المحاضرة الخامسة ع
الرسالة الهزلية لابن زيدون
الدافع إلى كتابة الرسالة :-
إذا ما نظرنا إلى الرسالة الهزلية لابن زيدون وجدنا دافعه إلى كتابتها وجده على الوزير ابن عبدوس، وحقده عليه لمنافسته إياه فى حب ولادة، وهو يريد أن ينال منه، فهداه تفكيره إلى أن يكتب رسالته هذه إليه على لسان ولادة نفسها حتى يقطع الطريق عليه فى صلته بها، وحتى يكون النيل منه أعمق جرحاً وأكثر حرجاً، ومن أكثر فقرات الرسالة الهزلية شبها برسالة التربيع والتدوير قول ابن زيدون على لسان ولادة حين تتحدث عن خليلة لابن عبدوس وهى تصفه لها أى تصف ابن عبدوس « فإنها أعذرت فى السفارة لك، وما قصّرت فى النيابة عنك، زاعمة أن المروءة لفظ أنت معناه، والإنسانية اسم أنت جسمه وهيولاه، قاطعة أنك انفردت بالجمال، واستأثرت بالكمال، واستعليت فى مراتب الجلال، واستوليت على محاسن الخلال، حتى خيلت أن يوسف u حاسنك فغضضت منه، وأن امرأة العزيز رأتك فسلت عنه، وأن قارون أصاب بعض ما كنزت، والنطف عثر على فضل ما ركزت، وكسرى حمل غاشيتك، وقيصر رعى ماشيتك، والإسكندر قتل دارا فى طاعتك، وأردشير جاهد ملوك الطوائف بخروجهم على جماعتك ».
وهكذا يظل ابن زيدون ينال على لسان ولادة بهذه التشبيهات والتعلات ذات المفارقات الشديدة من غريمه ابن عبدوس، ويمضى فى إجراء مقارنات مضحكة ساخرة بين غريمه وبين مشهورى العلماء وكبار الفقهاء ونطاسى الأطباء إذ :
ليس على الله بمستنكر |
|
أن يجمع العالم فى واحد |
ويظل ابن زيدون يمجد ساخراً قدر ابن عبدوس حتى يصل به إلى أعلى السماكين ثم يعود وينثنى لكى يقذف به من عل ويسد إليه ألوانا من المهانة وقدراً غير قليل من الإهانة، بحيث يخيل إليه أنه قد شفى غليله ونال منه ثأر الغريم، ومهما يكن من أمر فإن الرسالة الهزلية هى ثانية اثنتين فى هذا المجال، الأولى لأستاذ فن الكتابة فى المشرق وإمام الكتاب جميعاً أبى عثمان الجاحظ، والثانية لنابغة الأندلس شعراً ونثراً أبى الوليد بن زيدون على لسان ولادة.
نص الرسالة :-
أما بعد أيها المصاب بعقله، المورَّط بجهله، البين سقطه([1])، الفاحش غلطه، العاثر فى ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب على الشراب، المتهافت تهافت الفراش فى الشهاب([2])، فإن العجب أكذب، ومعرفة المرء نفسه أصوب. وإنك راسلتنى مستهدياً من صلتى ما صفرت منه أيدى أمثالك، متصدياً من خُلّتى([3]) لما قرعت([4]) دونه صنوف أشكالك، مرسلاً خليلتك([5]) مرتادة، مستعملاً عشيقتك قوادة، كاذبا نفسك أنك ستنزل عنها إلى، وتخلُف بعدها علىَّ :
ولســـت بأول ذى هـمة |
|
دعـته لما ليـس بالــنائل([6]) |
ولا شك أنها قلتك([7]) إذ لم تضن بك، وملتك إذ لم تغر عليك، فإنها أعذرت([8]) فى السفارة لك، وما قصرت فى النيابة عنك، زاعمة أن المروءة لفظ أنت معناه، والإنسانية اسم أنت جسمه وهَيُولاه([9])، قاطعة([10]) أنك انفردت بالجمال، واستأثرت بالكمال، واستعليت فى مراتب الجلال، واستوليت على محاسن الخلال، حتى خيلت أن يوسف u حاسنك([11]) فغضضت منه، وأن امرأة([12]) العزيز رأتك فسلت عنه، وأن قارون([13]) أصاب بعض ما كنزت، والنطف([14]) عثر على فضل ما ركزت([15])، وكسرى حمل غاشيتك([16])، وقيصر رعى ماشيتك، والإسكندر قتل دارا([17]) فى طاعتك، وأردشير([18]) جاهد ملوك الطوائف بخروجهم عن جماعتك، والضحاك استدعى مسالمتك، وجذيمة([19])، الأبرش تمنى منادمتــك، وشيرين([20]) قد نافســت بوران فـــيك، وبلقيس([21]) غايرت الزباء عليك، وأن مالك([22]) بن نويرة إنما أردف لك، وعروة([23]) بن جعفر إنما رحل إليك، وكليب بن ربيعة إنما حمى المرعى بعزتك، وجساساً إنما قتله بأنفتك، ومهلهلا إنما طلب ثأره بهمتك، والسموءل إنما وفى عن عهدك، والأحنف([24]) إنما احتبى([25]) فى بردتك، وحاتماً إنما جاد بوفرك([26])، ولقى الأضياف ببشرك، وزيد([27]) بن مهلهل إنما ركب بفخديك، والسليك([28]) بن السلكة إنما عدا على رجليك، وعامر([29]) بن مالك إنما لاعب الأسنة بيديك، وقيس([30]) بن زهير إنما استعان بدهائك، وإياس([31]) بن معاوية إنما استضاء بمصبــاح ذكائك، وســـحبان([32]) إنما تكلم بلســـانك، وعــمرو([33]) ابن الأهتم إنما سُحر ببيانك، وأن الصلح بين بكر وتغلب تم برسالتك، والحمالات([34]) بين عبس وذبيان أسندت إلى كفالتك، وأن احتيال هرم([35]) لعلقمة وعامر حتى رضيا كان ذاك عن إشارتك، وجوابه لعمر([36]) وقد سأله عن أيهما كان ينفر وقع عن إرادتك، وأن الحجاج([37]) تقلد ولاية العراق بجدك، وقتيبة([38]) فتح ما وراء النهر بسعدك، والمهلب([39]) أوهن شوكة الأزارقة([40]) بيدك، وفرق ذات بينهم بكيدك، وأم هرمس([41]) أعطى بلينوس([42]) ما أخذ منك، وأفلاطون أورد على أرسطاطاليس ما نقل عنك، وبطليموس سوى الاضطراب بتدبيرك، وصور الكرة على تقديرك، وبقراط علم العلل والأمراض حسك، وجالينوس عرف طبائع الحشائش بدقة حدسك ، وكلاهما قلدتك فى العلاج وسألك عن المزاج، واستوصفك تركيب الأعضاء، واستشارك فى الداء والدواء، وأنك نهجت لأبى معشر طريق القضاء، وأظهرت جابر بن حيان على سر الكيمياء، وأعطيت النظام([43]) أصلاً أدرك به الحقائق، وجعلت للكندى([44]) رسماً استخرج به الدقائق، وأن صناعة الألحان اختراعك، وتأليف الأوتار والأنفار توليدك وابتداعك، وأن عبد([45]) الحميد ابن يحيى بارى أقلامك، وسهل([46]) بن هرون مدون كلامك، وعمرو([47]) بن بحر مستمليك، ومالك بن أنس مستفتيك، وأنك الذى أقام البراهين، ووضع القوانين، وحد الماهية([48])، وبين الكيفية والكمية، وناظر فى الجوهر والعرض، وميز الصحة من المرض، وفك المعمى وفصل بين الاسم والمسمى، وصرف وقسم، وعدل وقوم، وصنف الأسماء والأفعال، وبوب الظرف والحال، وبنى وأعرب، ونفى وتعجب، ووصل وقطع، وثنى وجمع،وأظهر وأضمر، واستفهم وأخبر، وأهمل وقيد، وأرسل وأسند([49])، وبحث ونظر، وتصفح الأديان، ورجح بين مذهبى([50]) مانى وغيلان، وأشار بذبح الجعد([51])، وقتل بشار بن برد، وأنك لو شئت خرقت العادات، وخالفت المعهودات، فأحلت البحار عذبة، وأعدت السلام([52]) رطبة، ونقلت غداً فصار أمساً، وزدت فى العناصر فكانت خمسا([53])، وأنك المقول فيه : كل الصيد فى جوف الفرا([54])، و:
ليس على الله بمستنكر |
|
أن يجمع العالم فى واحد([55]) |
والمعنى بقول أبى تمام :
فلو صورت نفسك لم تزدها |
|
على ما فيك من كرم الطباع |
والمراد بقول أبى الطيب :
ذُكر الأنام لنا فكان قصيدة |
|
كنت البديع الفرد من أبياتها |
فكدمت فى غير مكدم([56])، واستسمنت ذا ورم، ونفخت فى غير ضرم([57])، ولم تجد لريح مهزا، ولا لشفرة محزا([58])، بل رضيت من الغنيمة بالإياب([59])، وتمنيت الرجوع بخفى حنين([60])، لأنى قلت : (لقد هان من بالت عليه الثعالب([61]))، وأنشدت :
على أنها الأيام قد صرن كلها |
|
عجائب حتى ليس فيها عجائب([62]) |
ونخرت([63]) وبسرت([64])، وعبست([65]) فكفرت، وأبدأت([66]) وأعدت وأبرقت وأرعدت([67])، « وهمست([68]) ولم أفعل وكدت وليتنى »، ولولا أن للجوار ذمة، وللضيافة حرمة، لكان الجواب فى قذال الدمستق([69])، والنعل حاضرة إن عادت العقرب([70])، والعقوبة ممكنة إن أصر المذنب.
وهبها لم تلاحظك بعين كليلة عن عيوبك، ملؤها حبيبها([71])، حسن فيها من تود، وكانت إنما حلتك بحلالك، ووسمتك بسيماك، ولم تعرك شهادة، ولا تكلفت لك زيادة، بل صدقت سن([72]) بكرها فيما ذكرته عنك، ووضعت الهناء مواضع النقب([73])، بما نسبته إليك، ولم تكن كاذبة فيما أثنت به عليك، فالمعيدى تسمع به خير من أن تراه، هجين([74]) القذال، أرعن السبال([75])، طويل العنق والعلاوة([76])، مفرط الحمق والغباوة، سيئ الجابة([77]) والسمع، بغيض الهيئة، سخيف الذهاب والجيئة، ظاهر الوسواس منتن الأنفاس، كثير المعايب، مشهور المثالب، كلامك تمتمة([78])، وحديثك غمغمة([79])، وبيانك فهفهفة([80])، وضحكك قهقهة، ومشيك هرولة، وغناك مسألة([81])، ودينك زندقة، وعلمك مخرفة([82]) :
مساوٍ لو قُسمن على الغوانى |
|
لما أُمهرن إلا بالطلاق([83]) |
حتى إن باقلاً([84]) موصوف بالبلاغة إذا قرن بك، وهبنقة([85]) مستوجب
لاسم العقل إذا أضيف إليك، وطويساً([86]) مأثور عنه يمن الطائر إذا قيس عليك، فوجودك عدم، والاغتباط بك ندم، والخيبة منك ظفر، والجنة معك سقر([87]). كيف رأيت لؤمك لكرمى كفاء([88])، وضعتك لشرفى وفاء ؟ وأنى جهلت أن الأشياء إنما تنجذب إلى أشكالها، والطير إنما تقع على ألافها ؟ وهلا علمت أن الشرق والغرب لا يجتمعان، وشعرت أن المؤمن والكافر لا يتقاربان، وقلت : الخبيث والطيب لا يستويان([89])، وتمثلت :
أيها المنكح الثريا سهيلا |
|
عمرك الله كيف يلتقيان([90]) |
ذكرت أنى علق([91]) لا يباع ممن زاد، وطائر لا يصيده من أراد، وغرض لا يصيبه إلا من أجاد !! ما أحسبك إلا كنت قد تهيأت للتهنية، وترشحت للترفية([92]) ! ولولا أن جرح العجماء جبار([93])، للقيت من الكواعب ما لاقى يسار([94])، فما هم إلا ببعض ما به هممت، ولا تعرض إلا لأيسر ما له تعرضت، أين ادعاؤك رواية الأشعار، وتعاطيك حفظ السير والأخبار، أما ثاب إليك قول الشاعر : ([95])
بنو دارم
أكفاؤهم آل مسمع
|
|
وتنكح فى
أكـفائها الحـبطات
|
وهلا عشيت([96]) ولم تغتر، وما أشك أنك تكون وافد البراجم([97]) أو ترجع بصحيفة المتلمس([98])، وهل عضلنى([99]) همام بن مرة فأقول : زوج من عود، خير من قعود.
ولعمرى لو بلغت هذا المبلغ لارتفعت عن هذه الحطة، ولا رضيت بهذه الخطة، فالنار، ولا العار، والمنية، ولا الدنية، والحرة تجوع ولا تأكل بثدييها وما كنت لأتخطى المسك إلى الرماد، ولا أمتطى الثور بعد الجواد، فإنما يتيمم من لم يجد ماء، ويرعى الهشيم([100])، من عدم الجميم([101])، ويركب الصعب([102]) من لا ذلول له. ولعلك إنما غرك من علمت صبوتى إليه ؟ وشهدت مساعفتى له، من أقمار العصر، وريحان المصر، الذين هم الكواكب علو همم، والرياض طيب شيم :
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم
مثل النجوم التى يسرى([103]) بها السارى
فنحن قدح([104]) ليس منها، ما أنت وهم ؟ وأنى تقع منهم ؟ وهل أنت إلا واو عمرو فيهم، وكالوشيظة ([105]) فى العظم بينهم.
وإن كنت إنما بلغت قعر تابوتك([106])، وتجافيت عن بعض قوتك وعطرت أردانك([107])، وجررت هميانك([108])، واختلت فى مشيتك، وحذفت فضول لحيتك، وأصلحت شاربك، ومططت حاجبك، ورققت خط عذراك([109])، واستأنفت عقد إزارك([110])، رجاء الاكتنان فيهم، وطمعاً فى الاعتداد منهم، فظننت عجزاً، وأخطأت استك الحفرة، والله لو كساك محرق([111]) البردين، وحلتك مارية([112]) بالقرطين، وقلدك عمرو([113]) الصمصامة، وحملك الحارث([114]) على النعامة، ما شككت فيك، ولا سترت([115]) أباك، ولا كنت إلا ذاك. وهبك ساميتهم فى ذروة المجد والحسب، وجاريتهم فى غاية الظرف والأدب، ألست تأوى إلى بيت قعيدته([116]) لكاع، إذ كلهم عزب خالى الذراع([117])، وأين من أنفرد به ممن لا أغلب إلا على الأقل الأخس منه... وهل يجتمع لى فيك إلا الحشف وسوء الكيلة([118])، ويقترن على بك إلا الغُدَّة والموت فى بيت سلولية([119]) :
تعالى الله يا سلم بن عمرو |
|
أذل الحرص أعناق الرجال |
ما كان أخلقك بأن تقدر بذرعك([120])، وتربع بذلك على ظلعك([121])، ولا تكن براقش([122]) الدالة على أهلها، وعنز السوء المستثيرة لحتفها، فما أراك إلا سقط بك العشاء على سرحان([123])، وبك لا بظبى أعفر([124]). أعذرت إن أغنيت شيا، وأسمعت لو ناديت حياً([125]) :
وإن بادرت بالندامة، ورجعت على نفسك بالملامة، كنت قد اشتريت العافية منك، وإن قلت : جعجعة ولا طحن([128])، ورب صلف تحت الراعدة، وأنشدت :
لا يؤيسنك من مخدرة |
|
قول تغلظه وإن
جرحا ([129])
|
فعدت لما نُهيت عنه، وراجعت ما استعفيت منه، بعث من يزعجك إلى الخضراء([130]) دفعا، ويستحثك نحوها وكزاً([131]) وصفعاً، فإذا صرت إليها عبث أكاروها([132]) بك، وتسلط نواطيرها([133]) عليك، ذلك بما قدمت يداك، لتذوق وبال أمرك، وترى ميزان قدرك :
فمن جهلت نفسه قدره |
|
رأى غيره منه ما لا يرى |
تعليق على الرسالة :-
وإذا كان لنا من رأى حول ابن زيدون فى هذه الرسالة فإنه يتلخص فى عدة نقاط أهمها أن الكاتب مقلد للجاحظ فى رسالته التربيع والتدوير على ما سبق لنا من قول، وأنه متأثر بروح المرح التى بدت عند بعض كتاب المشرق مثل بديع الزمان فى رسائله ومقاماته وأبى إسحاق الصابى فى مرحه وأبى العيناء فى مجونه وشعراء الصاحب بن عباد فى طرفهم وملحهم.
فإذا نظرنا فى مضمون الرسالة نفسها فإننا لا نكاد نحس أنه نتاج أندلسى، بل ليس فيها بادرة واحدة توحى بذلك بحيث لو لم يجر ذكر ولادة وابن عبدوس حول قصة الرسالة وخبرها لما خامر قارئها أدنى شك فى أنها لعلم من أعلام النثر الفنى فى المشرق، فابن زيدون كأنما قد حرص على أن يعرض بضاعته وينثر كنانته فإذا بحافظته تتسع للأخبار والمعلومات التاريخية من عربية وفارسية ويونانية وتزدحم بالمعارف العلمية، وتمتلئ بالأمثال العربية وتفيض بالشواهد الشعرية للمغمورين والمشهورين من الشعراء الجاهليين والأمويين والعباسيين مبتدئاً بامرئ القيس منتهياً بالمتنبى. كل ذلك فى وفرة وكثرة وتتابع وتمكن، ومن العجيب أنه لم يستشهد ببيت واحد أندلسى أو يأتى بخبر واحد غير مشرقى...
على أنه من سوء الحظ أيضاً أن هذه الرسالة لم تحقق الغرض الذى من أجله أنشأها ابن زيدون، فلا هى نالت من ابن عبدوس بالقدر الذى أراده الأديب العاشق ولا هى أعادت إليه ولادة، بل ربما كانت الرسالة هذه سبباً فى توسيع شقة الخلاف بينه وبين ولادة لأنه كان قد أهانها وعرض بها حين أراد الثأر منها والسخرية بابن عبدوس وكان يلقبه بالفار فى قوله:
عيرتمونا بأن قد صـار يخلفنا |
|
فيمن نحب وما فى ذاك من عـار |
أكل شهى أصبنا من أطايبه |
|
بعضاً وبعضاً صفحنا عنه للـفار |
ومهما كان الأمر فابن زيدون فى شعره فريد عصره وفى نثره فى الذروة بين أقرانه من كتاب الأندلس، ولعل ملكة الشعر والنثر لم تجتمعا معا لفرد واحد كما اجتمعتا لقلة من الأندلسيين من أمثال ابن زيدون وابن شهيد ولسان الدين بن الخطيب، ولكن ابن زيدون يبزهم جميعاً ؛ فقد كانت رسائله النثرية التى يكتبها على لسان بعض من استكتبوه من أمراء قرطبة أو أشبيلية تفتن الناس فيتلقفونها ليمتعوا أنفسهم بقراءتها، فرسائل الرجل على نثرها تكاد تكون شعراً، ففيها انفعال الشاعر واهتياجه وغنائيته، وفيها عمق الكاتب وثباته وتفكيره، وفيها أيضاُ روح العالم ورحابة أفقه وفيض معرفته، وقد يكون من الطريف أن نذكر أن ابن زيدون مارس التأليف شأنه فى ذلك شأن العلماء الأعلام من رجالات الأندلس ؛ فقد ذكر ابن حزم فى رسالته التى كتبها فى فضل الأندلس أن أبا الوليد بن زيدون قد ألف كتاب (التبيين فى خلفاء بنى أمية فى الأندلس) على منزع (التعيين فى خلفاء المشرق) للسعودى([134]).
لعل أقرب شبيه لابن زيدون فى المشرق هو أبو إسحاق الصابى أمير الكتابة الديوانية والإخوانية، وصاحب الشعر الرقيق العذب الذى لم يدرس الدراسة الوافية حتى الآن، وصاحب المؤلف المعروف باسم (التاجى) الذى كتبه وهو فى السجن لبنى بويه والذى أبدى رأيه فيه قبل أن يتمه جوابا لصديق سأله عما يصنع وقد رآه مشغولاً فى الكتابة، فأجلبه : أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها([135]).
الحق أن أقرب الأدباء المشارق شبهاً بابن زيدون هو أبو إسحاق إبراهيم الصابى فكرهما شاعر يفيض شعره رقة وينساب عذوبة، وكلاهما كاتب يثرى الخواطر والنفوس بثمار يراعه سواء أكانت هذه الثمار رسائل ديوانية أم مقطوعات إخوانية أم موضوعات فكاهية، وإذا كان ابن زيدون قد كتب رسالته الهزلية المشهورة لأبى إسحاق رسالتين من أمتع ما كتب فى الفكاهة فى النثر العربى هما رسالته لابن قريعة القاضى يعزيه فى ثوره الأبيض حين نفق وجلس يتقبل العزاء فيه، ورسالته الفريدة (عهد التطفل) ، وكلاهما أيضاً أى ابن زيدون والصابى من أصحاب المشاركة فى التأليف، غير أن للصابى فضل السبق الزمنى وميزة الإبداع الباكر، ولعل من مصادفات القدر أيضاً أن كلا من الأدبيين الكبيرين قد قضى فى أيامه محناً وصادف إحنا وثوى فى غيابة السجن لفترة من الزمن.
على أن الأمر الذى لا نشك فيه هو أن كل كتاب الأندلس بغير استثناء تلامذة فى موضوعاتهم وأساليبهم للكتاب المشارقة، وحتى أولئك الذين حاولوا أن يبتدعوا شيئاً جديداً مثل ابن زيدون وابن شهيد قد جددوا تحت ظلال فنون المشارقة مستمدين الوحى من نتاجهم قابسين النور من موضوعاتهم([136]).
%%%
([22]) مالك : من شجعان تميم فى الجاهلية والإسلام، قتل فى حروب الردة، والردافة أن يكون الشريف تابع يجلس عن يمينه.
([33]) عمرو بن الأهتم : من سادات تميم وخطبائها فى الجاهلية والإسلام ولقب بالأهتم لفقد ثنيته يوم الكلاب.
([34]) الحمالات : الديات وكان قد احتملها هرم بن سنان ممدوح زهير والحارث بن عوف فى حرب داحس والغبراء.
([35]) هو هرم بن قطبة كان أحد من يحتكم إليهم العرب فى الجاهلية لعقله، واحتكم إليه علقمة وابن عمه عامر، وهما جميعاً من بنى عامر بن صعصعة، فاحتال لهما حتى لا يحكم لأحدهما على الآخر، فتكون حرب بين عشيرتهما.
([36]) المراد عمر بن الخطاب، وقد سأله بعد إسلامه أيهما تنفر الآن لو احتكما إليك ؟ فقال : لو قلت الآن كلمة لنشبت الحرب بين الحيين، وتنفر : تغلب فى المنافرة.
([37]) والى العراق المشهور بسفك الدماء، كان يقول حين حضرته الوفاة : اللهم أغفر لى فإن الناس تزعم أنك لا تفعل.
([38]) قتيبة بن مسلم الباهلى : بطل حروب الشرق فى عهد الوليد بن عبد الملك ، وكان قد ولاه على خراسان فأظهر بطولة نادرة فى الحروب هناك.
([50]) مانى : صاحب نحلة دينية عند الفرس، وكان ذلك قبل الإسلام، وهو يقول بأن هناك إلهين: إله النور وإله الظلام، وغيلان : أول من تكلم فى القدر بين المسلمين فى العصر الأموى، وهو دمشقى.
([51]) الجعد هو : ابن ورهم كان مولى لبنى الحكم، تكلم فى القدر وخلق القرآن واتهم بالزندقة، فقتله خالد القسرى فى العراق.
([61]) يقال إن رجلا من بنى سليم اسمه غاوى بن ظالم السلمى كان يعبد صنما، فبالت عليه الثعالب فكسره، وسارع إلى الإسلام وأنشد :
أرب يبول الثعالب برأسه لقد هان من بالت عليه الثعالب
([69]) الدمستق : من قواد الروم هزمه سيف الدولة، يريد ابن زيدون أنه لولا الحرمة لفعل بها فعل سيف الدولة بالدمستق. والقذال : القفا.
([73]) مثل يضرب لمن يضع الأمر فى موضعه، والهناء : القطران، والنقب : مبادئ الجرب فى البعير، وكانوا يداوونه بالقطران.
([86]) طويس : مغن بالمدينة فى العصر الأموى اسمه الأصلى عيسى بن عبدالله كانوا يتشاءمون منه، وله نوادر فى الشئم مشهورة.
([93]) هذا نص حديث للرسول r، والعجماء : البهيمة، والجبار : الدم الهدر، ومعنى الحديث أنه لا قصاص فى جرح البهيمة، وضرب به ابن زيدون المثل للدلالة على الاستهانة بابن عبدوس.
([95]) البيت للفرزدق، هجاء حى الحبطات، فقومه بنو دارم إنما يصهرون إلى بنى مسمع، أما الحبطات فيصهرون إلى من يناظروهم وهم فى الخسة.
([98]) يقال إن المتلمس وفد على أحد ملوك الحيرة فى الجاهلية فكتب له صحيفة إلى عامل من عماله، وتناولها المتلمس وهو يظنه كتب له بجائزة، فأقرأها شخصاً، وكان أمياً، فعرفه أنه يأمر عامله بقتله والتمثيل به.
([99]) عضل المرأة : منعها من الزواج، وكان همام بن مرة منع بناته الأربع من الزواج، وخرجن على رغبته، فضرب به وبهن المثل.
([111]) محرق : هو عمرو بن هند ملك الحيرة، لقب بذلك لتحريقه مائة من قبيلة تميم، ويقال إن وفود العرب كانت عنده، فأخرج بردين وقال : ليقم أعز العرب قبيلة فليأخذهما.
([116]) القعيدة : الزوجة، واللكاع : اللئيمة بالمعنى للحطيئة فى قوله :
أطوف ما أطوف ثم آوى إلى بيت قعيدته لكاع
([119]) دعا رسول الله r على عامر بن الطفيل، فظهر فى رقبته غدة، ومات فى بيت سلولية (من بنى سلول) فقال : غدة كغدة البعير، والبيت لأبى العتاهية.
([122]) يشير إلى المثل : (جنت على أهلها براقش) وهى كلبة غزا أهلها قوم، فلم يعرفوهم حتى نبحت، فكانت شؤماً عليهم. والمثل يضرب لمن يعمل عملاً يعود ضرره عليه.