المحاضرة الرابعة ن
الرومانتيكية Le cole romontique
توطئة:
إطلاق " الرومانتيكية " على هذا المذهب الأدبى فيه تسامح كبير، لأنه لا يدل دلالة قريبة أو بعيدة على المفهوم الذى سنوضحه، فالكلمة romontique مأخوذة من romon التى كانت تدل قديماً فى العصور الوسطى على قصص المخاطرة والمغامرات شعراً أو نثراً، فى حين أن المذهب الجديد يدل على الحرية الأدبية والانطلاق الشعورى، وظهور المشاعر الفردية ظهوراً قوياً فى الإنتاج الفنى، ولم يستسغ " فيكتور هيجو" – وهو شيخ المذهب – تلك التسمية الغريبة فقد وصفها " بأنها خالية من المعنى "، ثم يعود هيجو فيعرفها تعريفاً يودع فيه كل خصائصها واتجاهاتها فيقول: " إنها مبادئ الثورة فى فرنسا سارية فى الأدب، لأنها تحقق الحرية فى الإلهام، وتؤكد الإخاء والمساعدة فى جميع الفنون ".
فالرومانتيكية ثورة على هيمنة العقل وسلطانه فى النزعة الكلاسيكية وعلى مشاعر النفس والوجدان الفردى، وإطلاق عنان العواطف دون قيد حتى تتخطى حواجز العقل المنيعة، لأن العقل مهمت بلغت قوته يعجز عن ارتياد المناطق التى ينفذ إليها القلب، وتحلق فيها المشاعر والعواطف لانسانية ومن ثم نجد الشاعر الرقيق الفريددى موسسه يهيب بالأدباء الفرنسيين أن: " يستوحوا فى إنتاجهم القلوب فإن فيها الموهبة والرحمة والعذاب والحب، فمن القلب تتدفق أغانى الحياة حين تمسها عصا موسى ".
بدايات المذهب الرومانتيكى:
كان القرن الثامن عشر عصر تحول فى الأفكار على أوسع نطاق، فقد سادت أوربا موجات عنيفة فى نطاق الفلسفة والسياسة ونظم المجتمعات، واتجهت عقول المفكرين إلى آفاق جديدة فى فهم الحياة والفن، ممل زعزع الثقة بالاتجاه الكلاسيكى الذى ساد القرن السابع عشر، وسيطر على أقلام الأدباء والمفكرين حينذاك، وأصبح من نتاج هذا أن ضعفت الثقة بالمفاهيم الكلاسيكية أمام الموجات الهادرة فى ميادين الفكر والشعور.
وإذا كان القرن السابع عشر قد اتجه فى إنتاجه إلى احترام العقل، وفرض الاحتذاء، وتقليد الأقدمين، فإن القرن الذى يليه هيأ المشاعر والأفكار لتنطلق حرة كما تشاء وقدم لها الوسائل التى تحطم بها قيودها الثقيلة بما وفر لها من بحوث وآراء فى فهم الفلسفة وطبيعة المجتمع، ومن ثم غلب على أدب القرن الثامن عشر روح الحقيقة الفلسفية التى غيرت كل شئ حين جذبت الفكر إلى آفاق لا تتصل بسبب إلى فلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو من الأقدمين إلا فى إطارها العام.
وقد استطاع هذا القرن أن يخلع على الرسالة الأخلاقية قوة وأن يمنحها إيجابية لدى جمهرة الفنانين وأهل الفكر من العلماء، فصارت ترمى إلى تهذيب النفوس، وتسهيل المعارف الإنسانية للطبقة البرجوازية النامية، وقد اتخذت سبيلها فى مناقشة المعارف القديمة فى مجال الفلسفة والاجتماع، وصحب هذه المناقشة كثير من التمرد والثورة على ما هو كائن، ثم الطموح إلى إقامة مجتمع جديد تسوده الحرية ويدعمه الاستقلال الفكرى والعاطفى.
وقد نجد آثار هذا فى التراث الأدبى الضخم لطائفة من الشعراء الرومانتيكيين فى مختلف دول أوربا أمثال: هيجو، ولامرتين، وبيرون، وشيلى وغيرهم.
ولا خلاف فى أن جذور الرومانتيكية نبتت فى فرنسا أول ما نبتت فيما كتب جان جاك روسو (1722 م–1778 م) و فولتير، فقد كان لما أذاعاه من أفكار جريئة أثر عميق فى التحول السياسى والاجتماعى الذى صح ب الثورة الفرنسية (1789م ) إلى جانب ما أحدثته هذه الأفكار من ثورة على القديم واستحداث أدب جديد لا يؤمن بالقواعد ولا يعترف بالقيود التى ريفت فيها المواهب الكلاسيكية.
طبيعة المذهب:
ثار الرومانتيكيون على القواعد الكلاسيكية القديمة لأنهم وجدوا منها ذلك النوع من الالتزام الجبرى الذى يجعل من القاعدة قيداً لا فكاك منه، ولكنهم لم يتمردوا على القواعد التى من شأنها أن ترشد الفن وتعينه على أداء وظيفته الجمالية فالفن الذى يصم أذينه عن نصائح القواعد والقوانين يتحول إلى فوضى لا نظام لها ولا ضابط كما نراه فى العصور الهزيلة، فالفرق شاسع بين التمرد على القيود الفنية، والتنكر للقوانين التى تحكمها على بصيرة من فهم رسالة الفنون وطبيعتها، وهذا ما أدركه الرومانتيكيون إدراكاً واعياً كما أشارت إليه توجيهاتهم للأدب والنقد فى القرن التاسع عشر.
ولم يكن للأدباء الشبان فى فرنسا مذهب أدبى محدد يلتفون حوله، وإنما كانت حركة التجديد والتمرد على الكلاسيكية وقواعدها هى التى تربط ما بينهم، وفلما أصدر " هيجو " مسرحيته كرومويل " Cromwell" وجدوا فى مقدمتها تخطيط لمذهب يمكن أن يجمع شتاتهم، وهذا التخطيط تناول المسرحية والشعر الغنائى على سواء.
فقد أعلن هيجو ثورته على المذهب الكلاسيكى، لأن العبقرية هى وحدها صاحبة الكلمة فى هذا المجال، وليست القواعد إلا قيداً يجب التخلص منه، فالشعر ينبغى أن يفيض من قلب الشاعر كما يشاء له الإلهام، وينبغى كذلك أن يتحرك فى كل ميدان يحدده الشاعر ويرتضيه، والمسرحية ليست إلا تصوراً للحياة وأحوال الناس، وعلى هذا فاجتماع الأشياء وأضدادها فى المسرحية أمر طبيعى لاجتماع الأضداد فى حياة الناس وتصرفاتهم، فلا معنى إطلاقاً فللتقسيم الكلاسيكى الذى يجعل المسرحية، إما مأساة وإما ملهاة، وما دامت الحقيقة هى المرجع الأخير فى هذا، فإن ما نراه واقعاً يبح لنا أن نضيف نوعاً ثالثاً على نوعى المسرحية وهو فن الدراما التى تمثل الحياة بما فيها من مفارقات وتناقض، فقد يجتمع الحزن والسرور والترفع والابتذال، والجد واللهو، فلماذا لا نخالف القواعد الكلاسيكية لنحشدها فى فن ثالث يستمتع به الناس ويرون فيه حياتهم، ونجد " هيجو " فى مسرحية " نوتردام دى باريس " يعود بالجمهور فى ثقة إلى القرون الوسطى، حيث يقرب إلى نفوسهم حياة الشعب فى ذلك الماضى البعيد بعاداته وتقاليده ومعتقداته وقوانينه، وليقر فى قلوبهم سلطان الكنيسة وأثر الدين فى طبقات الشعب كله.
ونراه فى " الشرقيات " يوجه الشعراء لا إلى ماضى الشعب الفرنسى فحسب، وإنما يوجههم كذلك إلى بعث الماضى الذى كان لشعوب أخرى غير فرنسا، فعلى الرغم من أن هيجو لم ير الشرق، قد حاول أن يراه فى صوره الماثلة فى كتاب " ألف ليلة وليلة "، فقد وصف مصر فى قصيدة عنوانها " نار السماء " نقتطف منها:
مصر الشقراء بسنابلها
تنبسـط حقـولها الفاتنة كأنها الأردية الفاخرة.
سهول تمدها سهـول
يتجاذبها من شمال جو بارد ومن جنوبها رمال حارة.
وهى لا تفتأ تبتسـم
لهذا النزاع الذى ينشب بسببها بين البحر والصحراء.
ويقرر هيجو فى " أوراق الخريف " أن من مهمة الأدب أن يغرس بذور الرحمة والعطف على الفقراء، وأن يجمل لواء العدل ويدافع عنه، وأن يدفع الشعب إلى كل ما يرفع من قيمته سواء أكان فى مجال السياسة أم الاجتماع، يقول الشاعر فيها:
تصدقوا أيها الموسـرون |
|
فالصــدقة
قرينـة الصـــلاة |
ابذلوا
العطاء فـــالله |
|
هو
المنـعم علــى الجميـــع |
فإذا
أعطيتم فالله يعطـى |
|
أبناءكم
القوة ويهب لبناتكم الجمال |
وفى سبتمبر1829 مأخرج هيجو ألمع مسرحياته وأعظمها وهى مسرحية " هرنانى " فقد تحمس لها الشباب بزعامة " تيوفيل جوتيه " وهاجمها الشيوخ وأعضاء المجمع الفرنسى مهاجمة عنيفة، فحينما عرضت على المسرح لأول مرة أحدثت ضجة عنيفة ومعركة قاسية بين الشباب والشيوخ.
وبهذا نطقت الحركة الرومانتيكية بتوجيهات هيجو وزعامته، ويعتبر أول من أرسى أصول هذا المذهب فى مقدمة مسرحيته " كرومويل، وفى الشرقيات " وظاهره فى هذا صديقة ثم عدوه الناقد الأشهر " سانت بيف" فى مؤلفاته النقدية الرائعة.
أصول ومبادئ المذهب الرومانسى:
1) الحرية مكفولة للأديب، فليست هناك نماذج تحتذى، وإنما موهبة تستخدم فى كل مجال، وفى هذا يقول هيجو جملته المشهورة " الحكم على العمل الأدبى بالجودة أو الرداءة هو كل شئ فى محيط النقد الأدبى " ثم يمضى فى توضيح ذلك " لا تحفل اطلاقاً بالمنهج الذى اتبع، بل سل: كيف استخدم هذا المنهج، ليست هناك موضوعات جيدة وأخرى رديئة فى قرض الشعر، وإنما هناك: شاعر جيد وشاعر ردئ إن كل شئ صالح لأن يكون موضوعاً، فلتفحص إذن: كيف كانت صنعة الفنان ؟ ولا تتعب نفسك فى التساؤل: لماذا صنعه؟ فالفن لا يعترف بالقيود والأغلال، ولا يرضى بالجد من حرية القول، ولا يؤمن بالمعالم التى تحدد له طريقه، بل إن الفن هو: أن يعتقد الفنان كما يجب أن يعتقد، وأن يفعل ما يريد أن يفعل، فهو الذى يختار النوع، والقصة، والزمان، والمذهب ". وعند هيجو أن الشاعر لا يدرى من أى شئ صنعت حدود الفن الشعرى، ولا يعترف بالحد من عالم الفكر.... وأخيراً فالشاعر يسجل ما يراه لأنه يرى ما يسجله.
2) الدعوة إلى أدب جديد يعلى من كرامة الطبقة المظلومة ويرد إليها ثقتها وعدالة المجتمع ورحمته، وذلك بالاعتذار عن الجرائم النفسية والاجتماعية التى هى من صنع القوانين الجائرة، والمناداة بعدالة اجتماعية لتعالج تلك الأمراض المنتشرة حينذاك، وهذا كله يبدو واضحاً فى الرواية المشهورة " البؤساء " لهيجو حيث يقول " نتيجة لوجود القوانين والعادات يتولد شئ من اللعنة الاجتماعية تصحبها ألوان من الشقاء يصبح فيه القدر معوقاً لمصير الناس والأفراد ".
3) استتبع هذا من أدباء الرومانتيكية الجنوح إلى الخيال، والتصرف فى حقائق التاريخ عند صياغة المسرحيات للوصول إلى الأهداف التى ينزعون إليها وهى تصوير مستقبل أفضل للطبقة المظلومة، وأبرز تاريخ وطنى جليل، وإذاعة اللون المحلى وبعثه فى الصور الأدبية.
4) لم يتقيدوا برأى الكلاسيكين فى أن تكون المسرحية محتوية على خمسة فصول، كما حطموا وحدة الزمان والمكان، وخلطوا المأساة بالملهاة " الدراما الرومانيكية " وصارت الشخصيات شعبية، كما حرصوا على الأحداث على المسرح بدلا من حكاياتها بالحوار، كما كان يحدث فى المسرح الكلاسيكى.
5) الدعوة إلى العودة إلى حضن الطبيعة والامتزاج معها بكل معطياتها، ووصفها كما انعكست فى نفس الأديب ورواها.
6) انحصرت مهمة النقد الأدبى فى فهم النصوص وشرحها وتفسيرها على أساس علاقاتها بأصحابها وشرحها وتفسيرها على أساس علاقاتها بأصحابها الذين ابتكروها أو بما طرأ عليها من تأثير الأديب أو تأثيره فى العقيدة والعادات والقوانين.
7) شعراء هذا المذهب يكثرون من الشعر الغنائى على عكس ما وجدناه من اتجاه عند شعراء الكلاسيكية، ذلك لأنهم يريدون أن يعبروا عن ذاتهم ومشاعرهم تجاه القضايا العاطفية الخاصة أو الاجتماعية، تلك القضايا التى تنظمهم والمجتمع، ومن ثم نجدهم لا يخضعون لقاعدة المحاكاة التى نادى بها أفلاطون وأرسطو والتى اعتنقها الكلاسيكيون من بعدهم، ولم تفارقهم هذه النزعة حتى فى الشعر التمثيلى الذى يعتمد أصلاً على المحاكاة فى تصوير الحدث، فإنهم قرنوا مشاعرهم بهذا الأصل الذى أقبلوا عليه فى حذر غير قليل، ويمكننا القول بأن المحاكاة ملائمة للأدبين الملحمى والتمثيلى، أما الأدب الغنائى فإن يلائمه هو التعبير المبتكر عن ذات النفس.
8) عندما جنحت الرومانسية إلى التعبير عن الوجدان الذاتى والشعور الفردى وجعلته غير خاضع لنظرية المحاكاة، قد أضافت إليه تأملات شخصية عن الكون وما فيه من الحياة والموت والسعادة........
9) تقدير دور الخيال وتوجيهه توجيها نافعاً بحسبانه أداة مهمة لادراك المعانى المجردة والتعبير عنها.
10) الدعوة إلى تحقيق الوحدة العضوية فى القصيدة الغنائية لتصير بينة فنية متكاملة.
وتجتمع معظم خصائص المذهب الرومانتيكى فى قصيدة البحيرة للشاعر " لامرتين " التى كتبها عام1817 موهو على شاطئ بحيرة " بورجيم " فى جبال " السافوى " بفرنسا فقد كان فى العام الذى قبله ينعم بجمالها مع حبيبته "الفيرا " وقضى بها أياماً، ثم تواعدا على اللقاء فى نفس المكان فى العام التالى، ولكن " الفيرا " قضت نحبها قبل الموعد بمرض الصدر، فذهب الشاعر وحده حيث يلتقى بذكرياته الحزينة على الشاطئ الذى قضى فيه معها أويقات حلوة سعيدة يقول لامرتين فى بعض أبياتها:
أيتها البحيرة، لما ينقضى العام بعدُ، ومع ذلك أجلس وحيداً فوق هذه الصخرة
التى كانت تجلس فوقها حبيبتى
قريبة من أمواجك الحبيبة، تلك التى كانت ستعود لمشاهدتها.
^^^
هكذا تحت أقدام هذه الصخرة الراسخة كنت تصخبين وهكذا كنت تتفرقين على حوافها المتآكلة.
وهكذا كانت الرياح تنثر زبد أمواجك فوق قدميه الجميلتين.
^^^
هل تذكرين تجديفنا فى صمت ذات مساء
ومن بعيد وفوق غوارب الموج وتحت السماء ما كنا نصيخ إلا لواقع المجاديف وهى تشق فى صمت
أموجك المرحة.
^^^
توقف
أيها الزمن فى سيرك وأنت |
|
أيتها
الأوقات الهنيئة لا تنصرمى |
ودعينا
نسعد باللذات الذاهبة |
|
تلك
التى تتيحها لنا أجمل أيامنا |
كثير ممن فجعتهم الحياة يلوذون بك – فاهرعى إليهم فى عجلة وقاسمى الأيام فى احتمال ما يفجعهم من الالآم.
^^^
الجديد فى المسرحية الرومانتيكية:
1- أهم ما طرأ على المسرحية أوائل القرن التاسع عشر ظهور المأساة التاريخية التى تمثل فترة مهمة من التاريخ لها أثرها فى حياة المجتمع، والثورة على وحدة الزمان والمكان، فقد رأى الكاتب الفرنسى ستاندال:
أن وحدة الزمان تحد من تطور العاطفة ومن تغير المشاعر فى القلب الإنساني، مما قد يضطر الكاتب إلى مخالفة الواقع فى حشد ألوان من الأحاسيس لا تلائم العمل المسرحي، فأما وحدة المكان فإنها تجعله يلجأ إلى الخطب الطويلة التى تحول بينه وبين خلق الجو التاريخى الذى تقتضيه المسرحية.
2- أن يكون تأثير العمل الفنى بما فيه من براعة وذاتية على المشاهدين هو الشرط الذى يجب أن يراعى، حتى يعيش المشاهدون فى متعة حقيقية فى مشاهدتهم لشخصيات المسرحية وهم يعملون ويتحدثون ؛ وينبغى كذلك أن تصور " الدراما " الحياة تصويرا كاملا بكل ما فيها من تباين ومتناقضات حتى تلائم ما يقع ما يقع فى الخارج وفى الحياة، فإن الحياة فى كل مجتمع خليط من المصالح المتباينة، والعواطف الرقيقة، والأفكار الرائعة، ومن الشهوات والرغبات الخشنة، والعادات الرديئة،وكل هذه الألوان يجب يجب أن تظهر فى المسرحية الرومانتيكية.
وقد دعت مدام " دى ستال " وهى رائدة المذهب الرومانتيكى فى فرنسا إلى الاستعارة من الآداب الأجنبية وظاهرة فى ذلك فى بعض النقاد، ولكن البعض الأخر وافق على الاستفادة من الفن المسرحى الأجنبى بشرط ألا ينقل منه ما هو خاص بالنفسيات والمشاعر لدى هؤلاء. وذلك لغرابة ذلك على المجتمع الفرنسى، ومن هؤلاء النقاد ستاندال، وجيزو.
3- وكان أهم ما طرأ على المسرحية الرومانتيكية هو الإنصراف عن تناول التاريخ القديم الذى استنفد أغراضه، والإقبال على تصوير التاريخ الحديث وتاريخ العصور الوسطى، فإن فيها مجالا فسيحا لتصوير الشخصيات العظيمة واللحظات التى لها ذكريات عن المشاهدين، ومن خلال ذلك يمكن استعراض مظاهر القوة والعظمة والمجد، وتلك معان يكبرها الشعب لإنها تتعلق بتاريخه واستقلاله وكفاحه من أجل الحرية.
والمثالية الرمزية، وقد ساعد على ذهاب ريحها أنه لم يقيض لها عقول كبيرة من الذين أقاموا قواعد المذهب الرومانتيكى على نظريات فلسفية عميقة فى اللغة والموضوع والهدف.
ثم تخلى المذهب الرومانتيكى عن ريادته للمجتمع البورجوازى وفقد طابعه الذى اجتذب إليه الأفكار والمشاعر، فلم يعد أدب الثورة الفرنسية كما وصفه "فيكتور هيجو " فى أول نشأته، ولم يمض على منهجه فى الحديث عن آمال الجمهور وأحلامه فى توطيد العالم المثالى الذى ينشده فقد انفصل بعض أدبائه عن الطبقة الوسطى وتعالوا بأدبهم أن يصبح وسيله من وسائل الترفيه لهذا المجتمع الجديد، وانتهى الأمر بكثير منهم إلى الانطواء والعزلة، واقتصر إنتاجهم على تمثيل المشاعر الشخصية وإبراز الأحاسيس الخاصة من دموع وألم وأنين.
وقد صور هذا التحول الخطير زعيم من زعماء الرومانتيكية هو الشاعر " الفريددى موسيه " فى كتابة " اعترافات فتى العصر ".
ولم يكن هذا الانكماش مستساغاً فى الفترة التى تقدمت فيها البحوث العلمية والطبيعية وعلم الأحياء ولا سيما أواخر القرن التاسع عشر، وصحب هذا التقدم نهضة فى كل الحياة الأوربية، وكان على الأدباء أن يواكبوا هذه النهضة وينصرفوا عن أدب العزلة والانطواء.
فقد سادت فى تلك الفترة فلسفتان:
الأولى: نادى بها الفيلسوف " كونت " وخلاصتها: " أن ما فى العالم كله خاضع خضوعاً كاملاً للمنطق والعلم المعتمد على التجربة " وهى بهذا الاتجاه تصرف الأدباء عن البحوث الميتافيزيقية " ما وراء الماء"، لأنه لا يوجد شئ وراء الظاهر الملموس.
الثانية: دعا إليها " سبنسر " فى كتابه " المبادئ الأولى " الذى ترجم إلى الفرنسية عام 1871 م، وخلاصتها: " بأن هناك حقائق يدرك العقل أنها موجودة، ولكنه يعجز عن تعليل وجودها ولا يستطيع التعبير عنها ". ويبرز هذا بقوله:
أى غرابة فيما يصادف العقل البشرى من إبهام لا يستطيع معرفة كنهه ؟ ! إن العقل يفهم ظواهر الأشياء ولا يعدوها إلى ما خفى وراء أستارها، ومع هذا فلا يستطيع أن ينكر هذا الشعور الذى تضطرب به نفوسنا.... إن هناك حقيقة كامنة وراء هذا الظاهر المحسوس، وحسب العقل إن يدركها على نحو ما، فأما إذا هم نحوها محاولاً تحليلها أو تعليلها فإنه يقف عاجزاً كل العجز.
ولهذا اتجه الأدباء حينذاك إلى الإيمان بأن هناك حقائق تكمن وراء الواقع، وأن المادة ترمز إلى هذه الحقيقة وتشير إليها،ومن ثم تغيرت الاتجاهات الأدبية كما سنرى فى المذاهب التى نشأت فى أعقاب الرومانتيكية الذاهبة.
^^^