المحاضرة الثامنة ع
طوق الحمامة فى الألفة والالآف
« رسالة فى صفة الحب ومعانيه وأسبابه
وأعراضه وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة »
تأليف أبى محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسى .
التعريف بالمؤلف :
ابن حزم هو أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسى من أسرة كانت تنسب إلى جد فارسى من موالى بنى أمية وزعم ابن حيان أن أسرته إسبانية وأنها حديثة العهد بالإسلام ، وكانت أسرته تعيش فى قرية تملكها تسمى مُنْت ليشم من قرى مدينة لَبْلة على بعد خمسين كليومتراً غربى إشبيلة وكان أبوه وزيراً لابن أبى عامر حاجب الخليفة المؤيد ومن بعده لابنه عبد الملك المظفر ، وقد وكل تربية ابنه ابن حزم إلى جوارى قصره وكن على حظ كبير من الثقافة الأدبية – شأن أمثالهن من الجوارى فى قرطبة ومدن الأندلس – وفى ذلك يقول ابن حزم فى كتابه (الطوق) : « لقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيرى ، لأنى ربيت فى جحورهن ، ونشأت بين أيديهن ولم أعرف غيرهن ، ولا جالست الرجال إلا وأنا فى حد الشباب وحين أبقل وجهى (نبت الشعر فيه) وهن علمننى القرآن ورويننى كثيراً من الأشعار ودربننى فى الخط » .
وجعلته هذه النشأة يستشعر مبكراً عاطفة الحب لمن كن فى سنه من الجوارى ، وظل يختلط بهؤلاء الجوارى ويعيش معهن إلى حد الشباب إذ يذكر أن أباه اصطحبه إلى مجلس الحاجب المظفر بن المنصور بن أبى عامر سنة 396هـ ولم يلبث أن أخذ يتتلمذ للشيوخ وفى مقدمتهم ابن الجسور المتوفى سنة 400هـ ، وعنه أخذ الحديث النبوى وتاريخ الطبرى .
وتزوج من جارية له كَلِفَ بها تسمى نُعْما كانت غاية فى الحسن خَلْقَا وخُلقا ، ولم يلبث القدر أن فجعه فيها وهو دون العشرين فالتاع لوعة شديدة ، حتى يقول إنه أقام بعدها سبعة أشهر لا يتجرد عن ثيابه حزنا عليها ولا تفتر له دمعة ، ويقول إنه لم يطب له عيش بعدها ، وكانت أحواله المادية قد تمادت فى السوء بعد وفاة أبيه ففارق قرطبة سنة 404هـ إلى المرية وتنقل بين مدن الأندلس واعتقل عدة مرات . ([1])
وعرف ابن حزم أنه لم يخلق للسياسة ففارقها إلى غير مآب وانقض على المعارف من كل لون انقضاض الوحش على فريسته بحيث أصبح أكبر عقل مفكر أهداه عصر أمراء الطوائف إلى الإسلام والعروبة .
ويقول ابنه الفضل : إن مجموع مؤلفاته فى الفقه والحديث والأصول والتاريخ والنحل والملل والنسب والأدب والرد على معارضيه نحو أربعمائة مجلد . وبدأ حياته مالكياً ثم انتقل إلى مذهب الشافعى فترة ثم تركه فى أوائل الثلاثينيات من عمره إلى مذهبهم داود الظاهرى .
وظل ابن حزم يطوف بمدن الأندلس ناشراً علمه ومذهبه الظاهرى فى الفقه ، وله مناظرة مشهورة مع الفقيه المالكى أبى الوليد الباحى فى جزيرة ميورقة سنة 452هـ ، وكان فقهاء المالكية ينفِّرون من كتبه ، مما جعل المعتضد بن عباد يأمر بإحراق طائفة منها لقصر نظره .
ورأى بأخرة العودة إلى قرية آبائه منت ليشم وبها توفى سنة 456هـ .
نبذة عن الكتاب :-
كتابه طوق الحمامة فى الألف والألاف ألفه فى سكناه بشاطبة سنة 418هـ أو 419هـ وموضعه دراسة الحب العذرى ويستهل حديثه فيه بأن الحب ظاهرة إنسانية لم يسلم منها حاكم ولا محكوم ، ويعرفه بأنه اتصال بين أجزاء النفس فى الطبيعة الإنسانية فى أصل عنصرها الرفيع ويريد به عالم النفوس العلوى قبل حلول النفوس فى الأجساد فى عالم الأرض السفلى . ويحدث هذا الاتصال حين يكون بين النفوس ائتلاف ومشاكلة فيكون الحب أما إذا كان بينها انفصال وتباين فيكون البغض ، والحب بذلك إنما يكون بين النفوس لا بين الأجسام .
وكتاب ابن حزم صنف فى هيئة رسالة ، رد بها على سائل بعث إليه من مدينة ألمرية ، يسأله أن يصنف له رسالة فى صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه ، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة . ([2])
وقد يكون الكتاب قد كتب فعلا بناء على طلب هذا السائل ، وقد يكون ابن حزم قد قدم بذكر هذا الطالب كتسويغ لتسطيره هذا الكتاب ، وهو ما أرجحه ، فابن حزم كان معروفاً بين الأندلسيين كفقيه لا كباحث فى الحب ، فغريب أن يسأله سائل أن يحدثه حديثاً مفصلاً عن الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه ، لا عن الفقه الظاهرى والأصول والتوحيد وما إلى ذلك مما من شأنه أن يسأل عنه .
هذا وقد جعل ابن حزم كتابه فى ثلاثين باباً ، تتبع فيها الحب فى نشأته وتطوره وأعراضه ودرجاته وأنواعه ومسعداته ومنغصاته ، وهو فى كل باب يتحدث عن الموضوع الذى يعرض له معرفاً ومحللاً ومعللاً ، ثم يتبع ذلك ببعض الحكايات الواقعية التى شاهدها أو سمع بها ، وكلها تدور حول أندلسيين وهو يضمن كلامه قطعاً من شعره قد قالها فى مثل التجرية أو الظاهرة التى يسوق عنها الحديث .
وقد صدّر كتابه ببيان خطته فقال : « وقسمت رسالتى هذه على ثلاثين باباً ، منها فى أصول الحب عشرة ، فأولها هذا الباب ماهية الحب، ثم باب فى علامات الحب ، ثم باب من أحب فى النوم ، ثم باب من أحب بالوصف ، ثم باب من أحب من نظرة واحدة ، ثم باب من لا يحب إلا مع المطاولة ، ثم باب التعريض بالقول ، ثم باب الإشارة بالعين ، ثم باب المراسلة ، ثم باب السفير » .
ومنها فى أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة اثنا عشر باباً... وهى باب الصديق المساعد ، ثم باب الوصل ، ثم باب طى السر ، ثم باب الكشف والإذاعة ، ثم باب الطاعة ، ثم باب المخالفة ، ثم باب من أحب صفة لم يحب بعدها غيرها مما يخالفها ، ثم باب القنوع ، ثم باب الوفاء ، ثم باب الغدر ، ثم باب الضنى، ثم باب الموت .
ومنها فى الآفات الداخلة على الحب ستة أبواب : وهى « باب العاذل، ثم باب الرقيب ، ثم باب الواشى ، ثم باب الهجر ، ثم باب البين ، ثم باب السلو » .
ومنها بابان ختما بهما الرسالة ، وهما باب الكلام فى قبح المعصية ، وباب فى فضل التعفف ، ليكون خاتمة إيرادنا وآخر كلامنا الحض على طاعة الله U ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر » . ([3])
وجميع هذه الأبواب تُعرض لا فى كلام نظرى بل من خلال الواقع والتجربة والمشاهدة أو بعبارة أدق من خلال اعترافات صريحة منتهى الصراحة لابن حزم ومعاصريه عن الحب دون أى مواربة أو خجل يحجبان الحقيقة ، فالحقيقة دائماً مكشوفة كالشمس ، وفى تضاعيف ذلك ما لا يحصى من حقائق النفس فى الحب وترهاتها ، مع أشعار لابن حزم تصور تلك الحقائق وكأنه كان يريد بالكتاب تربية الفتاة والفتى بالأندلس موطنه ليكون حبهما حباً نقياً بريئاً من كل دنس .
وليست قيمة طوق الحمامة فيما اشتمل عليه من أفكار عن الحب فحسب ، وإنما قيمته أيضاً فى تلك الحكايات الكثيرة التى يرويها ابن حزم، والتى تكشف الكثير من جوانب الحياة الأندلسية ، وتوقفنا على أسرار حكام ورؤساء ، وترفع الستائر عن بيوت وقصور ، وتنبه إلى ما كان لصنوف من النساء من نشاط فى دنيا المحبين ، كالطبيبة ، والحجامة والدلالة ، والماشطة ، والمغنية ، والمعلمة ، وما إلى ذلك .
وهناك قيمتان أخريان للكتاب ، الأولى : اشتماله على كثير من الأخبار التى تلقى ضوءاً على حياة ابن حزم نفسه .
والثانية :- تصنيفه الكثير من شعره بالإضافة إلى نثره فهو عمل ابن حزم الأدبى الأول الذى يدخل به مع الناثرين والشعراء المجيدين من أوسع الأبواب.
ويلاحظ على ابن حزم كناثر – من خلال طوق الحمامة – أنه كان لا يكلف بالصنعة كلف غيره من معاصريه ، فهو يؤثر البساطة على التكلف ، والدقة على الحلية .
كذلك يلاحظ أن الثقافة العقلية والدينية كانت تنعكس أحياناً على أسلوبه ، فيورد بعض مصطلحات الفلسفة والمنطق ، ويهتم بالعلل والمقدمات والنتائج ، كما يورد بعض المصطلحات الفقهية أو الدينية على وجه العموم .
ويلاحظ على ابن حزم أخيراً ، أنه من الذين لم يقعوا تحت تأثير طريقة بديع الزمان .
أما شعر ابن حزم من خلال الطوق أيضاً – فيلاحظ عليه أن أغلبه قطع وأبيات ، وهى من الناحية الفنية تتراوح بين الجودة والتوسط ، ولغة ابن حزم الشعرية تنعكس عليها أحياناً ثقافته العقلية والدينية . ([4])
وهذا نموذج من طوق الحمامة وهو من باب من :-
« من أحب بالوصف »
وفيه يقول ابن حزم :-
« ومن غريب أصول العشق أن تقع المحبة بالوصف دون المعاينة ، وهذا أمر يترقى منه إلى جميع الحب ، فتكون المراسلة والمكاتبة والهم والوجد والسهر على غير الإبصار فإن للحكايات ونعت المحاسن ووصف الأخبار تأثيراً فى النفس ظاهراً . وأن تسمع نغمتها من وراء جدار ، فيكون مسبباً للحب واشتغال البال .
وهذا كله قد وقع لغير ما واحد ، ولكنه عندى بنيان هار على غير أس، وذلك أن الذى أفرغ ذهنه فى هوى من لم لابد له إذا يخلو بفكره أن يمثل لنفسه صورة يتوهمها وعينا يقيمها نصب ضميره ، لا يتمثل فى هاجسه غيرها ، قد مال بوهمه نحوها ، فإن وقعت المعاينة يوماً ما فحينئذ يتأكد الأمر أو يبطل بالكلية ، وكلا الوجهين قد عرض وعرف ، وأكثر ما يقع هذا فى ربات القصور المحجوبات من أهل البيوتات مع أقاربهن من الرجال ، وحب النساء فى هذا أثبت من حب الرجال بضعفهن وسرعة إجابة طبائعهن إلى هذا الشأن ، وتمكنه منهن وفى ذلك أقول شعراً منه :-
ويا من لامنى فى حب من لم يره طرفى |
لقد أفرطت فى وصفك لى فى الحب بالضعف |
فقل هل تعرف الجنة يوماً بسوى الوصف([5]) |
&&&