ مشعشعةً |
|
فينا الشمُولُ وغنانا مُغَنَّيا ([24]) |
||
لاأَكؤسُ الراح تُبدِى من شمائلنا |
|
سِيما ارتياح ولا الأوتارُ تلهينا |
||
دُومى على العهدِ مادُمْنا محافِظَةً |
|
فالحرُّ مَنْ دَانَ إنصافاً كما دِينا ([25]) |
||
فما استَعَضْنَا خليلاً منكِ يَحْبِسُنا |
|
ولا اسْتَفَدْنا حَبيباً عنكِ يَثْنينا |
||
ولو صَبَا نحونا من عُلْوِ مَطْلَعِهِ |
|
بدرُ الدجى لم يكنْ حاشاك يُصبينا ([26]) |
||
أوْلىِ وفاءً وإنْ لم تَبْذُلى صلةً |
|
فالطيفُ يُقْنِعنا والذَّكرُ يَكْفينا ([27]) |
||
وفى الجوابِ مَتَاعٌ إن شَفَعْتِ به |
|
بِيض الأَيادى التى مازلتِ تُولينا |
||
عليكِ منى سلامُ اللهِ ما بَقيَتْ |
|
صَبابةٌ منكِ نُخفيها فتُخفينا ([28]) |
||
3- التعريف بالشاعر :
هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب زيدون المخزومى الأندلسى القرطبى، وهو من نسبه عربى صريح ينتمى إلى قبيلة مخزوم القرشية.
تقع حياته فى ثلاثة أدوار : من ولادته إلى اتصاله ببلاط بنى جهور – حياته فى بلاط بنى جهور.
حياته فى بلاط بنى عباد:
ولد ابن زيدون فى رصافة قرطبة، فى بيت علم وجاه وغنى، سنة 394هـ - 1003م، فبدأ تلقى العلم عن أبيه وكان أبوه فقيهاً مشهوراً معروفاً بالنباهة والعلم والأدب، ولما توفى أبوه فى « إلبيرة سنة 405هـ» كفله جده لأمه وأخذ عن جده شيئاً من العلم، وكان من أساتذته ( شيوخه ) الفقيه القاضى أبو العباس أحمد بن عبد الله بن ذكوان (343 – 413هـ ) و أبو بكر مسلم بن أحمد القرطبى النحوى (ت 432هـ )، وكان كثير الميل لعلوم العرب وفنون اللغة فحفظ كثيراً من آثار الأدباء وأخبارهم وأمثال العرب وحوادثهم و مسائل اللغة، وكانت له أيضاً ثقافة فلسفية تدلنا عليها ما ورد له فى رسالته الهزلية من بعض مصطلحات الفلاسفة وأسمائهم كأفلاطون وأرسطاطاليس وبقراط، وجابر بن حيان، وإننا لنرى فى رسالته الهزلية والجدية فيضاً من المعارف التاريخية والثقافية الإسلامية وعدداً كبيراً من الأمثال الأشعار. فثقافة الشاعر إذن ثقافة واسعة، ولعله قد ستقى معارفه من أكثر الكتب العلمية والأدبية الشائعة فى عصره. وأخذ يعالج فنون الأدب حتى برع فيها، فتم فضله، وذاع صيته، وارتفعت مكانته، واتصل بابن جهور أحد ملوك الطوائف، فاتخذه كاتباً ومشيرا، ثم أخذ يترقى فى دولة ابن جهور حتى قلده منصب الوزارة واعتمد عليه فى السفارات بينه وبين ملوك الأندلس، فلقب بذى الوزارتين، وصار يعمل على تحسين الصلات بينهم وبينه بذكائه ودهائه، إلى أن دبت عقارب السعاية بينهما، فنقم عليه ابن جهور وسجنه، فكتب إليه رسالة فريدة « رسالة الجدية » يستمطربها عفوه، ويستعطفه فيها، وأرسل معها قصيدة يمدحه بها ومطلعها :
الهوى فى طلوع تلك النجوم |
|
والمُنَى فى هبوب ذاك النسيم |
وقد ذكر فى هذه القصيدة أنه مكث فى السجن خمسمائة يوم فقال :
أفصٌبر مئينَ خمساً من الأَيام |
|
ناهيكَ من عذاب أليمِ |
ولم يلق ابن زيدون من ابن جهور على رغم استعطافه له إلا الجفاء فلم يعف عنه وذهبت توسلاته عبثاً، عندئذ عزم على الفرار وهكذا يفر الشاعر من سجنه فى غضون سنة 433هـ بعد أن أخفقت وسائله وتوسلاته فى استعطاف أميره أبى حزم، ويقصد إشبيلية للمرة الأولى فيجد فيها الشاعر صدراً رحباً حيث أدناه المعتضد منه وقربه إليه وغمره بعطفه، ولكن نفس الشاعر كانت تجذبه إلى قرطبة، موطن صباه ومسرح هواه، فكتب إلى حبيبته قصيدته النونية الخالدة موضع دراستنا التى أستهلها بقوله :
أضحى
التنائ بديلاً من تدانينا |
|
وطاب عن
طيب لُقْيانا تجافينا |
وختمها بقوله :
أَوْلىِ
وفاءً وإن لم تبذلى صلةً |
|
فالطيف
يُقْنِعُنا والذكر يكفينا |
وفى
الجواب متاعٌ إن شفَعْتِ به |
|
بيضَ
اليَادَى التى مازلتِ تولينا |
عليكِ منا
سلامُ اللهِ ما بقيتْ |
|
صبابةٌ
بكِ نخفيها فتخفينا |
ولم يطق البقاء بعيداً عن هواه فعاد إلى قرطبة واستخفى بضاحيتها الزهراء وأخذ يراسل أصدقاءه مستشفعاً بهم لدى أبى حزم، فكتب رسالته الرائعة إلى أستاذه أبى بكر بن مسلم، وفيها أبان سبب هربه بعد أن أعيته وسائل الاستعطاف وعاتب أستاذه لتقاعسه فى إخراجه من السجن، ثم أتبعها بقصيدته الطائية فى الديوان ومنها : -
عليكَ
أَبا بكرٍ بَكَرْتُ بهمة |
|
لها
الخَطَر العالى وإن نالها حَطُّ |
أبى بعدَ
ما هِيل الترابُ على أبى |
|
وَرَهْطِىَ
فَذّاَ حِين لَم يْبق لىَ رهْطُ |
ولم يكتف الشاعر بهذا بل واصل مساعيه عند ولى العهد أبى الوليد.
بقى ابن زيدون مختفياً فى الزهراء، وفى هذه الفترة كتب إلى حبيبته قصيدته العاطفية التى استهلها بقوله : -
إنى
ذكرتكِ بالزهراءِ مُشتاقا |
|
والأُفْقُ
طَلْقٌ ومرأَى الأرَض قد راقا |
وللنسيم
اعتلالٌ فى أصائله |
|
كأنه رَقَّ
لى فاعتلَّ إِشفاقا |
ومدح ابن زيدون أبا الحزم بقصائد عديدة، اعلاناً منه لوفائه لأميره وتعلقه بوطنه ومات أبو الحزم فرثاه الشاعر، ووضع كل آماله لدى أبى الوليد.
أباالحزم قد ذابت عليك من الأسى |
|
قلوب
مناها الصبر لو ساعد الصبر |
دع الدهر
يفجع بالذخائر أهله |
|
فما لنفيس
مذ طواك الردى قدر |
ويمدح فى القصيدة نفسها أبا لوليد فى مبالغة شديدة، معلقاً كل أماله بالملك الجديد فيقول : -
لك الخير
أنى واثق بك شاكر |
|
لمثنى
أياديك التى كفرها الكفر |
فصدق
ظنونا لى وفى فاننى |
|
لأهل اليد
البيضاء منك ولا فخر |
وعلت منزلته عند أبى الوليد، وقدمه الملك وأسنى خطته ونوه به، وجعله فى الذى اصطنعهم لدولته، وجلله الكرامة كما يقول ابن حيان معاصره.
وهانت مكانته عند أبى الوليد، فخرج الشاعر من قرطبة مرة أخرى، يجوب البلاد، ويسير بين عواصم ملوك الطوائف، فمن بلنسية إلى بطليوس إلى طرطوشة، وفى كل مكان يرسل الشكاة والآهات. فيقول وهو فى بطليوس :
يا دمع
صبت ما شئت أن تصوبا |
ويا فؤادى
آن أن تذوبا |
اذ
الرزايا أصبحت ضروبا |
لم ار لى
فى أهلها ضريبا |
قد ملأ
الشوق الحشا ندوبا |
فى الغرب
إذ رحت به غريبا |
ولكنه عاد بعد قليل إلى قرطبة بعد أن وصله صك أمان من الملك الجهورى أبى الوليد، فعاش فيها بعيداً عن الأضواء، ولم تلبث قرطبة أن شهدت عام 440هـ ثورة عارمة هواها أموى، والقائمون بها هم بنو ذكوان، أصدقاء الشاعر، وكاد يزج بابن زيدون فى هذه المؤامرة عندما حاول بعض منهم الوثوب على السلطان بقرطبة فكان أن أحاطت بالشاعر الشبه، وحاول أن ينفيها عن نفسه، وسرعان ما أعلن ولائه للملك ونقمته على المتآمرين وبراءته منهم وقال قصيدة منها.
لا تستجز
وضعَ قدرى بعد رفعكَهُ |
|
فالله لا
يرفعُ القدر الذى تَضَعُ |
ولكن أبا الوليد انصرف عن ابن زيدون وجفاه فعاد الشاعر إلى الهجرة والاغتراب من جديد، حيث رحل إلى بطليوس عام 441هـ، وكان قدومه إليها فى عيد الأضحى، فهاجه أن يرى نفسه وحيداً فتذكر معاهده فى قرطبة، وأخذ يعددها معهداً معهداً، ويتحسر على أيامه الخوالى فى قصيدة نظمها فى هذه المدينة، مطلعها:
خليىَّ لا
فِطرٌ يَسُرُّ ولا أَضحى |
|
فماحالُ
من أَمسى مَشُوقا كما أَضحى |
وبعد قليل وفى العام نفسه 441هـ حط رحاله من جديد فى اشبيلية ونزل ببلاط مليكها المعتضد بن عباد 433-461هـ ومدح المعتضد بقصائد بليغة، ورفعه المعتضد إلى منصب ذى الوزارتين، وجعله سفيره إلى ملوك الطوائف، وصار أمير الشعر والشعراء فى اشبيلية التى كانت تعج بالشعراء وفى هذه العاصمة الجميلة وفى ظلال المعتضد عاش الشاعر نحو العشرين عاماً، ومع مناصبه وجلالة محله من بنى عباد، فقد ظل يذكر قرطبة وأحبابه فيها، منزاه يقول :
هل تذكرون
غريبا عاد شجن |
|
من ذكركم
وجفا أجفانه الوسن |
يخفى لواعجه
والشوق يفضحه |
|
فقد تساوى لديه السر والعلق والعلن |
وقد بقى ابن زيدون وزير المعتضد وشاعره المفضل إلى أن توفى 461هـ، فلما تولى الملك ابنه المعتمد (461-484هـ)حظى بالمكانة نفسها التى كان يتمتع بها عند أبيه.
ولكن هذه الحظوة العظيمة التى تمتع بها ابن زيدون عند المعتمد لم تستطع أن تنسيه قرطبة أو أن تحد من شوقه إليها، ولعل الشاعر كان يغرى مليكه بالاستيلاء عليها.
وحدث سنة 462هـ أن المأمون بن ذى النون ملك طليطلة قد هاجم قرطبة يريد احتلالها فاستنجد ملكها أبو الوليد ابن جهور بالمعتمد فأرسل جيشا يقوده أحد أبنائه.
فما كان من جيش المأمون إلا أن ينسحب بينما نزل حبيش بنى عباد فى ضاحية المدينة وأخذ يتصل بأهل قرطبة حتى ثار هؤلاء على ابن جهور واستولى الجيش الإشبيلى على قرطبة، ونادى أهلها بالمعتمد ملكاً عليها.
وهكذا يعود ابن زيدون مع مليكه إلى قرطبة قرير العين برؤية أهله ووطنه فيرتفع حظه ويزداد إقبال الدنيا عليه ويبلغ من الخطوة عند المعتمد ما يجعل وزيريه ابن مرتين وابن عمار يكيدان له ويسعيان فى إبعاده، وتساعد هما الظروف فتحدث فتنة فى إشبيلية ويضطر ابن عباد لإرسال جيش كثيف بقيادة ابنه سراج الدولة بن عباد، إلا أن ابن مرتين وابن عمار يسولان للمعتمد أن يرسل معه ابن زيدون، ففى إرساله نجاح لمهمة سراج الدولة وحقن للدماء لماله من المحبة فى قلوب أهل إشبيلية. وفى الواقع لم يكن يقصد الوزيران من وراء ذلك إلا إبعاد ابن زيدون ليصفولهما الجو وينفردا بالمعتمد بعد أن ساءتهما الشعبية الكبيرة التى يتمتع بها الشاعر فى قرطبة.
وهكذا يغادر ابن زيدون قرطبة على الرغم من مرضه برفقه سراج الدولة والجيش قاصدين إشبيلية، وذلك فى الثالث عشر من ذى الحجة سنة 462هـ، ويترك ابنه أبا بكر بن زيدون خلفاً له فى الوزارة، ولكن ابن مرتين إبن عمار مازالا يسعيان لدى المعتمد حتى أصدر أمره إلى أبى بكر بن زيدون بأن يلحق بأبيه إلى إشبيلية فكأن ابنه قد لحقه ليشهد موته، ويعتنى يتشييعه و دفنه فيها، وفى الواقع ساءت حالته الصحية فى هذه الرحلة يوماً بعد يوم، فهلك بعيداً عن المدينة التى أحبها، فى الخامس عشر من رجب سنة 463هـ، وكان لنبأ موته رنة أسى فى قرطبة، وحزن عليه أهلها حزناً كبيراً، وصمت ذلك الصوت الذى غنى حياته، بآلامها وحبها وعزها، شعراً خالداً.
وكم كانت فى حياة الشاعر من محن قاسيات، فمن تنكر الأصدقاء إلى تهجم الأعداء، وتهجم الوشاة، وكما يقول ابن زيدون :
كان
الوشاة وقد منيت بافكهم |
|
اسباط
يعقوب وكنت الذيبا |
ويقول :
أذؤب هامت
بلحمى |
|
فانتهاش
وانتهاس |
فمن خصومة ابن عبدوس، إلى عداوة شاعر إشبيلية على بن غالب ابن حصن، إلى خصومة كاتب المعتضد أبى محمد عبد الله بن يوسف ابن عبد البر إلى حسد وزير المعتمد ابن عمار وحقد قائد جيشه فى فتح قرطبة ابن مرتين.. وسواهم.
ابن زيدون وولادة :-
شغف ابن زيدون بولادة ملبياً بذلك نداء قلبه، فولادة هذه هى بنت المستكفى بالله الخليفة الذى جاء قبل المعتمد بالله آخر خلفاء بنى أمية فى الأندلس، ولم يدم حكمه إلا سنتين فى فترة مضطربة، وكان ماجناً كما يحدثنا عنه ابن بسام فيقول : « لم يجلس فى الإمارة مدة الفتنة أسقط منه ولا أنقص » ([29])
وقد ترك بنتاً لم يذكر المؤرخون سنة ولادتها، ولكنهم ذكروا وفاتها فقال المقرى إن وفاتها كانت سنة 480هـ أو سنة 484هـ ([30]) وقالوا إنها عمرت طويلاً، وكانت واحدة أقرانها يتهالك الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، وكان مجلسها فى قرطبة منتدى لأحرار المصر، ولعله لم يبتذل حجابها إلا بعد وفاة أبيها. ([31])
وكانت مولعة بالأدب ونظم الشعر، كما كانت مولعة بالحب مستسلمة للعبث ولكنها لم تتزوج طوال حياتها، وقد أولع بها ابن زيدون وأولعت به وربط المؤرخون ذكرها بذكره
ويذكر البعض أن ولادة كانت لها أهداف سياسية بعيدة خفيت على كل الباحثين، فلم تكن تنشد الحب، بل كانت تنشد تدبير بعض المؤامرات من أجل بعث الخلافة الأموية من جديد، ووجدت فى الوزير ابن زيدون عونا لها على تحقيق مأربها السياسية فى مساعدة الأمويين على إعادة عرش الخلافة الأموية الذى هوى.
وكان هذا الحب من المحن التى امتحن بها الشاعر امتحاناً شديداً حتى صار يرسل شعره العذرى فى الشكوى والأنين والحنين. يقول ابن زيدون فى ولادة :
متى ابثك مابى |
|
ياراحتى وعذابى ؟ |
متى ينوب لسانى |
|
فى شرحه عن كتابى |
ما البدر شف سناه |
|
على رقيق السحاب |
إلا كوجهك لما |
|
أضاء تحت النقاب |
ويبدو أن هذه الجفوة لم تطل ويعود العاشقان إلى سابق عهدهما يتشاكيان الصبابة والهوى، ولكن ولادة لم تلبث أن تتبدل، فتظهر من الجفا ما تظهر وتذيق صاحبها عذاب الهجر على حين يبدى لها من التلطف والتذلل ما ينم لنا عن وَجْده وحبه.
ونحاول أن نجد سبباً لهذه الجفوة فلا نعثر إلا على ما قاله لنا ابن بسام من أن ابن زيدون أشار إلى جاريتها أن تعيد له صوتاً غنته فظنت أنه يغازلها من دونها فغضبت غضباً شديداً وكتبت له : -
لو كنتَ تُنْصفُ فى الهوى ما بيننا |
|
لم تَهْوَ جاريتى ولم تَتَخَيَّر |
وتركْتَ غُصْناً مُثْمراً بجماله |
|
وجنحْت للغُصْن الذى لم يُثمر |
ولقد علمت بأننى بدرُ السما |
|
لكنْ وَلِعْتَ لِشقْوتى بالمشترى |
وهكذا تلعب الغيرة فى قلب المرأة وتكون سبباً من أسباب جفاء ولادة لعاشقها الشاعر الذى أخذ يبكى ويئن ولا تظن أن هذا هو وحده السبب الذى أدى إلى الجفاء ثم إلى القطيعة، وربما يكون انضمام ابن زيدون لحركة الجهاورة قد ترك فى نفسها أثراً سيئا وهى بنت خليفة أموى.
ومهما كانت الأسباب فقد حصلت القطيعة، وكان الوزير أبو عامر بن عبدوس هو المنافس اللدود، وخاصة بعد أن وضع ابن زيدون فى السجن ([32])، وأخذت ولادة توارى أهدافها السياسية، وتظهر الحب لابن عبدوس لتكون فى حمايته، وفى مأمن انتقام الجهوريين ولتظهر للوزير ابن حزم بعدها عن السياسة ومؤامراتها ويستمر شاعرنا فى الأنين والشكوى، وهنا يبدو إخلاصه لحبيبته، وكانت معانى شاعرنا فى قصائده الغزلية تحوم حول إثبات حبه وإخلاصه لولادة. كالتى فى قصيدتنا، ففيها تتمثل حرقة الشاعر وانكساره ورجاؤه لحب جديد يجنى فيه سعادة النعيم الآفل.
مميزات شعر ابن زيدون :-
1-شعره أنيق الوشى رقيق النسج قليل التكلف ينزع عن قوس الملكة السليمة مشرق الديباجة، معسول الألفاظ، متجاوب العبارة، خلعت عليه الملاحة أثوابها وأعارته البراعة أبرادها، فجاء رشيقاً طلياً، وأنيقاً بهياً، يخلب العقول ويعجز الفحول، قد عرى من الغرابة والحوشية.
2-معانية دانية القطوف قريبة المورد لا يكد الذهن فى فهمها، ولا يعتاص على العقل أمرها، لأنها معان منبعثة من أعماق الوجدان، قبض بها أوتار المشاعر الملتهبة والأحاسيس الفياضة، وإذا أجلت فى رياض شعره نفحك عبير شاعريته، وفتن فؤادك جمال عبقريته تقرأ فى شعره أجود ما خصت به الطبيعة الأندلسيين من وصف وخيال وتصوير دقيق وعرض أنيق.
3-يتجلى فى شعر ابن زيدون خفة الروح والوزن الراقص المتجاوب مع المعانى العاطفية والأفكار الوجدانية فهو يتلطف باختيار الأوزان العذبة الجرس العالية الموسيقى مما يجعل لشعره وقع الزلال من ذى الغلة الصادى.
4-سهولة قوله وعذوبة أسلوبه ورقة كلماته التى تجيئ مساوقة للطبع متجاوبة مع السليقة، وقد تلاءمت عباراته مع أفكاره ومعانية من شكوى وأنين ولوعة و احتراق وبعد وفراق وجفوة وشقاق.
5-شبهوا بن زيدون بالبحترى، كما شبهوا ابن هانئ بالمتنبى فقال : بحترى الغرب، كما قالوا متنبى المغرب ومرد ذلك إلى تلك المنازع المشتركة بينهما من رقة الأسلوب واختيار الأوزان القصيرة الراقصة وصدق العاطفة والتزاوج بين المعانى والعبارات ولم يكن شعر ابن زيدون ضرباً من التقليد والمحاكاة، بل كان من نمو ملكة الشعر فى نفسه، ومن رغبته فى التعبير عن كل ما يشعر به، وعماله صلة بحياته الخاصة ولم تلبث الحوادث التى نزلت به والأيام التى قضاها فى السجن أن هاجت من نفسه، وولدت فيها تلك المعانى التى ذكرها، فكان شعره صحيفة من حياته النفسية، وصورة لما كان يجول بها من آلام وأحزان وحب وغرام، وكثيراً ما تقرأ شعره فترى فكره المضطرب، ونفسه الوثابة الحائرة، وتكاد تلمس كبره وخيلاءه وسخطه على أعدائه، وتجلده وصبره وهو يشكو ويئن من بلواه كما فى قصيدته التى يقول فيها :
ما على ظنى باس |
|
يجرح الدهر وياسو |
ربما أشرف بالمر |
|
ء على الأمال يأس |
المناسبة:
جاء فى الديوان أن ابن زيدون « كتب هذه القصيدة الفذة يتحسر فيها على انقضاء أيام الوصال ويشكو فيها ما يحسه من الوجد المبرّح والألم القاسى، وقد بعث بها إلى حبيبته ولادة بنت المستكفى أديبة الأندلس الفذة، يستعطفها ويتلهف على أيام الوصال السابقة » وقد نظم الشاعر هذه القصيدة فى الفترة التى تلت فراره من السجن، أى بعد سنة 433هـ، عندما رحل إلى إشبيلية للمرة الأولى. وتتراءى لنا خلال أبياتها عبقرية الشاعر الفذة ونضجه الشعرى بعد أن مر بتجربة السجن وآلامه وعذاب البعاد وأتراحه، فجاءت عصارة نفس متألمة، مقيمة على الحب، لا تسلو ولا تنسى.
ولا جدل فى أن هذه القصيدة قد جمعت بين أفانين شتى من الإجادة عبرت عن عاطفة الشاعر الصادقة ونالت من الشهرة ما جعل كثيرين من الشعراء يعارضونها فعارضها صفى الدين الحلى والصفدى وأخيراً شوقى فى قصيدته التى يحن فيها إلى وطنه ومطلعها :
يا نائح الطلح أشباهٌ عوادينا |
|
نشجى لواديك أم نأسى لوادينا |
وقد قال عنها الفتح بن خاقان فى قلائد العقيان : « إنها قصيدة ضربت فى الإبداع بسهم، وطلعت فى كل خاطرٍ ووهم، ونزعت منزعاً قصر عنه حبيب وابن الجهم ».
أقسام القصيدة ومعانيها :
تكاد تكون هذه القصيدة وحدة شعرية لا يخرج فيها الشاعر عن دائرة قلبه المحطم، ولكن يمكننا أن نتبين بعض الفواصل فى هذا الكيان الشعرى المتماسك.
1- من البيت (1-19) وصفٌ لحال الحاضر ووصف للماضى، ويتخلل هذا القسم أبيات تؤكد الوفاء والحب المقيم والتجلد على الواقع الأليم (الأبيات 9، 13، 18، 19).
2- المناجاة وإشراك الطبيعة فى إحساسه (20-23).
3- وصف المحبوبة (24-34).
4- عودة إلى المناجاة مع مقارنة الحاضر المقيم بالماضى الآفل وتأكيد للوفاء ينتهى إلى الاستعطاف والاستسلام لهدوء ذليل (35 – 50 ).
1- يفتتح الشاعر قصيدته دون تمهيد، ويقذف بنا فى جو آلامه بوثبة عاطفية تصور لنا حاله وما آل إليه. لقد أصبح قربه بعداً، وأصبح الهجر والموت سواءً فى نظره. ويود أن يُعلمَ ذاك الذى ألبسه حزناً دائماً ببعده عن حبيبته، يود أن يعلمه أن ضحكه قد حال إلى بكاء. وأن الدهر قد استجاب لدعوة أعدائه وحقق لهم ما أرادوا من إيقاع بين حبيبين، فلم يعودا يرجوان التلاقى بعد أن كانا لا يخشيان الفراق.
ثم ينتقل الشاعر إلى عرض ما يكنه من وفاء لولادة ويبثها آلامه ولوعته، ويبين فى بيت جميل أن الحزن – لولا تأسيه- يكاد يقضى عليه. ويعود إلى وصف أيام هنائه وأنسه ويقارنها بحالته الراهنة مستعيناً بالصناعات العفوية التى يمليها الفن قدر ما يمليها القلب، فأيامه الحاضرة سود بينما كانت لياليه معها بيضاء ينال من روضته ما يشتهى ويجنى من ثمرها ما يريد، ولكن هذه الحسرة ما كانت لتملى عليه السخط والثورة، بل يؤكد، فى ذل، أن النأى لا يغيره ولن ينسى ذلك العهد الرطيب، مهما خبت جذوة الحب فى قلوب المحبين النائين فقد كنتم الرياحين لأرواحنا وما زلتم تلك الرياحين.
2- هذه الحسرة النائحة تقوده إلى المناجاة فيطلب من الطبيعة أن تشاركه فى إحساسه، ويخاطب سارى البرق أني يباكر قصرها فيجود أهله بغيثه اعترافاً منه له على ما أعطاه من حب ومودة، ويحمل النسيم تحيته إلى تلك التى يُحييه سلامُها، ويذكر خلال ذلك صوراً جميلة لماض راحل وعهد حائل.
3- وذكر القصر يقوده إلى مَنْ يسكنه، إلى هذا المحبوب الذى ليس كسائر البشر، فهو صنيع الملوك وطينة من المسك، وجسم من اللجين يكلله تاج من التبر هو ذاك الشعر الذهبى الذى كان يتوج رأس محبوبته. وأنت تلمح خلال هذا الوصف عبير القصور الملكية، ورفاهية الحسان، ونعيم السلطان، فجمال المحبوب هنا ليس من الجمال الذى تضمه الشوارع، وإنما جمال أرستقراطى تلمح خلاله ليونة النعيم وغضارته وتأود القد المرهف ورخاصته، حتى ليدميه مس العقود والمجوهرات.
4- وفى غمرة هذا الوصف يتلهف على ماضيه ويعود إلى المناجاة بلحن حزين فيندب تلك الجنة التى أبعد عنها ويحن إلى ذلك الكوثر العذب الذى أبدل به ماءً آجناً وغسلينا. وكم هى جميلة تلك القفزة فى الماضى يقفزها الشاعر ليحدثنا عن تلك العزلة التى كان يتمتع بها العاشقان وقد حالفهما السعد فكانا سرَّينْ مطويين فى خاطر الظلماء لا يفضحهما إلا لسان الصبح. نعم قد تكون الصورة قديمة فى بعض تفاصيلها كاستعارته اللسان للصبح، إلا أننى أراها جديدة كل الجدة فى تركيبها وصدقها فقد استطاع الشاعر أن يعبر عن شخصين ماديين بكلمة معنوية جسدت الكتمان خير تجسيد، ورسمت خلوة من خلوات الحب، وآلف بين الصنعة والعاطفة خير تألف.
وتأتى بعد ذلك أبيات فى المناجاة ( البيت 39 – حتى النهاية ) ليس فيها ما يستدعى الوقوف، ويبدو فيها أن الشاعر يلهث. على أن الخاتمة منطقية فيها نوع من الهدوء وكثير من الاستسلام، وفيها تأكيد دائم على الوفاء يطلبه ممن أحب كما يطلبه من نفسه، بل لعله لا يستطيع التخلى عن هذا الوفاء فى الحب لأنه سبب من أسباب بقائه. فليقنع بالقليل إذن، وليودعها وفى نفسه ذلةٌ وانكسار وفى الجو الذى خلقه ارتجاف وحسرةٌ ورنين.
العاطفة والأسلوب :
إن الميزة التى تبدو فى أسلوب ابن زيدون هى « الفن » فهو شاعر فنى قبل أن يكون حكيماً أو فيلسوفاً أو غواصاً على المعانى أووصافاً، وهذه الخصائص الفنية تتجلى على أصدق صورة فى هذه القصيدة، فألفاظها حلوة عذبة تتلقفها الأذن فى لين ويسر وتحدث فى النفس فى تأليفها وتنسيقها تناغماً وجرساً يعكس عاطفة الشاعر ويعبر عنها خير تعبير، ونرى أن أكثر الكلمات تتساند ويستدعى بعضها بعضاً، ولئن كان الشاعر يلجأ إلى الطباق فى العاطفة فإنه يلجأ إليه فى اللفظ أيضاً، لذلك رأينا هذه المزاوجة فى المعانى والألفاظ، وعلى هذه المزاوجة والمقابلة يقوم الكثير من جمال هذه القصيدة. ويكثر الشاعر من الألفاظ والأوزان التى تدل على المشاركة ليبين أن العاطفة هى فى تجاوب مستمر، فلا انفصام وإنما رجفة متصلة، بين ماض حبيب وحاضر مؤلم. ومما يزيد فى هذه الرجفة طولا هو هذه القافية الممدودة. وهذه ( النونات الطويلة ) التى تضيف إلى جرس القطعة أنيناً موسيقياً حزيناً.
وأكثر معانى القصيدة ينظر إلى معانى المشرقيين، ويدل على تعلق الأندلسيين بالمشرق، على أن معانى الغزل لم تتحرر من التقليد فى الشرق والغرب، وما فتئ الشاعر يصف لنا ذل الغرام وقساوة المحبوبة، غير أن واقعية التجربة الغرامية التى عاشها ابن زيدون سترت عنه الكثير من العيوب، وجعلت القصيدة تستقى وحيها من نبضات قلب الشاعر، وقد استطاع أن يؤلف بين هذه النبضات وبين الفن الذى تمليه عليه ثقافته وبيئته وعبوديته أحياناً. ومن هذه المعانى التقليدية مخاطبته للنسيم والدعاء بالسقيا، إلا أن الشاعر استطاع أن يمنح عبارته فيها رنة الإخلاص، فأحيا الطبيعة وجعلها إنساناً يشارك الشاعر آلامه ويشفق على المحبين المتباعدين.
ونجد أن أكثر أبيات القصيدة مشتمل على فنون البيان والبديع، ولكنها ما كانت لتأتى متكلفة، بل أحياناً ثبتَّت المعنى وأعطته نوعاً من التجسيم كقوله :
أنَّ الزمانَ الذى مازال يُضحكنا |
|
أُنساً بقربكم قد عاد يُبكينا |
ففيه استعارة وطباق. وكقوله أيضاً :
وإذ هصرنا غصون الوصل دانيةً |
|
قطوفُها فجنينا منه ماشينا |
ففيه استعارة جميلة :
وفى استعماله « الوصل ثالثنا» كناية جميلة عن عزلتهما وخلوتهما عندما يقول :
كأَننا لم نَبتْ والوصلُ ثالثنا |
|
والسعد قد غضَّ من أَجفان واشينا |
سِرَّانِ فى خاطر الظلماءِ يكتُمُنا |
|
حتى يكادَ لسانُ الصبح يُفْشينا |
وإننا نجد نفحة قرآنية فى هذا البيت :
يا جنة الخلدِ أُبدلنا بسِدْرتها |
|
والكوثر العذب زَقُّوماً وغِسْلِينا |
وهذا النداء فى « يا سارى البرق » » يا روضة » « يا حياة » و « يا نعيماً » يزيد فى لحن المناجاة
على أن هناك أبياتاً ثقيلة على السمع ضعيفة الجرس كقوله :
مَنْ مُبْلِغُ المُلْبِسِينا بانتزاحِهِمُ |
|
حُزناً مع الدهِر لايَبْلى ويُبلينا |
أَنَّ الزمانَ الذى مازال يُضحكنا |
|
أُنساً بقربهم قد عاد يُبكينا |
فاستعماله « الملبسين حزناً » ثقيل على الأذن، واستعماله لكلمة «حاشاك» فى البيت الآتي حشو بغيض :
ولو صَبَا نحونا منُ عُلْوِ مطلعه |
|
بدرُ الُّدجى لم يكن حاشاكِ يصبينا |
أضف إلى ذلك ابتذال المعنى فى هذا البيت السابق. على أن القصيدة لا تضيرها هذه الهنات وهى، بعد هذا كله، فياضة بالألم، حلوة الوقع فى السمع، موسيقية الجرس، مفعمة بالحياة، تترك فى النفس صدى حزيناً.
%%%
([6]) ينتم : بعدتم. الجوانح : جمع جانحة وهى الضلع، والمراد بالجوانح ما بداخلها من القلب والحشا. المآقى : العيون.
([9]) هصرنا : أملنا، وهنا شبه الوصل بشجرة فالاستعارة مكنية. القطوف : الثمار التى تجنى وتقطف. شينا : مخففة من شئنا.
([14]) تأود : تثنى. آدته : أثقله. توم : لألئ، مفردها تومة وهى حبة من فضة، وجمعها توم بفتح الواو وإسكانها. البرى : الخلاليل، ومفردها البرة وهى حلقة الخلخال.