المحاضرة الثانية ا
عصر الـــــولادة
95هـ -714م – 138هـ - 756م
عدة عوامل عملت على كثرة الاضطرابات فى هذا العصر، أولها كثرة العناصر التى تكون منها الشعب الأندلسى، إذ كان منه أسبان مختلفو الجنسيات، ويهود، وبربر وعرب.
وعامل ثان هيأ لها هو كثرة تعيين الولاة هناك حتى بلغوا فى نحو أربعين عاما اثنين وعشرين والياً([1])، فلم يكن الوالى يشعر بشئ من الاستقرار.
وعامل ثالث هيأ بدوره لكثرة الاضطرابات فى الأندلس هو بعدها عن السلطة المركزية فى دمشق، فكان الخلفاء الأمويون لا يعرفون شئونها معرفة واضحة، مما جعلهم يكلون تعيين ولاتها إلى ولاتهم على المغرب.
وبعد مقتل عبد العزيز بن موسى فى مطلع سنة98هـ، بقيت الأندلس ستة أشهر بلا والٍ، ثم قدم أهل الأندلس أيوب بن حبيب اللخمى، ابن أخت موسى بن نصير – وكان رجلاً صالحاً – ليؤمهم فى صلاتهم. بعدئذ ارتضوه والياً غير أن والى إفريقية محمد بن يزيد أرسل الحر بن عبد الرحمن الثقفى ليلى الأندلس مكان أيوب بن حبيب فى السنة نفسها.
وفى أيام الحر بن عبد الرحمن تحولت العاصمة من إشبيلية إلى قرطبة لأن إشبيلية كانت ميداناً واسعاً لنشاط الإسبان ضد الحكم العربى، ولأن قرطبة أقرب إلى طريق القوافل ومنذ أيام الحر بن عبدالرحمن بدأت غزوات العرب وراء جبال البرانس (فى بلاد الإفرنجة – فرنسة) لأن البابوية وملوك أوربا كانوا قد جعلوا بلاد الإفرنجة مركزاً يمونون منه الإسبان لقتال العرب.
وفى سنة 99هـ-717م توفى سليمان بن عبد الملك وخلفه عمر بن عبد العزيز، فقام عمر بعزل محمد بن يزيد عن إفريقية وولى مكانه إسماعيل بن أبى الهاجر، كما ولّى على الأندلس السمح بن مالك الخولانى، وكان عمر قد قال للسمح أن ينظر فى أمور الأندلس، فإذا كان فيها خطرٌ على المسلمين فليردهم إلى إفريقية وينسحب من الأندلس، فكتب السمح إلى عمر بأن لا خطر على المسلمين وأن أحوالهم مستقرة. عندئذ أمر عمر بالبقاء فى الأندلس وبالقيام بعدد من الإصلاحات ، وقام السمح بغزوتين إلى فرنسا سنة 100هـ، وسنة 102هـ، فقتل فى الثانية منهما فاستطاع أحد القادة فى جيشه – وهو عبد الرحمن الغافقى أن ينسحب بالجيش بمهارة فائقة، فقدمه الجند وجعلوه والياً مؤقتاً على الأندلس.
ويعتبر الخليفة عمر بن عبد العزيز هو الخليفة الوحيد الذى فصل ولاية الأندلس عن ولاية المغرب بعد أن تنبه إلى أن أهل الأندلس يأنفون من التبعية لأهل المغرب.
وفى سنة 101هـ توفى عمر بن عبد العزيز وخلفه يزيد بن عبدالملك فولى على إفريقية يزيد بن أبى مسلم فلما وصل يزيد بن أبى مسلم إلى القيروان 103هـ ولى على الأندلس عنبسة بن سحيم الكلبى، وغزا عنبسة فرنسا 105-107هـ واستشهد.
معركة بلاط الشهداء فى فرنسا :-
ولى عبد الرحمن الغافقى الأندلس للمرة الثانية سنة 112هـ-730م، فأعاد إلى الأندلس الهدوء والنظام وقاد جيشاً كبيراً لغزو غالة، وكان شارل مارتل قد حشد له جيشاً كثيفاً من الفرنج والألمان وشعوب الشمال الأوروبى، والتقى به لسنة114هـ-732م بين مدينة تور ومدينة بواتييه على بعد مائتى كيلومتراً من باريس جنوباً، وصمد المسلمون عشرة أيام ينازلون أعدادا ضخمة، وفجأهم استشهاد قائدهم عبد الرحمن فى المعركة فانسحبوا، وعرفت هذه الموقعة بواقعة بلاط الشهداء لكثرة ما استشهد فيها من المسلمين، أولئك الذين سقوا أرض فرنسا بدمائهم الذكية لتهتز فتربو بالإيمان وبالإسلام، ولكن كان غير ما كانوا يريدون، ويعتبرها التاريخ من مواقفه الحاسمة، فقد حيل بها بين المسلمين وبين ما كانوا يشتهون، وانتصبت حداً فاصلا بين المسيحية وبين تقدم الإسلام.
وولى الأندلس عبد الملك بن قطن الفهرى لمدة سنتين وخلفه عليها سنة 116هـ عقبة بن الحجاج القيسى وظل يليها خمس سنوات محمود السيرة، ورابط فى جليقية بأقصى الشمال الغربى من إيبيريا حتى لم يبق فيها قرية إلا فتحت ما عدا حصن بلاى بالقرب من خليج بسكاى لوعورة الطريق إليه، واستشهد فى قرقشونة، وباستشهاده يتوقف هذا المد العربى الإسلامى وراء جبال البرينيه فى غالة (فرنسا) بعد استمراره عشرين سنة أو تزيد سجل فيها العرب صفحات انتصار مجيدة بجانب انتصاراتهم وفتوحاتهم العظيمة فى إيبيريا.
^^^
الدولة الأموية
من سنة 138هـ وحتى سنة 300هـ
بعد أن سقطت الدولة الأموية فى الشرق (1321هـ - 749م) تتبع العباسيون أمراء البيت الأموى المالك بالقتل. وكان ممن نجا من القتل (عبد الرحمن بن ومعاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان)([2]) واستطاع أن يدخل الأندلس بعد أن ظل أربع سنوات هائماً على وجهه فى شمال إفريقية حتى نزل على أخواله بنى نفزة بالقرب من سبته – ولذلك سُمَّى عبد الرحمن الداخل. واستطاع أن يقبض على زمام الحكم بها ويجعله وراثياً فى أسرته لمدة ثلاثة قرون متوالية.
وبذلك أثبت أن الدولة الأموية إذا كانت سقطت فى المشرق فقد قامت فى الأندلس وكل ما هناك أن العاصمة انتقلت من دمشق إلى قرطبة.
دخل الأندلس وكون سريعاً جيشاً للقاء الوالى يوسف الفهرى ومستشاره الصميل على مشارف قرطبة، واندحر جيشهما وفى العاشر من ذى الحجة 138هـ-756م بويع له بإمارة قرطبة، وجعل فيها سرير ملكه، وصلى بالناس، وخطب فى الجند معلناً ميلاد الدولة الأموية فى الأندلس، وحاول أن تكون دولته فى قرطبة امتداداً لدولة آبائه فى دمشق، وكان أول ما مهَّد به لذلك قطعه الخطبة للعباسين بعد عشرة أشهر من استيلائه على الأندلس.
وأخذ عبد الرحمن يعمل على تثبيت الحكم بالأندلس فى بيته وأن يكون وراثياً فى أبنائه وأحفاده، وبذلك حمى الأندلس لمدة ثلاثة قرون (138-428هـ) من الاضطرابات والحروب الأهلية وأن تتوزع إلى أندلسيات كثيرة.
وهذا الحكم الوراثى حاكى فيه عبد الرحمن وأبناؤه وأحفاده حكم أسلافهم الأمويين فى دمشق. وكانوا لا يشركون أحداً فى حكمهم، فكل أزمة التحكم فى أيديهم.
وعلى نحو ما كان الخلفاء الأمويون فى دمشق يتخذون لأبنائهم المؤدبين والمعلمين كذلك اتخذ عبد الرحمن الداخل وأبناؤه المعلمين والمؤدبين لأبنائهم فى قرطبة وكان لذلك أثره فى رعاية الأمويين فى الأندلس للأدب وأهله وأيضاً للعلم وأصحابه.
واستنوا سنة أسلافهم فى بناء القصور بالبادية على نحو ما صنع جده هشام من بناء قصراً بعيداً عن دمشق فى البوادى سماه الرُّصافة، وحاكاه فى قرطبة حفيده عبد الرحمن الداخل فبنى لنفسه قصراً شمالى قرطبة اتخذه للتنزه ولسكناه فى بعض الأوقات.
وتبعه أبناؤه وبنى جامع قرطبة الكبير وظل الأمراء بعده يزيدون فيه حتى أصبح يضارع الجامع الأموى الكبير فى دمشق.
واتخذ داراً للسكة وضرب العملة فيها باسمه، واتخذ مذهب الأوزاعى فقيه الشام المتوفى سنة 157هـ أساساً للفتوى والقضاء فى الأندلس.
وشغل عبد الرحمن الداخل وأبناؤه بعده بثورات داخلية كثيرة بين اليمنية والمضرية، وبين العرب البلديين والشاميين، وبين العرب والبربر، وأخذت تظهر عصبية جديدة هى عصبة المولدين من أبناء وأحفاد من أسلموا من الإسبان وانضم إليهم المسالمة (المسلمون الجدد من الإسبان) وكذلك المسيحيون ممن استعربوا وغير المستعربين، وقد تنادوا بأن البلد بلدهم وهم أحق بها وأخذوا يثورون، وشبت بسبب ذلك كله ثورات فى الجزيرة الخضراء وباجة وإشبيلية وطليطلة وأخمدها عبد الرحمن جميعاً.
وكان ينفس عليه سلطانه واليان عربيان هما والياسرقسطة وبرشلونة عاصمة قطالونيا، وبلغا من خيانتهما أن اتصلا بشارلمان ملك الفرنجة وإمبراطور الغرب وأغرياه بغزو الأندلس سنة 161هـ - 778م، واقتحم جبال البرينيه وحاصر سرقسطة، واضطر لرفع الحصار عنها وعاد إلى بلاده، وتصدى له عبد الرحمن وهزمه هزيمة ساحقة، وكان من نتائج هذه المعركة، ملحمة شعبية رائعة (أنشودة رولان).
وكانت مدة ملك عبد الرحمن الداخل أربعاً وثلاثين سنة (من سنة 138هـ-755م إلى 172هـ-788م) وعند وفاته كانت الدولة الأموية فى الأندلس تتمتع من الناحية السياسية والاجتماعية بجميع وصفات الدولة القوية المنظمة.
توفى عبد الرحمن الداخل سنة172هـ وخلفه ابنه هشام الرضى وقد بايعته العامة بقرطبة، وظلت جيوش هشام تقضى على ثورات المسيحيين فى الشمال إلى أن توفى سنة 180هـ.
وبعد هشام جاء ابنه الحكم سنة180هـ، وكان فى السادسة والعشرين من عمره، وهو أول من استكثر من الصقالبة، إذ بلغوا فى عهده خمسة آلاف، ولم تعجب سيرته الفقهاء والعامة، فصلب فى سنة 190هـ نفرا من الفقهاء، مما جعل مراجل الغضب عليه تغلى فى قرطبة إلى أن انفجرت ثورة ضده فى جنوبيها كان يقودها الفقهاء، واتسعت فشملت قرطبة، وتحركت جموع الشعب نحو قصره تطالب بعزله، فسلط عليهم جنده من الصقالبة فسفكوا دماء كثيرين وتبعوهم فى دورهم بالهدم والإحراق، وهدموا الربض الجنوبى منشأ الثورة ومركزها.
وبعد ثلاثة أيام أعلن الحكم الأمان للثائرين على أن يخرجوا من قرطبة، فخرج منهم جمهور إلى طليطلة، وخرج مجموعة ثانية إلى المغرب، وثالثة إلى جزيرة كريت.
وولى بعده بعهد منه ابنه عبد الرحمن، ويسمى عبد الرحمن الأوسط لتوسطه بين جده (عبد الرحمن الداخل) الأول وحفيده عبد الرحمن الناصر (الثالث).
وفى عهده (206هـ-822م / 238هـ-852م) تكاملت أسس الحضارة العربية فى الأندلس، وكانت ثلاثة أسس من أسسها أخذت فى الاستقرار هناك هى : الدين الحنيف ولغته العربية ودعوته إلى العلم والتعلم، وكانت الأندلس قد سارعت إلى العناية بالعلوم اللغوية والدينية، فدفعها عبد الرحمن الأوسط إلى العناية بعلوم الأوائل، وضم إلى ذلك أساساً رابعا هو الجانب المادى للحضارة الأندلسية،إذ شغف ببناء القصور وأثاثها ورياشها الفاخرة، وحاكاه الأندلسيون مما جعل التجار يحملون إلى الأندلس نفائس المشرق وطرائفه، وانضم إلى ذلك أساس خامس فيما اكتمل للمجتمع من تكوين فنى وحضارى عن طريق وفود زرياب المغنى تلميذ إسحق الموصلى على قرطبة فى أول عهد الأمير عبد الرحمن وقيادته هنالك نهضة للغناء والموسيقى وبثه فى المجتمع الأندلسى جوانب حضارية جديدة فى الملبس والمأكل والهيئة.
وأصبح الحاكم يحكم عن طريق مجلس الوزراء والقضاة ورجال الدين. لذا فهو يعتبر واضع أساس الحضارة الأندلسية من وجهة تنظيم الحكم وضبط قواعده.
وفى أواخر أيامه أشعل المتعصبون من أحبار النصارى فتنة دينية ضد الإسلام والمسلمين، وأثاروا بعض القسس والشباب فكانوا يجاهرون بسب الدين الحنيف ومقدساته حتى إذا لم يبق فى قوس الصبر منزع طلب عبد الرحمن إلى رئيس الأساقفة عقد مجمع كنسى فى قرطبة للنظر فى هذه المحنة، وعقد المجمع وأصدر قرارا باستنكار هذه الفتنة الحمقاء وتحريم سب الإسلام، وهدأت الأمور.
ولم يلبث عبد الرحمن أن لبى نداء ربه فى سنة 238هـ. ([3])
وولى بعده ابنه محمد بعهد منه، وطالت إمارته فى الأندلس حتى وفاته سنة 273هـ، كثرت فى عهده الفتن والحروب والثورات، وفى مقدمتها ثورة عبد الرحمن بن مروان الجليقى فى بطليوس بالغرب سنة 260هـ، وثورة عمر بن حفصون فى مالقة سنة 267هـ، وظلت جيوش الأمير محمد تحاول القضاء على هذه الفتن مع خروجها من حين إلى حين لحرب المسيحيين فى الشمال، وكان مشغوفاً بالبنيان فزاد قصور آبائه فخامة، وبنى لنفسه قصراً أنيقاً فى الجنوب الغربى لقرطبة.([4])
وخلف محمداً فى حكم الأندلس ابنه المنذر لمدة عامين شغل فيهما بحرب عمر بن حفصون فى قلعة بُبَشْتر بين مدينتى رنده ومالقة، وحصره فيها، غير أن الأجل وافاه أثناء الحصار، فعاد به أخوه عبدالله إلى قرطبة سنة275هـ، وولى الإمارة بعده، وتفاقمت الفتن والثورات فى أيامه تفاقماً شديداً، حتى كادت تعم كُوَر الأندلس، إذا ماجت جميعها بالفتنة والثورة بين المولدين والمسالمة والنصارى من جهة وبين العرب من جهة ثانية، أو بين البربر والعرب، أو بين العرب بعضهم وبعض. وبلغت الدولة الأموية فى قرطبة قمة ضعفها وبدأت الأندلس تتجزأ إلى دويلات، وكانت وفاة الأمير عبد الله سنة 300هـ-912م والضعف والاضطرابات فى ذروتهما.
%%%
عبد الرحمن الثالث
300هـ - 912م – 350هـ - 961م
كان لابد للأندلس من حاكم قوى حازم يعيد إليها وحدتها، وقد اختار الأمير عبدالله حفيده عبد الرحمن الثالث لما توسم فيه من المقدرة والصفات الحميدة، وليا لعهده، فصنعه على يديه، وكان عندما تولى زمام الحكم قد بلغ من العمر اثنتان وعشرون سنة، وقد دام ملكه خمسين حولاً من سنة 300هـ - 912م – 350 هـ – 961م ولم يعرف التاريخ الإسلامى عهداً زاهراً كعهده، وقد سمحت له مدة ملكه الطويلة أن يؤمن لسياسته نوعاً من الاستقرار لم يعرفه الملوك الذين سبقوه ولا الذين لحقوه، فأخمد الفتن والثورات التى لم تنطفئ نارها منذ أن قدم المسلمون إلى الجزيرة الإسبانية عاملاً على إخضاع العصاة وجمع كلمة المسلمين، ثم قام بغزوات لقهر المناوئين من ملوك الإسبان فدان أكثرهم له ووفدوا إلى بلاطه خاضعين، وذاع صيته وانتشرت سطوته فوفد إلى حضرته السفراء من القسطنطينية وألمانيا وإيطاليا وفرنسا.
وجعل الأندلس أمة واحدة تحت سلطانه واستكثر من الصقالبة واعتمد عليهم فى الجيش وخطط الدولة، فأزال بهم زعامة الأرستقراطية العربية.
وكان أمراء بنى أمية يطمعون فى استرجاع الخلافة ويتحينون لها الفرصة، ولم يتلقبوا أول الأمر بألقابها مخافة أن يجد المسلمون فى عملهم بدعة لأن الخلافة العباسية كانت فى إبان عظمتها، فلا مسوغ لقيام خلافة أخرى.
ولكن بعد أن أعلن عبيدالله المهدى الخلافة الفاطمية فى القيروان، ولم يعد للعباسيين وجود فى المغرب، بادر عبدالرحمن الثالث بإعلان نفسه خليفة للمسلمين فى أواخر سنة 316هـ - 928م وتلقب بلقب أمير المؤمنين الناصر لدين الله، وبذلك فصل الأندلس عن العالم العربى بعد أن ظلت طويلاً تخضع لسلطان العباسيين الروحى قبله، إذ رأى هذا السلطان يتقلص فى إفريقية، وبذلك تكاملت الأندلس شخصيتها السياسية.
وبنى الناصر قصراً أسماه الزهراء، وتأنق غاية التأنق فى قصره ، ويقال أنه قضى فى بنائه وإعداده خمساً وعشرين سنة ، واستدعى للعمل فيه مهرة البنائين ، من بغداد والقسطنطينية ، وأجرى فيه المياه وأنشأ حوله الحدائق والبساتين ، بحيث أصبحت قرطبة وزهراؤها مدينة سحرية تخلب الناظرين بجمالها.
وقد ذكر المقرى : « أن مُلْكَ الناصر بالأندلس كان فى غاية الضخامة ورفعة الشأن وهادته الملوك وازدلفت إليه تطلب مهادنته ومتاحفته بعظيم الذخائر، ولم تبق أمة سمعت به من ملوك الروم والإفرنجة والمجوس وسائر الأمم إلا وفدت عليه خاضعة راغبة وانصرفت عنه راضية، ومن جملتهم صاحب القسطنطينية الكبرى فإنه هاداه ورغب فى موادعته ». ([5])
وقد زخرت بيوت الأموال فى زمنه فبلغ دخل الخزينة ستة ملايين دينار فى العام، وكان الناصر يقسم الجباية أثلاثاً : ثلث للجند، وثلث للبناء، وثلث مدخر.
وقد أنشأ أسطولاً زاحم به أسطول الفاطميين وجيشاً قوياً سيطر به على أكثر بلاد الأندلس، وأسس المدارس وشجع العلماء ونهضت الآداب والفنون فى زمنه نهضة مباركة.
ويُعَدّ عهده أعظم عهد مر بالأندلس، بما أتاح لها من الاستقرار والوحدة والمنزلة العليا بين الدول الغربية والعربية.
وطالت مدة حكمه إلى 350هـ وتوفى وكان له من العمر سبعون عاماً، ويقال إنه عدَّد أيام السرور التى صفت له فى هذه المدة الطويلة من حكمه، فكانت أربعة عشر يوماً.
وخلفه بعهد منه ابنه الحكم المستنصر، وكان فى السابعة والأربعين من عمره، وظلت الأندلس فى عهده موحدة وظلت للخلافة الأموية هناك هيبتها فى الداخل والخارج وكان الحكم حازماً كأبيه حسن التدبير، أخضع الثائرين من الفرنجة، وملك خمس عشرة سنة 350-366هـ وكان الحكم ميالاً إلى العلوم والآداب. جَمَّعاً للكتب بأنواعها، جمع فى بلاطه مكتبة قيل إنها ضمنت أربعمائة ألف مجلد، وقد امتاز عهده بإنشاء المدارس والمكاتب فابتنى فى قرطبة سبعاً وعشرين مدرسة، وجعلها مجاناً للطلاب، وأتم بناء الجامع الكبير الذى كانت تدرس فيه العلوم والآداب العالية، وذكرى المقرى أنه أشترى نسخة من الأغانى بمبلغ ألف دينار من الذهب.
%%%
الحاجب المنصور – استبداد العامريين
وقع الحاكم المستنصر فى خطأ كبير إذ أوصى بالحكم من بعده لابنه هشام الملقب بالمؤيد، وكان لا يزال طفلاً صغيراً فى الثانية عشرة من عمره، وبذلك عرَّض الدولة لحكم الحجَّاب.
اتخذ هشام المؤيد جعفراً المصحفى([6]) حاجبا (رئيساً للوزارة) وجعل محمد بن أبى عامر وزيراً للمصحفى.
وكان محمد بن أبى عامر شاباً ذكياً نشطاً طموحاً استطاع أن يدخل فى خدمة الدولة باكراً، وأن يتصل بالبلاط ثم يكون ناظراً على أملاك السيدة صُبْحَ. ([7])
طمع ابن أبى عامر فى الاستبداد بالسلطة، فحجب هشاماً وشغله بالترف واللهو، ثم نكب المصحفى، وغدر بغالب.([8]) وأخذ يتخلص من منافسيه واحداً واحداً حتى تنكر فى النهاية لصبح نفسها، وأصبحت الدولة كلها فى يده واستبد بالملك وأصبح ملكاً على الأندلس، ولقب نفسه (بالحاجب المنصور بن أبى عامر) ودعى له على المنابر، ولم يترك للخليفة غير الدعاء ليلة الجمعة، وبنى مدينة سماها الزاهرة (تقليد للزهراء التى بناها عبد الرحمن الناصر) وكان كثير الغزوات، ويقال إن غزواته أربت على عشرين وقيل خمسين غزوة، واستطاع أن يسترد بها ما كان فقده الحكم فى أواخر عهده، وقد أعاد إلى الملك سطوته ومجده وهابه ملوك الإسبان، وكانت وفاته سنة 392هـ 1002م فى مدينة سالم وهو آيب من غزو بلاد الجلالقة ودامت دولته ستاً وعشرين سنة.
وتولى الحجابة بعده لهشام المؤيد ابنه عبد الملك الملقب بالمظفر وكان قديراً شجاعاً قريب الصفات من أبيه، فاستمر فى حجب هشام، وفى الاستبداد فى تسيير أمور الخلافة. وتوفى فى غزوة كبيرة له سنة 399هـ.
وخلفه فى الحجابة أخوه عبد الرحمن الملقب بالناصر وكان ضعيفاً منصرفاً إلى ملذاته فانحدرت الأندلس فى أيامه إلى الفتن والفوضى، وطلب من هشام المؤيد أن يوليه العهد بعده ففعل، فثارت عليه الأسرة الأموية وكان فى طليطلة فرجع إلى قرطبة ليتدارك الأمر فتلقاه جند سفكوا دمه فى سنة 399هـ وبذلك انتهت دولة بنى عامر.
واتفق بنو أمية على خلع هشام المؤيد ومبايعة محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر وتلقيبه بالمهدى، وغضب البربر فهاجموا قرطبة وخلعوا محمد المهدى، ونصبوا مكانه سليمان المستعين بن الحكم بن سليمان فى سنة 400هـ، ولكن المروانيين أعادوا محمداً المهدى فى شوال سنة 400هـ، وبعد شهرين استطاع أنصار هشام المؤيد أن يخلعوا محمداً المهدى ثانية وأن يعيدوا هشاماً إلى العرش.
وبعد ثلاث سنوات فى شوال من سنة 403هـ - 1013م اقتحم البربر قرطبة ونصبوا خليفتهم سليمان المستعين على عرش الخلافة مرة ثانية، وبعد أن سالت الدماء فى قرطبة أنهاراً أمر سليمان المستعين بقتل هشام المؤيد وعاش سليمان فى خلافته الجديدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، ثم إن البربر تخلوا عن سليمان المستعين، والتفوا حول رجل منهم هو على بن حمود وجعلوه خليفة وسموه الناصر لدين الله، ولكن غلمان على بن حمود قتلوه سنة 408هـ، فخلفه أخوه القاسم وتلقب بالمأمون ونازعه ابن أخيه يحيى بن حمود، ثم عاد القاسم ثانية إلى العرش، ثم عاد الأمر فى قرطبة إلى العرب فجاء إلى عرش الخلافة المتزعزع عبد الرحمن المستظهر بن هشام ثم بعد شهرين جاء محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر وتلقب بالمستكفى بالله، وقد كانت ابنته ولادة أشهر منه فى تاريخ السياسة وتاريخ الأدب.
ثم عاد البربر بيحيى بن على بن حمود، فهرب المستكفى ومات ببعض الثغور، وثار أهل قرطبة عليه سنة 417هـ وبايعوا هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الجبار ولقب بالمعتد، فحكم حكما معتلاً أربع سنوات انتهت بخلعه وقتله سنة 422هـ - 1031م وبذلك انتهت الدولة الأموية فى الأندلس.
$$$
ثبت بأسماء الأمراء
وقد رأيت أن أسرد هنا أسماء ملوك الأندلس من لدن الفتح إلى آخر ملوك بنى أمية، فنقول :-
طارق بن زياد مولى موسى بن نصير.
ثم الأمير موسى بن نصير، وكلاهما لم يتخذ سريراً للسلطنة.
ثم عبد العزيز بن موسى بن نصير، وسريره إشبيلية.
ثم أيوب بن حبيب اللخمى، وسريره قرطبة.
وكل من أتى بعده فسريره قرطبة أو الزهراء والزاهرة بجانبيها إلى أن انقضت دولة بنى مروان على ما ينبه عليه.
ثم الحر بن عبد الرحمن الثقفى.
ثم السمح بن مالك الخولانى.
ثم عبد الرحمن بن عبدالله الغافقى.
ثم عنبسة بن سحيم الكلبى.
ثم عذرة بن عبدالله الفهرى.
ثم يحيى بن سلمة الكلبى.
ثم عثمان بن أبى نِسْعَةَ الخثعمى.
ثم حذيفة بن الأحوص القيسى.
ثم الهيثم بن عدى الكلابى.
ثم محمد بن عبدالله الأنشجعى.
ثم عبدالملك بن قطن الفهرى.
ثم بلج بن بشير بن عياض القشيرى.
ثم ثعلبة بن سلامة العاملى.
ثم أبو الخطار (حسام) بن ضرار الكلبى.
ثم ثوابة بن سلامة الجذامى.
ثم يوسف بن عبد الرحمن الفهرى.
وههنا انتهى الولاة الذين ملكوا الأندلس من غير موارثة أفراداً، عددهم عشرون فيما ذكر ابن سعيد، ولم يتعدوا فى السمة لفظ الأمير.
قال ابن حيان : مدتهم منذ تاريخ الفتح من لذريق سلطان الأندلس النصرانى – وهو يوم الأحد لخمس خلون من شوال سنة اثنتين وتسعين – إلى يوم الهزيمة على يوسف بن عبد الرحمن الفهرى، وتغلب عبد الرحمن بن معاوية المراونى على سرير الملك قرطبة – وهو يوم الأضحى لعشر خلون من ذى الحجة سنة ثمان وثلاثين ومائة – ست وأربعون سنة وخمسة أيام.
حكام بنى أمية :-
ثم كانت دولة بنى أمية أولهم :-
عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك.
ثم ابنه هشام الرضى.
ثم ابنه الحكم بن هشام.
ثم ابنه عبد الرحمن الأوسط.
ثم ابنه محمد بن عبد الرحمن.
ثم ابنه المنذر بن محمد.
ثم أخوه عبدالله بن محمد.
ثم ابن ابنه عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبدالله.
ثم ابنه الحكم المستنصر، وكرسيهما الزهراء.
ثم هشام بن الحكم، وفى أيامه بنى حاجبه المنصور بن أبى عامر الزاهرة.
ثم المهدى محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر، وهو أول خلفاء الفتنة، وهدمت فى أيامه الزهراء والزاهرة وعاد السرير إلى قرطبة.
ثم المستعين سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر.
الحموديون :-
ثم تخللت دولة بنى حمود العلويين :
وأولهم الناصر على بن حمود العلوى الحسنى الإدريسى.
ثم أخوه المأمون القاسم بن حمود.
ثم المعتلى يحيى بن الناصر على بن حمود.
بقية بنى أمية :-
ثم كانت دولة بنى أمية الثانية :-
وأولها المستنصر عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر ثم المستكفى محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر.
ثم المعتد هشام بن محمد بن عبد الملك بن الناصر، وهو آخر خلفاء الجماعة بالأندلس. وحين خلع أسقط ملوك الأندلس الدعوة للخلافة المراونية. ([9])
([1]) هم طارق بن زياد (92هـ)، وموسى بن نصير (93-95هـ)، وعبد العزيز بن موسى بن نصير (95-98هـ) وقد مات مقتولاً وأبو أيوب بن حبيب اللخمى ابن أخت موسى بن نصير (98-100هـ)، ثم الحر بن عبد الرحمن الثقفى (100-103هـ)، والسمح بن مالك من قبل عمر بن عبد العزيز (103-104هـ)، وقد بنى قنطرة قرطبة وأوغل فى فتح شمال إسبانيا مما يتاخم جنوب فرنسا حتى استشهد بالقرب من مدينة (ليون) ونجا قائد جيشه عبد الرحمن الغافقى، ثم عنبسة بن سحيم الكلبى (104-108هـ)، ثم غرره بن عبدالله الفهرى (108هـ)، ثم يحيى بن سلمة (108-109هـ)، ثم عثمان بن أبى نسعة (109-110هـ)، ثم حذيفة بن الأحوص (110-111هـ)، ثم الهيثم بن عدى (111-112هـ)، ثم عبد الرحمن الغافقى (112-114هـ) وهو بطل معركة تور عام 114هـ على أرض فرنسا، وقد قتل فيها وهزم جيشه، ثم عبدالله بن قطن الفهرى (114-116هـ) وقد عزل، ثم عقبة الحجاج السلولى(116-121هـ)، ثم تلا ذلك عهد الثورات : ثورة ابن قطن فى الأندلس، وثورة كلثوم بن عياض القشيرى فى المغرب، ثم ثار الجنود البرابرة فى الأندلس على ابن قطن وعرب الأندلس، ثم ثورة جنود الشام على ابن قطن حيث قتل، وتولى حسام بن ضرار الكلبى (125-128هـ) ثم ثوابة بن سلامة الجذامى (129-132هـ)، ثم يوسف بن عبد الرحمن الفهرى (132-138هـ) ودخل عبد الرحمن الداخل بلاد الأندلس، واستولى على مقاليد الأمور فيها حيث انتزعها بالقوة من يوسف الفهرى.
([2]) ولد عبد الرحمن عام 113هـ فى دمشق، وجده هشام خليفة للمسلمين ( 105هـ - 125هـ) وتوفى والده فى حياة أبيه، وكان الناس يتنبأون لعبد الرحمن بمستقبل كبير حتى قال مسلمة بن عبد الملك : « سيكون لهذا الفتى بالمغرب الأمر العظيم » لقبه أبو جعفر المنصور بصقر قريش.
([6]) كان جعفر بن عثمان المصحفى كاتباً للحكم المستنصر حينما كان الحكم لا يزال وليا للعهد، ثم أصبح وزيراً له.