لمحاضرة الحادية عش
ابن قتيبية وكتابه الشعر والشعراء:
ْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْ
أبو عبد الله محمد بن مسلم بن قتيبة الديـنَوَرى أحد الرواد الذين أسهموا في وضع لبنات الفكر النقدى عند العرب سواء في فن الكتابة أم في فن الشعر.
بدأ ابن قتيبة كتابه "الشعر والشعراء" بمقدمة نقدية، لخص فيها آراءه في نقد الشعر. ويكاد يكون منهجه في الكتاب مماثلا لمنهجه في " أدب الكاتب " من حيث تصديره لكل منهما بمقدمة نقدية تتضمن خلاصة آرائه في قضايا كل منهما .
ومن ثمَّ ّفسيكون بحثنا للشعر والشعراء مقتصرا على تحليل المقدمة لأهميتها في توضيح الفكر النقدى للمؤلف ؛ ولأنه بالنظر اليها نستطيع أن نتعرف على مكانة ابن قتيبية بين نقاد القرن الثالث، ومقدار ما أسهم به في إرساء مفاهيم النقد العربى.
وباستطاعتنا أن نوجز القول في القضايا التى عرض لها ابن قتيبة في مقدمة (الشعر والشعراء) في النقاط التالية:
1 _ القديم والمحدث :
ْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْ
كان ابن قتيبية أول من أثار مسألة القديم والمحدث وأبرزها في
بداية كلامه عن الشعر والشعراء على أساس أنها قضية أدبية ملحة تستحق من العلماء في عصره المراجعة وإنعام النظر، وقد أعلن ابن قتيبية رأيه في هذه القضية في جرأة وصراحة وعلل له تعليلا منطقيا مقنعا. يقول موضحا منهجه في اختيار الأشعار(*):
" ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختارا له سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمة وإلى المتأخر منهم بعين الأحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل إلى الفريقين، وأعطيت كُلاًّ حظه، ووفرت عليه حقه فانى رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في مُتخيَّره، ويسترذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده الا أنه قيل في زمانه ورأى قائله. ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قوما دون قوم، بل جعل ذلك مشتركا مقسوما بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثا في عصره ".
وابن قتيبة بمقالته هذه كان يحمل على المتعصبين للقديم أمثال ابن الأعرابي الذى نعت شعرهم بأنه كالريحان يشم يوما ويذوى فيرمى به أما أشعار القدماء فانها كالمسك والعنبر كلما حركته ازداد طيبا .
وأمثال ابن سلام الذي أغفل شعراء عصره الكبار ولم يفسح لهم مكانا في طبقاته.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(*) الشعر والشعراء 1/ 62.
والحقيقة ان ابن قتيبة لم يكن أول من أنصف المحدثين أو تذوق أشعارهم، ولكنه أول من عرض مسألة القديم والمحدث هذا العرض الموضوعى، وحللها ذلك التحليل الدقيق، ووقف وقفة معتدلة يستحق عليها التقدير والعرفان . وقد كان طبيعيا أن يقف ابن قتيبة ذلك الموقف. فقد عاش في بغداد التى احتضنت الشعراء المحدثين وحدبت عليهم، وفسحت لهم أنديتها وقصورها وقدرت أدبهم وفنهم أيما تقدير.
2 _ التكلف والطبع:
ْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْ
وهو أحد الموضوعات الرئيسية في مقدمة الشعر والشعراء يقول ابن قتيبة: ومن الشعراء المتكلف والمطبوع... فالمتكلف هو الذي قوم شعره بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر بعد النظر كزهير والحطيئة ... والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر، واقتدر على القوافى ، وأراك في صدر بيـته عجزه، وفي فاتحته قافيته، وتبينت على شعره رونق الطبع ووشى الغريزة " (*).
ونلاحظ أن ابن قتيبة على الرغم مما وقع فيه من خلط بين الطبع والارتجال والتكلف والتروى فإنه قد أصاب في مجموعة من المسائل الفرعية التى تندرج تحت هذه القضية ومنها:
____ أنه حاول أن يحدد بعض ســـمات الشعر المتكلف وهو الذي لا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(*) المرجع 90.
ترابط بين أبياته، ونقل في ثنايا ذلك عبارة عن بعض الشعراء أنه قال لمن ينافسه أنا أشعر منك فأجابه وبما ذلك فقال: لأنى أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه ! .
___ ومنها أنه قرر أن الشعراء مختلفون في الطبع منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء، ومنهم من يتيسر له المراثى ويتعذر عليه الغزل .....الخ .
ــــ ومنها أدراكه أن (للشعر دواعى تحث البطىء وتبعث المتكلف منها : الطمع ومنها الشوق ومنها الشراب ومنها الطرب ومنها الغضب).
3 ـــ بناء القصيدة العربية :
ْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْ
ومن الموضوعات التى تضمنتها مقدمة الشعر والشعراء بناء القصيدة العربية وأسباب التزام العرب بتقاليد ثابته في قالب القصيدة لا يكادون يخرجون عليها. وقد حلل ابن قتيبة هذا البناء وعلل له تعليلا مقنعا يقول:
" سمعت بعض أهل العلم يقول (*): " إن مقصد القصيد أنما أبتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فشكا وبكى، وخاطب الربع، واستوقف الــرفيق ؛ ليجعـــل ذلك سببا لـذكر أهلها الظاعنين عنها ؛ اذا كان نازلة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(*) المرجع 74.
المدر في الحلول والظعن خلاف ما عليه نازلة الحضر ؛ لانتجاعهم الكلأ، وانتقالهم من ماء إلى ماء، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان، ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الشوق، وألم الوجد والفراق، وفرط الصبابة ؛ ليميل نحوه القلوب، ويصرف اليه الوجوه، ويستدعى به إصغاء الأسماع اليه ؛ لأن النسيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب ؛ لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يخلو أحد من أن يكون متعلقا منه بسبب، وضاربا فيه بسهم حلال أو حرام، فإذا علم أنه أستوثق من الإصغاء اليه، والاستماع له ـ عقَّب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر وسرى الليل وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه أوجب على صاحبه حق الرجاء وزمام التأميل، وقررعنده ما ناله من المكاره في السير ـ بدأ في المديح ؛ فبعثه على المكافأة، وهزه على السماح، وفضله على الأشباه... ".
ومع أن كلام ابن قتيبة يفهم منه أن هذا التعليل لبنية القصيدة العربية كان معروفا لبعض العلماء بدليل قوله في بداية كلامه: " سمعت بعض أهل العلم بالشعر يقول.... " ـ مع ذلك ـ فابن قتيبة يعد أول من بسط القول في هذا التعليل وأفادنا إياه وشرحه شرحا واضحا في مقدمة كتابة الشعر والشعراء .
4 ــ السرقات الشعرية:
ْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْ
وهى من المسائل التى ألمح ابن قتيبة إلى أصولها في مقدمته. ويفهم من كلامه أنه كان على وعي بالأسس التى يعتد بها في الحكم على الأثر الشعرى بأنه مسروق أو أنه جديد، وقد قرر ابن قتيبة هذا الأصل، وهو أن الشاعر اذا أخذ معنى سبقه اليه شاعر غيره، فأحسن الأخير صوغه وسبكه، أو زاد فيه وأضاف اليه ـ عد أحق به وأولى من الشاعر السابق، أما اذا قصَّر الشاعر المتأخر في صياغته أو لم يزد على المتقدم في المعنى شيئا فهو مقصر ويحكم عليه في هذه الحال بأنه سارق .. يقول ابن قتيبة مقررا هذه الحقيقة:
" وكان الناس يستجيدون للأعشى قوله:
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
حتى قال أبو نواس :
دع عنك لومى فإن اللوم إغراء وداونى بالتى كانت هى الداء
فسلخه وذاد فيه معنى آخر، اجتمع له به الحسن في صدره وعجزه، فللأعشى فضل السبق إليه، ولأبى نواس فضل الزيادة فيه ".
5 ــ أقسام الشعر الأربعة:
ْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْ
ومن المسائل النقدية التى عالجها ابن قتيبة في مقدمة الشعر والشعراء محاولته وضع الشعر في مراتب متفاوته، بالنظر إلى جودة ألفاظه ومعانية وأوزانه، أو التقصير في بعض هذه الجوانب. وهى فكرة نظرية تعد بداية للبحث التجريدى المتأثر بالفكر المنطقى الذي كان ابن قتيبة ملما ببعض جوانبه ، وقد قسم الشعر إلى أربعة أضرب يقول (*): " تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب:
1 ــ ضرب حسن لفظه وجاد معناه كقول أبي ذؤيب:
والنفس راغبةٌ إذا رغَّـبْتها واذا تردّ إلى قليل تقنع
2 ــ وضرب حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، كقول القائل:
ولما قضينا من منى كل حاجة
ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على حدب المهارى رحالنا
ولم ينظر الغادى الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطى الأباطح
ـــــــــــــــــــــــ
(*) المرجع 64ـ 70.
هذه الألفاظ كما ترى أحسن شىء مخارج ومطالع ومقاطع، وان نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته: ولما قطعنا أيام منى، وأستلمنا الأركان، وعالينا ابلنا الأمضاء ومضى الناس لا ينظر الغادى الرائح ـ ابتدأنا في الحديث وسارت المطى في الأبطح.
3 ــ وضرب منه جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه كقول النابغة للنعمان:
خطاطيف حجن في حبال متينة
تـمــد بها أيــد اليك نوازع
قال أبو محمد: رأيت علمائنا يستجيدون معناه، ولست أرى ألفاظه جيادا، ولا مبينة معناه ؛ لأنه أراد: أنت في قدرتك على كخطاطيف عقف يمد بها وأنا كدلو تمد بتلك الخطاطيف ... على أنى أيضا لست أرى المعنى جيدا.
4 ــ وضرب منه تأخر معناه وتأخر لفظه كقول الخليل ابن أحمد العروضى :
إن الخليط تصدع فطر بدائك أو قع
لولا جوارحسان حور المدامع أربع
أم البنين وأسمــــا ء والرباب وبوزع
لقلت للراحل ارحل اذا بـدا لــك أو دع
وهذا الشعر بينِّ التكلف ردىء الصنعة، وكذلك أشعار العلماء ".
وعلى الرغم من أن أحكام ابن قتيبة على بعض الأشعار التى أوردها في تقسيمه السابق قد لقيت معارضة من بعض النقاد ـ فـإن الذى يعنينا هنا هو أن ابن قتيبة بهذا التقسيم قد أدخل نمطا جديدا في الدراسات المتصلة بنقد الشعر، وسنرى أن بعض لاحقيه من نقاد القرن الرابع قد أسرف في تطبــيـق هذا المنهج النظرى على قضايا النقد وظواهر الأدب، على نحو ما فعل قدامة بن جعفر في كتابه نقد الشعر .