المحاضرة الثانية ع
الفصل السـادس
الـنـقـــد في القرن الرابع
رأينا في الفصول المتقدمة أن النقد الأدبى عند العرب قد خطا خطوات متصاعدة، إذ بدأ ساذجا فطريا ثم اكتسب على مر الزمن عمقا وتنوعا، وأفاد في مسيرته المتنامية من جهود أهل البصر بالفن الأدبي وأذواقهم التى تكونت من طول المراس بالنماذج الجيدة من القطع الأدبية شعرا ونثرا.
ورأينا من خلال أستعراض حالة النقد في عصر ما قبل الإسلام ثم في صدر الإسلام وعصر بنى أمية والقرنين الثانى والثالث ـ أن النقد الأدبي عند العرب نشأ في كنف مثالياتهم الأدبية، واعتمد في جانب كبير منه على الذوق المدعوم بالخبرة، وعلى العقل المثقف الذي يقايس ويناظر، يوازن ويحكم، ويقوّم ويعلل. واختلفت عبر تلك المراحل الزمنية الممتدة عطاءات النقاد والذواقين باختلاف ثقافاتهم واهتماماتهم، وما عنى به كل منهم من ألوان الأدب وفنونه، وما شاع في بيئته من شعر أو نثر، وما شغف به معاصروه من تلك الألوان.
وقد لمسنا في نتاج من عرضنا لهم من نقاد القرن الثالث الهجرى وهم: ابن سلام، والجاحظ، وابن قتيبة ـ أسهاما أصيلا في مسيرة
الفكر النقدى عند العرب على الرغم من أن بعضهم لم يكن معنيا بالنقد وحده كالجاحظ ، إلا أن أراءهم وأحكامهم المتصلة بالشعر والنثر كانت ذات أهمية في بابها ؛ لأنهم كانوا روادا في ذلك المجال، وكان لهم فضل السبق إلى تدوين تلك الآراء في مؤلفات كتب لها البقاء لتسجل للأجيال أصالة الفكر النقدى عند العرب تأسيسا على عنايتهم بفنون القول، وتقديرهم لتأثير النتاج الأدبي وأهميته في حياة الناطقين باللغة
* * *
ونعرض في هذا الفصل جهود طائفة أخرى من النقاد العرب في القرن الرابع الهجرى، ممن عُـرفوا بحذق هذا الفن وتركوا فيه مؤلفات لها أهميتها وأثرها. وهم:
قدامة بن جعفر (275 ـ 337 هـ)
هو قدامة بن جعفر بن قدامة الكاتب... تتلمذ على أبي العباس ثعلب، وعمل بدواوين الخلافة واشتهر بصناعة الكتابة وبرع في البلاغة والحساب، وعرف بحذق العلوم العقلية وبخاصة المنطق وهو متأثر به في تصانيفه، واشتهر في زمانه بالبلاغة ونقد الشعر، وله في ذلك كتاب مشهور هو " نقد الشعر " الذي نعرض لفكره النقدى في
هذا المبحث على ضوء ذلك الكتاب، وله كذلك كتاب في الرد على ابن المعتز فيما عاب به أبا تمــام.
يمثل كتاب نقد الشعر لقدامة ذروة التأثير بالفكر اليونانى ومقاييس المنطق النظرى كما تقرر لدى منظريه وواضح من تعريف قدامة للشعر وتقسيمه له أنه متأثر بالمنطق الصورى تأثرا كبيرا ، ومما يؤكد هذا التأثر أن قدامة وضع هذا الكتاب في مطلع القرن الرابع الهجرى أى بعد أن ترجم كتاب الخطابة وفن الشعر لأرسطو في أواخر القرن الثالث على وجه التقريب ومعنى ذلك أن قدامة تأثر بهذين الكتابين وحاول أن يطوع المفاهيم النقدية في الشعر لمنهج اليونان وفكرهم.
فهو يعرف الشعر بقوله (*):
" الشعر قول منظوم مقفى يدل على معنى " فقولنا " قول " دال على أصل الكلام الذى هو بمنزلة الجنس للشعر وقولنا " موزون " يفصلة مما ليس بموزون إذ كان من القول موزون وغير موزون، وقولنا "مقفى " فصل بين ما له من الكلام الموزون قواف وبين ما لا قوافى له ولا مقاطع، وقولنا " يدل على معنى " يفصل ما جرى من القول على قافية ووزن مع دلالة على معنى، مما جرى على ذلك من غير دلالة على معنى ".
ــــــــــــــــــــ
(*) نقد الشعر /3.
وبعد أن فرغ قـدامة من تعريف الشعر على النحو المبين آنفا ينتقل للحديث عن مكوّنات الشعر وعناصرة فيحددها فى أربعة عناصر هــــى:
1ـ اللـفــظ.
2ـ الــــــوزن.
3ـ القافـــية.
4ـ المعـــــنى.
ثم يمضى فى تقسيماتة المنطقية الشكلية فيتحدث عن ائتلاف هذه العناصر مع بعضها فيذكر من ذلك:
أ ــ ائتلاف اللفظ مع المعنى. ب ــ ائتلاف اللفظ مع الوزن.
ج ــ ائتلاف المعنى مع الوزن د ــ ائتلاف المعنى مع القافية.
ويحصر قدامة أغراض الشعر في: المديح ، الهجاء، النسيب، والمراثى، والوصف، والتشبيه.
فالمدح ينحصر في الإشادة بالممدوح لصفات أربع هى: العقل، والشجاعة، والعدل، والعفة. وكل صفة من هذه الصفات تندرج تحتها أنواع، فالعقل يشمل: ثقافة المعرفة، والحياء، والبيان، والسياسة، والكفاية، والصدع بالحجة، والعلم، والحلم عن سفهة الجهلة.
والعفة يدخل فيها: القناعة، وقلة الشرهة وطهارة الإزار. والشجاعة تشمل: الحماية، والدفاع ، والأخذ بالثأر، والنكاية في العدو، والمهابة... الخ.
والعدل يشمل: السماحة، وإجابة السائل، وقرى الأضياف. وهذه الصفات يأتلف بعضها مع بعض فينتج من ذلك ستة أقسام:
فمن ائتلاف العقل مع الشجاعة يحدث الصبر على الملمات، ونوازل الخطوب، والوفاء بالإيعاد. ومن ائتلاف العقل مع السخاء يحدث إنجاذ الوعد. وعن تركيب الشجاعة مع العفة يكون إنكار الفواحش والغيرة على الحرم. وعن السخاء مع العفة يكون الإسعاف بالقوت والإيثار على النفس...
وهكذا يصنع قدامة في سائر الأغراض التى حصر الشعر فيها وبعد أن يفرغ من حديثه عن تلك المفردات يتكلم عن المركبات، فيحصر محسنات الشعر في سبعة أوجه:
التقسيم، وصحة المقابلة، وصحة التفسير، والتتميم، والمبالغة، والتكافؤ، والالتفات .
ثم يبين صور أئتلاف اللفظ مع المعنى فيجعلها تعود إلى: المساواة، والإشارة، والإرداف، والتمثيل.
وبعد أن يذكر محاسن المفردات والمركبات يعرض لذكر معايب كلٍ
على النهج الذي عرضنا له.
* * *
ومنهج قدامة هذا غريب على الفكر النقدى عند العرب، وبعيد عن التذوق الفنى الصحيح. ويبدو أن هذا الاتجاه الذي غالى فيه قدامة بمحاولة تطويع البحث النقدى والبلاغى لقواعد المنطق الأرسطى قد حدا ببعض المؤلفين إلى أن يسلكوا هذا المسلك، فأثر ذلك في مؤلفاتهم وجعلها تغرق في التجريد والتنظير، وتنحرف عن جادة البحث النقدى القويم، وتجلى ذلك بصورة صارخة في مؤلفات البلاغيين المتأخرين زمـنا عن قدامة، من أمثال: أبى هلال العسكرى ، والسكاكى، والقزوينى.. ومن نحا نحوهم من المؤلفين.
ويمكننا أن نقرر في إيجاز أن قدامة بن جعفر لم يضف للبحث النقدى عند العرب شيئا ذا بال، بل يعد أول من انحرف به عن مساره الصحيح، وأدخله في غياهب التجريد العقلى العقيم، وابتعد به عن الطابع الذوقى الذي كان سمة ملازمة له منذ عرف عند العرب.