المحاضرة الثانية ن
" لم يقل أحد فى الهيبة أحسن منه "، " لم يبتدئ أحد مرثيه بأحسن منه "، " حدثنى الرياش عن الأصمعى أنه قال: هذا أبرع بيت قاله العرب. " ولم يقل أحد فى الكبر أحسن منه ". " ولم يبدئ أحد من المتقدمين بأحسن منه ولا أعرب ". " وهذه الألفاظ أحسن شئ مطالع ومخارج ومقاطع ". " وهذا الشعر بين التكلف ردئ الصنعة......الخ.
وهى تعليقات لا تزال بعيدة عن التعليل، ولكن فضل ابن قتيبة ينحصر فى أنه حاول أن ينظر إلى القيم الشعورية والقيم التعبيرية، وأن يجعل لها فى النفس حساباً. وإن يكن بطبيعة الحال لم يخط فى هذا الطريق إلا خطوة أولية نرى فيها نحن اليوم كثيراً من السذاجة وكثيراً من الخطأ. ومنها نقده لهذه الأبيات:
ولما
قضينا من منى كل حاجة
|
|
ومسح بالأركان من هو ماســح |
وشدت
على حدب المطايا رحالنا |
|
ولم ينظر الغادى الذى هو رائــح |
أخذنا
بأطراف الأحاديث بيننـا |
|
وسالت بأعناق المطى الأباطــح
|
فقد نثرها فى هذه العبارات: " ولما قطعنا أيام منى، واستلمنا الأركان، وعالينا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس لا ينظر الغادى الرائح. ابتدأنا الحديث، وسارت المطى فى الأبطح ".
وحكم عليها بأنها ضرب من الشعر " حسن لفظه وعلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك طائلاً ".
وطريقة ابن قتيبية فى نثره للأبيات فيها قصور عن تملى الصور الجميلة الحاشدة فى الأبيات، وقصر فضلها على سهولة الألفاظ وحسن مخارجها ومقاطعها، وهو عنصر واحد من عناصر كثيرة تؤلف الدلالة الكاملة للتعبير الأدبى.
كما أنه كان ينظر إلى المعانى نظرة عقلية وخلقية لا نظرة فنية، فليست الأحاسيس والمشاعر هى التى تلفته، إنما تلفته الحكمة العقلية والقاعدة الخلقية. يدل هذا على استجادته لقول أبى ذؤيب:
والنفس
راغبة إذا رغبْتَهـــا
|
|
وإذا ترد إلى قليـل تقنـــــع |
وضربه مثلاً للشعر " حسن لفظه وجاد معناه " أى لا حسن ضروب الشعر عنده على الإطلاق. وإيثاره هذا البيت على الأبيات السالفة " ولما قضينا.....الخ " مما يشهد بأن حسه الفنى كان قاصراً على كل حال، ولكن هذا منه يكفى بالقياس إلى زمانه البعيد.
وقد تلت محاولة ابن قتيبة محاولة قدامة بن جعفر ([1]) فى كتابيه " نقد الشعر " و " نقد النثر " وهى محاولة فى اتجاه جديد.
اتجاه فلسفى منطقى علمى. وهى محاولة فاشلة لهذا السبب نفسه. فقد حاول أن يطبق على الشعر الأقيسة العقلية الجافة.
بدأ بتعرف الشعر بأنه " قول موزون مقفى يدل على معنى " وجعل يشرح تعريفه على طريقة المناطقة، ثم تلا ذلك تقسيم الشعر تقسيماً منطقياً بحسب حدود هذا التعريف الأربعة منشأ له ثمانية أضرب: أربعة منها على هذه الحدود الأربعة البسيطة، وأربعة ناشئة من حدود ائتلاف " اللفظ مع المعنى " و " اللفظ مع الوزن " و " اللفظ مع القافية " و " المعنى والوزن " و توسع بخاصة فى الحد الرابع المفرد، حد " المعنى " ومقرر أن جودة المعنى تتعلق بأن يكون مقابلاً للغرض، وفسر هذا بأن المدح مثلاً يكون جيداً إذا كان مدحاً بالصفات التى يمدح بها الرجال، وهى " الشجاعة والعقل والعدل والعفة..... والهجاء يكون على عكسه المدح، والرثاء مدح مع " كان " الخ.
وبذلك خرجنا نهائياً من دائرة الفن إلى دائرة المباحث الخلقية الفلسفية. فلم ينظر قدامة هذه القواعد قد تحقق فى الكلام ثم لا يكون شعراً لأن الشعر عمل فنى قبل كل شئ، لا يحدده موضوعه، ولكن يحدده أسلوبه ونوع التأثر بموضوعه.
وعلى كل حال فإن محاولة قدامة لم تخط بالنقد الفنى إلى الأمام لأنها أغفلت المنهج الفنى إغفالاً تاماً، بأن أغفلت المناهج الأدبية جميعاً، وبعدت عن محيط الأدب إلى محيط آخر غريب عليه كل الغرابة.
ولكن المنهج الفنى عاد ينمو نمواً جديداً على يدى رجلين من رجال النقد الأدبى، ورجلين من رجال البلاغة في القرنين الخامس والسادس.
فأما رجال النقد الأدبى فهما ابن بشر الآمدى ([2]) فى كتابه "الموازنة" بين الطائيين أبى تمام والبحيرى "، وأبو الحسن الجرجانى ([3]) فى كتابه "الوساطة" بين المتنبى وخصومه، وقد سار كلاهما على مراعاة القيم التعبيرية والقيم المعنوية، فقد تناولا الألفاظ ومحاسنها ومعانيها، وتناولا المعانى وما يستجاد منها وما يستكره، وتطرق إلى مباحث تعد إلى حد ما داخلة فى " المنهج التاريخى " لأنها تتعلق بالسرقات الشعرية والسابق فى المعانى والتعبيرات واللاحق، ولكنهما لم يتوسعا فى التعليل عند الاستحسان أو الاستقباح، وهى أموراً نعدها اليوم ضيقة محدودة ولكنها كانت إذ ذاك أوسع وأشمل مما سبق النقد قبلها.
وجاء بعدهما أبو هلال العسكرى فى كتابه " الصناعتين " و عبد القاهر الجرجانى فى كتابيه " دلائل الإعجاز " و " أسرار البلاغة " والخطوة التى قام بها العسكرى لم تضف شيئاً إلى النقد الأدبى.
أما عبد القاهر الجرجانى فقد حاول لأن يضع قواعد فنية للبلاغة والجمال الفنى فى كتابه " دلائل الإعجاز " و قواعد نفسية فى كتابه " أسرار البلاغة "، وقد تأثر بالفلسفة الإغريقية وبالمنطق، ولكن لا على طريقة " قدامة "، فقد كان له من ذوقه الأدبى عاصم قوى.
وقد وصل فى كتابه الأول إلى تقرير نظرية فو أول من قررها فى تاريخ النقد العربى، ويصح أن نسميها " نظرية النظم " وخاصيتها:
أن ترتيب المعانى فى الذهن هو الذى يقتضى ترتيب الألفاظ فى العبارة، وأن اللفظ له ذاته وإنما مزيته فى تناسق معناه مع معنى اللفظ الذى يجاوره فى النظم – أى تنسيق الكلمات والمعانى بحيث يبدى النظم جمال الألفاظ والمعانى مجتمعة – وأن الجمال الفنى رهين بحسن النسق أو حسن النظم، كما أنه لا اللفظ منفرداً موضع حكم أدبى ولا المعنى قبل أن يعبر عنه فى لفظ، وإنما هما باجتماعهما فى نظم يكونان موضع استحسان أو استهجان.
وهذا المثال من كتاب " دلائل الإعجاز " يكشف عن هذه النظرية: "..... وهل تشك إذا فكرت فى قوله تعالى: }وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ{.
فتجلى لك منها الإعجاز الذى ترى وتسمع... أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وأن يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لافت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا إلى أن تستقر بها إلى آخرها. وأن الفضل تناتج بينها وحصل من مجموعها.
" إن شككت فتأمل ! هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت لأدت من الفصاحة مت تؤديه وهى فى مكانها من الآية ؟ قل: } ابْلَعِي { واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها " وكيف بالشك بالنص فى ذلك، ومعلوم أن مبدأ العظمة فى أن نوديت الأرض، ثم أمرت، ثم فى أن كان النداء " بيا " دون " أى " نحو " يا أيتها الأرض " ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال: " ابلعى الماء " ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل: } وَغِيضَ الْمَاء { فجاء الفعل على صيغة " فعل " الدلالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر، وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى:}وَقُضِيَ الأَمْرُ { ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو }اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ { ثم إضمار السفينة قبل الذكر، كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة "قيل " فى الخاتمة بقيل فى الفاتحة... أفترى بشئ من هذه الخصائص التى تملؤك بالإعجاز روعة وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها، تعلقاً باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى فى النطق، أم كل ذلك لما بين معانى الألفاظ من الاتساق العجيب ؟
فقد اتضح إذن اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هى ألفاظ مجردة، ولا من حيث هى كلم مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها فى ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التى تليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظة. ومما يشهد بذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك فى موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك فى موضع آخر.
وأما كتابه الآخر " فقد اتجه همه فيه إلى إقامة القواعد على أسس نفسية، مع أنه لم يخل من آثار المنهج الفنى.
ويأتى ابن رشيق القيروانى ([4]) فى القرن الخامس، وقد سار فى كتابه " العمدة " على نسق واحد، وقد جمع فيه بين مباحث النقد الأدبى ومباحث البلاغة، مع أشياء فى تاريخ الأدب، وأقوال القدماء والمحدثين ونوادرهم، ولم يزد ابن رشيق شيئاً ذا قيمة على مباحث النقد والبلاغة إلا فى مواضع قليلة هنا أوهناك، وهو بوجه عام يتبع " المنهج الفنى " مع تطرقه إلى النواحى التاريخية ؛ لأن " الرواية " كانت دائماً تتخلل كتب النقد، كما أن النقد يتخلل كتب الرواية.
ويحاول ابن رشيق أن ينفرد له برأى فى مشكلة اللفظ والمعنى فيقول:
" اللفظ جسم وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم، يضعف بضعفه ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للشعر وهجنه عليه، كما يعرج لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الروح، وكذلك أن ضعف المعنى واختل بعضه كان اللفظ من ذلك أوفر حظ، كالذى يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح، ولا نجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ وجريه على غير الواجب قياساً على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح، فإن اختل المعنى كله وفسد، بقى اللفظ مواتاً لا فائدة فيه، وإن كان حسن الطلاوة فى السمع، كما أن الميت لم ينقص من شخصه شئ فى رأى العين إلا أنه لا ينفع به، ولا يفيد الفائدة، وكذلك إذا اختل اللفظ جملة وتلاشى لم يصح له معنى لأنا لا نجد روحاً فى غير جسم ".
ويصل ابن رشيق فى موضع آخر من كتابه فى باب " المطبوع والمصنوع " إلى تلخيص للموضوع يحسب سابقاً ذا قيمة من ناحية بلورة الموضوع وتلخيصه، فهو يرجع الشعر إلى أقسام: " المطبوع " وهو الذى ينبعث عفو الخاطر بلا كلفة ولا صنعة " والمصنوع " ويجعل له أقساماً: وقعت فيه " الصنعة " من غير قصد ولا تكلف، كأنواع التشبيه والبديع التى جاءت عفواً فى بعض أشعار المتقدمين وما وقع فيه " التصنع" أى وجدت فيه الصيغة أى وجدت فيه عن قصد ولكن بلا تكلف مفسد، وما وقغ فيه " التصنع " أى وجدت فيه الصنعة بتكلف شديد.
وهو تلخيص جيد، عليه طابع علمى، مصوغ بالصيغة الفنية، ولم يبتدع ابن رشيق هذا ابتداعاً، فقد تحدث فيه ابن قتيبه والآمدى والجرجانى وغيرهم من قبل، ولكن له فضلا لتلخيص والتعقيد والتبويب، وهو فضل ليس بالقليل فى تاريخ النقد العربى القديم.
وعلى وجه الإجمال كان المنهج الفنى العربى، وقد استعرضت فى إيجاز أهم خطوطه الرئيسية فى الأدب العربى القديم.
ولقد وقفت خطوات النقد الأدبى بعد عبد لقاهر إلى أن استؤنف فى العصر الحديث.
وعلى الرغم من أهمية هذا المنهج وثراء ميدانه، إلا أنه يظل قادراً على استجلاء وتعليل خصائص مقومات الإبداع فى العمل الفنى، ويبقى دائماً فى احتياج إلى ما يعينه من مقومات المنهج التاريخى، والمنهج النفسى.
وثمة دعامتين أساسيتين يقوم عليها المنهج الفنى:
الأولى: التأثر الذاتى بالنص والعمل الأدبى، وهذا التأثر منبعث من الذوق والتجارب السابقة.
الثانية: النظرة الموضوعية التى تشتمل وتضم كل القيم التعبيرية والقيم الشعورية الكامنة فى العمل الأدبى.
^^^
المنهج التاريخي
لا يستقل هذا المنهج بنفسه فلابد فيه من قسط من المنهج الفنى، فالتذوق والحكم، ودراسة الخصائص الفنية ضرورية فى كل مرحلة من مراحله.
هبنا نريد دراسة الأطوار التاريخية لشعر الغزالى فى الأدب العربى أو شعر الطبيعة أو أى فصل من فصول الأدب الأخرى، أننا نستتبع هذا الفصل منذ نشأته المعروفة، سنجمع النصوص فى أقصى ما نستطيع من مصادره ونرتبها ترتيباً تاريخياً بعد تحريرها ونسبتها إلى قائلها، ثم نجمع آراء المتذوقين والنقاد على اختلاف عصورهم لهذا اللون من الأدب.
وثالثاً نجمع جميع الظروف التى أحاطت بتلك الأطوار وأثرت بها.
وفى كل مرحلة من هذه المراحل لابد لنا أن نتذوق النصوص التى جمعناها، وأن نتملى خصائصها الشعورية والتعبيرية – وهذا ه المنهج الفنى فى صميمه – ولابد لنا أن نتذوق آراء المتذوقين والنقاد على مدى العصور، لنكون قادرين على الموازنة وتطبيقها على ما بين أيدينا من النصوص.
وهكذا لا نزال فى صميم المنهج الفنى ([5]).
فإذا أردنا أن نتثبت من صحة نسبة أبيات من الشعر إلى امرئ القيس، أو نص من نصوص النقد إلى النابغة فى العصر الجاهلى.
وهذه مسألة تاريخية بحتة فيما يبدو، ولكن الأدلة التاريخية قد لا تكون متوافرة لدينا على هذا العهد الموغل فى القدم، وهنا نعتمد على قاعدة فى المنهج الفنى....
نتذوق الشعر الجاهلى بصفة عامة، ونقرر خصائصه الشعورية والتعبيرية، ونتتبع الخصائص المشتركة – مع دراسة البيئة والظروف العامة ذات لتأثير فى تلوين هذا الشعر – ثم نتذوق مجموعة شعر امرئ القيس خاصة ونتعرف على خصائصها بدقة، ثم نتذوق النص المراد تحريره، ثم نراجع بعد هذا صحة نسبته أو خطئها بعد الاستعانة بالروايات وتمحيصها، وهكذا نصنع فى نص النقد، بعد دراسة مجموعة النصوص المنسوبة إلى هذا العصر، الدالة على خصائصه، كما تبدو من خلال مجموعة الدراسة التاريخية والفكرية لهذه الفترة ثم نرجح بعد ذلك صدور هذا النص فى ذلك الحين بعد ذلك الناقد، أو عدم صدوره.
وهكذا نجد أن المنهج التاريخى لابد أن يعتمد على " المنهج الفنى " بالإضافة إلى أنه منهج يقوم على إبراز الصلة بين الأدب والتاريخ بمعنى أنه يربط النص وصاحبه بالبيئة والعصر والمجتمع، ويعنى بكشف جوانب العمل الأدبى من منظور الأحداث التاريخية والسياسية والاجتماعية المحيطة به، بل يذهب أبعد من ذلك فى ربطه بالعصور التى سبقته فإن سنة التطور الثقافى والاجتماعي والسياسى، تجعل العصر يرث كثيراً من خصائص العصور التى سبقته، فيتأثر بها حتماً عن قصد أو عن غير قصد([6])، ولما كان الأدب هو رصد حياة أمة ما فى زمان محدد ومكان بعينه، وكان التاريخ هو مادة هذه الحياة، كان التلازم الأدبى والتوافق الفنى بين الأدب والتاريخ، وكانت الحاجة إلى معرفة التاريخ الفنى للأعمال الأدبية " فكل عمل أدبى ظاهرة تاريخية،وثمرة فنان معين، وزمن وحضارة معينة، ومعرفتنا للعصر الأدبى الذى ولد فيه العمل الأدبى، والثقافة التى سادت هذا العصر والمذهب الأدبى إذا وجدت مذاهب، هذه جميعاً وسائل لأنارة العمل الأدبى وإلقاء شعاع منير عليه "([7]).
ولكن ينبغى أن نقتصد من تدخا أحكامنا الفنية فى المنهج التاريخى على قدر الإمكان، وأن نحتفظ لها بمكانها الطبيعى الذى لا تتجاوزه، فحكمنا الفنى على نص أو على أديب إنما هو حكم واحد من أحكام كثيرة سجلها التاريخ، حكم له ظروفه الحاضرة، وله مؤثراته وأسبابه الحاضرة فى ذوقنا وذوق العصر الذى نعيش فيه. فيجب عند النقد التاريخى أن نضع حكمنا هذا بجانب تلك الأحكام، وألا نعطيه قيمة أكثر مما لأمثاله من أحكام أخرى.
وفى الوقت ذاته علينا أن نبحث علة الأحكام السابقة وظروفها بروح محايدة، فكثير من هذه الأحكام السابقة شابته ظروف، وأثرت فيه ملابسات، وعلينا قبل أن نعطيها قيمتها أن نستكشف ظروفها وملابستها، بعد مراجعة التاريخ العام للفترة التى صدرت فيها، ودراسة الظروف الخاصة والملابسات التى أحاطت بقائليها، ونوع الصلات الفكرية والمزاجية والشخصية التى كانت بين أصحابها وأصحاب النصوص الأدبية التى أصدروا أحكامهم عليها.....إلخ.
&&&
عيوب المنهج التاريخى التى أقرها النقاد:
1- من أكبر عيوب المنهج التاريخى الاستقراء الناقص، والأحكام الجازمة، والتعميم العلمى. فالاستقراء الناقص يؤدى بنا دائماً إلى خطأ فى الحكم، ومن الاستقراء الناقص الاعتماد على الحوادث البارزة والظواهر الفذة التى لا تمثل سير الحياة الطبيعي. فألمع الحوادث وأبرز الظواهر ليست أكثر دلالة على الحوادث العامة والظواهر الصغيرة. وما نراه نحن أكثر دلالة قد لا يكون كذلك فى ذاته، بل ربما كان انجذابنا الخاص للإعجاب به أو الزراية علية هو علة ما نرى فيه من دلالة بارزة! و الأسلم أن نجمع أقصى ما نستطيع الحصول عليه من الظواهر والدلائل: حادثة أو نصاً أو مستنداً.... وألا نصدر أحكامنا إلا بعد الانتهاء من جميع هذه الأسانيد، فذلك أضمن لسلامة الأحكام وأصوب.
ومثال بعض الأمثلة المختصرة على خطر الاستقراء الناقص عندما درس الدكتور / طه حسين شعر المجون فى العصر العباسى فى كتاب " حديث الأربعاء " ثم اتخذ منه دليلاً على روح هذا العصر، وحكم مثل هذا كان يقتضى دراسة سائر فنون القول فى هذا العصر، فى سائر فنون التفكير، فى سائر مظاهر الحياة، مع دراسة مستندات تاريخية شاملة عن كل ملابسات تلك الفترة، قبل إصدار حكم على روح العصر كالحكم الذى أصدره الدكتور.
ومثال أخر عندما استند الأستاذ العقاد فى كتبه " العبقريات " على بضع حوادث بارزة فى تاريخ بعض الشخصيات – بعضها غير مقطوع بصحته – لتصوير " شخصية " بطلها، ولهذه الحوادث دلالتها من غير شك، ولكن استعرض سلسة حياة هذه الشخصية أضمن بصحة تصوير الشخصية.
والأحكام الجازمة فى المنهج التاريخى خطره، فلا يستطيع فرد واحد مهما كانت إمكانياته الذهنية والعلمية وقدراته أن يجمع ويلم بكل عصور التاريخى، إذن فالظن والترجيح وترك الباب مفتوحاً أسلم من الجزم والقطع.
مثال الأحكام الجازمة:
" كثرة الجوارى هى السبب فى انتشار الغناء "، " اتساع نفوذ الفرس هو الذى أوجد شعر المجون والخمريات " " عزله الحجاز عن السياسة هى التى خلقت الغزل هناك ".
هذه الأحكام وأمثالها عرضة للخطأ لما فيها من الجزم، ولاقتصارها على سبب واحد لوجود ظاهرة أدبية أو اجتماعية، وقلما يكون للظاهرة الواحدة سب واحد، ولابد من دراسة مجموعة الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية والفكرية والاقتصادية والشخصية التى لابست هذه الظواهر وسبقتها.
والتعميم العلمى هو كذلك من أخطار المنهج التاريخى، كانتصار بعض المذاهب العلمية خاصة فى طرق البحث الأدبية، فحينما نشأ مذهب دارون فى النشوء والارتقاء اتجه البحث الأدبى إلى استخدام نظرياته ومعاملة الأدب معاملة الأحياء المتطورة من حال لحال فهو يتطور تطور الأحياء وكان خطره فى البحوث الأدبية عظيماً. لأن الأدب بطبيعته غير العلم، وقد لا تتمشى أطواره مع سنة التطور المنتظم، فالأدب هو قصة المشاعر الأحاسيس، ورواسب الشعور قد لا تتابع تطور الأحياء، وقانون التطور لا يطبق هنا بحذافيره وإلا تعرضنا للأخطار....
والأدب لا ينفر ما التعميم العلمى على طريقة العلوم الطبيعية والبيولوجية فحسب، بل إنه لينفرد من هذا التعميم العلمى على طريقة العلوم النظرية أيضاً، وقد سبق الكلام عما وقع فيه " قدامة بن جعفر " من الخطأ وهو يحاول أن يطبق الأقيسة المنطقية على فن الشعر، فى أضربه وحدوده ومحاسنه وعيوبه فالشعر منه، والمقاييس الفنية السمحة الطليقة أولى به وأجدر.
2- من مخاطر المنهج التاريخى إلغاء قيمة الخصائص والبواعث الشخصية، فطول معاناة الملابسات التاريخية والطبيعية والاجتماعية عند أصحاب هذا المنهج يجرفهم إلى إغفال قيمة العبقرية الشخصية،
وحسبانها من آثار البيئة والظروف.
فالعبقرية تأخذ من الوسط بلا شك ولكنها " فلتة " أكثر منها حادثاً طبيعياً، وجميع الظروف لا تفسر لنا بروز عبقرية واحدة من العبقريات الكثيرة إلا إذا حسبنا حساباً لظاهرة الكمون والاختزان، فالبركان مثلاً لا يولد اليوم ولكنه ثمرة كمون وتجمع طوليين، ثم ينفجر فى ظروف معينة، فإذا شئنا أن نعد العبقرية كذلك ثمرة كمون فى كيان البشرية واختزان، فربما كان ذلك معقولاً، ولكن تفسيرها علمياً متعذر، والحديث عن العبقرية على هذا النحو نوع من المجاز الذى يقرب الحقيقة، ولكنه لا يصفها ولا يعللها.
وكل ما تمدنا به دراسة الوسط فى الأدب هو معرفة لون العبقرية واتجاهها لا طبيعتها ولا أسبابها، ومن الواجب أن ندرس كل عبقرية دراسة مستقلة، و ألا نجعل للظروف المحيطة أكثر من قيمتها، وليس هذا فى العبقريات الضخمة فحسب، فربما كان لازماً فى دراسة أية شخصية فنية.
فلا نقول مثلاً: إن المعرى كان يصور عصره وأهله بما يقوله عنهم فى شعره، إلا إذا درسنا مزاج المعرى الخاص وطريقة نظرته إلى الحياة والوقائع والناس.
ولا نقول: إن المتنبى كان يصور حقيقة كافور ومصر والمصريين، إلا عرفنا الظروف التى أحاطت بالمتنبى حينئذ ودرسنا طريقة تصوره للأشياء والأحداث فى هذه الفترة ...... وهكذا.
على أنه ينبغى قبل أن نقرر شيئاً من دلالة الأدب على البيئة أن ندرس الأفراد وظروفهم وأمزجتهم وعواملهم الشخصية. يجب أن نفرز الفرد من المجموع وأن نعرف ما هو فردى وما هو جماعى. وأهم من هذا هو دراسة مدى التجاوب بين الأديب والوسط. فاستقبال الوسط للأدب هو الذى يحدد مدى تصويره له.
3- من مخاطر المنهج التاريخى إغفال دور الموروث الماضى فى بناء الآثار الأدبية الحديثة، فالأدب ليس تقريراً للظواهر الحاضرة بقدر ما هو تعبير عن الأشواق البعيدة والرغبات المكنونة، سواء للفرد أو الجماعة.
وعلى الجملة فإن الواجب يقتضى فى المنهج التاريخى أن ندرس الموقف من جميع زواياه، وألا نخطئ فنجعل الفردى عاماً كما لا نخطئ فنطبق العام على الأفراد، فللفرد أصالته، وللمجموعة أصالتها. وعلينا أن نفرز هاتين الأصالتين من ناحية، وأن نبحث عن المشترك بينهما من ناحية أخرى، وأن ندرك أن الأدب خصوصية فردية تتأثر بالتيار العام، إلا إذا كانت خصوصية ضئيلة صغيرة .
وبهذا نجعل للمنهج التاريخى دائرته المأمونة، ولا نتجاوز به حدوده، ولا نطغى به على صميم " العمل الأدبى " ولا على شخصية الأديب.
وفى حديثنا السابق عن نشأة " المنهج الفنى " فى النقد العربى أشرنا إلى بدايات " المنهج التاريخى " فقد عاصر " المنهج الفنى " تقريباً، وتلبس كلاهما بالآخر فى أغلب الأحوال.
- ففى مرحلة التذوق فى العصر الجاهلى وصدر الإسلام، حينما كان المعول على الذوق الفردى والجماعى فى العملية النقدية، كان بعضهم يلاحظ التشابه بين شاعر وشاعر فى المستوى الشعرى، أو فى الاتجاه العام، أو فى بعض المعانى الخاصة، من ذلك نظرهم إلى النابغة والأعشى وزهير وامرئ القيس على أنهم طبقة، وكذلك فى الإسلام إلى جرير والفرزدق والأخطل. وهذا يعتبر لون ساذج من المنهج التاريخى القائم على المنهج الفنى.
- وفى مرحلة التدوين التى بدأها الجاحظ بكتابه " البيان والتبيين " سار التذوق إلى جوار التاريخ، فتدوين النصوص فى ذاته، ونسبتها إلى أصحابها، وذكر ملابساتها، وتجميع ما قيل فى مسألة خاصة كالعصا والبخل والبيان وغيرها من الموضوعات التى جمع الجاحظ ما قيل فيها.... الخ ذلك من أوليات المنهج الفنى، وكلاهما مجتمعان فى كتاب.
وابن سلام فى طبقات الشعراء كان يمزج بين المنهجين فى طفولتهما، وسار على نهجه كل من ابن قتيبة والآمدى وأبى الحسن الجرجانى وأبى هلال وابن رشيق وغيرهم، وهم يثبتون النصوص لأصحابها، ثم يبحثون عن السرقات بين السابق واللاحق، ومن أحسن وأجاد فى الأخذ، ومن منهم قصر وأفسد المعنى، ويتحدثون عن أثر البداوة والحضارة فى الأدب..... الخ.... وهذا من أوليات المنهج التاريخى.
وإذا كان المنهج الفنى هو الذى كان غالباً على هؤلاء المؤلفين، فإن هناك آخرين غلب عليهم التاريخى، وإن لم تخل مؤلفاتهم من آثار المنهج الفنى، فطريقة التأليف العربية فى الأدب لم تكن تتبع مناهج معينة، ومنذ أن بدأ الجاحظ بكتاب البيان والتبيين نسج مؤلفوا الأدب على منواله، كما فعل تلميذه المبرد فى متاب " الكامل " وابن قتيبة فى كتابه " عيون الأخبار" والحصرى فى " زهر الآداب ".
وحتى الذين أرادوا التخصص فى النقد كابن قتيبة والآمدى والجرجانى وأبى هلال وابن رشيق، أو التخصص فى الرواية كأبى على القالى فى " الأمالى "، وابن عبد ربه فى " العقد الفريد "، وأبى الفرج الأصفهانى فى " الأغانى "، و الثعالبى فى " اليتيمة ".. لم ينجوا من المزج بين هذا وذاك ولكن المنهج التاريخى كان فى المجموعة الأخيرة أوضح.
ومن القرن الخامس إلى العصر الحديث لا نجد جديداً ذا شأن فى المنهج التاريخى على وجه العموم.
فإذا جئنا للعصر التاريخى قد نما نمواً عظيماً فهذه دراسات جورجى زيدان وأحمد السكندرى والشيخ المهدى تبدأ الطريق، وتعد خطوة كبيرة وراء ما وقفت عنده هذه الدراسات من قبل، فقد أخذت تدرس عصور الأدب، والظروف السياسية والاجتماعية والعلمية والاقتصادية وتتحدث عن آثارها فى الأدب، فى موضوعاته وأسلوبه وتعبيره، وتدرس شيئاً عن الشخصيات الأدبية فى كل عصر.
ويعتبر الدكتور " طه حسين " فى كتابه الأول " ذكرى أبى العلاء " وفى كتبه الأخرى هو أول مؤلف سلك هذا المنهج سلوكاً حقيقياً، ثم الدكتور " أحمد أمين " فى كتبه " فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام " ثم فى كتابه مع الدكتور " زكى نجيب محمود " " قصة الأدب فى العالم " والأستاذ " طه أحمد إبراهيم " فى كتابه " تاريخ النقد عند العرب " والدكتور " محمد خلف الله فى بحثين صغيرين له عن " التيارات الفكرية التى أثرت فى دراسة الأدب " و " نظرية عبد القاهر فى أسرار البلاغة " والدكتور " عبد الوهاب عزام " فى " المتنبى "، وكتاب الأستاذ العقاد " شعراء مصر بيئاتهم فى الجيل الماضى " يضم مزيجاً من المناهج الثلاثة، ولكن للدراسة التاريخية أثرها البارز فى تحليل البيئة وعواملها، وكذلك كتابه " ابن الرومى حياته من شعره، وإن لم يكن هذا الكتاب ادخل فى "المنهج النفسى " ثم فى كتاب " شاعر الغزال " وكتابه " جميل بثينة " وغيرهم كثير.
^^^
المنهج النفسي
إذا رجعنا إلى تعريف العمل الأدبى وهو: " التعبير عن تجربة شعورية فى صورة موحية " وجدنا العنصر النفسى بارزاً فى كل خطوة من خطواته، فالتجربة الشعورية " ناطقة بألفاظها عن أصالة العنصر النفسي فى مرحلة التأثر الداعية إلى التعبير، و" الصورة الموحية " ناطقة بألفاظها كذلك عن أصالة هذا العنصر فى مرحلة التأثير الذى يوحى به التعبير.
ومن هنا يقوم المنهج النفسى على الدراسات النفسية، التى تكشف الصلة بين العقل الأدبى ونفسية صاحبه ومشاعره، ومدى قدرة هذا النص على تصوير تلك المشاعر والتعبير عنها. وبذلك تزداد الصلة بين الأدب والأديب.
فإن وظيفة الأدب الحقيقية هى التصوير والتعبير عن المشاعر والنوازع والرغبات فى الإنسان سواء أكانت شعورية أم لا شعورية، فتتبدى وتتواثب من خلال النص، وتتجه إلى وجدان الناقد والقارئ المتذوق لكل ما تحمل من حرارة وصدق.
وقد تكون دلالة النص الأدبى من وجهة الدراسة النفسية، أصدق فى كشف شخصية الأديب وطباعه وحياته الخاصة والعامة، فإن الناقد البصير لا تخفى عليه سمات الصدق الوجدانى فى التعبير الأدبى، وما تحوى من حرارة وإنفعال، كما لا تخفى عليه مظاهر الزيف والافتعال فيما يغشى التعبير من فتور وهزال واضطراب.
ويحاول المنهج النفسى أن يجيب على هذه الأسئلة:
1) كيف تتم عملية الخلق الأدبى، وما هى طبيعة هذه العملية من الوجهة النفسية ؟ ما العناصر الشعورية وغير الشعورية الداخلة فيها وكيف تتركب وتتناسق ؟
كم من هذه العناصر ذاتى كامن فى النفس، وكم منها طارئ من الخارج ؟ ما العلاقة النفسية بين التجربة الشعورية والصورة اللفظية ؟ كيف تستنفذ الطاقة الشعورية فى التعبير عنها ؟ وما الحوافز الداخلية والخارجية لعملية الخلق الأدبى.... الخ
2) ما دلالة العمل الأدبى على نفسية صاحبه ؟ كيف نلاحظ هذه الدلالة ونستنطقها ؟ هل نستطيع من خلال الدراسة النفسية للعمل الأدبى أن نستقرئ التطورات النفسية لصاحبه ؟.....الخ
3) كيف يتأثر الآخرون بالعمل الأدبى عند مطالعته ؟ ما العلاقة بين الصورة اللفظية التى يبدو منها وبين تجارب الآخرين الشعورية ورواسبهم غير الشعورية ؟ كم من هذا التأثير منشؤه العمل الأدبى ذاته، وكم منه منشؤه من ذوات الآخرين واستعدادهم ؟.....الخ
هذه الطوائف من الأسئلة يتصدى لها المنهج النفسى، ويحاول الإجابة عليها، ولكنه إلى الآن لا يستطيع أن يجيب إجابة قاطعة، وحين يحاول الإجابة الحاسمة يبدو كثير من التكلف والتعسف فى تأويلاته وتعليلاته. ومنشأ هذا فى اعتقادنا هو الاعتماد على " علم النفس " - وهو أضيق دائرة من " النفس " بطبيعة الحال. هذا إلى أنه علم بعد إلى هذه اللحظة ناشئاً بالقياس إلى عمر العلوم الأخرى. الطبيعية والبيولوجية - وما وصلت إليه من نتائج لاحظ كبير من الثبوت , ولأن من طبيعته وهو يتناول " النفس " – ألا يصل إلى نتائج من نوع نتائج العلوم التى تتناول المادة الجامدة أو الحية. وعلم هذه مادته يكون أضمن له أن يوضح ولا يقرر، وأن يلقى الضوء ولا يجزم إذن هناك ارتباط بين " المنهج النفسى " و" علم النفس " ولكن هناك خطر نلمحه من التوسع فى استخدام ذلك العلم، وهو أن يستحيل النقد الأدبى تحليلاً نفسياً، بمعنى أن ينسى النقد الأدبى وظيفته وهى تقويم العمل الأدبى وصاحبه من الناحية الفنية، ويندفع فى تطبيق الدراسات النفسية، حتى يغرف سمات العمل الفنى فى غمار التحليلات النفسية .
كما لم ينتبه البعض إلى أن عمل الأديب غالباً مضاد فى طريقته لعمل المحلل النفسى، فالمحلل النفسى يميل إلى تحليل الشخصية إلى عناصر متفرقة ليسهل عليه فمهما وتحليلها، والأديب ميال إلى تركيب العناصر المفردة ليكون منها شخصية، والشخصية دائماً أكبر من مجموعة العناصر المفردة المكونة لها. لما يقع بين هذه العناصر من التفاعل، ولأن المحلل النفسى لا يستطيع إطلاقاً أن يصل إلى جميع العناصر المكونة للشخصية.
على أن الملاحظة النفسية والحساسية الشعورية فى الأدب كثيراً ما تسبقان وتفوقان " علم النفس " المحدود، فى كشف عوالم النفس، والاهتداء إلى السمات والطبائع والنماذج البشرية.
منسوفوكليس فى " أوديب "، وشكسبير فى " هاملت "، ودستويفسكى فى " المقامر " وأمثالهم، أمدتهم الملاحظة النفسية والحساسية الشعورية بما لم يبلغ إليه من جعلوا علم النفس هاديهم المباشر.
وإنه لجميل أن ينتفع بالدراسات النفسية. ولكن يجب أن تبقى للأدب صيغته الفنية، وأن نعرف حدود " علم النفس " فى هذا المجال.
والحدود التى نراها مأمونة هى أن يكن المنهج النفسى أوسع من علم النفسأوسع من علم النفس، وأن يظل مع هذه مساعداً للمنهج الفنى والمنهج التاريخى، وأن يقف عند حدود الظن والترجيح ويتجنب الجزم والحسم، وألا يقتصر عليه فى فهم الشخصية الإنسانية، فالأدب الصادق يحس بشعوره وملاحظاته، فى محيط أوسع مما يصل إليه الباحث النفسى – وإن كانت معلومات هذا أدق فى محيطه – وألا نعتمد فى تصوير الشخصيات فى القصة وما إليها على العقد النفسية والعناصر الشعورية وغير الشعورية وحدها. فالأديب يدرك الشخصية الإنسانية كلاً مجتمعاً لا تفاريق مجزأة وتنطبع فى حسه وحدة، تتصرف بكامل قواها فى كل حركة من حركاتها
وبقدر ما نستخدم كل علم منهج فى دائرته المأمونة، نحصل منه على أفضل نتائجه وأنفعها.
ويبدو أن النزعة النفسية فى الأدب ونقده وليدة العصر الحديث، وأنها وافدة علينا من الغرب، حيث نمت الدراسات النفسية – وبخاصة التحليلية – نمواً عظيماً فى هذا القرن الأخير، وأن الأدب العربى لم يعرف هذه النزعة من قبل.
وقد نما المنهج النفسى نمواً عظيماً على يدى الدكتور طه حسين فى كتابه الأول والثانى عن أبى العلاء، وفى سائر كتبه، على نحو ينقص فى بعضها ويزيد فى البعض الآخر، ونما على يدى الأستاذ العقاد فى سائر دراساته عن الشخصيات الأدبية فى مقالاته المتفرقة فى " الفصول " و"المطالعات " و " المراجعات " و " ساعات بين الكتب " ثم تبلور واتضح فى كتابه عن " ابن الرومى حياته من شعره " وكتابه عن " شعراء مصر وبيئاتهم فى الجيل الماضى " وفى كتابيه عن " عمر بن أبى ربيعة " و"جميل بثينة "، ونما على يدى الأستاذ المازنى فى مقالاته المتفرقة فى " حصاد الهشيم " و " خيوط العنكبوت " ثم فى كتابه عن " بشار " وعلى يدى الأستاذ أمين الخولى فى كتابه " رأى فى أبى العلاء "، وظهرت آثار هذا المنهج كذلك فى دراسات الدكتور إسماعيل أدهم عن " توفيق الحكيم " و"خليل مطران "، وفى دراسات الدكتور محمد خلف الله النفسية وسواها، وظهرت فى كتب " التصوير الفنى فى القرآن " و " كتب وشخصيات " لسيد قطب. وبرزت على وجه العموم فى الدراسات النقدية الحديثة ولكن لم ينفرد " المنهج النفسى إلا نادراً، فقد كان المنهج الفنى والمنهج التاريخى يمتزجان به فى معظم هذه الدراسات التى أشرنا إليها، فيبدو فى معظمها عاملاً مساعداً وإن كان فى بعضها الآخر يتبدى عاملاً رئيسياً.
المنهج المتكامل
المناهج بصفة عامة فى النقد تصلح وتفيد حين تتخذ منارات ومعالم، ولكنها تفسد وتضر إذا جعلت قيوداً وحدوداً.
شأنها فى هذه شأن " المدارس " فى الأدب ذاته، فكل قالب محدود هو قيد الإبداع، وقد يصنع القالب لتضبط به النماذج المصنوعة، لا لتصب فيه النماذج وتصاغ.
إن المنهج المتكامل لا يعد النتائج الفنى إفرازاً العامة، ولا يحتم عليه كذلك إن يحصر نفسه فى مطالب جيل من الناس محدود، فالفرد فى عصر من العصور قد يعبر عن أشواق إنسانية للجنس البشرى كله، ولمشكلاته هذا الجنس الخالدة التى تتعلق بوضع اجتماعي قائم أو مطلوب، إنما تعلق بموقف الإنسانية كلها من هذا الكون ومشكلاته الخالدة كالغيب والقدر....الخ وهى أمور لا تتعلق بزمان ولا بيئة، ولا عوامل تاريخية، والعصر الواحد ينبغ فيه الكثيرون فى البيئة الواحدة، ولكل منها طابع خاص واتجاه خاص وعالم خاص.
ولم يكن ابن الرومى يعبر عن ذاته فحسب إنما كان يعبر عن موقف إنسانى غير مقيد بعصر من العصور وهو يقول:
ألا من يرينى غايتى قبل مذهبى
|
|
ومن أين والغايات بعد المذاهــب
|
فهى مشكلة المجهول التى وقفت أمامها البشرية منذ خلقتها وستبقى واقفة أمامها أبداً.
وكذلك وقف المعرى وقفته الإنسانية أمام قبر الإنسان وكأنما تجمع فى حسه كل ماضى الإنسانية وكل مستقبلها وهى تتصادم وتتزاحم وتنطوى فى حفرة، فى نهاية المطاف:
صاح هذه قبورنا تملاً الرحـــ
|
|
ب فأين القبور من عيد عـــاد
|
خفف الوطء ما أظن أديم الــ |
|
أرض إلا من هذه الأجســـاد |
رب قبر قد صار قبراً مــراراً |
|
ضاحك من تزاحم الأضـــداد |
ومثل تلك الأشواق والأيام ليست خاصة بعصر ولا خاصة ببيئة، وإنما هى أشواق البشر، وآلام البشر من ناحية موقف البشر من الكون والحياة. وقد يكون فى الصورة التى تبدو فيها تلك الأشواق والآلام آثار للبيئة ولكن هذا لا يخرجها عن كونها أشواقاً وآلاماً للجنس الإنسانى كله.
والمنهج المتكامل كذلك لا يأخذ النتاج الأدبى بوصفه إفرازاً سيكولوجيا محدد البواعث معروف العلل. فالنفس كما قلنا أوسع كثيراً من " علم النفس " ورواسبها واستجاباتها قد تكون أعمق من هذا الفرد، على فرد أننا وصلنا إلى استكناه جميع البواعث الشخصية فى نفس الفنان.والمنهج المتكامل يتعامل مع العمل الأدبى ذاته، ومع قائله، والمؤثرات والتأثيرات فيه، ولكنه يحتفظ للعمل الفنى بقيمه الفنية المطلقة، غير مقيدة بدوافع العصر والبيئة والجنس، ويحتفظ لصاحبه بشخصيته الفردية.
وهكذا ننتهى إلى القيمة الأساسية لهذا المنهج فى النقد، وهى أنه يتناول العمل الأدبى من جميع زواياه ويتناول صاحبه كذلك، بجانب تناوله للبيئة التاريخ وأنه لا يغفل القيم الفنية الخالصة، ولا يغرقها فى غمار البحوث التاريخية أو الدراسات النفسية، وأنه يجعلنا نعيش فى جو الأدب الخالص، ودون أن ننسى مع هذا أنه أحد مظاهر النشاط النفسى، وأحد مظاهر المجتمع التاريخية إلى حد كبير أو صغير ([8]).
وهذا هو الوصف الصحيح المتكامل للفنون والآداب.