المحاضرة الثامنة ا
الشعر الأندلسي وأهم أغراضه :-
هناك أسباب كثيرة دعت إلى نهضة الشعر الأندلس منها :
1-طبيعة بلاد الأندلس وما فيها من المناظر المختلفة والأمطار المتصلة والأرواح الظليلة والأنهار الجارية، والسهول الخصبة، والجبال المكسوة والمروج الموشاة بألوان الزهر، والقصور الشاهقة، والرياض الغناء، والغواني الحسان، كل ذلك أكسب الوجدان لطفاً، والمعاني دقة والألفاظ جمالاً وروعة.
2-عناية الملوك الأمراء بقرض الشعر حملت الشعب جميعه على الإقبال عليه، حتى أصبح قول الشعر زينه لكل أديب، وجمالاً لكل عالم، أولع به الفقهاء والنحاة والفلاسفة، والرياضيون، والأطباء، والمؤرخون، كما أولع به كثير من النساء حتى نبغن فيه، وبارين الرجال وقلن الجيد الممتع فيه.
كقول حمدونة الأندلسية تصف وادياً :-
وقانا
لفحة الرمضاء واد |
|
سقاه
مضاعف الغيث العميم |
حللنا
دوحة فحنا علينا |
|
حنو
المرضعات على العظيم |
3-كثرة جمهرة العرب في الأندلس، وتمكن السلطان في أيديهم وشدة محافظتهم على تقويم لسانهم.
!!!
أغراض الشعر الأندلسي :-
نظم شعراء الأندلس الشعر في مختلف الأغراض، فنظموا في كل ما نظم فيه شعراء المشرق : من مدح وهجاء وفخر وحماسة وتهنئة ورثاء ووصف وغزل وخمر وندمان ونساء وغلمان وعبث ومجون، وزهد وتصوف، غير أنهم فارقوا المشارقة في بعض أغراضه ونقصوا عنهم في أغراض أخرى، لأسباب اقتضتها طبيعة إقليمهم ونظام معيشتهم، وطريقة تثقيفهم.
ومن الأغراض التي فاقوا فيها المشارقة : الوصف، ولاسيما وصف مناظر الطبيعة وجمال الكون، فوصفوا الرياض والبساتين والأشجار والثمار والأزهار والطيور ووصفوا السحاب والرعد والبرق وقوس قزح والبرك والأنهار والبحار، وتوسعوا في ذلك حتى أحلوه محل النسيب في صدور القصائد، ووصفوا أساطيل البحر لكثرة اتخاذها لحرب العدو، وسير الجيوش ونشوب المعارك، والقصور والتماثيل، والفورات ومجالس اللهو وآلاته والطرب والسمر.
* ومن الأغراض الجديدة التي نظموا فيها :
- رثاء الممالك الزائلة.
- الاستغاثة والاستنجاد بالنبي r وكبار الصالحين وترغيب ملوك الإسلام في إنقاذ البلاد. وقد كثر ذلك في القرنين الثامن والتاسع حين توالت عليها غارات الأسبان.
- نظم العلوم والفنون، وذلك لشدة عنايتهم بالعلوم.
* ومن الأغراض التي قصر فيها الأندلسيون عن المشارقة ولم يجاورهم فيها:
الشعر المشتمل على الحكم التي تسير مسير الأمثال.
الشعر المتضمن الآراء الفلسفية من نقد الشرائع ونظام الحكم وأخلاق الناس.
أولاً : وصف الطبيعة :
من الموضوعات الكبرى التي سيطرت على الشعر في الأندلس فقد منح الله الأندلس طبيعة فاتنة فكانت أغنى بقاع المسلمين منظراً وأوفرها جمالاً، وقد أفاض المقري في وصف طبيعتها الفتانة وجناتها البهيجة وانتهى إلى أن « محاسن الأندلس لا تستوفى بعبارة، ومجاري فضلها لا يشق غباره ».
وقد كان من أثر جمال الأندلس أن شغفت بها القلوب وهامت بها النفوس، فتعلق بها الأندلسيون جميعاً، وأقبلوا يسرِّحون النظر في خمائلها ويستمتعون بمفاتنها ما شاء لهم من الاستمتاع، وأخذ الشعراء والكتاب ينظمون كلمهم درراً في وصف رياضها ومباهج جنانها بعد أن فتحت في نفوسهم قول الشعر وجعلتهم يرون فيها – كما يقول ابن خفاجة – جنة الخلد بمائها وظلها وأنهارها وأشجارها :
يا
أَهلَ أَندلسٍ لله دَرُّكُمُ |
|
ماءٌ
وظلٌ وأَنهارٌ وأَشجارُ |
ما
جنةُ الخُلدْ إلا في ديارٍكُمُ |
|
ولو
تخيَّرتُ هذا كنتُ أختار |
لا
تختَشُوا بعدَها أن تدخلوا سَقَرا |
|
فليست
تُدخَلُ بعدَ الجنةِ النار |
وقد ساعد على ازدهار شعر الطبيعة الحياة اللاهية التي عاشها الشعراء، فكانت الطبيعة مسرح حياة الشاعر اللاهية، وفي أحضانها استسلم للهوه وحبه وخمره وعكف يصور هذا اللهو وهذا الحب وهذا الخمر في إطار الطبيعة مقدماً لنا لوحات فيها العبير والأصباغ و الألوان.
بيد أن الغرام في شعر الطبيعة « بالصورة » صرف الأندلسيين عن الموضوع نفسه، أما الصورة فيه فإنها شبيهة بأختها المشرقية في نواحي جمودها، وحديثها عن الزهر الحي بالتشبيهات الجامدة المستمدة من الوشي والأحجار وما أشبه.
ومن ذلك قول ابن القوطية :
وكأنما
الروضُ الأنيق وقد بدتْ |
|
متلوناتٍ
غَضَّةً أنوارُهُ |
بيضا
وصُفراً فاقعاتٍ صائغٌ |
|
لم
ينأ درهَمُهُ ولا دينارُهُ |
سَبَكَ
الخميلةَ عسجداً ووذيلة |
|
لمّّا
غَدَتْ شمسَ الظهيرةِ نارُهُ |
وربما أدى الشغف بالصورة لديهم إلى استخراج صور غربية، كقول المصحفي في وصف سوسنه :-
يا
رُبَّ سوسنه قدبتُّ ألثمهُا |
|
ومالها
غيرُ طَعْمِ المسك من ريق |
مصفَّرةُ
الوَسْطِ مبيضّ جوانُبها |
|
كأنها
عاشقٌ في حِجْرِ مَعْشُوق |
وإذا اختلط الحديث عن الطبيعة ببعض المشاعر الإنسانية توفرت نغمة توحي بالانفعال، وذلك كوصف أبي بكر بن هذيل يصف روضة لعبت بأغصانها قطرات الندى وهبّات الصَّبا منقول:-
هَبَّتْ
لنا ريحُ الصَّبا فتعانقتْ |
|
فذكرتُ جيدَكَ في العناقِ وجيدي |
وإذا
تألَّفَ في أَعاليها النَّدى |
|
مَاَلَتْ
بأعَناقٍ ولطفِ قدُوَدِ |
وإذا
التَقَتْ بالريح لم تُبْصِرْ بها |
|
إلاّ
خُُدُودا تَلْتَقيِ بِخُدُود |
فكأنَّ
عُذْرَةَ بَيْنَها تَحْكي لَنا |
|
صفةَ
الخُضُوع وحَاَلَة المْعُمود |
تِيِجانُها
طَلُّ وفي أعْنَاقِها |
|
مِنْهُ
نظامُ قلائدٍ وعُقُودِ |
فَتَر
شُّني منهُ الصَّبَا فكأنهُ |
|
من
ماءِ وردٍ ليسَ للتصعيدِ |
وقد أغرم الأندلسيون بحب الزهور يقول أحدهم :-
صاحبي
إن كنت ترغبُ حَجّاً |
|
طُفْ
بعرشِ الياسمين مَليّاً |
واستلمْ
أركانَهُ فهو حج |
|
ليس
يُخْطيهِ القبولُ لديّا |
أو كقول الآخر في وصف الياسمين ومبلغ حبه له :-
ولو
سَقّيْتُهُ من ماء وَجْهي |
|
لما
وَفّيتْه ما يستحقُّ |
ومن شعراء الأندلس من أغرم بنوع بذاته من الأزاهير فهذا عبد الرحمن ابن عثمان الأحسم يعجب بالورد من بين ما ينبت الربيع من أزاهير ويفضله على سواه فيقول :-
شكرتُ
لِنيسانٍ صنيعة مُنْعِم |
|
لمَا حَاكَ عندي من صُنُوف البدائع |
دَرَانيك
أفَْوافٌ تجلت رُقُومهاً |
|
بأحْمَرَقانٍ
بين أصْفَرَ فاقع |
وُرُودٌ تُبَاهي الشمس في رونقِ الضحى |
|
بمُطَّلعاتٍ
كالنجومِ الطوالع |
مضرجَةٌ
أبشارُهُنَّ كأنَّها |
|
خدودٌ
تجلَّتْ عن حَسورِ البراقع |
وإعلاءهم من شأن الورد بين الأزهار يلفت النظر حقاً ومن ذلك قول الرمادي:-
للآس
والسوسان والياسميـ |
|
ن
الغضّ والخيريِّ فضلٌ شديدْ |
سادت
به الأرض ومن بينها |
|
وبين
فضل الوردبون بعيد |
هل
لك في الآسِ سوى شمة |
|
تطرحه
من بعدها في الوقودُْ |
وبعد أن يعدد الشاعر مساوئ كل زهر يختم بالفوز للورد قائلاً :-
فالورد
مولي الروضِ لكنه |
|
في
قدره عبدٌ لورد الخدود |
وقد برزت روح المفاضلة والمناظرة بين الأزهار عندما شجع المظفر الشعراء على الإكثار من القول في أنواعها المختلفة ليطرح أشعارهم فيها للغناء، فمن قول صاعد البغدادي يفاضل بين البهار و النرجس :-
جُمَلُ
الفضيلة للبهار بسبقْه |
|
ولطالما
خَلَفَ البهارَ النَرجسُ |
أربي
عليه طيُبهُ ونسيمهُ |
|
لكنه
عن نَشْره يتَنَفَسّ |
كالحاجبِ
الميمون شُبّه في العلا |
|
بأبيه
لِكنْ فعل هذا أنفْسَ |
ومن طريف الأمور أن المنصور كان قد سمى بناته بأسماء الزهور، فنظم الشعراء في وصف الأزهار قصائد تبين فضيلة كل نوع منها، وهم في هذا يحكون خصائص بنات المنصور نفسه.
وهناك محاولات كثيرة في وصف روائع الطبيعة ومعطياتها ولكنها لم تصل إلى أوجها ولم تتسم مكان الذروة إلا في القرن الخامس الهجري وما قد تلاه من قرون، ففي هذا القرن أخذت الشخصية الثقافية والأدبية للأندلس تفرض وجودها، في تلك الفترة الزمنية من حياة الأندلس حيث الترف الفكري والأدبي والمادي آخذ بتلابيب الناس كان الشعر في شبه فورة دافقة وجذوة متلألئة في ميادين عديدة ألمعها آنذاك كانت ميادين الطبيعة والخمر والغزل بالغلمان.
ولقد بدأ شعر الطبيعة يخرج عن مألوف الشعر العربي من حيث الابتعاد عن القصيدة إلا في حالات قليلة و يعمد الشاعر إلى قول المقطوعة التي تستوعب طاقة خياله وتصور عطاء شاعريته غير عابئ بعدد الأبيات أو النظام التقليدي للقصيدة، ولم يكد الشاعر يترك لمحة من لمحات الطبيعة أو زاوية من زواياها أو موضوعاً من موضوعاتها إلا طرقها برشاقة وبراعة وذكاء وافتنان بحيث تجمعت لدينا ثروة ثمينة من شعر الطبيعة الأندلسي.
وإذا كان الشعر دائماً صدى للبيئة اجتماعية كانت أو طبيعية فإن الشعر الأندلسي في هذا النطاق يعتبر صورة أمينة دقيقة أنيقة لبيئة الأندلس، ولما كانت طبيعة الأندلس من الفتنة والجمال والثراء والسحر ما قد وصفه المؤرخون، وما قد ألمحنا إليه، فإن شعر الطبيعة في الأندلس يعتبر مرآة صادقة لطبيعة الأندلس وسحرها وجمالها على أن شاعر الطبيعة ليس ككل شاعر، إنه رسام في نطاق شاعريته، وليس كل شاعر رساما، إن المقطوعات الجميلة التي خلفها الشعراء الأندلسيون ليست في حقيقتها إلا لوحات بارعة الرسم أنيقة الألوان محكمة الظلال، زاهية الأصباغ – ولذلك فهي تشد انتباه القارئ وتثير اهتمامه.
وبرغم أن شعراء الأندلس بدأوا تلامذة لأساتذتهم لمشارقة في أول أمرهم، فإن ذلك لم يمنعهم من أن يجودوا في فنهم ويحسنوا في أعمالهم بحيث يمكن أن نقرر أنهم أتوا بشئ جديد في موضوعات شعر الطبيعة.
والطريف أن الأمر لم يقف بشعر الطبيعة عند الافتنان به والافتنان فيه، وإنما تعداه بحيث أصبح يحل محل المقدمة الغزلية في القصائد، والجديد أنهم أصبحوا يطعمون المراثي بشعر الطبيعة، فبينما تقرأ مرثية لفقيد وتتوقع أن تسمع أنات محزون وغصص مكلوم إذ بك تسمع أبياتا في وصف الرياض والورود والأزاهير([1]) .
ومن مظاهر بذخ الطبيعة في الأندلس، تلك الأنهار الكثيرة الوفيرة الماء السلساله التدفق، تحي موات الأرض مشرقاً ومغرباً وشمالاً وجنوبا فترفد الأرض بالخصب والعطاء، وتمد الرياض بالسحر والنماء، وكانت أكبر المدن وأهمها مثل قرطبة، وإشبيلية، وغرناطة تقع على تلك الأنهار الأمر الذي جعل الأندلسيين يتخذون من ضفافها مراتع لهو واستمتاع ومن صفحاتها ساحات أمينة تنساح عليها زوارقهم وتمرح مع تياراتها أشرعتهم، وهم في هذه وتلك يعزفون ويغنون ويقولون الشعر عذبا رقيقا أخاذا.
وبدافع الحضارة المتطورة أدخل الأندلسيون مياه الأنهار إلى قصورهم الباذخة ترفد البرك الفخمة في باحاتها من خلال أفواه التماثيل بالماء النمير الذي ألهب خيال الشعراء فقالوا شعراً عذباً في القصور والبرك والتماثيل على حد سواء، ناهيك بالأودية الممرعة البضة الخضراء التي كانت تشيع على ضفاف الأنهار وقد اتخذ بعض القوم منها سكناً ومستقرا فتكونت مدن كاملة تحمل أسماء الأدوية التي نمت في رحابها، مثل وادي آش ووادي الحجارة ووادي العقيق ووادي الطلح وغيرها.
إن الأنهار وما يتشعب عنها من برك وخلجان وغدران، وما ينبت على شاطئيها من حدائق ورياض، وما يجري على صفحاتها من زوارق وأشرعة، وما يمنح من مائها من دواليب وسواق، وما يتصل بها من مظاهر الطبيعة من مد وجزر وليل ونهار وفجر وأصيل وشمس وقمر وصباح ومساء وغناء وطرب وشراب وغزل، كل ذلك قد تنبه إليه الشعراء الأندلسيون وتأثروا به فسجلوا صور للطبيعة من خلاله بديعة النسج عذبه الجرس ساحرة اللون بارعة الإنشاء.
ويرسم ابا اسحاق بن خفاجة صورة أنيقة للنهر فيبدع ويرق وكأنما يكتب أبياتاً غزلية في محبوب فيقول ([2]) :-
للهِ
نَهرٌ سالَ في بَطحاء |
|
أَشْهَى
وُرُوداً منْ لَمن الحَسْنَاء |
مُتعطِّفٌ
مثل السِّوارِ كأنه |
|
والزِّهْرُ
يكنفُهُ مَجَرُّ سَمَاء |
قد
رَقَّ حتى ظُنَّ قُرْصا مُفْرَغاً |
|
من
فِضَّةٍ في بُرْدةٍ خَضْراء |
وغَدتْ
تَحُفُّ به الغُصُونُ كأنها |
|
هُدْبٌ
يحفُّ بمقِلةٍ زّرْقَاء |
ولطالما
عَاَطيْتُ فيه مُدَامَةً |
|
صفراءَ
تخضِبُ أَيدي النُّدماء |
والريحُ
تعبثُ بالغصونِ وقد جرى |
|
ذهب
الأصيل على لُجَيْنِ الماء |
وقال أبو القاسم بن العطار أحد أدباء إشبيلية يصف نهراً :-
عبرنا
سماءَ النهر والجو مشرقٌ |
|
وليس
لنا إلا الحبابَ نجومُ |
وقد
ألبسته الأيكُ بردَ ظلالها |
|
وللشمس
في تلك البرود رقُوم |
ومما يضاف إلى وصف الطبيعة اهتمامهم بوصف المباني والقصور الجميلة من مثل الزهراء والزاهرة، وما يلحق بها من بساتين ومن تماثيل على هيئة الأسود تقذف الماء من أفواهها إلى غير ذلك من مظاهر حضارية كانت تسحر الأبصار بروعتها وحسن إتقانها وتنوع طرائفها.
ومن ذلك قول محمد بن شخيص يصف الزهراء:-
فاتتْ
محاسنُها مجهودَ واصفها |
|
فالقولُ كالسكت والايجازُ كالخطل |
بل
فضلها في مباني الأرض أجمعها |
|
كفضل
دولة بانيها على الدول |
كادتْ
قسيّ الحنايا أن تضارعها |
|
أهلَّة
السعد لولا وصمةُ الأُمل |
تألقتْ
فَغَدا نقصانها كملاً |
|
وربما
تنقص الأشياء بالكمل |
كم
عاشقين من الأطيار مافتئا |
|
فيها
يرودان من روضٍ إلى غلل |
** هذا ومن القضايا المسلم بها أن شعر الطبيعة يتداخل في أكثر المناسبات مع أبيات حب وغزل أو مقام شراب ومنادمة يتساوى في ذلك شعر الطبيعة المشرقي وأخوه الأندلسي.
فقد أحس شعر الطبيعة الأندلسي بقوته وانتشاره وسطوته فدس أنفه في فنون أخرى من فنون الشعر التي قد يبدو الارتباط بينها وبينه أمراً لا بأس فيه ولا غضاضة مثل مزج المديح بالطبيعة مزجاً يكاد يخرج بالقصيدة عن هدفها الأصلي، وهو أمر قد تقبله على علاته، إلا أن شعر الطبيعة يزحف ليكسب أرضاً جديدة حين يشارك في قصائد شعر الشكوى والتحسر، بل ويقتحم ميدان الرثاء، وإذا بنا أمام مرثية تجمع إلى صفة الحزن التغني بالطبيعة والتغزل بالمحبوب.
سبق أن مزج الطبيعة بالغزل أمر مقبول بل هو تزاوج بين فنين أليفين رقيقين، ونماذج هذا اللون من التزاوج بين الطبيعة والغزل كثيرة وفيرة، أشهرها وأرقها فيما قرأنا من الشعر الأندلسي قصيدة أبي الوليد بن زيدون القافّية التي بعث بها إلى ولادة عند اختبائه بالزهراء بعد خروجه من السجن وقبل تركه مدينته الحبيبة قرطبة وضاحيتها الساحرة الزهراء.
إن قصيدة ابن زيدون شأنها شأن كثير من قصائده تتميز بكل ما تتميز به القصيدة الأندلسية الأصلية من نسج الرقة المتناهية ووشي الزينة البهيجة، والتأنق في المعاني العذبة، والتحرز في اختيار اللفظ الموقّع في نطاق الديباجة الناعمة المنسابة كأنغام القيثار، فأنسامه عليلة مشفقة عليه، وروضه مبتسم في إطلالته على الغدير وزهره ندى، وورده متألق مشرق على منابته، ينافحه النيلوفر العبق الوسنان، كل ذلك الوصف البديع قد سيق في نطاق تشوق الشاعر العاشق إلى معشوقته بنت الخليفة المستكفي :-
إني
ذَكَرْتُكِ بالزهراءِ مُشتاقا |
|
والأفقُ
طَلقٌ ومَرْأى الأَرْض قدرَاقَا |
وللنسيِم
اعتلالٌ في أصَائِله |
|
كأَنَّه
رَقَّ لي فاعتل إشفَاقَا |
والروضُ
عن مائِه الفضي مُبتسمٌ |
|
كما
شَقَقت عن اللبات أطواقَا ([3]) |
يَومٌ
كأيام لذاتٍ لنا انصرَمتْ |
|
بِتْنَا
لها حينَ نَام الدهرُ سُرّاقا |
نَلْهُو
مما يَسْتَميلً العينَ من زهرٍ |
|
جَال
الندى فيه حتى مالَ أَعنَاقا |
كأن
أعينهُ إذ عاينتْ أرقى |
|
بكت
لما بي فجالَ الدمع رقراقا |
وَردٌ
تألَّقَ في ضَاحي مَنَابته |
|
فازداد
منهُ الضُّحى في العين إشراقا |
سَرَي
يُنَافحُهُ نيلوفرٌ عَبقٌ |
|
وسنانُ
مَنَّهَ منه الصبحُ أَحداقا نَبَّهَ |
كلُّ
يَهِيجُ لنا ذكرى تَشوقنا |
|
إليك
لم يَعْدُ عنها الصدرُ أَن ضاقا |
** أما مشاركة الطبيعة لشعر المديح فهي ظاهرة مشرقية قبل أن تكون أندلسية، فقد كان أول من حاول ذلك ولكن في حذر شديد مسلم بن الوليد ثم بدا ذلك واضحاً كل الوضوح في شعر أبي تمام والبحتري عندما كان يمدحان العباسيين بيد أن محاولات مزج الطبيعة بالمديح عند المشارقة تجري في حذر شديد عند بعضهم، وعند الأندلسيين صريحة واضحة عالية الصوت شديدة الجلبة عذبة الجرس مليحة الرنين بحيث يمكن أن تعد تقليداً.
ومن أشهر قصائد هذا المجال رائية أبي بكر بن عمار في مدح المعتضدين عباد، وكان ابن عمار صديقا للمعتمد قبل المُلك حبيباً إلى قلبه، ثم صار وزيرا له بعد تقلده زمام الملك، لقد كان منه كجعفر البرمكي من الرشيد في حالة الصفاء وحالة الغضب، وحل به ما قد حل بجعفر وانتهت حياته نهاية حزينة.
إن قصيدة ابن عمار في مدح المتعضد لم تنل شهرتها الكبيرة لأنها مجرد قصيدة مدح بل لأنها ضرب متجدد من ضروب المديح الذي استهل بشئ طريف، وهو وصف الطبيعة بصورته البهيجة الذي حل محل الأطلال والدمن بصورتها الكئيبة. يقول ابن عمار :-
أَدر
الزجاجةَ فالنسيمُ قد انبري |
|
والنجمُ
قد صرفَ العِنَان عن السُّري |
والصبحُ
قد أَهدى لنا كافورَهُ |
|
لما
استردَّ الليلُ منَّا العنبرا |
والروضُ
كالحسْنَا كساهُ زهْرُهُ |
|
وَشْياً
وقلدهُ نداهُ جَوْهَرا |
أو
كالغلام زهَابورْدِ رياضِهِ |
|
خَجَلاً
وتاهَ بآسِهِنَّ مُعَذِّرا |
روض
كأنَ النهر فيه معصم |
|
صاف
أطل على رداء أخضرا |
وتهزهُ
ريحُ الصَّبَا فتخالُهُ |
|
سيفَ
ابنِ عبادٍ يبددُ عسكرا |
عّبادٌ
المخضرُّ نائِلُ كفهِ |
|
والجو
قد لبس الرداءَ الأخضرا |
أَنْدَى
على الأَكبادِ من قطْر النَّدى |
|
وألذ
في الأجفان من سِنَةِ الكَرَى |
قَدَّاحُ
زَنْدِ المجدِ لا ينفكُّ منْ |
|
نارِ
الوغَى إلاَّ إلى نارِ القِرَى |
أَيْقَنْتُ
أَني من ذُراَهُ بجَّنةٍ |
|
لما
سقاني مِنْ نداهُ الكوْثَراَ |
وبعد هذا المدخل البهيج من شعر الطبيعة يدلف ابن عمار إلى مدح المعتضد قائلاً :-
.... أثمرت رمحكَ من رءوس ملوكهم |
|
لما
رأيتَ الغصن يُعْشَقُ مُثْمرا |
وصبغتَ
دِرْعَكَ من دماءِ ملوكهمْ |
|
لما
رَأيتَ الحُسن يُلْبَسُ أَحمرَا |
وإليكها
كالروض زارته الصبا |
|
وحنى
عليه الطلُّ حتى نوّرا |
نَمَّقْتُها
وَشْيا بذكرِكَ مُذْهَباً |
|
وفَتَقُتَها
مِسْكاً بحمدك أذْفَرَا |
ويكثر ارتباط وصف الطبيعة بالمدائح عند كثرة من الشعراء الأندلسيين ابتداء من ابن شهيد مروراً بابن زيدون وابن خفاجة وابن الزقاق والرصافي الرفاء حتى يصل الموكب إلى ابن زمرك الذي أنشأ المطولات الكثيرة في مدح الغني بالله سلطان غرناطة وتهنئته ومصافاته ومدح والد السلطان وأعمامه، لقد كانت القصيدة تبلغ في العادة ما يقارب مائة بيت وكان نصيب وصف الطبيعة في بعضها يناهز الثلث، بل إن قصيدة بعينها تبلغ أبياتها مائة وسبعة عشر بيتا، كان نصيب الطبيعة فيها أربعين بيتا، وهي القصيدة التي مطلعها :-
يا
مَنْ يَحِنُّ إلى نجدٍ وناديها |
|
غِرنَاطَةٌ
قَدْ ثَوَتْ نجدٌ بَوادِيَها |
لقد اقتحمت الطبيعة في الأندلس ميدانا من ميادين الشعر يبدو للمرء ألارباط بينهما، ونعني به ميدان القول في الشكوى والتحسر، فالطبيعة بسمة ومتعة وأمل وإشراق، والشكوى حسرة ويأس وكآبة وحزن، ولكن الشاعر الأندلسي الموهوب استطاع أن يجمع بين الضدين، وأن يؤلف بين النقيضين، إن أبا الوليد أحمد بن زيدون يجري هذه المحاولة بنجاح في أكثر من موقف وخاصة رائيته الرقيقة :-
عِذَرِي
إن عَذَلْتَ في خَلْع عذري |
|
غُصْنٌ
أَثْمرَت ذُرَاهُ ببدر |
وهي قصيدة بعث بها إلى صديقه أبي القاسم بن رفق يظهر له فيها مودته ويتحسر على أيام مضت، وموطن الشاهد قول الشاعر :-
ليت
شعري والنفسُ تعلم أن |
|
ليس بمُجْدٍ على الفَتَى : ليت شعري |
هل
لخالي زمانِنا من رُجوعٍ |
|
أم
لماضي زماننا من مِكَرِّ |
أين
أيا مُنَا وأين لَيالٍ |
|
كرياضٍ
لِبسْنَ أفوافَ زهرِ |
وزمانٌ
كأنما دَبَّ فيه |
|
وَسَنٌ
أو هَفَا به فرط سكر |
حين
نَغْدو إلى جَداول زُرْقٍ |
|
يتغلغلن
في حدائق خضر |
في
هضابٍ مجلوة الحُسْن حُمْر |
|
وبوادٍ
مصقولة النبتِ عُفْرِ |
نتعاطي
الشمولَ مُذْهَبَةَ السر |
|
بَالِ
والجوُّ في مَطَارفَ غُبْرِ |
... الخ
وعلى نهج ابن زيدون يسير الملك الشاعر الأسير المعتمد بن عباد سيد الشعراء الملوك على الإطلاق، لقد كان دائم التفكير وهو أسير في ملكه وأولاده، لقد كان حليف شكوى جليس حسرة، يذكر حاله وهو أسير بأغمات في المغرب ويرنو ببصره قليلاً إلى الوراء حيث الملك الواسع الثري الأبي في اشبيلية، ثم يتأمل الملك الأسير حاله راسفا في القيد سجينا في الظلام وأكثر أبنائه وبناته أسرى وسبايا، أو مضيعون يضربون في أكناف الأرض باحثين وباحثات عن الطعام يفكرون بدورهم في أبيهم الذي ملأ ذكره أسماع الدنيا وسما شعره إلى طبقات النجوم. إن لسان حاله يقول، بل إن قلبه يردد متوجعاً متفجعاً:-
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً |
|
فساءك العيد في أغمات مأسوراً |
.... الأبيات ([4]).
في كل ذلك يفكر الملك الأسير الفارس الشاعر فيتحسر ويستنجد بالطبيعة ينظمها شعراً لعل صفاءها يكون له أسى وإشراقها يكون له مخرجاً، إنه يكتب لصديقه الشاعر ابن حمد يس متوجعاً :-
غريبٌ
بأَرْضِ المغرِبَيْن أسيرُ |
|
سيبكي
عليه منبرٌ وسريرُ |
وتندبُه
البيض الصَّوارم والقَنا |
|
وينهلُّ
دَمْعٌ بينهن غَزِير |
سَيَبْكيه
في زَاهيه والزَّاهر النَّدىَ |
|
وطُلابُه
والعَرْفُ ثم نكير |
إذِا
قَيَلَ في أَغْمات قد مَاَتَ جُودُهُ |
|
فمايُرْ
تَجَي للجود بعد نُشور |
مَضَى
زَمَنٌ والملكُ مُسْتَأنس به |
|
وأَصبح
عنه اليوم وهو نَفَورُ |
برأيٍ
من الدهرِ المضَلل فاسدٍ |
|
متى
صَلَحَتْ للصالحين دُهُور |
أَذل
بني ماءِ السماء زَمَانُهم |
|
وُذل
بني ماء السَّماء كثير ([5]) |
وهكذا تكون الحسرة الفاجعة قد بلغت في مشاعر المعتمد حداً يكاد يمزقه فينعطف سريعاً إلى الأمل والرجاء من خلال الطبيعة لعلها تكون بردا على كبده وبرءاً لقلبه :-
فيالِيْتَ
شِعري هل أبيتنَّ ليلة |
|
أمامي
وخلفي روضةٌ وغدير |
بمُنْبَتَّةِ
الزيتون موروثةِ العُلا |
|
تُغَنى
قيان أو تَرِن طيورُ |
بزاهرها
السامي الذي جَادَه الحيا |
|
تُشير
الثرُّيا نحونا ونشير |
ويَلْحظَنَا
الزَّاهي وسعد سُعُوده |
|
غيورين
والصب المحب غيور |
تُراهُ
عسيرا لا يسيراً مناله |
|
ألا
كل ما شاء الإله يَسيرُ |
لقد كان شعر الطبيعة مهرباً للشعراء وهم في أقصى حالات التفجع والتوجع، ولقد التفت شعراء الأندلس إلى هذا المنطق فسجلوا كثيرا من قصائدهم ومقطوعاتهم التي مزجوا فيها الحسرة والألم بذكر الطبيعة وما حوت من جمال وجلال وإشراق وتبسم، فربما ظنوا أن في إشراقها مخرجا لمصائبهم وفي بسمتها برءاً لمواجعهم.
إن مزج الطبيعة بشعر الشكوى والتحسر والهموم بدا منطقيا بعد هذا التعليل، أما الجديد الغريب عند الأندلسيين هو مزج الطبيعة بالحزن والبكاء في مقام الرثاء، وبحيلة خفيفة استطاع الشاعر الأندلسي أن يحول وجه الطبيعة الضاحك البهيج الذي كان يمرح من خلاله في ألوان المتعة وأسباب اللهو إلى وجه كسيف باك حزين يسخره في خدمة غرضه الجديد الذي أقحمه عليه إقحاماً، ونقرأ أبيات ابن خفاجة في رثاء الوزير أبي محمد عبد الله ابن ربيعة :-
1- في كلِّ نادٍ منكَ روضُ ثناء |
|
وبكل
خدِّ فيك جدولُ ماء |
2- ولكل شخص هِزَّةُ الغُصن الندى |
|
غبَّ
البكاء وَرِنَّةُ المُكَّاء |
3- يا مطلع الأَنْوَارِ إن بمُقلتي |
|
أَسَفاً
عليك كمنشا الأنواء |
4- وكَفَى أَسى أن لا سفيرا بيننا |
|
يمشي
وأن لا مَوْعدا للقاء |
5- فيم التَّجمل في زمانٍ بزَّتي |
|
ثَوْبُ
الشباب وحلْية النُّبلاء |
6- فَعَرِيتُ إلا مِنْ قِنَاع كُآبَة |
|
وعَطِلْت
إلا مَن حَُلِيِّ بُكاءِ |
7- فإذا مررتُ بمعهدٍ لشَبيبةٍ |
|
أورسمٍ
دارٍ لصديق خَلاء |
8- جالتْ بطرفي للصَّبابة عَبرةٌ |
|
كالغيم
رًقَّ فحالَ دُونَ سماء |
9- ورَفَعت كفِّى بين طرفٍ خاشعٍ |
|
تَنْدىَ
مآقيه وبين دُعَاء |
10-وبسطتُ في الغبراء حَذي ذلة |
|
أستنزلُ
الرُّحمى من الخَضَراء |
11-مُتَمَلْمِلاً ألما بمَصرعِ سَيِّد |
|
قد
كان سَابق حَلْبةِ النبلاء |
12-لا والذي أَعلقت من تقديسهِ |
|
كَفِّى
بحَبْلي عِصْمة وَرَجاء |
13-وَخَررتُ بين يديه أَعْلَم أنه |
|
ذُخْري
ليومي شِدةٍ وَرَخاء |
14-لاَ هَزَّني أملٌ وَقَد حَلَّ الرَّدى |
|
بأبي
مُحَمد المحلّ النائي |
إن ابن خفاجة قد أقدم في جرأة على هذا الضرب الجديد من مزج الطبيعة بالرثاء فهل استطاع أن يقدم شيئا ذا بال من خلال محاولته تلك، الذي لا شك فيه أن الطبيعة الفينانة تمثل مولد الحياة وبهجتها وغناءها وبسمتها، والرثاء يمثل نهاية الحياة وآلامها، وبكاءها والحسرة عليها، ومن ثم كان الجمع بين الطبيعة والرثاء جمعاً بين نقيضين، والجمع بين النقيضين مؤد إلى البوار فالماء يطفئ النار، والخل يفسد العسل، والغناء يزيل الحزن وهكذا.. ومن ثم فإن محاولة ابن خفاجة هذه محفوفة بالمكاره محوطة بالأخطار، فالبيتان الأول والثاني ليس فيهما لمحة حزن ولا هما يرشحان إليه من قريب أو بعيد، بل إن البيت الثاني يدل على نشوة راقصة وغناء بهيج، وكان في الإمكان أن يشعر ابن خفاجة المستمع إليه بأنه في مقام رثاء وليس في مقام وصف لو أنه ضمن بيته الأول على الأقل كلمات يستشف من خلالها أنّه الأسى أو رنة الحزن كأن يقول على سبيل المثال:-
في
كل نادٍ منك دمع وفاء |
|
وبكل
خد فيك فيض بكاء |
أو ما شابه.
وأما البيتان الثالث والرابع فهما أقرب إلى تصوير لوعة المحب وزفرة الشاكي منهما إلى أي شئ آخر، ويمكن أن يقال نفس الشئ عن البيتين الخامس والسادس، وهكذا لا نكاد نحس بأن في القصيدة نعياً – ولا نقول بكاء – إلا في البيت الرابع عشر :-
لا
هزني أملٌ وقد حلَّ الردي |
|
بأبي
محمد المحل النائي |
وهو نعي فاتر ورثاء بعيد عن العاطفة ما كان ينبغي الشاعر أن يتورط فيه أو بالأحرى أن يسلك هذا السبيل إليه، بل إن الشاعر يوغل في تصوير الطبيعة إيغالاً من حيث حسب أنه يرثي صديقه فإذا به يرسم تلك الصور التي تعود أن يتغنى بها من خلال وصفه للطبيعة وذلك في قوله :-
فَلَطَالما
كُنا نريح بظلَّه |
|
فنريحُ
منه بسرحةٍ غنَّاء |
فَتَقَت
على حكم البشاشةٍ نَورها |
|
وتَنَفست
في أوُجه الجُلساء |
تَتَفَرَّج
الغمَّاء عنه كأنه |
|
قَمَرٌ
يُمَزِّق شَمَلَه الظلماء |
قَاسَمْتُ
فيه الرُّزْء أَكْرَمَ صاحبٍ |
|
فمضي
ينوءُ بأثقل الأعباء |
يَهْفُو
كما هَفَت الأراكة لوعة |
|
ويُرنَّ
طوراً رَنَّة الورقاء |
فقد ملك هذا اللون من الشعر على القوم كل حياتهم فجودوا فيه إلى حد مزجه بموضوعات الغزل والخمر، وهذا شئ مألوف منذ عرف شعر الطبيعة في المشرق، ثم زاد خطوة فمزجه بشعر المديح وجعله استفتاحاً له، وهو أمر عرف عند المشارقة أيضاً، ولكن الأندلسيين كانوا فيه أكثر توفيقا وأوفر إنتاجاً وجعلوا منه أمراً طبيعياً وربما تقليدياً، ثم تقدموا بعد ذلك خطوة أخرى جديدة فمزجوا شعر الطبيعة بشعر الشكوى والتحسر، وأخيراً جمعوا بين شعر الطبيعة والرثاء، وربما وجدت الجمع بين الغزل والنسسيب والطبيعة والخمر والرثاء في قصيدة واحدة.
الخصائص التي امتاز بها شعر الطبيعة في الأندلس :
1-شعر يمثل تعلق الشعراء الأندلسيين ببيئتهم وتفضيلها على غيرها من البيئات، وخاصة ابن خفاجة، وابن زيدون وابن حمد يس وغيرهم من الشعراء
2-شعر يصف طبيعة الأندلس الطبيعية والصناعية، فشعراء الطبيعة يصفونها كما أبدعها الله في الحقول والرياض والأنهار والجبال والسماء والنجوم، ويصفونها كما صورها الفن مجلوة في القصور والمساجد والبرك والأحواض فيكمل تذوقهم لجمال الطبيعة وتتضح ألوانها وأشكالها أمام نواظرهم فيزدادون لها حباً وتعلقاً.
3-شعر يصف الأقاليم المختلفة لبلاد الأندلس، فكان لبعض الأقاليم شعراؤها الذين اهتموا بوصف ديارهم فابن زيدون يتغنى بقرطبة وزهرائها، وابن سفر المريني يصف إشبيلية، وأبو الحسن بن نزار متعلق بوادي أشات فيصوره تصويراً ينم عن براعة بها يترك في النفس من طراوة الندى والظل والشجر فيقول:-
وادي الأشاتِ يهيجُ وَجْديِ كلما |
|
أذكرت
ما أفضتْ بك النعماءُ |
لله
ظِلك والهجيرُ مسلَّط |
|
قد
بَرَّدَتْ لَفَحاتهِ الأنداء |
والشمسُ
ترغبُ أن تفوزَ بِلحظةٍ |
|
منه
فَتَطرف طَرْفَها الأفياء |
والنهرُ
يبسم بالحَبَابِ كأنه |
|
سَلخٌ
نَضَتْه حيةٌ رقطاء |
فلذاك
تحذرُهُ العيوَنُ فميلُها |
|
أبداً
على جنباتِهِ إِيماءُ |
4-وصف الطبيعة عندهم يبعث على جو الطرب والبهجة والسرور وأكثر شعرهم في الطبيعة وصف لمتنزهاتهم ومجالس أنسهم ولهوهم في أحضانها.
5-وصف الطبيعة عندهم متصل بالغزل والخمر، وهو طريق إليهما، ولذا رأينا شعراء الأندلس لا يذكرون الطبيعة إلا في رحاب الحب بل لا يذكرون الحب إلا في رحاب الطبيعة، وهم بذلك يمنحون غزلهم لوناً بهيجاً من الجمال تقدمه الطبيعة التي تضم خلواتهم وتفسح لهم مجال اللهو و الشراب.
6-المرأة صورة من محاسن الطبيعة، والطبيعة تجد في المرأة ظلها وجمالها، ولذا كانت الحبيبة روضاً وجنة وشمساً، وقد قال المقري عن شعراء الأندلس.
«إنهم إذا تغزلوا صاغوا من الورد خدوداً ومن النرجس عيوناً ومن الآس أصداغاً ومن السفرجل نهوداً ومن قصب السكر قدوداً ومن قلوب اللوز وسُرر التفاح مباسم ومن ابنة العنب رُضاباً »([6])
وهكذا كانت العلاقة شديدة بين جمال المرأة وبين الطبيعة فلا تذكر المرأة إلا وتذكر معها الطبيعة.
7-يعنى شعرهم بتشخيص الطبيعة وتصويرها على نحو إنسانى تملؤه الحركة والنشاط، كما في شعر ابن زيدون وابن خفاجة وغيرهما وكما فعل لسان الدين بن الخطيب في موشحته التي عارض بها موشحة ابن سهل والتي مطلعها:
جَادَك
الغيثُ إذا الغيثُ هَمَى |
|
يا
زمانَ الوصل بالأَندلسِ |
لم
يكنْ وصْلُكَ إلا حُلما |
|
في
الكَرَى أو خِلْسة المختلسِ |
8- لا يظهر شعر الطبيعة عندهم كغرض مستقل إلا نادراً وقد امتزج في أكثر الأغراض التي طرقها الشعراء الأندلسيون وكان الغزل كما سبق أكثر هذه الأغراض امتزاجاً بالطبيعة وأيضا نرى هذا الامتزاج في المدح والرثاء والعتاب والفخر، فهذا ابن زيدون يمدح المعتمد على نعمه فيراها جنة يضل فيها القريض:
أَورثَتْنيِ
نُعْماكَ جنةَ عدنٍ |
|
جَالَ
في وصفها فَضَلَّ القريضُ |
ثم يعاتب ابن زيدون صاحبه أبا حفص بن بُرْد ويطلب منه أن يكون مثله دائم الوفاء فينظر إلى الطبيعة فيرى في الآس وديمومة اخضراره ما يريد أن يعبر عنه :
لا
يكنْ عهدُك وَرْداً |
|
إِنَّ
عهدي لكَ آسُ |
9-قد كان لطبيعة الأندلس وما احتضنت من غزل ولهو وغناء أثر في اختراع قالب شعري جديد طبعته الأندلس بطابعها ألا وهو « الموشح » ذلك الفن الشعري المستحدث الذي غنى طبيعة الأندلس ولهوها وعاش في نعيم ظلالها وعبق ريحانها.
هذه جملة المميزات لشعر الطبيعة في الأندلس الذي كان في الأعم الأغلب شغفاًً بمحاسنها وتصويراً حسياً لمباهجها، تموج به، بين حين وآخر، خفقة من حياة ودفقة من عاطفة صادقة. ([7])