المحاضرة الخامسة ن
الأسـس الفنيـة لنقـد الشـعر
1- قضية الشكل والمضمون
" اللفظ والمعنى "
أثار النقد العربى القضية النقدية التي تسمى اليوم " قضية الشكل والمضمون " تحت اسم " اللفظ والمعنى " وبادىء ذى بدء لابد أن نوضح أن المقصود باللفظ فى هذه القضية ليس دائماً هو اللفظ المفرد، وإنما المقصود به حال تركيبة فى جملة، ومعناه على هذه الصورة المركبة وقد ثارت بين النقدة العرب قديما معركة، فمنهم من كان ينتصر للفظ، ومنهم من كان ينتصر للمعنى، ومنهم من ساوى بين اللفظ والمعنى، وأخيراً منهم من نظر إلى الألفاظ من جهة دلالتها على معانيها فى نظم الكلام.
ونستجلى بعض أقوال النقاد العرب منذ عهد الجاحظ الذى أثار القضية ونلقى الضوء على تطورها عندهم وآرائهم فيها، حتى نؤكد أن قضية اللفظ والمعنى قضية نقدية عربية، وليست بحال قضية نقدية يونانية طبق عليها أدبهم.
الجاحظ (160 – 255 هـ):
المشهور عن الجاحظ أنه احتفل باللفظ، وقدمه على المعنى أخذاً من تعقيبه على الشيخ أبى عمرو الشيبانى، حيث استحسن معنى هذين البيتين:
لا
تَحسَبَنَّ المَوتَ مَوتَ البِلى |
|
فَإِنَّما المَوتُ
سُؤالُ الرِجال |
قال الجاحظ: " وذهب الشيخ إلى استحسان المعنى، والمعانى مطروحة فى الطريق يعرفها العجمى والعربى، والبدوى والقروى وإنما الشأن فى إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولته، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفى صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير. " ([2])
فباللفظ عند الجاحظ يقام الوزن، وتجود الصياغة، ويلتحم النسيج، ويكتمل التصوير.
ولقد يبد ولمن يكتفى بظاهر القول أن هذه أمور لفظية، لا حاجة معها إلى المعنى. ولو دققنا النظر لأدركنا أن المعنى يقف من ورائها وقفة ما.
فالجاحظ لا يهمل المعنى، وإنما يأتى اللفظ على قدره، فالمعنى إذن هو الأصل، واللفظ تبع له أو ظل له. يقول الجاحظ فى موضوع آخر: " إن المعانى إذا كسيت ألفاظا كريمة، وأكسبت أوصافا رفيعة، تحولت فى العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها، بقدر ما زينت وزخرفت، فقد صارت الألفاظ فى معانى المعارض، وصارت المعانى فى معنى الجوارى. " ([3])
فالالفاظ بالنسبة للمعانى كالمعارض ـ وهى ثياب العرس ـ بالنسبة للجوارى، والجوارى فيما نرى أصل، ومعارضها زينة لها، وقيمة هذه المعارض تأتيها من استعمالها ووضعها على أجساد صواحبها.
وهذا المقال يفسر قول الجاحظ أيضاً:
" إذا اكتسى المعنى لفظاً حسناً، وأعاره البليغ مخرجا سهلا، ومنحه المتكلم دلا متعشقا ؛ صار فى قلبك أحلى، ولصدرك أملا ([4]).
فالجاحظ إذن يحتفل باللفظ والمعنى، لا باللفظ وحده، وإن كان احتفاله باللفظ أبين وأظهر، ومن الظلم أن يدعى عليه، أنه يهتم باللفظ ويهمل المعنى.
ـ ابن قتيبـة: (276 هـ)
ناقش ابن قتيبة فى كتابه " الشعر والشعراء " قضية اللفظ والمعنى، وحاول أن يضع قواعد لنقد الشعر، وقسمه إلى أربعة أضرب ([5]):
1- ضرب حسن لفظه، وجاد معناه. ومثل لـه بأمثلة، منها: قول أوس بن حجر:
أَيَّتُها
النَفسُ أَجمِلي جَزَعا |
|
إِنَّ الَّذي
تَحذَرينَ قَد وَقَعا |
وقول أبى ذؤيب:
وَالنَفسُ
راغِبِةٌ إِذا رَغَّبتَها |
|
إِذا
تُرَدُّ إِلى قَليلٍ تَقنَعُ |
2- ضرب حسن لفظه وحلا، فاذا فتشته لم تجد هناك طائلا ومثل لـه بالأبيات المنسوبة إلى كثير عزة:
فلما
قضينا من منىً كُلَّ حاجَةٍ |
|
ومَسَّحَ
ركنَ البيتِ من هُوَ ماسحُ([6]) |
" وهذه الألفاظ أحسن شىء مطالع ومخارج ومقاطع، فإذا نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته: ولما قضينا أيام منى، واستلمنا الأركان، وعالينا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس لا ينظر من غدا الرائح، ابتدأنا فى الحديث وسارت المطى فى الأبطح ".
3- ضرب جاد معناه، وقصرت ألفاظه عنه، ومثل لـه بقول لبيد بن ربيعة:
ما
عاتَبَ المَرءَ الكَريمَ كَنَفسِهِ |
|
وَالمَرءُ
يُصلِحُهُ الجَليسُ الصالِحُ |
فالبيت جيد المعنى والسبك، قليل الماء والرونق.
4- ضرب تأخر معناه ولفظه معاً. ومثل لـه بأمثلة منها قول الخليل بن أحمد:
إِنَّ
الخَليطَ تَصَدَّع |
|
فَطِر
بِدائِكَ أَو قَع |
فهذا شعر بين التكلف، ردىء الصنعة، كما قال.
وابن قتيبة بهذا التقسيم نجده يقيس الأدب بمقاييس رياضية مجردة، وليس هكذا يقاس الأدب، فالأدب فن إنسانى، يترجم عن المشاعر والأحاسيس والانفعالات.
ومرده إلى الذوق والموهبة والخبرة والثقافة.
ـ قدامة بن جعفر (275 ـ 337 هـ):
نرى من تعريف قدامة للشعر ما يفهم منه أنه ينتصر للفظ فهو يقول فى تعريف الشعر: " إنه قول موزون مقفى يدل على معنى. "
فقولنا (قول) دال على أصل الكلام، الذى هو بمنزلة الجنس للشعر، و(موزون) يفصله مما ليس بموزون، إذ كان من القول موزون وغير موزون. وقولنا: " مقفى " فصل بين ما له من الكلام الموزون قواف وبين ما لا قوافى لـه ولا مقاطع وقولنا: " يدل على معنى "، يفصل ما جرى من القول على قافية ووزن مع دلالة على معنى مما جرى على ذلك من غير دلالة على معنى.. فإذ قد تبين أن الشعر هو ما تقدم، فليس من الاضطرار إذن أن يكون ما هذه سبيله جيداً أبداً، ولا رديئا أبدا، بل يحتمل أن يتعاقبه الأمران: مرة هذه، وأخرى هذه، على حسب ما يتفق.
واشارته إلى أن من الشعر شعراً لا يدل على معنى، ليس المقصود منها أن ينفى المعنى الأصلى الذى أراد واضع اللغة من الألفاظ فرادى عن بعض الشعر، وإنما المقصود منها أن ينفى أن يكون لبغض الشعر طائل ([8]).
فقدامه ينتصر للفظ، كما أنه يشير إلى نظرية النظم، ويجعلها فى ترتيب الألفاظ، وتصيير كل واحدة منها مع ما يشاكلها، وعنى بالنظم التأليف ".
يقول فى كتابه (نقد النثر) المنسوب إليه فى تعريف البلاغة:
" وحدها عندنا أنه القول المحيط بالمعنى المقصود، مع اختيار الكلام، وحسن النظام، وفصاحة اللسان، وإنما أضفنا إلى الإحاطة بالمعنى اختيار الكلام، لأن العامى قد يحيط قوله بمعناه الذى يريده، إلا أنه بكلام مرذول من كلام أمثاله ؛ فلا يكون موصوفا بالبلاغة، وزدنا فصاحة اللسان ؛ لأن الأعجمى واللحان قد يبلغان مرادهما بقولهما، فلا يكونان موصوفين بالبلاغة، وزدنا حسن النظام، لأنه قد يتكلم الفصيح بالكلام الحسن الآتى على المعنى ولا يحسن ترتيب ألفاظه، وتصيير كل واحدة منها مع ما يشاكلها فلا يقع ذلك موقعه.
ـ ابن طباطبا (322 هـ):
ذكر فى كتابه (عيار الشعر) أن الشعر صناعة، وأن الصناعة تقتضى الفصل بين الألفاظ والمعانى، وإن أجراهما بعد ذلك فى نفق، فقال: "وللمعانى ألفاظ تشاكلها، فتحسن فيها، وتقبح فى غيرها، فهى لها كالمعرض للجارية الحسناء، التي تزداد حسنا فى بعض المعارض دون بعض، وكم من معنى حسن قد شين بمعرضه الذى أبرز فيه، وكم من معرض حسن قد ابتذل على معنى قبيح ألبسه. "
وهذه الفكرة سبق بها الجاحظ، وزادها ابن طباطبا تفصيلا فأوضح أن ليس كل معرض تلبسه الجارية يزيدها حسنا، أى أن هناك من المعانى معنى حسنا يشينه معرضه: " المعنى الجيد واللفظ الردىء عند ابن قتيبة " وهناك اللفظ الحسن يلبسه المعنى القبيح: " اللفظ الجيد والمعنى الردىء عند ابن قتيبة ".
ـ القاضى عبدالعزيز الجرجانى (290 ـ 366هـ):
اعتمد القاضى الجرجانى على الذوق السليم مناطا لتقويم ما يتذوق من شعر وأدب، ورأى من أول الأمر فى كتابه " الوساطة بين المتنبى وخصومه " أن الشعر فى نمطه وأسلوبه وتصويره يتلاءم مع بيئته ؛ فشعر أهل الجاهلية مغرب، متبد، وشعر المحدثين سهل، لين، بعيد من الإغراب والتبدى، ويكون الشاعر من المحدثين صادقاً غير متكلف إذا جاء شعره كذلك، أما إذا تكلف شعر الأقدمين وقلدهم، فقد خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً وجاء بأمشاج متباينة، فينبو مركبه، وتزل قدمه بعد ثبوتها، وينتهى القاضى الجرجانى إلى القول بأن " العرب إنما تفاضل بين الشعر فى الجودة والحسن: بشرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، وتسلم السبق فيه لمن وصف فأصاب، وشبه فقارب، وبده فأغزر، ولمن كثرت سوائر أمثاله، وشوارد أبياته، ولم تكن تعبأ بالتجنيس، والمطابقة، ولا تحفل بالإبداع فى الاستعارة، إذا حصل لها عمود الشعر، ونظام القريض. "
ويضرب القاضى الجرجانى الأمثلة التي توضح الفرق بين الجمال والحلاوة، موضحا أن الجمال يرتبط بأسباب يمكن إدراكها، والتعليل لها فى الشكل والمضمون، أما الحلاوة فإنها لا ترتبط بشئ من ذلك. يقول أبو تمام فى الغزل:
دَعني
وَشُربَ الهَوى يا شارِبَ الكاسِ |
|
فَإِنَّني
لِلَّذي حُسّيتُهُ حاسي |
يقول الجرجانى معلقاً على هذه الأبيات: " فلم يخل بيت منها من معنى بديع، وصنعة لطيفة، طابق، وجانس، واستعار فأحسن، وهى معدودة فى المختار من غزله، وحق لها، فقد جمعت – على قصرها – فنونا من الحسن، وأصنافا من البديع، ثم فيها من الإحكام والمتانة والقوة ما تراه. " فهو يعلل لجمال هذه الأبيات ولكنه لا يصفها بالحلاوة لأنه لا يجد فيها من سورة الطرب، وارتياح النفس ما وجده فى أبيات بعض الأعراب:
أقول
لصاحبي والعيس تهوى |
|
بنا
بين المنيفة فالضمار |
وهى كما تراها بعيدة
من الصنعة، فارغ الألفاظ، سهل المأخذ،
قريب التناول.
ويؤكد الجرجانى أكثر من مرة دور الذوق فيقول: " وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفى أوصاف الكمال، وتذهب فى الأنق كل مذهب، وتقف من التمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها فى انتظام المحاسن، والتئام الخلقة، وتناسق الأجزاء، وتقابل الأقسام، وهى أحظى بالحلاوة، وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم – وإن قايست وفكرت – لهذه المزية سببا. وكذلك الكلام: منثورة ومنظومة تجد منه المحكم الوثيق، والجزل القوى، والمنمق الموشح، قد هذب كل التهذيب، ثم تجد لفؤادك عنه نبوة ".
وهكذا انتقلت نظرية الجمال من الخلاف بين اللفظ والمعنى إلى الخلاف بين الأساليب وما فيها من تفاوت، بين مطبوع ومصنوع، ثم الرجوع فى تمييزها إلى الذوق والممارسة.
ـ الآمـــــدى (371 هـ):
ينحاز الآمدى فى كتابه " الموازنة بين شعر أبى تمام والبحترى " إلى جانب اللفظ. يقول فى معرض الحديث عن شعر البحترى: " هذا مذهب من جل ما يراعيه من أمر الشعر دقيق المعانى، ودقيق المعانى موجود فى كل أمة، وفى كل لغة... وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأتى، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ مواضعها، وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه، المستعمل فى أمثاله. " وقال: "... وهذا أصل يحتاج إليه الشاعر، والخطيب صاحب النثر، لأن الشعر أجوده أبلغه. والبلاغة إنما هى إصابة المعنى، وإدراك الغرض، بألفاظ عذبة، مستعملة، سليمة من التكلف لا تبلغ الهذر الذائد على قدر الحاجة، ولا تنقص نقصانا يقف دون الغاية وذلك كما قال البحترى:
وَالشِعرُ
لَمحٌ تَكفي إِشارَتُهُ |
|
وَلَيسَ
بِالهَذرِ طُوِّلَت خُطَبُه |
فإن اتفق مع هذا معنى لطيف، أو حكمة غريبة، أو أدب حسن، فذاك زائد فى بهاء الكلام، وإن لم يتفق فقد قام الكلام بنفسه، واستغنى عما سواه... "
فالآمدى كما ترى يرتكز على اختيار الكلام،
ووضع الألفاظ مواضعها، وسلامتها من التكلف، ووفائها بالمعانى، أما المعانى –
والدقيق منها
بخاصة – فموجودة فى كل أمة وفى كل لغة. ومن هنا انفردت الأمة العربية واللغة
العربية بالبيان ومن أتى من الشعراء بالمعنى الدقيق فى لفظ ردئ سئ التأليف فقد ذهب
بطلاوة معناه، وأفسده وعماه، وأحوج متذوقه إلى طول التأمل، وهذا يبعد به عن الفطرة
العربية.
ـ أبو هلال العسكرى (395 هـ):
ذهب أبو هلال فى كتابه " الصناعتين " إلى تفضيل الأسلوب السهل، الذى جمع: " العذوبة، والجزالة، والرصانة، مع السلاسة، والصناعة، واشتمل على: الرونق، والطلاوة، وسلم من حيف التأليف، وبعد عن سماجة التركيب، وإذا ورد على الفهم الثاقب قبله ولم يرده، وعلى السمع المصيب استوعبه ولم يمجه، فالنفس تقبل اللطيف، وتنبو عن الغليظ، وتقلق من الجاسى " وليس الشأن عنده فى إيراد المعانى، " وإنما هو فى جودة اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف ".
وذهب أبو هلال مذهب ابن قتيبة فى الأبيات
" ولما قضينا من
منى.... " إلى أن حسنها يرجع إلى لفظها، وأنها لا تحوى معنى ذا بال
والمعنى عند أبى هلال ضربان:
ضرب مبتدع على غير مثال فليس لمبتدعه أمام يقفوه فيه، وضرب يحتذى فيه المتقدم. وفى كلا الضربين لابد من عبارة حسنة ولفظ ملائم، إذ لا يصلح المعنى بدون هذين ويعتبر أبو هلال ـ كالعتابى وابن طباطبا ـ الألفاظ أجساداً والمعانى أرواحا، وأنك إنما تراهما بعين القلب فإذا قدمت مؤخراً أو أخرت مقدماً، أفسدت الصورة، وغيرت المعنى، كما لو حولت رأساً إلى موضع يد، أو يداً إلى موضع رجل، لتغيرت الخلقة.
ـ المرزوقــــى (421 هـ):
عرض المرزوقى – فى تقديمه لشرح ديوان الحماسة – للأسس التي يتم بمقتضاها اختيار الشعر، وجملتها ثلاث طرق ([10]):
1- طريقة الاعتدال فى اللفظ والمعنى.
2- طريقة البديع.
3- طريقة أصحاب المعانى.
ثم أورد المرزوقى عدة معايير، يهمنا منها هنا عيار اللفظ المفرد وعيار المعنى. " فعيار اللفظ المفرد فى جماله لدى الطبع السليم، وصقله، وسلاسته، وسهولته على اللسان، وكثرة استعماله، وإلا بعد عن الذوق وبدا غريباً، ومن مجموع هذه المزايا ينشأ للألفاظ عند تركيبها حال من التآخى والتلاؤم والتوافق. " و " عيار المعنى أن يعرض على العقل الصحيح والفهم الثاقب، فإذا انعطف عليه جنبنا القبول والاصطفاء، مستأنسا بقرائنه، خرج وافياً، وإلا انتقص بمقدار شوبه ووحشته. "
ـ ابـــن رشيــــق (421 هـ):
يقف ابن رشيق موقفاً وسطا، لا يفضل اللفظ على المعنى، ولا المعنى على اللفظ، ولا يفصل بينهما، ويشبههما بالروح والجسد , وإن كان هذا التشبيه مردوداً في كثير من الحالات يقول ابن رشيق في كتابه " العمدة: اللفظ جسم وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الجسم، يضعف بضعفه، ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للشعر، وهجنه عليه، كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الروح، وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضه كان للفظ من ذلك أوفر حظ، كالذى يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح. ولا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ، وجريه فيه على غير الواجب، قياساً على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح، فإذا اختل المعنى كله وفسد بقى اللفظ مواتا، لا فائدة فيه، وإن كان حسن الطلاوة فى السمع، كما أن الميت لم ينقص من شخصه شئ فى رأى العين إلا أنه لا ينتفع به، ولا يفيده فائدة، وكذلك إذا اختل اللفظ جملة وتلاشى لم يصح معه معنى ؟ لأنالا نجد روحا فى غير جسم البته. "
ولا يخفى أن ابن رشيق حين يتكلم عن المعنى إنما يعنى بالضرورة معنى العبارة لا اللفظة المفردة.
ـ الخلاصــــــــة:
من خلال هذا العرض لآراء معظم النقاد العرب القدامى يتضح أن الجاحظ كان يهتم باللفظ أكثر من اهتمامه بالمعنى، ويجعل اللفظ كسوة للمعنى، كما يكسو المعرض الجارية، وابن قتيبة يقسم اللفظ والمعنى بين صفتى الجودة والرداءة، فيخرج فى النقد معادلة رياضية للنتاج الأدبى العالى باجتماع الجودة فى كلا اللفظ والمعنى، وللنتاج الأدبى الهابط باجتماع الرداءة عليهما، وللنتاج الأدبى الأوسط إذا تعاورت عليهما معاً الجودة والرداءة. وقدامة بن جعفر ينتصر للفظ وتأليفه وابن طباطبا يرى الجمال عملية صناعية، فهو يفصل اللفظ على المعنى، كما يفصل المعرض على الجارية، ويقول بالملاءمة بين المعانى والمبانى، كملاءمة الروح والجسد، والقاضى الجرجانى يعتمد على الذوق فى النقد، والآمدى ينحاز إلى جانب اللفظ إنحيازاً، ويرى أن اللفظ يمكن أن يقوم بنفسه دون المعنى. وأبو هلال العسكرى يرى أن الشأن ليس فى إيراد المعانى، وإنما الشأن فى اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وطلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب، ويعيد القول بارتباط اللفظ والمعنى كارتباط الجسد والروح. والمرزوقى يعتبر عيار المعنى ما يقبله العقل الصحيح، وعيار اللفظ فى التآخى والتلاؤم والتوافق وابن رشيق يقف موقفاً وسطاً بين اللفظ والمعنى، وهو يفصّل رأيه فى اعتبار اللفظ جسما روحه المعنى.
وهكذا وصلت الدراسات النقدية إلى عبدالقاهر الجرجانى (471هـ)، بنظريتين: إحداهما تميل إلى اعتبار الجمال راجعا إلى اللفظ، والأخرى تميل إلى جانب المعنى.
(نظرية النظم عند عبدالقاهر)
نقض عبدالقاهر فى كتابه " دلائل الإعجاز " النظريتين وانتهى إلى أن جمال الكلام ليس مناطه اللفظ والمعنى، وإنما هو فى نظم الكلام، أى الأسلوب.
ويعتبر عبدالقاهر الجرجانى أول من قرر هذه النظرية فى تاريخ النقد العربى، ويصح أن نسميها " نظرية النظم "
وخلاصتها:
أن ترتيب المعانى فى الذهن هو الذى يقتضى ترتيب الألفاظ فى العبارة، وأن اللفظ لامزية لـه فى ذاته وإنما مزيته في تناسق معناه مع معنى اللفظ الذى يجاوره فى النظم ـ أى تنسيق الكلمات والمعاني بحيث يبدى النظم جمال الألفاظ والمعاني مجتمعة ـ وأن الجمال الفني رهين بحسن النسق أو حسن النظم، كما أنه لا اللفظ منفرداً موضع حكم أدبي، ولا المعنى قبل أن يعبر عنه في لفظ، وإنما هما باجتماعهما في نظم يكونان موضع استحسان أو استهجان ([11]).
ويؤخذ من كلام عبدالقاهر أن النظم لـه معنيان:
المعنى الأول: ضم اللفظ إلى اللفظ كيف اتفق , فتتوالى الألفاظ فى النطق، وهذا يشبه حال من يعد الجوز، أو يجمع الحصا، وليس هذا المعنى بمقصوده ومراده.
المعنى الآخر الذى يقصده عبدالقاهر من النظم هو: ترتيب الألفاظ على حسب ما تقتضيه المعانى فى النفس.
يقول فى فصل " الفرق بين قولنا: " حروف منظومة "، و " كلم منظومة ".
" وذلك أن " نظم الحروف " هو تواليها فى النطق، وليس نظمها بمقتضى عن معنى، ولا الناظم لها بمقتف فى ذلك رسما من العقل اقتضى أن يتحرى فى نظمه لها ما تحراه.
وأما " نظم الكلم " فليس الأمر فيه كذلك، لأنك تقتفى فى نظمها آثار المعانى، وترتبها على حسب ترتب المعانى فى النفس. فهو إذن نظمُُ يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وليس هو " النظم " الذى معناه ضم الشىء إلى الشىء كيف جاء واتفق. ولذلك كان عندهم نظيراً للنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشى والتحبير وما أشبه ذلك، مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض، حتى يكون لوضع كل حيث وضع، علة تقتضى كونه هناك، وحتى لو وضع فى مكان غيره لم يصلح([12])".
وهذا المثال من كتاب دلائل الاعجاز يكشف عن هذه النظرية:
" وهل تشك إذا فكرت فى قوله تعالى " وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"([13]) فتجلى لك منها الإعجاز، وبهرك الذى ترى وتسمع، أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة، والفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وأن لم يعرض لها الحُسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا، إلى أن تستقر بها إلى آخرها، وأن الفضل تناتج ما بينها، وحصل من مجموعها.
إن شككت، فتأمل: هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت،
لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهى فى مكانها من الآية ؟ قل:
" ابْلَعِي " واعتبرها وحدها
من غير أن تنظر إلى ما قبلها وما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها.
وكيف بالشك فى ذلك، ومعلوم أن مبدأ العظمة فى أن نوديت الأرض، ثم أمرت، ثم
فى أن كان النداء " بيا " دون " أى "، نحو " يا أيتها
الأرض " ثم إضافة " المَاءُ " إلى " الكاف " دون أن يقال " ابلعى الماء " ثم أن اتبع نداء الأرض وأمرُها بما هو من شأنها، ونداء
السماء وأمرَها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل: " وَغِيضَ المَاءُ
" فجاء الفعل على صيغة " فُعِلَ " الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر
آمرِ وقدرة قادرٍ، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى: " وَقُضِيَ الأَمْرُ
"، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور، وهو: " استوت على الجودى " ثم
إضمار " السفينة " قبل الذكر، كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم
الشأن، ثم مقابلة " قيل " فى الخاتمة " بقيل " فى الفاتحة ؛
أفترى لشىء من هذه الخصائص التى تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط
بالنفس من أقطارها تعلقا باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى فى النطق ؛ أم
كل ذلك لما بين معانى الألفاظ من الاتساق العجيب ؛ فقد اتضح إذن اتضاحاً لا يدع
للشك مجالاً، أن الألفاظ
لا تتفاضل من حيث هى ألفاظ مجردة، ولا من حيث هى كلم مفردة، وأن الفضيلة وخلافها،
فى ملائمة معنى اللفظة لمعنى التى تليها، وما أشبه ذلك، مما لا تعلق لـه بصريح اللفظ.
ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك فى موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك فى موضع آخر، كلفظ " الأخدع " فى بيت الحماسة:
تَلَفَّتُ
نَحوَ الحَيِّ حَتّى وَجَدتُني |
|
وَجِعتُ
مِنَ الإِصغاءِ لَيتاً وَأَخدَعا([14]) |
وبيت البحترى:
وإِنِّى
وإِنْ بَلَّغْتَنِى شَرَفَ الغِنَى |
|
وَأَعْتَقْتَ
من رِقّ المَطَامِعِ أََخْدَعِى([15]) |
فإن لها فى هذين المكانين ما لا يخفى من الحسن، ثم إنك تتأملها فى بيت أبى تمام:
يا
دَهرُ قَوِّم مِن أَخدَعَيكَ فَقَد |
|
أَضجَجتَ
هَذا الأَنامَ مِن خُرُقِك([16]) |
فتجد لها من الثقل على النفس، ومن التنغيص والتكدير، أضعاف ما وجدت هناك من الروح والخفة، ومن الإيناس والبهجة.
ومن أعجب ذلك لفظة " الشىء " فإنك تراها مقبولة حسنة فى موضع، وضعيفة مستكرهة فى موضع، وإن أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى قول عمر بن أبى ربيعة المخزومى:
وَمِن
مالِئٍ عَينَيهِ مِن شَيءِ غَيرِهِ |
|
إِذا
راحَ نَحوَ الجَمرَةِ البيضُ كَالدُمى |
وقول أبى حية:
إذا
ما تقاضى المرءَ يومٌ وليلةٌ |
|
تقاضاهُ
شيءٌ لا يمَلُّ التَّقاضيا |
فإنك تعرف حسنها ومكانها من القبول، ثم انظر إليها فى بيت المتنبى:
لَوِ
الفَلَكَ الدَوّارَ أَبغَضتَ سَعيَهُ |
|
لَعَوَّقَهُ
شَيءٌ عَنِ الدَوَرانِ |
فإنك تراها تقل وتضؤل، بحسب نبلها وحسنها فيما تقدم ([17]).
هذه نظرية يبين بها عبدالقاهر أسرار جمال النظم وأنه يعود إلى تنسيق الكلام على وجه خاص تابع للمعنى النفسى، ولم يرد بها ترجيح جانب المعنى على جانب اللفظ، ولم يدع بها الأدباء إلى الانصراف عن جمال الصياغة ؛ لأن هذه الصياغة هى التى ترفع أسلوبا على أسلوب، وتجعل بعض القول فى القمة وبعضه فى الحضيض ؛ " ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذى يعبر عنه سبيل الشىء الذى يقع التصوير والصوغ فيه، كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار. فكما أن محالاً إذا أنت أردت النظر فى صوغ الخاتم، وفى جودة العمل ورداءته، أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة، أو الذهب الذى وقع فيه ذلك العمل وتلك الصنعة، كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية فى الكلام، أن تنظر فى مجرد معناه، وكما أنا لو فضلنا خاتماً على خاتم، بأن تكون فضة هذا أجود، أو فصه أنفس، لم يكن ذلك تفضيلاً لـه من حيث هو خاتم، كذلك ينبغى إذا فضلنا بيتاً على بيت من أجل معناه، أن لايكون تفضيلاً لـه من حيث هو شعر وكلام.
وهذا قاطع، فاعرفه. " ([18])
[1] ) وفى رواية " أمظع من ذاك على كل حال " .
[2] ) الحيوان / للجاحظ / 2 / 131 ، 132 .
[3] ) البيان والتبيين / 1 / 76 .
[4] ) المصدر نفسه /1/287 .
[5] ) الشعر والشعراء ط / دار المعارف /1966م 1/64 وما بعدها .
[6] ) وفى رواية " بالأركان " .
[7] ) وفى رواية " وشدت على هدب بالمهارى رحلنا ولم ينظر الغادى الذى هو رائح
[8] ) انظر قضايا النقد الأدبى الحديث /د/ محمد السعدى فرهود /30 .
[9] ) وفى رواية " أنفاسه " .
[10] ) للاستزادة راجع / مقدمة شرح ديوان الحماسة .
[11] ) انظر النقد الأدبى أصوله ومناهجه / 126 ، 127 .
[12] ) دلائل الأعجاز / تعليق / محمود محمد شاكر / 49 .
[13] ) سورة هود : 44 .
1)
البيت للصمة بن عبدالله القشيرى ، فى شرح حماسة أبى تمام للتبريزى /3/114 .
و" الليت" : صفحة العنق : " والأخدع " عرق فى العنق .
[16] ) فى ديوانه فانظره ، و " الخرق " الحمق ، وضم الراء قياساً مطرداً .
[17] ) دلائل الأعجاز / 47 ، 48 .
[18] ) دلائل الاعجاز / 255 .