المحاضرة السابعة ا
الباب الثالث
الأدب الأندلسي
رأينا من قبل كيف أقبل الأسبانيون على حضارة العرب يغترفون منها، وعكفوا على اللغة العربية يتدارسونها ولا سيما بقرطبة عاصمة الملك حتى هال أسقفها الفارو alvoro هذا الأمر، فكتب يشكو أنه لا يجد بين الألوف من أبناء طائفته من يستطيع أن يكتب رسالة باللاتينية المقبولة على حين يتقن الكثيرون العربية وينظمون الأشعار فيها بمهارة لا تقاربها مهارة العرب أنفسهم، ولا شك أن التساهل الذي أبداه العرب والرواه الذين كان لحضارتهم قد مهدا السبيل لهذا الاتصال الذي بدت آثاره جليه في الإنتاج الأدبي الذي جاء يحمل طابع الشرق والأندلس معاً.
ونستطيع أن نقول إن الأدب العربي في الأندلس، وقد بلغ أوج ذروته في حكم عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم والحاجب المنصور، لم يستطع أن يتخلى عن أثر المشرق وعندما جاء عهد ملوك الطوائف كانت الموشحات أظهر طابع امتاز به أدب الأندلس الذي صدر عن خصائص الحياة الجديدة.
وربما كان مصداق ذلك ما حكي أن الشاعر الأندلسي الملقب بالغزال، وجد في بغداد جماعة من المثقفين، فأنشدهم شعراً لنفسه، وادّعى أنه لأبي نواس لعظم قدر أبي نواس عندهم، فصدَّقوه، ثم قال لهم : إنها لي. ولو كانت شخصية الأندلس واضحة في شعر أهلها، لصعب نسبة أبيات أندلسية إلى شاعر شرقي غاية ما عندهم من فروق :
أولاً : أن الطبيعة الأندلسية الجميلة مكنتهم من أن يقولوا كثيراً في شعر الطبيعة، وهذا لم يكن معدوماً في المشرق، فإن الصنوبري مثلاً وهو الشاعر الحلبي خلف لنا ديواناً كله تقريباً في ذلك.
ثانياً : أن لهم أحياناً أخلية ذهنية ولعباً بالمعاني يكاد يكون خاصاً بهم، وقد يفوقون فيها المشارقة وهذا ما أولعوا به كل الولع، حتى إنه لما وقفوا على شعر المتنبي لم يقلدوه في قوة معانيه، وبديع حكمه، وقوة شاعريته، وثورة نفسه، إنما أخذوا منه أسلوبه، وفخامة تعبيراته، وعمق خيالاته، كما فعل ابن هانيء الأندلسي، فنحن نأسف إذ نرى أن الأندلسيين اقتصروا على أوزان الشرق، وموضوعات الشعر في الشرق واتخذوا أخيلته، ومعانيه دعامة، فالمديح هو المديح والغزل هو الغزل، وشعر الزهد هو شعر الزهد، وكان الأمل أن يبتكروا غير هذا، خصوصاً وأن بيئتهم أغنى واتصالهم بالعالم الأوربي غير اتصال المشارقة بالعالم الفارسي أو الهندي أو التركي، فما بالهم اتخذوا نفس القوالب، وصبوا فيها عصارة ذهنهم، وبديع خيالتهم. ولو أنهم لو تحرروا من ذلك، لأتوا بالعجب في القصة، في القصائد غير الموحدة الأبيات، في ترتيب الأبيات ترتيباً منطقياً حسب المعاني، وفي الاعتماد على وحي النفس أكثر من الاعتماد على العادات المألوفة، والتقاليد الموروثة.
ثالثاً : انفراد الأندلسيين في ابتكار الموشحات والأزجال، خضوعاً لحكم الظروف، وسيأتي توضيح ذلك عند الحديث في الموشحات، وأيضاً استكثارهم من المقطعات التي تصف أشياء كثيرة كوصف العاصفة، وبركة فيها سلاحف، وجمال الخال، ورداء أحمر، ووصف الليل ، ووصف معركة، وملابس حداد، وقوس، ونهر، ومجلس شراب.... الخ ([1]).
العوامل المؤثرة في النهضة الأدبية الأندلسية :-
أولاً : عناية ملول الأندلس بالأدب :-
كان الملوك في الأندلس أدباء وشعراء يتذوقون الأدب، ويقرضون الشعر، والأديب أعرف بقيمة الأديب، والشاعر آنس بالشاعر، فكانوا لهذا يتنافسون في تعهد الأدباء وإثابة الشعراء، ويبالغون في إكرامهم، وإجزال العطاء لهم، وكان عبد الرحمن الداخل شاعراً، وكان ابنه هشام أديباً، وكان المستنصر عالماً وأديباُ، وكذلك كان بقية الخلفاء والوزراء والملوك : كابن أبي عامر، وملوك بني الأفطس، والمعتضد ، وابن جهور، وغيرهم.
وقد يكون من فرط عناية بعض هؤلاء الملوك بالأدب اعتدادهم بالشعر ألا يستوزروا وزيراً إلا أن يكون شاعراً أو أدبياً كما فعل المعتمد، ولقد قالوا : إنه لم يجتمع من فحول الشعراء وأمراء الكلام بباب أحد من ملوك الإسلام ما اجتمع بباب الرشيد والصاحب بن عباد، والمعتمد هذا وكان بحضرته مثل :
ابن زيدون وابن اللبانة وابن عمار وابن وهبون وغيرهم.
وفي هذا الاهتمام من جانب الخلفاء والملوك ما فيه من بعث الهمم واستنهاض القرائح، والنهوض بالشعر والأدب.
وكان المعتمد يناظر المتوكل بن الأفطس، وكان في حضرة بطليوس كالمعتمد بإشبيلية، يتردد أهل الفضل بينهما كتردد النواسم بين جنتين، وينظر الأدب منهما عن مقلتين، والمعتمد أشعر والمتوكل أكتب([2]).
وقد صرف ملوك الطوائف جهدهم إلى العناية بالأدب والشعر فصار المدح لغذاء أرواحهم كالملح لطعام أجسامهم، وظلت هذه العادة فيهم، حتى إن يوسف بن تاشفين لما دخل الأندلس توسط له المعتمد بن عباد عند الشعراء ليمدحوه حتى لا يصغر شأنه، مع أنه دخل في نجدة لهم على الإفرنج، ولوزعم أحد أنه لم يقم أحد من أمراء الأندلس وخلفائها ووزرائها إلى آخر القرن الخامس إلا وهو جامع أسباب الأدب، لكان خليقاً أن يصدق في زعمه، ولولا أدبهم لما نفق الأدب عندهم، ولم يعرف فيهم من أهل الركاكة والسخف إلا المستكفي والد ولادة.
ثانياً : مجالس الأدب في الأندلس :-
كانت مجالس الأدب في الأندلس من أكبر مسارح الأفكار، وأفخم مظاهر الجمال، وأظهر مظاهر الحياة العقلية والاجتماعية، كانت تحفل بأنواع الأدب، وألوان الطرب وأفانين اللهو والسمر، وكان الشعر فيها نشوة الشارب، وغناء الراقص، ولغة الكؤوس، وأدب النفوس.
وكان للمنصور بن أبي عامر مجلس في كل أسبوع يجتمع فيه أهل الأدب والعلم، للمناظرة بحضرته، وكان للمعتمد دار مخصوصة بالشعراء، وديوان تقيد فيه أسماؤهم، وقد جعل لهم يوماً يفرغ لهم فيه فلا يدخل عليه غيرهم ([3]) .
*ومن مجلس الأدب ما يروي من أن صاعداً الأندلسي([4]) كان بين يدي المنصور، فأحضرت إليه وردة في غير وقتها لم يستتم فتح ورقها، فقال فيها صاعد مرتجلاً :
أتتك
أبا عامر وردة |
|
يذكرك
المسك أنفاسها |
كعذراء
أبصرها مبصر |
|
فغطت
بأكمامها رأسها |
فسر بذلك المنصور، وكان ابن العريف حاضراً، فدعاه إلى مناقصته وقال المنصور : هذان البيتان لغيره، وقد أنشد ينهما بعض البغداديين بمصر لنفسه، وهما عندي على ظهر كتاب بخطه، فقال له المنصور : « أرينه » فخاف ابن العريف، وركب، وحرك دابته حتى أتى مجلس ابن برد، وكان أحسن أهل زمانه بديهة، فوصف له ما جري، فقال هذه الأبيات ودس فيها بيتي صاعد :
عشوت
إلى قصر عباسة |
|
وقد
جدل النوم حراسها |
فألفيتها
– وهي في خدرها |
|
وقد
صرع السكر آناسها صرع |
فقالت
« أسار على هجعة؟ » |
|
فقلت
« بلي!» فرمت كاسها |
ومدت
يديها إلى وردة |
|
يحاكي
لك الطيب أنفاسها |
كعذراء
أبصرها مبصر |
|
فغطت
بأكمامها راسها |
وقالت
خف الله لا تفضحن |
|
في
إبنة عمك عباسها |
فوليت
عنها على عقلة |
|
وما
خنت ناسي ولا ناسها |
فطار ابن العريف بها، وعلقها على ظهر كتاب بخط مصري، ومداد أشقر، ودخل بها على المنصور.
فلما رآها اشتد غيظه، وقال للحاضرين :
« غداً أمتحنه » فإن فضحه الامتحان أخرجته من البلاد، ولم يبق في موضع لي عليه سلطان ! »
فلما أصبح، وجه إليه، فأحضر، وأحضر معه جميع الندماء فدخل بهم إلى مجلس محفل، قد أعد فيه طبقاً عظيماً فيه سقائف مصنوعة من جميع النواوير، ووضع على السقائف لعب من ياسمين في شكل الجواري، وتحت السقائف بركة ماء، قد ألقى فيها اللآلئ مثل الحصباء، وفي البركة حية تسبح.
فلما دخل صاعد ورأى الطبق، قال له المنصور : « إن هذا اليوم إما أن تسعد معنا فيه، وإما أن تشقي بالضد عندنا، لأنه قد زعم قوم أن كل ما تأتي به دعوى، وقد وقفت من ذلك على حقيقة، وهذا طبق، ما توهمت أنه عمل لملك مثله، فإن وصفته بجميع ما فيه، علمت صحة ما تذكره. فقال صاعد بديهة :-
أبا
عامر !هل غير جد واكف واكف |
|
وهل غير من عاداك في الأرض خائف |
يسوق
إليك الدهر كل غريبة |
|
وأعجب
ما يلقاه عندك واصب |
وشائع
نور صاغها هامر الحيا |
|
على
حافتيها عبقر ورفارف |
ولما
تناهي الحسن فيها تقابلت |
|
عليها
بأنواع الملاهي الوصائف |
كمثل
الظباء المستكنة كنسا |
|
تظللها
بالياسمين السقائف |
وأعجب
منها أنهن نواظر |
|
إلى
بركة ضمت إليها الطرائف |
حصاها
اللآلي، سابح في عبابها |
|
من
الرقش مشئوم الثعابين زاحف |
ترى
ما تراه الحسن في جنباتها |
|
من
الوحش حتى بينهن السلاحف |
قالوا :« فاستغربت له يومئذ تلك البديهة، في مثل ذلك الموضع وكتبها المنصور بخطه».
وكان إلى ناحية من تلك السقائف سفينة فيها جارية من النور تجذب بمجاذيف من ذهب لم يرها صاعد، فقال له المنصور : « أحسنت ! الإ أنك أغفلت ذكر المركب والجارية » فقال للوقت :
وأعجب
منها غادة في سفينة |
|
مكللة
تصبو إليها المهافف |
إذا
راعها موج من الماء تتقي |
|
بسكانها
ما إن ذرته العواصف |
متى
كانت الحسناء ربان مركب |
|
تصرف
في يمنى يديها المجاذف |
ولم
ترعيني في البلاد حديقة |
|
تنقلها
في الراحتين الوصائف |
ولا غرو إن ساقت معاليك روضة |
|
وشتها
أزاهير الربي والزخارف |
فأنت
امرؤ لو رمت نقل متالع |
|
ورضوي
زوتها من سطاك نواسف |
إذا
رمت قولاً أو طلبت بديهة |
|
فكلني
له، إني لمجدك واصف |
قالوا : « فأمر له المنصور بألف دينار ومائة ثوب، ورتب له في كل شهر ثلاثين ديناراً » ([5]) .
* ومن مجالس الأدب هذا المجلس في مناقصة صاعد لابن العريف في حضرة المنصور : دخل ابن العريف يوماً على المنصور، وعنده صاعد، فانشده – وهو بالموضع المعروف بالعامرية – من أبيات :-
فالعامرية
تزهي |
|
على
جميع المباني |
||
|
وأنت
فيها كسيف |
|
قد
حل في غمدان |
|
فأظهر صاعد للمنصور أن في استطاعته أن يرتجل خيراً من هذا الشعر الذي أعده ابن العريف وروى فيه، فطلب منه المنصور أن يفعل، ليظهر صدق دعواه، فقال من غير فكرة طويلة :
يا
أيها الحاجب المعـ |
|
ـتلي
على كيوان |
|
|||
|
ومن
به قد تناهي |
|
فخار
كل يماني |
|||
|
العامرية
أضحت |
|
كجنة
الرضوان |
|||
|
فريدة
لفريد |
|
ما
بين أهل الزمان |
|||
ثم مر في الشعر إلى أن قال في ختام الأبيات :
فدم
مدى الدهر فيها |
|
في
غبطة وأمان |
فأعجب المنصور ببداهته، وقال لابن العريف : « مالك فائدة في مناقضة من هذا ارتجاله، فكيف تكون رويته ؟ ».
فأجابه ابن العريف : « إنما أنطقه وقرب عليه المأخذ إحسانك ! ».
فقال له صاعد : « يفهم من هذا أن قلة إحسانه إليك أسكتتك وبعدت عليك المأخذ».
فضحك المنصور وقال : « غير هذه المنازعة أليق بأدبكما ! ».
ثالثاً ذكاء الأندلسيين وقوة حافظتهم :-
كان ذكاء الأندلسيين مما يجعلهم نابغين في الأدب، ملهمين في الشعر والنثر ومن مثل ذكائهم وجودة قرائحهم وبصرهم ببلاغة الكلام :
ما يرى عن القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الجماعة بقرطبة، قال : أتيت وأبو جعفر بن النحاس في مجلسه بمصر يملي في أخبار الشعراء شعر قيس المجنون، حيث يقول :-
خليلي
هل بالشام عين حزينة |
|
تبكي
على نجد لعلى أعينها |
قد
اسلمها الباكون الإحمامة |
|
مطوقة
باتت وبات قرينها |
تجاوبها
أخرى على خيزرانة |
|
يكاد
يدينها من الأرض لينها |
فقلت له : يا أبا جعفر، ماذا – أعزك الله تعالى – باتا يصنعان ؟
فقال لي : وكيف تقول أنت يا أندلسي ؟ فقلت له : بانت وبان قرينها. فسكت وما زال يستثقلني بعد ذلك حتى منعني كتاب العين.
وقد امتاز الأندلسيون كذلك بحافظة قوية اعتمدوا عليها في رواية الأدب والشعر، ومن نوادر حافظة الأندلسيين القوية الواعية ما يروى عن الوزير أبي بكر ابن وزير أبي مروان عبد الملك، قال : « بينما أنا قاعد في دهليز دارنا وعندي رجل ناسخ أمرته أن يكتب لي كتاب الأغاني، فجاء الناسخ بالكراريس التي كتبها فقلت له : « أين الأصل الذي كتبت منه لأقابل معك به ؟ » قال : « ما أتيت به معي »، فينما أنا معه في ذلك إذ دخل الدهليز علينا رجل بذ الهيئة، عليه ثياب غليظة أكثرها صوف وعلى رأسه عمامة قد لاثها من غير إتقان لها، فحسبته لما رأيته من بعض سكان أهل البادئة. فسلم وقعد. وقال : « يا بني ! استأذن لي على الوزير أبي مروان » فقلت له : هو نائم، هذا بعد أن تكلفت جوابه غاية التكلف، حملني على ذلك نزوة الصبي، وما رأيت من خشونة هيئة الرجل، ثم سكت عنى ساعة وقال : « ما هذا الكتاب الذي بأيديكما؟ » فقلت له : « ما سؤالك عنه ؟ » قال : « أحب أن أعرف اسمه فإني كنت أعرف أسماء الكتب، فقلت : هو كتاب الأغاني فقال : إلى أين بلغ الكاتب منه قلت : بلغ موضع كذا. وجعلت أتحدث معه على طريقة السخرية به والضحك على قالبه، قال: وما لكاتبك لا يكتب ؟ قلت : طلبت منه الأصل الذي يكتب منه لأعارض هذه الأوراق، فقال : لم أجئ به معي، فقال : يا بني خذ كراريسك وعارض. قلت : بماذا ؟ وأين الأصل ؟ قال : كنت أحفظ هذا الكتاب في مدة صباي، فتبسمت من قوله. فلما رأى تبسمي قال : يا بني أمسك علي. فأمسكت عليه وجعل يقرأ، فو الله إن أخطأ واواً ولا فاء، هكذا نحو كراسين، ثم أخذت له في وسط السفر وآخره، فرأيت حفظه في ذلك كله سواء، فاشتد عجبي، وقمت مسرعاً حتى دخلت على أبي فأخبرته الخبر ووصفت له الرجل فقام كما هو من فوره لا يرفق على نفسه وأنا بين يديه، وهو يوسعني لوماً حتى ترامي على الرجل وعانقه، وجعل يقبل رأسه ويديه ويقول : « يا مولاي ! اعذرني فو الله ما أعلمني هذا الخلف إلا لساعة » وجعل يسبني والرجل يخفض عليه ويقول : ما عرفني. وأبي يقول : هبه ما عرفك فما عذره في حسن الأدب ؟ ثم أدخله الدار وأكرم مجلسه وخلا به، فتحدثا طويلاً، ثم خرج الرجل وأبي بين يديه حافياً حتى بلغ الباب، وأمر بدابته التي يركبها فسرجت وحلف عليه ليركبها ثم لا ترجع إليه أبداً. فلما انفصل قلت لأبي : من هذا الرجل الذي عظمته هذا التعظيم ؟ فقال لي : اسكت ! ويحك ! هذا أديب الأندلس وسيدها في علم الأدب، هذا أبو محمد عبد المجيد بن عبدون، أيسر محفوظاته كتاب الأغاني، وما حفظه في ذكاء خاطره وجودة قريحته، وكان ابن عبدون يلقب بأصمعي الأندلس.
ولهذا دلالة قوية على عناية الوزراء وأرباب السلطان بالأدب ورجاله، ووضعهم إياهم في المكان الأول من الإجلال والرفعة، وقد أطنبت الحكاية في وصف ذلك، ودلالة كذلك على اهتمام الأندلسيين الشديد بنقل كتب الشرق ونسخها لتعم فائدتها، ولقد يزيدكم اقتناعاً بهذا الرأي ما يروي عن الحكم الثاني وعنايته الفائقة الحدود باقتناء الكتب النفيسة وجلبها من أقصي بلاد الشرق، حتى لقد بادر بشراء كتاب الأغاني قبل أن ينشر في الشرق نفسه، ودليل على شغف الأندلسيين بالإكثار من المحفوظات إلى حد يصعب تصديقه على من لم يدرس حياة العرب دراسة جيدة، فإن من لا يعرف المنزلة العالية التي وصلت إليها ملكات العرب في الشرق لا يستطيع تصديق هذه الحكاية وأمثالها مما يروونه عن عرب الأندلس، ولقد كان يكفي لاعتبار الإنسان أديباً أن يكون حفاظة، ولقد أكثر ملوك الأندلس من اقتراح حفظ كتب بعينها، وخصوا من يفعل ذلك بجوائز مالية، فاشتد إقبال الناس على تنفيذ رغباتهم طمعا في ذلك، وقد وصل حفاظ الأندلس إلى درجة لا تقل عما وصل إليه حفاظ الشرق ([6]) .
%%%
العوامل المؤثرة في نشأة الشعر الأندلسي :-
كان الأندلسيون يلتفتون في كل شئ إلى المشرق ؛ لذا فقد اتخذوا شعر المحدثين مثالاً يقلدونه ومناراً يهتدون به أي أن الشعر المحدث لا شعر العرب الأوائل هو الأنموذج الكبير الذي استوحوه في أشعارهم. وليس معنى هذا أنهم لم يعرفوا شعر العرب الأوائل، ولكن نماذج الشعر المحدث نالت القسط الأكبر من إعجابهم، وكانوا على وعي مستمر بأن الشعر العربي الذي وصلهم من المشرق يمثل مذهبين :-
المذهب القديم والمذهب المحدث، ولو سألتهم تحديد الفرق بين مذهب الأوائل ومذهب المحدثين، لم يكادوا يضعون فروقاً واضحة، ولكنهم كانوا في أغلب الظن يعنون أن شعر الأوائل أكثر جرياناً على الطبيعة وأحفل بالجزالة العفوية وبالغريب. وأن شعر المحدثين يعتمد كثيراً على الاستعارات والتشبيهات ويشوبه أحياناً تكلف لا يخفي في طبيعة الصياغة.
وحين أخذ الشعر الأندلسي في التكوّن كانت هناك عوامل كثيرة تسعف على تكوّنه على ذلك النحو، وفي طبيعة التفاعل الثقافي المستمر بين المشرق والأندلسي ما يفسر كثيراً من مظاهر ذلك الشعر، وفي حاجة البيئة نفسها عامل آخر، ومن هذه العوامل :-
أولاً : جهود طبقة المؤدبين وأثرها في نشأة الشعر والمقاييس النقدية :-
كان القائم بأمر الشعر وتقريبه إلى دراسي الأدب طبقة من المؤدبين، ارتحل أكثرهم إلى المشرق، واغترف مما فيه من علم وأدب وعاد يدرّس في جامع قرطبة فإلى هؤلاء وإلى المهاجرين من طلاب الحاجات، وإلى تشجيع الحاكمين يؤمئذ، يعزي الفضل في إدخال ضروب الثقافة المشرقية بلاد الأندلس، من حديث وفقه ولغة وشعر وسير، وكان من أوائل الكتب اللغوية التي هاجرت بصحبتهم كتب الأصمعي والكسائي والفراء والرياشي وأبي حاتم وابن الأعرابي..... الخ .
أما في الشعر فإن محمد بن عبد الله الغازي – 269هـ جلب الأشعار المشروحات كلها، وهاجر عباس بن ناصح لما سمع بنجوم أبي نواس، وروى شعره، كما أحرز شعر أبي تمام قبول فى البيئة الأندلسية، لذا فقد توفر على نقله اثنان من المؤدبين هاجرا إلى المشرق وروياه عن صاحبه وأقراءاه بالأندلس وهما عثمان بن المثنى النحوي، ومؤمن بن سعيد وللأول منهما قصة طريفة :
فيقال إنه اجتمع مع أبي تمام في مركب ببحر القلزم فأنشده أبو تمام شعره الذي يقول فيه:
اللهُ
أكبرُ جاء أكبرُ مَنْ مَشَى |
|
فَتَعَثّرتْ
في كُنْهِهِ الأوهامُ |
وكان هذا البيت مبتدأ الشعر، فقال له ابن المثنى : شعر حسن لولا أنه لا ابتداء له، فوقذت في نفس حبيب وابتدأ الشعر بقوله :
دِمَنٌ ألمَّ بها فقال سلامُ |
|
كَمْ حلَّ عُقْدةَ صَبْرِه الإِلمامُ |
ثم أنشده في اليوم الثاني الشعر بهذا الابتداء إلى تمامه، فقال له ابن المثني أنت أشعر الناس، فعظم في نفس حبيب، ثم لقيه حبيب في انصرافه وحبيب قد عظم قدره وجل خطره فكان يؤثره ويعرف له فضله، وأمر الخليفة عبد الرحمن الناصر بانتساخ شعر حبيب وجمع لذلك جماعة من أدباء الأندلس يومئذ لتحقيق ذلك، وإزاء هذه العصبية لأبي تمام وجد أيضاً من يتعصب للبحتري ويدين بتفضيله. وهذا كله ينبئ عما كان للشعر المحدث من مقام بين عرب الأندلس، ولم يمض وقت طويل حتى كان الذوق الأندلسى قد ألف هذا النوع من الشعر، وجعله مقياساً للجودة. وأصبح المتأدبون هنالك يضعون خطأ فاصلاً بين طريقتين في الشعر :
طريقة العرب وطريقة المحدثين، فيقولون مثلاً إن فلاناً الشاعر كان أكثر أشعاره على مذاهب العرب، وكانوا هم أميل إلى تفضيل ما جرى على مثال الشعر المحدث حتى إن الرباحي الشاعر (358هـ) حين نظم قصيدة في الرثاء وبناها على مذاهب العرب، وخرج فيها على مذاهب المحدثين، لم يرضها العامة، ولم يجد من يعجب بها إلا أبا على القالي، ومن يذهب في طريقته.
فعلى أيدي هؤلاء المؤدبين تم، إذن، شئ من تبلور الذوق الأندلسي بقبول ما يقبل ورفض ما يرفض، وفي مجالس تدريسهم تكونت نواة حركة نقدية ساذجة، فهم الذين كانوا يشرحون الشعر لطلبتهم ويتكلمون في معانيه ويقربونها ويضربون الأمثال فيها، ويتبعون ما فيها من المآخذ اللغوية والنحوية.
ومما يلفت النظر أنهم كانوا يتدارسون شعر شعرائهم كما يتدارسون شعر المشارقة، فكان عباس بن ناصح، وهو أحد هؤلاء المؤدبين، ومذهبه في شعره مذهب العرب الأول في أشعارهم، كلما ورد قرطبة، جلس في جامعها يقرأ على الطلبة ما كان نظمه من شعر.
ووفد مرة على قرطبة فجاء أدباؤها للأخذ عنه فمرت عليهم قصيدته :-
لعمرُك ما البلْوى بعارٍ ولا العَدَمْ |
|
إذا المرء لم يَعْدَمْ تُقي الله والكرمْ |
حتى انتهى إلى قوله :
تجافَ عن الدنيا فما لِمُعجَّزٍ |
|
ولا جازمٍ إلا الذي خُطَّ بالقلم |
فاعترضه يحيى الغزال وقال : وما الذي يَصنع مُفَعَّلٌ مع فاعل ؟ قال : فكيف تقول أنت ؟ قال : تجاف عن الدنيا فليس لعاجز، فاستحسن عباس ذلك منه وقال « والله لقد طلبها عمك ليالي فما وجدها ».
وكاد الذوق في هذه البيئة يجمع على أن الشعر إنما يتقدم لغرابته وحسن معناه، على أننا يجب ألا نغلو في تقدير ما كان يحسنه هؤلاء المؤدبون، فإنهم – في الأكثر – كانوا سطحيين حتى في ميدانهم من لغة ونحو، قال الزبيدي يصفهم : « وذلك أن المؤدبين إنما كانوا يعانون إقامة الصناعة في تلقين تلاميذهم العوامل وما شاكلها، وتقريب المعاني لهم في ذلك، ولم يأخذوا أنفسهم بعلم دقائق العربية وغوامضها، والاعتلال لمسائلها، ثم كانوا لا ينظرون في إمالة ولا إدغام ولا تصريف ولا أبينه».
وهذا كلام يصدق عليهم حتى منتصف القرن الرابع، على وجه التقريب.
وقد ساعد بعض المهاجرين من غير الأندلسيين على ترسيخ أثر المحدثين في البيئة الأندلسية مثل إبراهيم بن سليمان الشامي الذي دخل الأندلس في أخريات أيام الحكم بن هشام، وكان قد أدرك بالمشرق كبار المحدثين كأبي العتاهية، ومثل أبي اليسر إبراهيم بن أحمد الشيباني الذي لقي من الشعراء أبا تمام والبحتري ودعبلاً وابن الجهم، وقدم الأندلس في إمارة محمد بن عبد الرحمن، وعنه رواية لشعر أبي تمام بالأندلس.
^^^
([4]) هو صاعد بن الحسن الربعي، وكنيته أبو العلاء، وأصله من الموصل، وقد تعلم في بغداد، واستمر بها حتى تبحر في اللغة والأدب، ثم ورد على المنصور بن أبي= =عامر سنة 380هـ في أيام إمارته، فأراد المنصور أن يعفي به آثار أبي على القالى فلم يجد منه ما يرتقبه، وأعرض عنه أهل العلم، وقدحوا في علمه ودينه، ولم يأخذوا عنه شيئاً، لقلة الثقة به.
وقد ذكر ابن بسام أن الأندلسيين دحضوا كتابه « الفصوص » الذي ألفه للمنصور – ونحابه منحى كتابه النوادر للقالي – وأنهم ألقوه في النهر، وذكر الماركشي صاحب كتاب المعجب والمقري هذه الحكايات بروايات أخرى، أشهرها أنه دفع الكتاب لغلام بعد تمامه، فعبر فزلت قدم الغلام به وهو يعبر نهراً، فسقط هو والكتاب في النهر.
قالوا : ففرح ابن العريف بذلك وقال مرتجلاً بحضرة المنصور :
قد
غاص في البحر كتاب الفصوص |
|
وهكذا
كل ثقيل يغوص |
فضحك منصور والحاضرون، ولكن ذلك لم يرع صاعداً، وقال :
إلى
معدنه إنما |
|
توجد
في قعر البحار الفصوص |