المحاضرة الرابعة ا
المحاضرة الرابعة
سؤال الكتاب المفتوح:
س: اكتبي بعض أسماء مسرحيات أحمد شوقي الشعرية ؟
س: لماذا سمي خليل مطران ــ شاعر الحرية؟
خليل مطران ــ شاعر الحرية 1872ــ 1949م
شاعر الحرية والعروبة، حمل لواء التجديد في الشعر، نيفا ونصف قرن من الزمان، وبلغ الذروة في عالم الشعر والفن والبلاغة والخيال.
ولد سنة 1872م في بعلبك إحدى المدن الشهيرة بلبنان، في أسرة عربية عريقة من أسر بعلبك لأب مسيحي كاثوليكي. ولم تكن أمه «ملكة الصباغ» لبنانية الأصل، بل كانت فلسطينية، هاجر أبوها إلى لبنان فراراً من اضطهاد الحاكم العثماني له في بلده، واتخذها وطناً، وعنها ورث ابنها الشعر إذ كانت أمها شاعرة، أما هي فكانت حصيفة راجحة العقل، وظل يستشعر لها إلى آخر حياته حناناً وحباً، مما يدل على أثرها العميق في تكوين شخصيته، وإذا كان قد ورث عن أمه الشعر، فقد ورث عن آبائه بعض الظلم والوقوف في وجه الجبارين. ولما رأى فيه أبوه مخايل الذكاء اهتم بتعليمه، فأرسله إلى الكلية الشرقية بزحلة، ولما أتم دروسها ألحقه أبوه بالمدرسة البطريركية للروم الكاثوليك في بيروت، وفيها نهل اللغة العربية على أديب عصره إبراهيم اليازجي، وفي هذه المدرسة حذق الفرنسية، على معلم فرنسي، ولم يكد يتم دروسه فيها حتى أظهر موهبة غير عادية في نظم الشعر وصوغه، وكانت نفسه أشرْبت حب الحرية، فأخذ يتغنى بشعر ضد العثمانيين الذين كانوا يحكمون وطنه حكماً جائراً، وكان يخرج مع بعض رفاقه إلى مشارف بيروت، وينشدون نشيد المارسيلييز الفرنسي، ينفسون بما فيه من حب للحرية عن أمانيهم القومية، ولم يحصر الشاعر نزعته التحررية ضمن نطاق الأدب والشعر بل تعداهما إلى السياسة والاجتماع، فعلا صوته ثأئراً على الاستبداد، وداعياً إلى مقاومة الظلم والطغيان، وإلى الوعي القومي، ولكن صوته لم يلق من ناحية الحكام إلا سخطاً فتتبعه عمالهم، وأوقفوه على أنه رجل ثورة واضطراب، فحوطوه منذ ذلك الحين بالحذر والتضييق، وما إن كان صيف 1890م حتى غادر مطران بيروت قاصداً باريس. أقام خليل مطران في باريس ردحاً من الزمن، قلب فيها صفحات تاريخ الأحرار، كما نعم بالنظر في الأدب الرفيع، فراقته الروح الفرنسية، وراقه الأدب الفرنسي ولا سيما أدب «ألفرد دي موسيه» وراقه الأدب الإنجليزي ولا سيما أدب شكسبير وانطلاقه الواسع في عالم الخيال والتحليل والعمل المسرحي، واتصل في باريس برجال الحركة الوطنية التركية من أعضاء حزب «تركيا الفتاة» وهم من حزب تألف في تركيا لمناهضة خليفتها عبد الحميد وسياسته الفاسدة، وخشي على نفسه بعد هذا الاتصال من الرجوع إلى بلاده، ففكر في النزوح إلى أمريكا الجنوبية متأسياً ببعض من يهاجر إليها من مواطنيه، وتعلم لذلك الإسبانية، إلا أنه لم يلبث أن عزم على الهجرة إلى مصر، فنزلها في سنة 1892م، وكانت حينئذ ملجأ الأحرار من البلاد العربية ينزلون بها فراراً من العثمانيين وبطشهم.
ومن هذا التاريخ تبنته مصر، واحتضنته، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في سنة 1949م، وبدأ حياته فيها صحفياً بجريدة الأهرام، ولم يلبث في سنة 1900م أن أنشأ لنفسه مجلة مستقلة هي «المجلة المصرية» ثم حولها يومية وسماها «الجوانب المصرية».
وفي تلك الفترة أصدر مطران كتابه «مرآة الأيام» 1906م في التاريخ العام في جزأين، كما جمع «مراثي الشعراء» لمحمود سامي البارودي وكتب بعض التمثيليات، وبدأ في ترجمة مسرحيات شكسبير، عطيل، وهملت، وماكبث، وتاجر البندقية، ومن أجمل مظاهر نشاطه لذلك العهد «ديوان الخليل» وهو مجموعة ما نظمه حتى عام 1908م.
وفي سنة 1912م، خسر كل ماله في بعض المضاربات، فكان ذلك صدمة كبرى لنفسه وقلبه، وعين على أثر ذلك سكرتيراً معاوناً بالجمعية الزراعية الملكية، فانتظمت شؤونه المادية واستقامت، وأخذ يسهم في المجال الاقتصادي بأبحاث دقيقة، وجعله ذلك يتصل مباشرة بأحداث مصر المختلفة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فكان صوته يدوي في هذه الأحداث.
خصائص شاعرية خليل مطران:
خلق خليل مطران شاعراً وخلق ليكون إنسانياً في شعره، فقد جمع من عمق شعوره، وقوة خياله، ونظرته الحادة الهادئة إلى الأشياء، وإعمال فكره في كل شيء، وميله إلى تتبع الجزئيات ورصانته في التفهم والشعور، وذوقه الذي لا يخطئ، وإدراكه للسحر الموسيقي الخلاب، لقد جمع من كل ذلك ما جعله متفوقاً في شعره، زد على طبيعته الغنية ما كسبه بتحصيله وبانفتاحه على عالم الثقافات المختلفة، وما ناغم نفسه في تلك الثقافات من تحرر وانطلاق، تفهم كيف أن الطبيعة هيأت شاعرنا ليكون بوق التحرر من القيود، وعاملاً فعالاً في توجيه الأدب شطر الأجواء والمعاني الخالدة، وإن لم يستطع التخلص تماماً من الأغراض والأساليب القديمة.
س: ما الفرق بين شاعرية خليل مطران وشاعرية أحمد شوقي ؟
خليل مطران بين القديم والحديث:
يجري في شعر خليل مطران كما يجري في شعر شوقي تياران من القديم العربي والجديد الغربي، وهما إن كانا يتفقان في هذه الظاهرة العامة فإنهما يختلفان بعد ذلك في كل شيء، ذلك لأن خليل مطران لا يسرف على نفسه في الصبّ على القوالب القديمة، فقد كان شوقي وخاصة قبل منفاه يبدو شاعراً تقليدياً، فهو يُعنى أشد ما يُعنى بمعارضة الأقدمين، وهو يصرح بذلك ولا يخفيه كما كان يصنع سلفه البارودي.
أما خليل مطران فلم يلجأ إلى المعارضة والاحتذاء التام على قصائد العباسيين وغيرهم في الوزن والروي، بل كان يكتفي باللفظ الفصيح والمفردات السليمة من كل شائق في العربية ورائق، ومعنى ذلك أنه يحتفظ بشخصيته إزاء القدماء، هو يأخذ منهم المادة ولكنه يدخلها إلى مخيلته ليحملها أفكاره ومعانيه، ومن ثم لا يبدو التقليد واضحاً عنده، بل لقد اندفع إلى التجديد حتى في الصياغة والأسلوب، فلم يعد همه التمسك بأهداب القدماء لا في معانيهم ولا تشبيهاتهم واستعاراتهم، بل همه التعبير عما في نفسه تعبيراً حراً مستقيماً لا تحجبه تراكيب قديمة ولا أصداف خيال قديمة.
ومع ذلك تقرأ فيه فتشعر شعوراً واضحاً بأن صورة الشعر العربي لم تتغير لأنه يحتفظ بالأصول المسبقة مع التحرر منها، فهو يتابع في الظاهر والخارج، أما في الباطن والداخل فإنه يجدد ويخالف ويعبر عما في نفسه تعبيراً كاملاً، يصور فيه معانيه العقلية والنفسية، وشرح ذلك أجمل شرح في مقدمته لديوانه إذ يقول:
«شرعت أنظم الشعر لترضيه نفسي حيث أتخلَّى أو لتربية قومي عند وقوع الحوادث الجُلى، متابعاً عرب الجاهلية في مجاراة الضمير على هواه ومراعاة الوجدان على مشتهاه، موافقاً زماني فيما يقتضيه من الجرأة في الألفاظ والتراكيب، لا أخشى استخدامها أحياناً على غير المألوف من الاستعارات والمطروق من الأساليب، ذلك مع الاحتفاظ جهدي بأصول اللغة وعدم التفريط في شيء منها إلا ما فاتني علمه، ولم أكن مبتكراً فيما صنعت فقد فعل فصحاء العرب قبلي ما لا يقاس إليه فعلي، فإنهم توسعوا في مذاهب البيان توسع الرشد والحزم».
أراد خليل أن يكون ابن عصره وأن يكون في صياغته أصيل العروبة فسلك طريقاً جديدة فيها متانة العبارة، وسلامة الأسلوب، وروعة الأداء والصياغة، وفيها الروح الجديدة، والحياة الجديدة، والحضارة الجديدة.
وقد اهتم الخليل بالصياغة الشعرية اهتماماً شديداً، وعُني بالصنعة والتنميق، وأخذ بأساليب البيان، ولكنه لم يجعل ذلك هدفاً، ولم يكن من عبيد اللفظية والبيانية، بل كان يصدر جمال أدائه عن طبيعته الغنية صدوراً تلقائياً، وكانت صنعته جزءاً من خلق الشعري، فهي تجري جرياً ليناً، وتنسكب انسكاباً جمالياً خافتاً يؤثر ولا يجرح.
وهو بذلك يسير خطوة إلى الأمام في الدرب الذي سلكه البارودي وشوقي، لذلك لا تكون مبالغين إذا وضعناه في مدرسة البعث والإحياء وإن كان يبدو أكثر من أفرادها تحرراً.
على كل حال لم ينفصل مطران عن القديم، بل له عنده ظواهر مختلفة إذ يجري في شعره، ولكنه لا يجري منفرداً، بل يجري معه تيار جديد صب في شعره من الغرب وآدابه، وكان يحس هذا التيار إحساساً عميقاً، وهو الذي دفعه للاحتفاظ بشخصيته فلم يفن في القديم، بل مضى يجدد على ألوان شتى.
وكان من أهم ما اتجه إليه في تجديده أن يعبر تعبيراً مستقيماً عن أحاسيسه غير متكلف لتشبيهات القدماء واستعاراتهم، وبذلك أحل الشعور الدقيق محل الخيال؛ وأعطى لشعره فسحة واسعة من الابتكار في المعاني والأفكار.
وتبع ذلك أن القصيدة عنده أصبحت تعبيراً نفسياً متكاملاً، وبعبارة أخرى أصبحت عملاً ذاتياً تاماً، فتجلت فيها الوحدة الفنية، وأصبحت في مجموعها تعالج موضوعاً واحداً، إذ لم يعد يسلك إلى موضوعاته الأدبية مقدمات القدماء، ولم يعد ينهج نهجهم في موضوعات مختلفة في القصيدة الواحدة، بل القصيدة تقف عند تجربة نفسية خاصة، والشاعر يصوغها في أبيات متعاقبة كل بيت فيها جزء في التجربة، فلا نبو ولا شذوذ ولا تفكك بين الأبيات، وإنما الالتحام والالتساق، إذ هي خيوط في نسيج واحد أحكمت صياغته إحكاماً دقيقاً.
خليل مطران شاعر الوجدان:
أول ما يطالعك في شعر مطران في شعر مطران هو وجدانه، ذلك الوجدان الذي يغمره جو من اللطف والحنان، وينساب انسياب الماء الصافي في مجرى الهدوء والتوازن، بعيداً عن كل نشوز، وخالياً من كل صرخة مدوية، أو صخب مزعج، وهو نفس الشاعر المخلوقة من صفاء ورقة، وهو قلب الخليل الذي لا يعرف الغش والمواربة، هو الحب في تنفسه المعطر، وهو العتاب الذي يذوب فيه الكلام، وهو الرسالة التي تسيرها الصبابة المؤثرة، وهو الألم الذي ينصهر في بوتقته الجسم، وهو الدمعة التي تسيل دماً، وهو الطبيعة كلها تتناجى في روح الشاعر من زهرة إلى شمس تتوارى، إلى شراع خفاق، وإلى ظلام يبسم له القمر إلى عصفورة مغتربة تطلق الإرنان، إلى غير ذلك مما عانقته نفس الشاعر وانفتحت له حناياه. عصر الألم نفس مطران وكانت أسبابه شتى فمن ظلم وطغيان يُضيقان الخناق على أحرار بلاده إلى الابتعاد عن الأهل والوطن إلى العيش في بيئة لا تفهم تحرره ولا تكاد تفهم شعره، إلى خسارات جسيمة نالت ماله وأحباءه وأصدقاءه، إلى أمراض ومصائب مختلفة حلت به إلى شعور بشعور الإنسانية المتألمة، إلى حب يلهب صدره ولا يطلق له العنان، إلى غير ذلك مما جعل مطران هدفاً للحزن والألم، وما أسال قلبه شعراً نابضاً بكل عاطفة مؤثرة واختلاجه مفجعة.
وهذا الألم يتجلى أكثر ما يتجلى في عدة قصائد منها: «المساء» و«موت عزيزين»، «الأسد الباكي» أما القصيدة الأولى فهي من ثمار المرض الممضّ، وأما الثانية فهي من ثمار الخسارة القلبية، وأما الثالثة فهي من ثمار الخسارة المادية.
ومطران في القصائد الثلاث يتحدث عن نفسه وهو في أوج الحزن والألم. يقول في قصيدة «المساء» التي يستهلها بقوله:
داء ألم
فخلت فيه شفائي |
|
من صبوتي فتضاعفت
برحائي |
ويذكر لنا في مفتتحها أنه كان مريضاً مرضين:مرض الحب والقلب، ومرض الجسد، وأشار عليه أصدقاؤه أن يعزى نفسه بالذهاب إلى الإسكندرية، وهناك عاوده المرضان، فبث شكواه ومزج الطبيعة معه في هذه الشكوى، فإذا كل ما فيها صورة من جروحه:
متفرد
بصبابتي، متفرد |
|
بكآبتي
متفرد بعنائي |
ثاو على
صخر أصم وليت لي |
|
قلباً كهذي
الصخرة الصماء |
ينتباها
موج كموج مكارهي |
|
ويفتها
كالسقم في أعضائي |
والبحر
خفاق الجوانب ضائق |
|
كمداً
كصدري ساعة الإمساء |
تغشى
البرية كدرة وكأنها |
|
صعدت إلى
عيني من أحشائي |
ويناجي صاحبته في وسط هذه الهموم التي تدافعت على نفسه وعلى كل ما في الطبيعة من حوله، فيقول:
ولقد ذكرتك والنهار مودع |
|
والقلب بين مهابة ورجاء |
وخواطري تبدو تجاه نواظري |
|
كلمي كدامية السحاب إزائي |
والدمع من جفني يسيل مشعشعاً |
|
بسنا الشعاع الغارب المترائي |
والشمس في شفق يسيل نضارهُ |
|
فوق العقيق على ذرى سوداء |
مرت خلال غمامتين تحدراً |
|
وتقطرت كالدمعة الحمراء |
فكأن آخر دمعة للكون قد |
|
مزجت بآخر أدمعي لرثائي |
وهي قصيدة رائعة، وبها كل طوابع الجديد عند خليل مطران، فهي تجربة شعورية كاملة، صب فيها نفسه المليئة بالأوجاع والآلام، ولم يصبها فقد، بل صب أيضاً عناصر الطبيعة من حوله بعد أن أودعها نفس القروح والأوصاب. وتحتل الطبيعة في شعر مطران حيزاً واضحاً، ومن أجمل قصائده: «وردة ماتت» و «النوارة أو زهرة المارغريت» و «بنفسجة في عُرْوة» و«نرجسة» و «من غريب إلى عصفورة مغتربة» وهو فيها جميعاً يبتكر في المعاني، فيحلل الأحاسيس، ويأتي بأخيلة جديدة، ويطوف بك في خواطر وخلجات إنسانية حزينة.
خليل مطران شاعر الدراما وشاعر الملحمة:
أدخل مطران الدراما والملحمة إلى الأدب العربي إدخالاً فذاً، فقد عرف العرب الشعر القصصي والشعر الحماسي، ونظموا فيها، للمفاخرة أو للمدح أو للغزل، ولم يقصدوا إلى القصص في ذاته ولم يرو القصص فناً مستقلاً ليس له أي ارتباط بحياة الشاعر أو شخصيته.
وقد عالج مطران الدراما من غير أن يتقيد بنظام المسرح، وإن تقيد بنظام السرد، ونظام السياق، ونظام الحركة الحياتية في ما يقال وفي ما يفعل، وقد جمع الشاعر في شعره هذا خصائص فن الدراما من حركة وصراع وتصوير للشخصيات وكشف عن دوافع النفوس وخفاياها، وأشهر قصائده في هذا الباب «الجنين الشهيد» التي صور فيها حزن فتاة أغواها شاب ثم رماها في الطريق.. وقصيدة «في تشييع جنازة» وهي جنازة عاشق انتحر يأساً من عشقه، ومثلها «الطفلان» وهي قصة طفلة ثرية عشقت طفلاً فقيراً. وظلت تذكره إلى الممات، وقصيدة «فنجان قهوة» تحكي واقعة جرت في قصر ملك مستبد، وملخصها أن ابنة الملك علقت أحد حراس القصر، وكان جندياً جميل المنظر، عالي المكانة، لمحته يوماً في موكب والداها فأغرمت به غراماً ملك عليها قلبها وجميع قواها، وراحت تطلب لقاءه، فتوسلت لذلك ظئرها العجوز التي حاولت أن تصدها عن المغامرة فلم تُفلح، ولم تجد بُداً من نقل رسالة من الأميرة إليه تطلب لقاءه ليلاً، وكان ذلك اللقاء صفعة للفتاة، وفنجان قهوة مزجت بسم للحارس المتهور، وكانت المأساة من أشد المآسي، وكان المشهد مشهداً شكسبيرياً مُريعاً.
يفتتح الشاعر قصيدته بعرض لمسرح الحادث، غابة بجوار القصر الملكي وليل يلف الوجود، وهدوء يثقله قلق الملك الظالم، وشبح ضئيل هائم يسعى إلى الحبيب كما يسري الوهم في مخيلة الواهم، وملك ثعلب أقلقته أشباح قتلاه فكان يقضي الليالي ساهراً، يقلب النظر هنا وهناك «خوفاً من الأحياء والأموات» إنه عرض رهيب يجعلنا منذ البداية في قلق مرتقباً ما سيكون من أمر هذه الفتاة المسكينة، التي تسعى ولا تدري أن أباها المستبد في طريق سعيها، فهل تلتقي به، وهل يكون لقاؤها بحبيبها في عين استبداده وفي حد سيفه؟
في المشهد الأول ينقلنا الشاعر إلى قصر الملك، ويوقفنا على حقيقة ذلك الرجل «عابد الشهوات واللذات» ويخبرنا كيف لمحت الفتاة الحارس وأحبته، وكيف عالجها الغرام معالجة حيرة وسهر وقلق.
وفي المشهد الثاني يجعلنا الشاعر أمام الحوار الذي دار بين الفتاة ومربيتها. إنه حوار مسرحي لا ينقصه غير المسرح، حوار تحليلي عميق، ينطلق في أعماق النفس البشرية، وبين خوالجها، وآثارها على حياة الإنسان وطاقاته الجسدية والفكرية.
والمشهد الثالث مشهد العجوز تنقل رسالة الفتاة إلى حبيبها بعد تردد وجدل، ويُضرب موعد اللقاء، وتقف النفوس موقف الرهبة والترقب، وتتأزم الحال تأزماً شديداً. اللقاء في الغابة وتحت ستار الليل، والأب الفتاك في الغابة وتحت ستار الليل.
والمشهد الرابع مشهد اللقاء، فتنطلق الفتاة في غمرة من الخوف والأمل:
تختال في أثوابها السوداء |
|
عن قطعة تمشي من الظلماء |
طور تضل وتارة تتعثر |
|
وفؤادها متفزع متطير |
وتكادُ إن لمحتْ إشارة نور |
|
تَنْحَلُّ مثل غياهب الديجور |
لكنَّ ذاك الخوف لم يتجرد |
|
من لذة الشيء الذي لم يُعهد |
ورجاء نُورٍ مقبلٍ وأمان |
|
وسعادة يأتينها في آن |
وعندما بلغت المكان سمعت وقع خطى بالقرب منها، وما إن بدا لها خيال حبيبها حتى انهارت وسقطت على الأرض صريعة الشوق والاضطراب والغرام:
فَتح الغرامُ لها بتلك النظرة |
|
باب النعيم السـرمدي فمرت |
وهنا نصل إلى المشهد الخامس والأخير، وقد أبصر الملك السهران ما قد جرى في «هضبة البستان» فاستقدم الحارس وأخذ يلاطفه ملاطفة خبث ولؤم ويقول:
ما هكذا يا أصدق الأعوان |
|
شأن الشجاع مصاهر السلطان |
سبق الحِمامُ إلى العروس فنالها |
|
وأخذت منها ظلها وخيالها |
لكنْ رأيتك سامي الأغراض |
|
كلفا بصون وطهارة الأعراض |
وجزاء هذي الخلة الإكرام |
|
فاجلس وحادثني ولا استعظام |
وكان الإكرام فنجاناً من القهوة الممزوجة بالسم القاتل!....وكان الشاعر في هذه القصة من أمهر القصاصين.
أما بالنسبة للملحمة([1]) عند مطران، فقد اتسمت بعبقرية خلاقة تغترف من حضارة العصر، وآمال الحياة الكريمة، والجدير بالذكر أن مطران قد استمد أكثر قصصه من التاريخ، كما استمد بعضه من واقع الحياة في عصره أو من موحيات ذلك الواقع، ولا تلفتنا في هذه القصائد النزعة القصصية أو الدرامية وحدها، بل تلفتنا أيضاً نزعة رمزية فيها، فقد كتبها ليصور حياة الشعوب العربية المظلومة التي يظلمها المستعمرون وحكامها الجائرون، فهو يعرض للطغاة وغدرهم بالشعوب، ونراه يدعو دعوة حارة إلى الحرية والكرامة والقومية، ويستثير الحمية في الأمم.
وإن من طالع قصائده الملحمية «مقتل بزر جمهر» و«فتاة الجبل الأسود» و«نيرون» وغيرها لمس المقدرة العجيبة التي كان يملكها خليل مطران في التصور والقصص، ونقل الأحداث بطريقة مثيرة، وخلق المواقف التي تهيج العاطفة، وتملأ الصدور أنفةً وعنفواناً.
وأصبحت قصيدة «نيرون» مثلاً ملحمة قصص، وملحمة فنون وملحمة سحر بعد إذ كان نيرون في التاريخ نفسية غرور، ونفسية مرض، أحرق روما إرضاءً لنهم، واستهتاراً بشعب.
وقد امتدت إلى أكثر من ثلاثمائة بيت:
من يَلُمْ «نيرون» إني لائم |
|
أمة لو كَهَرَتْهُ ارتد كهرا([2]) |
أمة لو ناهضته ساعة |
|
لانتهى عنها وشيكاً واثبجرا |
كل قوم خالفو «نيرونهم» |
|
قيصر قيل له أم قيل كسـرى |
وملحمة «فتاة الجبل الأسود» تحكي فتاة من الجبل الأسود ثارت لوطنها وقومها في وجه الأتراك الذين سيطروا على ذلك الوطن واستعبدوا أهله، فتزينت بزي الرجال المحاربين ونازلت الأعداء في شجاعة نادرة، وعندما وقعت أسيرة في يدهم نزعت الملابس المستعارة، فظهرت فتاة رائعة الجمال، تغلبت بجمالها وعنفوانها على غلاظة أولئك الأعداء، وانتزعت من صدر أميرهم مثل هذا القول:
فما بلدُ تفتديه النساء |
|
كهذا الفداء بمستعبد |
ولوطنه الأول «لبنان» شعر كثير في دواوينه يدل على شدة تعلقه به، وكان كثيراً ما يزوره، وأروع قصائده منه «قلعة بعلبك» وهو يستهلها بذكرياته السعيدة في الطفولة والشباب، ثم يصف آثارها الفينيقية وصفاً بارعاً.
التجديد في رأي مطران:
كان مطران يريد التجديد في الشعر منذ نعومة أظافره، ولقي دونه ما لقي من عنت، وبذل فيه ما بذل من جهد، عن عقيدة راسخة في نفسه، وكان يحلم بوقوع معجزة أدبية خالدة على يديه، وهي تحرر الشعر والتجديد فيه والنهوض به.. يقول مطران من كلمة عن مذهبه في التجديد: اضطررت مراعاة للأحوال التي حفت بها نشأتي ألا أفاجئ الناس بكل ما كان يجيش بخاطري، وخاصة الصورة التي كنت أوثرها للتعبير لو كنت طليقاً، فجاريت العتيق في الصورة بقدر ما وسعه جهدي وتحررت منه ـ وأنا في الظاهر أتابعه ـ بنوع خاص في الوصف والتصوير ومتابعة العرض، وبهذه الطريقة مهدت للجديد قبولاً في دوائر كانت ضيقة، ثم أخذت تتسع إلى ما وراء ظني.
ويقول: «أريد التجديد أكثر مما أردته في كل آن، أريده ولا أكيفه، ولكني أشم له بوارق تدل على ملامحه الكبرى من وراء مجهودات طائفة تتكاثر يوماً فيوماً، ففي كثير مما يضع هؤلاء الموضعون في طليعة النهضة أجد التفكير بمعناه البعيد الغور الثقيل التكاليف الذي هو منبع الابتكار، أجد ذلك التفكير يحل تدريجياً محل الخيال المشتت الذاهب في تشتيت الذهن ضروب المذاهب، الخيال الذي لا يصدر عن الحقيقة غالباً، ولا يرجع إليها إلا بخيوط دقيقة أحياناً من أطرافه النائية، أتمنى كل التمني أن تصبح لغتنا في شعرها ونثرها صالحة لضروب التعبير السليم قاطبة، وما أجدرها أن تبقى أم اللغات. أريد أن أستطيع تصوير كل دقيق وجليل من معاني النفس تعميقاً أو تخصيصاً، أريد أن أستطيع الكتابة إلى أخي في أي بلد عربي، أصف له بلساني العربي أي أداة نسيجاً أو مادة بسيطة أو مركبة من أي جنس ومن أي لون ومن أي مزيج من الأجناس والألوان وأجزائها، فيفهمه بعينه وفي الشعر خصوصاً أريد أن أخرج من الابتذال وأن أغني عن طرق ما طرق ألف مرة لأعيش به عيشي في زماني، وأباري أو أجاري أسمى ما تضعه قرائح أعاظم الأدباء من الأجانب الذين أصبحت على اتصال روحي وذهني دائم ـ بل غير منقطع دقيقة واحدة ـ بهم. أنا أريد أن تكون لغتي شريكتي رؤية وسماعاً وشعوراً تلقاء كل ما يجد، وأن تناوله وأن تعينني على الإفصاح عنه».
كان مطران يريد أن يكون شعرنا مرآة صادقة لعصرنا في مختلف أنواع رقيه، ويريد أن يتغير شعرنا مع بقائه شرقياً ومع بقائه عربياً، وهذا ليس بإعجاز، والتجديد كائنا ما كان لا يحيط بالمدى الواسع الذي يتشعب إليه التجديد في رأيه.
وكان مطران صفحة من صفحات التجديد في الشعر الحديث، ومع أنه كان عمودي البناء الشعري من حيث الشكل، فقد كان رومانسي الموضوع والصور الشعرية.
ودعوته المبكرة إلى التجديد خطت بالشعر خطوات واسعة، فشمل التجديد كل جوانب القصيدة الفنية فصار تجديداً في الألفاظ والأساليب والمعاني والأخيلة وتجديداً في القافية مع محافظته على قيود الوزن.