المحاضرة الرابعة ا
دولة بني الأحمر ([1])
بعد زوال دولة الموحدين من الأندلس، استطاع محمد بن هود «صاحب بطليوس» أن يبسط سلطانه على كثير من المدن الأندلسية كمرسية وقرطبة وإشبيلية، وكان يرى في مقاتلة أعدائه النصارى عاملاً لدعم قوته وسلطانه، ولكنه كان أضعف من أن يردهم عن مملكته ويحرس استقلالها.
وفي هذا الوقت الذي كانت فيه الأندلس ترزخ تحت عبء الفتنة والضعف كان في «أرَجُونة» من حصون قرطبة، قبيلة عربية من بني الأحمر([2]) عميدها محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر سليل بني نصر، والملقب بلقب الغالب بالله فقام بقتال النصارى، ولكن روح التنافس والضعف لم تكن تسمح للمسلمين بالتفوق، واستطاع الإفرنج أن يستولوا على المدائن والحصون حتى بلغوا قرطبة وحاصروها ستة أشهر ثم سقطت في أيديهم، سنة 633هـ/1235م، وكان سقوطها كارثة عظيمة بعد أن لبثت نحو خمسمائة وعشرين سنة عاصمة مملكة إسبانيا المسلمة، وقتل ابن هود في المرية ولم يبق للمسلمين غير إقطاعة الأندلس وعاصمتها غرناطة يتولاها ابن الأحمر أمير المسلمين من قِبل فرديناند الثالث، وهذه الدولة الصغيرة استطاعت أن تقف في وجه التوسع الإفرنجي مدة طالت نحو قرنين ونصف. ويعود ذلك إلى أن الملوك الإسبانيين كانوا يشغلون عنها بمحاربة بعضهم بعضاً، وأنها كانت تستنجد سلاطين المغرب في ضنكها فيجيزون إليها جيوشهم لدفع المسيحيين عن أرباضها.
وقد عرفت غرناطة في حكم بني الأحمر أزهى عصورها وفيها شيدت قصور الحمراء التي لا تزال ماثلة إلى اليوم، وامتاز عصرهم بتعزيز الآداب، فنبغ في دولتهم جملة من الشعراء والكتاب ، وعُرف جماعة من سلاطينهم بالشعر والنثر كأبي عبد الله محمد بن محمد المخلوع ثالث ملوكهم.
ضعف أبناء الأسرة الحاكمة لكثرة الخلافات والثورات والخصومات، ورضوا بأن يقدموا الجزية لفرديناند ملك أراجون وزوجته إيزابيلا ملكة قشتالة، بعد أن تعاونا على القضاء على إمارة غرناطة، فقدما بقوات ضخمة استواليا بها على بعض المدن الصغرى، ثم حاصرا غرناطة آخر معقل للإسلام في الأندلس، واستسلم أبو عبد الله الصغير وسلم مفاتيح الحمراء لفرديناند سنة 897هـ بعد أن عقد معاهدة صلح بينه وبين الأسبانيين الذين لم يلتزموا شروطها التي نصت على أن يحتفظ المسلمون في غرناطة والأندلس بكامل حقوقهم وبمساجدهم وإقامة شعائرهم الدينية. ولكن الأسبان ضربوا بكل ذلك عرض الحائط، ومضوا يضطهدون المسلمين المتبقين أسوأ اضطهاد فأخذوهم بالقتل والنهب والتشريد والسجن والتعذيب وعقدوا لهم محاكم التفتيش المشهورة. إلى أن أصدر الملك فيليب الرابع سنة 1117هـ / 1609م أمراً بخروجهم من إسبانيا. وبذلك انتهت دولة المسلمين في الأندلس، وكان نهاية الأندلس عام 897هـ - 1492م. وبخروج العرب من هذه البلاد انطفأ مصباح مضيء من مصابيح الإسلام التي بعثت الحياة والنهضة في أوربا نحو ثمانية قرون.
ويروى أن أبا عبد الله قد أُعطى ضيعة يقيم فيها، فخرج وأهله من قصر الحمراء حزيناً منخلع القلب، ومشى مطرقا إلى منفاه، حتى إذا انعطف به الطريق، وكادت الحمراء تتوارى عنه، أرسل إليها النظرة الأخيرة، وهطلت عيناه بالدموع، فقالت له أمه عائشة :
ابك
مثل النساء ملكاً مضاعاً |
|
لم
تحافظ عليه مثل الرجال |
ولا يزال هذا الموضع يسمى إلى اليوم زفرة المغربي. وأقام أبو عبد الله في ضيعته الجديدة مدة قصيرة، ثم عبر البحر إلى المغرب، ونزل بفاس واتخذها مقراً له حتى مات عام 940هـ.
وهكذا زال ملك العرب من بلاد تركوا فيها مجدهم وآثارهم وحضارتهم وجلا آخر عربي تحت تأثير اضطهاد الإسبانيين الذين لم يفوا بعهودهم وأقفر الفردوس المفقود.
وصارَ
ما كانَ من مُلْكٍ ومن مَلِكٍ |
|
كما
حَكَى عن خيالِ الطَّيفِ وَسْنانُ |
ولا يستطيع قلم مهما كان مداده أن يصف معاملة مسيحي اسبانيا للمسلمين بعد أن طردوهم من البلاد ولا الفظائع التي ذكر صالح الرندي القليل منها دون الكثير في قصيدته النونية التي يقول فيها :
فجائع
الدهر أنواع منوعة |
|
وللزمان
مسرات وأحزان |
وللحوادث
سلوان يسهلها |
|
وما
لما حل بالإسلام سلوان |
ومنها :
يا
غافلاً وله في الدهر موعظة |
|
إن
كنت في سنة فالدهر يقظان |
وماشيا
مرحا يلهيه موطنه |
|
أبعد
حمص تغر المرء أوطان |
تلك
المصيبة أنست ما تقدمها |
|
ومالها
من طوال الدهر نسيان |
والقصيدة طويلة وهي تقرر حقائق تاريخية ووقائع ثابتة.
الخصائص المميزة لهذه العصور :-
تتسم هذه العصور بسمات خاصة : فالدور الأموي الذي يشمل عهد الولاة وعهد الإمارة وعهد الخلافة كان دور السيادة العربية. فيه نزح إلى الجزيرة الإسبانية أكثر من جاء إليها من العرب ولاسيما أهل الشام وتفرقوا في المدن الأندلسية. وقد نشط العمران في هذا الدور وتوضّحت في آخره أسس النهضة الأدبية والغنائية.
أما عصر ملوك الطوائف فقد تميز بازدهار الحركة الأدبية وكثرة الشعراء والشاعرات وشاع فن الموشح بعد أن ظهرت طلائعه في مطلع هذا العصر.
واتسم عصر المرابطين بالتعصب الديني وبتسلط البرابرة وضعف الحركة الأدبية وظهور الزجل، هذا الشعر العامي الشعبي الذي لاقى رواجاً كبيراً في هذا العهد وكاد ينافس الشعر التقليدي.
أما عصر الموحدين فقد تميز بالحماسة الدينية، ولكنها لم تقيد الفلاسفة فنمت الحركة الفلسفية نمواً دعا إليه التأمل الديني من ناحية والتفكير الفلسفي الحر من ناحية أخرى.
أما عصر بني الأحمر والجلاء فقد عُرف بحياة الرخاء وحياة القلق، رخاء داخلي وقلق يبثه في النفوس عدو متربص شعر بضعف الفاتحين واستسلامهم فأخذ ينزل بهم النكبة تلو النكبة، وفي هذه الغمرة أخذت النفوس الحساسة تنشر شعر الأنين حيناً وتجأر بشعر الاستنجاد والصريخ حيناً آخر. وقد نضجت في هذا العصر تلك الفنون الأدبية التي استحدثت في الأندلس من موشحات وأزجال وساعدت أوزانها وتقاسيمها على أن تجد في اللحن والغناء طريق ذيوعها وانتشارها بين الناس بعد أن وجد لها الغناء نفسه طريق نشأتها وسبيل بزوغها.
وقد شهد هذا العصر أعظم محنة نزلت بالعرب على أيدي ملوك الفرنجة وزعمائهم الدينيين، وتجلت في ألوان من الاضطهاد الديني والقسوة والتعذيب الذي لم ينته إلا بعد أن تم الجلاء الأخير، وكانت دواوين التفتيش التي أنشأها الإفرنج لمحو كل أثر للإسلام والعرب، لطخه عارٍ في تاريخ المدنية. وقد أحرقت تحت تأثير هذه الحملة التعصبية الكتب العربية الكثيرة وأبيدت روائع الفكر الإسلامي وأتلفت آثار العبقريات، ولولا أن هذه العبقريات العربية كانت أقوى من يد الإنسان الغاشم لما كنت ترى اليوم ما يشهد على ما أشاده الفكر العربي في بلاد الأندلس من مجد وما مدّ به الحضارة الأوربية والإنسانية من روح أصيل.
وقد شهدت بلاد الأندلس طوال هذه العصور مختلف المعارك وضروب المحن واللهو والاضطهاد والتساهل وجرى فيها كثير من الاختلاط بين الأجناس والأقوام .
فالعرب الذين تحدّروا إلى الأندلس، جاءوها بطوائفهم الكثيرة وقبائلهم المختلفة ومواليهم الذين ينتمون إلى شتى الجنسيات في الشرق، والبربر إنما نزلوا بها مع الفاتحين، وامتزجوا جميعاً بسكان الجزيرة الأندلسية وما يجاورها من قوط وأسبان وصقالبة وغيرهم من شعوب الفرنجة، ونشأ من هذا الاختلاط أجيال جديدة مولَّدة([3]).
وسنرى تفصيل هذه العناصر التي كوّنت شخصية الأندلسي.
!!!
([1]) تنتمي هذه الأسرة إلى حفيد الصحابي الجليل سعد بن عبادة سيد الخزرج لعهد الرسول r وأول ملوكهم هو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر بن قيس الخزرجي الأنصاري من أبناء الأنصار، وقد ملك غرناطة في رمضان 635هـ إلى أن توفي عام 671هـ.
([2]) خلف ابن الأحمر ابنه أبو عبد الله (671هـ - 701هـ) ثم ابنه أبو عبد الله محمد (701هـ - 708هـ) وقد خلع من الإمارة في يوم الفطر عام 708هـ وتوفي في شوال عام 711هـ، وخلفه أخوه نصر الذي خلع أخاه 711هـ - 713هـ، وخلفه ابن عم أبيه، وهو السلطان أبو الوليد إسماعيل بن فرج بن إسماعيل (713هـ - 725هـ) أما نصر المخلوع فقد مات في مدينة وادي آش عام 722هـ وخلف إسماعيل ابنه محمد (725هـ - 734هـ) وقتل بظاهر جبل الفتح بأيدي جنده من المغاربة، فتولى الحكم بعده أخوه أبو الحجاج يوسف (734هـ - 755هـ) حيث اغتاله أحد الرعية فخلف ابنه محمد (755هـ - 760هـ) ثم ثار عليه أخوه إسماعيل وتولى الحكم بعده (760هـ - 761هـ) ولكن ابن عم له قتله واستولى على الملك، ومن ملوك بني الأحمر الذي تولى لهما الوزارة لسان الدين بن الخطيب أبو الحجاج يوسف، وابنه محمد، وآخر ملوك بني الأحمر هو أبو عبد الله.