المحاضرة الرابعة ع
القاضــى الجرجانى وكتابه الوساطة:
ْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْ
القاضى الجرجانى :" هو أبو الحسن على بن عبد العزيز الجرجانى المشهور بالقاضى. ولد في جرجان سنة 290 هـ ونشأ بها. وكانت الدولة الإسلامية قد بلغت نضجها العلمى، وتعددت الحواضر التى تزخز بالعلم والعلماء، وأصبحت الرحلة وسيلة للتعلم والدرس، فجاب الأرض وزار العراق والشام والحجاز، ولقى مشايخ وقته وعلماء عصره واقتبس العلوم والأداب وصار فيها علما وإماما. اشتهر بالفقه.. وفسر القرآن الكريم...ثم هو شاعر متقن وكاتب مترسل وناقد بصير " (*)
اتصل بالصاحب بن عباد وصار من أقرب أهل مجلسه إلى نفسه، وعرف له الصاحب فضله فولاه القضاء بمدينة الرى. وكان القاضى الجرجانى غزير العلم، شديد الاعتداد بنفسه، مترفعا عن الدنايا لا ينافق ولا يرائى ولا يريق ماء وجه من أجل متاع الدنيا، ومن شعره
ـــــــــــــــــــــــــــ
(*) مقدمة الوساطة / د.
الذى يعبر عن ذلك أبياته الذائعة التى يقول فيها :
يقولون لى فيك انقباض وإنما
رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
وما زلت منحازا بعرضى جانبا
من الذم أعتد الصيانة مغنما
اذا قيل هذا مشرب قلت قد أرى
ولكن نفس الحر تحتمل الظما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما
بــدا مطمع صيرته لى سلمــا
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتى
لأَخـدُم من لاقيت لكنْ لأُخـدَمـا
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة
إذًا فابتياع الجهل قد كان أحزمـا
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
ولو عظموه في النفوس تعظما
كتاب الوساطة (عرض موجز):
ْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْ
قـدم الجرجاني لكتابه الوساطة بجملة مباحث عرض فيها رأيه
في قضايا تتصل بتذوق الشعر، والتمييز بين جيـده ورديئه، وطرائق العرب فيه، وما غلط فيه الشعراء وتعسفوا، واحتجاج النحاة لهم، واعتذار العلماء عن بعض أغاليطهم، كما تحدث عن إكبار العلماء للقـدماء، وعن الفروق بين طرائق القدماء وطرائق المحدثين في التعبير، وعن أثر التحضر على الشعر، وعن الصنعة وما تؤدي إليه من تكلف وعن المطبوع والمصنوع من الشعر، وعن البديع...، وهو بهذا كله يمهد لدراسته عن شعر المتنبي والتوسط بينه وبين عائبيه، والاعتذار عن أخطائه.
منهج الجرجاني في الوساطة:
ْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْ
نستطيع أن نوجز منهج القاضي عبد العزيز الجرجاني في النقـد كما يقول الـدكتور منـدور في جملة واحدة هي أنه " رجـل يقيس الأشباه والنظائر "، وعلى هذا الأساس بنى معظم وساطته بين المتني وخصومه. فهو يبدأ بتعزيز الحقيقة التي لمسها بنفسه من تعصب الناس للمتنبي، أو عليه عن هوى، ويلاحظ أن خصوم الشاعر قد عابوه مثلا بالخطأ. فيحاول أن ينصف الشاعر فلا يناقش ما خطأوه فيه. بل يقيسه بأشباهه ونظائره عند الشعراء المتقدمين. وعنده أنهم لم يسلموا هم أيضا من الخطأ، فيقول: " ودونك هذه الدواوين الجاهلية
والإسلامية فانظر هل تجد فيها قصيدة تسلم من بيت أو أكثر لا يمكن لعائب القدح فيه، إما في لفظه ونظمه، أو ترتيبه وتقسيمه، أو معناه أو إعرابه ؟ ولولا أن أهل الجاهلية جـدوا بالتقدم، واعتقد فيهم أنهم القدوة والأعلام والحجة لوجـدت كثيرا من أشعارهم معيبة مسترذلة، ومردودة منفية، ولكن هذا الظن الجميل، والاعتقاد الحسن ستر عليهم ونفى الظنة عنهم، فذهبت الخواطر في الذب عنهم كل مذهب، وقامت بالاحتجاج لهم كل مقام، ثـم يورد أمثلة لما يعتقده خطأ عند القدماء أغلبه ينحصر في التسكين حيث يجب التحريك، وفقا لقواعـد النحو بعد أن استقرت وقنن لها...، كما أن من بينها ما يراه خطأ في إصابة صفات الأشياء أوإحالة وفساد معنى، وهو يرى أن النحويين قـد تكلفوا من الاحتجاج لهم إذا أمكن، تارة بطب التخفيف عند توالي الحركات، ومرة بالاتباع والمجاورة، وما شاكل ذلك من المعاذير المتمحلة وتغيير الرواية إذا ضاقت الحجة، وتبينتَ ما راموه في ذلك من المرامي البعيدة، وارتكبوا لأجله من المراكب الصعبة، التي يشهـد القلب أن المحرك لها والباعث عليها شـدة إعظام المتقـدم والكلف بنصرة ما سبق اليه الاعتقاد وألفته النفس " (*)
ــــــــــــــــــــــــــــ
(*) النقد المنهجي 256 وما بعدها، والوساطة من 4/10.
ويمكننا أن نلخص في هذه العجالة أهم ما أضافه القاضي الجرجاني في كتابه الوساطة إلى الفكر النقـدي في القرن الرابع الهجري في النقاط التالية:
1- أن الشعر الجيـد مـا صـدر عن طبع ورواية وذكاء ودربة.
2- أن اختلاف الشعر رقة وصلابة يعود إلى طبع الشاعر ودماثة تكوينه وهو مما تؤثر فيه البيئة والمذهب الشعري.
3- يعتد الجرجاني في النقـد بالذوق المثقف الذي يعتمد على إقامة الحجة، ومقارعة الدليل بالدليل، ولا يـسـلم بالنقد الذاتي.
* * *