المحاضرة السادسة ا
الثقافة والعلوم فى الأندلس :-
لقد كان شعب الأندلس شعباً يقبل على العلم للعلم ذاته ومن ثم كان علماؤهم متقنين لفنون علمهم لأنهم يسعون إليها مختارين غير مدفوعين بهدف غير التعلم، وكان الرجل ينفق كل ما عنده من مال حتى يتعلم، ومتى عرف بالعلم أصبح في مقام التكريم والإجلال ويشير إليه الناس بالبنان – ويعلو ذكره بين الخاصة والعامة.
ولم يعرف الأندلسيون في أول أمرهم المدارس، وإنما كان المسجد في الأندلس معهد علم ومنارة ثقافة ودار عبادة وكانت كل أصناف العلوم يجرى تعلمها في المسجد باستثناء الفلسفة والتتجيم، فقد كان الأندلسيون في أول أمرهم يطلقون اسم زنديق على كل مشتغل بالتنجيم أو الفلسفة وبالرغم من ذلك فقد خرَّجت الأندلس في وقت متأخر بعض الشيء ثلاثة من كبار الفلاسفة هم حسب ترتيبهم الزمني ابن باحة وابن طفيل وابن رشد وهذا الأخير قد أحدثت آراؤه الجريئة دويا كبيرا في المشرق الإسلامي والغرب المسيحي وكثر خصومة ومؤيدوه وأنشئت الرسائل والكتب في الرد عليه وتكفيره من قبل المسلمين، وتحريم قراءة كتبه من جانب المسيحيين الأوربيين.
وكانت أهم العلوم التي يقبل عليها الأندلسيون الفقه والحديث وعلم الأصول والقراءات والنحو وعلوم اللغة وكان للفقيه مكانته والشاعر وجاهته، ولذلك فإن المقري يقول : وإذا كان الشخص بالأندلس نحوياً أو شاعراً فإنه يعظم في نفسه لا محالة ويسخف ويظهر العجب ([1]).
ومعنى ذلك أنه يحس بأنه قد وصل إلى المرتبة العليا التي تدفع بصاحبها إلى الزهو والخيلاء، وربما كان للشاعر بالذات بعض العذر في ذلك، خاصة إذا كان مجيداً.
على أن الذي لا يوفق في طلب العلم لا يلبث أن يجهد نفسه للبحث عن صناعة يتقنها ويتخذ منها سبيلا للكسب فقد كان الأندلسي بطبعه يربأ بنفسه أن يرى بغير عمل ولا يطيق أن يكون عالة على الناس لأن ذلك كان في ميزان مجتمعهم من الأمور القبيحة، ومن هنا اختفت ظاهرة التسول في الأندلس.
ومن هنا تميزت الحياة الاجتماعية في هذا المجتمع بالفهم الصحيح للمسؤولية الاقتصادية وتقرير الكسب والتدبير في موازنة الدخل والخرج، نعم أنشأ الحكم المستنصر داراً سماها دار الصدقة، ولكنها كانت للمحتاج المعذور، أما القادر على الكسب فكان يتجه إلى حرفة تكفيه وتعينه على الحياة.
ولذلك انتعشت روح التعاون هنالك. ومثلها ابن الكتاني أستاذ ابن حزم حين كان يقول لتلامذته:
« إن من العجب من يبقي في هذا العالم دون معاونة لنوعه على مصلحة أما يري الحراث يحرث له، والطحان يطحن له، والنساج ينسج له، والخياط يخيط له، والجزار يجزر له، والبناء يبني له، وسائر الناس كلُّ متولّ شغلا له فيه مصلحة وبه إليه ضرورة، أفما يستحي أن يكون عيالاً على كل العالم، لا يعين هو أيضاً بشيء من المصلحة ؟ » وإلى جانب هذا النمو الحضاري في المجتمع كان هنالك مظهر آخذ بالتقلص، ذلك هو الروح العسكرية العربية، ولهذا سببان : الأول : محاولة الحاكمين أن يتخلصوا من العصبية التي كان يثيرها الجنسي العربي على مر الزمن. وقد كانت تلك العصبية بين مضر ويمن في عهد الولادة (92 – 138هـ) من أسباب ضعف الحكم العربي حينئذ، فلما جاء عبد الرحمن الداخل، و قاومته اليمنية وأوقع بها، استوحش من العرب قاطبة وعلم أنهم على غل وحقد، فانحرف عنهم إلى اتخاذ المماليك، وأخذ يشتري الموالى من كل ناحية واستعان بالبربر، واستجلبهم من بر العدوة واستكثر منهم ومن العبيد حتى كوّن جيشاً كبيراً. ثم كان الحكم الربضى ، فاستكثر من الخدم والحشم حتى بلغ مماليكه خمسة آلاف، ثلاثة آلاف منهم فرسان يسمون «الخرس » لعجمتهم، غير أن العصبية لم تمت، إذ كانت نواة الأجناد ما تزال قبلية، وكانت الحاجة ماسة إلى إيقاظ هذه العصبية لمقاومة ابن حفصون الذي كان يمثل « الانتفاضة » بالأندلس، وفي عهد الناصر والحكم كثر الصقالبة، وأصبحوا الحرس الخاص للخليفة، حتى إذا جاء المنصور نكبهم وقضي على نفوذهم، ولكنه من ناحية أخرى أراد أن يضعف العصبية العربية فجزأ القبائل وجعل في الجند الواحد فرقاً من كل قبيلة، فخفت الفتن القائمة على العصبية. وأسقط المنصور زعماء العرب لئلا ينازعوه السلطة وجنَّد البرابرة والمماليك واستكثر من العبيد وأسرى الحرب واستدعى البربر ورتب من هؤلاء جميعا جنده.
غير أن حكام الأندلس في محاولتهم القضاء على العصبية العربية أوجدوا عيوباً جديدة تسيبت في القضاء على السيادة العامة في الأندلس وفي إشعال الفتن بين أجناس متنافرة من البرابرة والمولدين وبقايا العرب والإفريقيين السود و الصقالبة، وعلى يد البربر خربت قرطبة.
أما السبب الثاني الذى أدي إلى ضعف الروح العسكرية فهو طبيعة الاستقرار الزراعي وحاجة السكان إلى الابتعاد عن الحرب للانصراف إلى الأعمال العمرانية بينما كان الحكام في الأندلس بحاجة إلى جيش قوى على قدم الاستعداد دائماً، ولذلك ابتعد الأندلسيون – نسبياً – عن الحرب، مما حدا بالخلفاء إلى اتخاذ جيش أكثرة من العبيد والمرتزقة.
$$$
- إدارة المجتمع الأندلسى :-
وقد اعتاد الأندلسيون والشرق أيضاً ألا يحكموا أنفسهم بأنفسهم، ولا يعتمدوا على أنفسهم في النظام وتدبير الشؤون، وإنما اعتادوا الاعتماد على رجل قوى حازم يحكمهم ويقودهم، ولذلك نري أن الأمور تستقيم ما دام رأس المملكة رجل قوى حازم، فإذا زال كان الاضطراب والفوضى، وكان هذا واضحاً في الأندلس؛ لأن سكانها ذوو عناصر مختلفة، فهؤلاء العرب بقبائلها، وهؤلاء البربر، وهؤلاء الصقالبة، وهؤلاء الأسبان، فإذا لم يثبت الحاكم كفايته للضغط على هذه العناصر المتباينة أخرجت هذه الشعوب كلها أنيابها للفتنة والاضطراب فضلاً عن اختلاف بعضهم وبعض في الدين بين نصراني كاثوليكي في الشمال ومسلم في الجنوب. ولهذا كان تاريخ الأندلس حوادث متعاقبة تختلف في النظام والفوضى، فتستقر عند وجود الحاكم الحازم، وتضطرب عند عدمه.([2])
والقارئ لتاريخهم يعجب من ازدهار الحضارة والعلم في وسط هذا الاضطراب. ويفسر هذا شيئان :
الأول : أن بعض الأمراء الحازمين حكموا مدة طويلة كخمسين سنة، أو نحو ذلك استقامت فيها الأمور وازدهرت فيها الحضارة والعلم كعبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الناصر، والمنصور بن أبي عامر ونحو ذلك.
الثاني : أن بعض العلماء كانوا يكوّنون لأنفسهم جواً هادئاً يسود فيه العلم، ويبتعدون فيه ما أمكن عن السياسة رغم الفتن والقلاقل التي حولهم. وربما شهدت الأندلس أكثر من غيرها تحاسد الزعماء، ووجود عدد كبير من العتاة من البربر والعرب و الصقالبة والأسبان، وقليل من الأمراء من استطاع أن يصون وحدة المملكة مدة طويلة، فإذا هدأت البلاد قليلاً كانت ثورة إما من زعيم يريد أن يتغلب، وإما من النصارى في الشمال يريدون أن يسترجعوا بلادهم، وإما من بربر يحزّ في نفوسهم غلبة العرب، إلى غير ذلك.
وكان للأندلسيين خطط لتنظيم أعمال الحكومة وهي التي نسميها « التنظيم الإداري » فوظيفة القضاء عندهم أكبر الوظائف وأسماها لتعلقها بالدين، ولأن القضاة كانت لهم سلطة كبيرة، حتى يستطيع القاضي إحضار الخليفة أو الأمير ليسمع كلامه، وعلى رأس القضاة قاض كبير كان يسمى قاض الجماعة، وله الحق أن يأمر بالقتل على من استحق القتل من غير رجوع إلى السلطان، وإلى جانب وظيفة القضاء وظيفة « الحسبة » يتولاها عالم وجيه فطن، وكان صاحب هذه الوظيفة يمر على الأسواق راكبا ومعه أعوانه وموازينه، وفي كل بلد محافظ وكان المحافظون يسمون «بالدَّرابين » لأن بلاد الأندلس لها دروب بأقفال تقفل عليها، ولكل زقاق خفير يخفره وسراج يعلق على باب الزقاق، وكلب يحرسه وسلاح معد لوقت الحاجة. وأهل الأندلس من أكثر الناس محافظة على الشعائر الدينية والاستنكار لمن يعطلها .
وكانت الثقافة الدينية والعربية هي الثقافة الذائعة في الأندلس في أول الأمر، وهذا بطبيعية الحال يتفق مع الروح السائدة في عصرهم، بالنظر لقربهم من عهد النبوة والصحابة ولوجود الكثير من التابعين معهم في هذا البلد الجديد الذي كانوا فيه بأمس الحاجة إلى العلوم الشرعية لتقوية الروح الإسلامية في قلوب المسلمين الجدد من بربر وأسبان، وعنايتهم باللغة مرتبطة بعنايتهم بالعلوم الشرعية، فكان من الطبيعي أن يهتموا بالتفسير والحديث والفقه والأصول، وعلوم العربية من أدب ونحو ولغة.
ولم تكن المائة الثالثة تبلغ منتصفها حتى ظهر الاهتمام بالعلوم المختلفة الأخرى.
يقول صاحب نفح الطيب : « إن كل العلوم لها عندهم حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظاً عظيماً عند خواصهم، ولا يُتظاهر بهما خوف العامة، فإنه كلما قيل «فلان يقرأ الفلسفة » أو « يشتغل بالتنجيم » أطلقت عليه العامة اسم زنديق، وقيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقربا للعامة، وكثيراً ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت، وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر([3]) لقلوبهم أول نهوضه وإن كان غير خال من الاشتغال بذلك في الباطن»([4]).
وليست من شك في أن ذلك كله كان سبباً في بطء الحياة العقلية وتأخر نموها في الأندلس، ونحن نعرف أن أول فيلسوف أندلسي هو ابن باجه المتوفى عام 532 هـ، فالأندلس لم تتعمق الفلسفة إلا في عصر متأخر، ولعلها من أجل ذلك اعتنقت مذهب مالك وفضلته على غيره من المذاهب لأنه لم يكن معقداً بفلسفة.
فقد كان الأندلسيون يدينون بمذهب الأوزاعي، متأثرين في ذلك بالشاميين الذين كانوا في الجند الذي فتح الأندلس، إذا كان الأوزاعي بيروتياً، وكان إماماً كبيراً، وفقيها معدوداً، ثم انتقلوا إلى مذهب الإمام مالك كما ذكرنا لعدة أسباب منها :
1-أن مذهب مالك أقرب لمزاجهم، فهو يعتمد على الحديث، وعلى إجماع أهل المدينة، أكثر مما يعتمد على القياس و العقل، وهذا المنهج أكثر ملائمة وأوفق لعقلية الأندلسيين.
2-أن رجالاً عظاماً ليحيي بن يحي الليثي تتلمذ لمالك في المدينة، وأخذ عنه، ومنحة الله من القوة والسلطان ما مكنة من نشر مذهب مالك، وعهد إليه في اختيار القضاة فكان يختارهم على مذهبه.
3-عدم اتساع المذاهب المختلفة في العقائد على نحو ما عرف لأهل العراق كشيعة وخوارج وغير ذلك.
*وإذا تحدثنا عن الحياة الأدبية وجدنا ظاهرة التقليد للمشرق واضحة جلية، وذلك لأن الثقافة العربية المشرقية انتقلت للأندلس من خلال وسائل كثيرة.
أولاً : أن يُدعي قوم من المشرق إلى الأندلس فيملأوها أدباً ولغة، كما فعل أبو على القالي، فقد كان مشرقياً، ورحل إلى الأندلس بدعوة من أميرها، وكان قد تثقف ثقافة واسعة في المشرق، وأخذ كثيراً عن شيوخه وخاصة ابن دريد، وكان الشرقيون قد قطعوا شوطاً كبيراً بعيداً في جمع اللغة، وجمع الأشعار، وأخذوا ينتقون منها المختارات المختلفة، كما فعل الأصمعي، والمفضل الضبي، فحوى ذلك كله أبو على القالي، وسافر بعلمه إلى الأندلس، وكان رجلا عالماً وقوراً، حافظاً، فنشر ما شاء الله أن ينشر في الأندلس، ويعتبر من أول من وضع أساس الثقافة المشرقية في الأندلس واللغة والأدب.
ثم نشأت طائفة من أهل الأندلس نفسها تؤلف كما ألف، كابن عبد ربه المالقي في العقد،فقد اختار زبده أدب المشرقيين، واعتمد على كتبهم وخصوصاً كتاب ابن قتيبة المسمي « عيون الأخبار » وبّوبه تبويباً أشبه بتبويبه، إلا أنه سمى كل باب بنوع من الأحجار الكريمة وجعله كالقلادة، وكان قصده أن ينقل إلى الأندلسيين أدب المشارقة، وقد قال الصاحب بن عباد لما قرأه : « إن بضاعتنا ردت إلينا » لأنه رأى فيه علوم المشرق التي يعرفها.
ثانياً : أما الوسيلة الثانية : فقد رحل بعض الأندلسيين إلى المشرق، وندبوا أنفسهم لتحصيل علم من علومه والتبّحر فيه، ثم الرجوع إلى الأندلس، لنشر ذلك العلم بين أهله، ومن خير الأمثلة على ذلك : يحيى بن يحيى الليثي، فقد رحل إلى المدينة، وتتلمذ للإمام مالك، وأخذ عنه الموطأ، ولازمه، وخدمه كما سافر إلى مصر، وأخذ من الليث بن سعد، وعبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم، وكان يحيى معروفاً بالأمانة والدين، معظّماً عند الأمراء، متعففاً عن الولايات، ثم نشر علمه في الأندلس، ومع تعففه عن القضاء، أسند إليه اختيار القضاة، فكان يختار من كان على مذهب مالك...
ومثل ذلك كثير، ومنهم من رجل لتعلم الفقه،
ومنهم من تعلم النحو، والصرف، والتفسير والحديث والقراءات الخ، ويجد القارئ في
كتاب
« نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب » للشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني ثبتاً
طويلاً بأسماء من رحلوا من الأندلس إلى الشرق للتزود بالعلم – وبلغ من إقبالهم على
ذلك أن كان الشخص يعاب بأنه لم يرحل إلى الشرق.
ومن هؤلاء جميعاً ظهرت بعد ذلك طبقة من الأندلسيين أنفسهم يتقنون العلم ويحملون عبء نشره، حتى نرى فيهم مثل ابن القوطية، وكنيته تدل على أنه قوطّى الأصل، وقد نبغ في اللغة حتى فاق كثيراً من المشرقيين وألف كتاب « الأفعال » وغيره من الكتب التي تدل على علمه وفضله وأمثاله كثيرون في كل فرع من فروع العلم.
ثالثاً جمع الكتب :-
ذلك أن الكتب أيضاً من أهم وسائل الحركة العلمية، وقد أدرك الأندلسيون ذلك كل الإدراك، ومن أبرزهم في ذلك الخليفة الحكم الثاني المعروف بالمستنصر من خلفاء بن أمية في الأندلس ملك من سنة 350هـ إلى سنة 366هـ فقد انتدب نفسه للعناية بالعلوم « واستجلب من بغداد ومصر وغيرها من ديار المشرق والمغرب عيون التأليف والمصنفات الغربية في العلوم القديمة والحديثة، وجمع منها ما كاد يضاهي ما جمعته ملوك بني العباس في الأزمان الطويلة، وتهيأ له ذلك لفرط محبته في العلم، وبعد همته في اكتساب الفضائل، وسمو نفسه في التشبه بأهل الحكمة من الملوك، فكثر تحرك الناس في زمانه إلى قراءة كتب الأوائل، وتعلم مذاهبهم، حتى بلغت مكتبته الالآف من الكتب. »
وكانت هذه هي النواة الأولى التي أنتجت العلماء في الأندلس، من كل صنف، وكانت هذه الرحلات منها وإليها، لها منفعة ومضرة، فمنفعتها أنها نشرت العلم ما يشاء أن ينتشر، وكونت علماء نابغين، ووسعت الثقافة بين الشعب الأندلسي، ولكن مضرتها أنها صبت العلم الأندلسي في قالب يشبه القالب الشرقي، ولو نشأ بعيداً عن التأثر الشرقي لرأينا علماً مبتكراً له منحي خاص، فالجداول التي مر بها العلم في المشرق هي بعينها الجداول التي مر بها العلم في الأندلس، ولا نعثر على ابتكار إلا قليلاً، وكانت هذه القوالب المشرقية أقوى من البيئة الأندلسية، فمع اختلاف بيئة الأندلس عن بيئة المشرق، سواء كانت بيئة طبيعية أو اجتماعية، كانت قوالب المشرق العلمية أقوى من البيئة الأندلسية، وكلما قلد علماء المشرق الأقدمين منهم، فساروا في نفس طريقهم، قلد الأندلسيون علماء المشرق، فساروا في نفس الطريق، ولذلك تقرأ الكتب المؤلفة في الأندلس فكأنك تقرأ كتب المشرق في لغتها وأبوابها وفصولها.
والحق أن الحركة الأدبية في الأندلس صيغت
صياغة على شكل الحركة الأدبية في المشرق، ولا عجب فمن يتعمق في دراسة الأندلس يدرك
سرعة الاتصال بينها وبين المشرق، فعلماؤها وأدؤباها يرحلون إليه، كما يرحل إليها
علماؤه وأدباؤه، ومن لم يذهب من المشرق إلى الأندلس أرسل إليه بآثاره، أو نقلها
إليه هؤلاء الأندلسيون الذين يحوبون الأقطار الشرقية للبحث عن المنابع الهامة
للأدب والثقافة، فقد نقل كتابي الجاحظ
« البيان والتبيين » و « التربيع والتدوير » في حياة الجاحظ إلى الأندلس، وأرسل
أبو الفرج الأصبهاني لعبد الرحمن الناصر نسخة من كتاب الأغاني، كما نقل ديوان
المتنبي في حياته إلى الأندلس نقله ابن الأشج الذي قابل المتنبي في الفسطاط عام
346هـ، وبذلك استطاع ابن هاني، المعاصر له أن يتأثر به تأثراً واضحاً، ويذكر صاحب
الذخيرة أن ابن شهيد كان يستعير معاني أبي العلاء في بعض أشعاره، فإذا عرفنا أن
ابن شهيد توفى عام 426هـ، بينما توفى أبو العلاء عام 449 هـ عرفنا إلى أي حد كانت
سرعة الاتصال بين الأندلس والمشرق.
ومن يقرأ الذخيرة ويتابع الأدباء والشعراء في تقليدهم لأدباء المشرق وشعرائه يخبل إليه أن القوم قد حبسوا أنفسهم داخل الإطار العام للأدب العربي، فهم يضعون المشرق نصب أعينهم يتخذون منه مُثُلهم الأدبية العليا، وقد كتب ابن شهيد رسالة « التوابع والزوابع » وذكر فيها أسماء شياطين الشعراء الذين أجازوه وكلهم من شعراء المشرق الذين نعرفهم، أمثال أبي نواس، وأبي تمام، والبحتري، والمتنبي.
وكان الأندلسيون حتى عصر ابن خلدون لا يزالون يقولون : « إن أصول علم الأدب وأركانه أربعة دواوين، وهي أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي على القالي البغدادي » وليس في هذه الأصول والأركان شئ، لأهل الأندلس، يقول صاحب الذخيرة عن تقليد الأندلسيين لأهل المشرق :
« إن أهل هذا الأفق أبو الإ متابعة أهل المشرق يرجعون إلى أخبارهم المعتادة رجوع الحديث إلى قتادة حتى لو نعق تبلك الآفاق غراب، أو طنّ بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنماً، وتلوا ذلك كتاباً محكماً ».
والحق أن الأندلسيين كالمشرقيين أنتجوا في الأدب أكثر مما أنتجوا في العلوم سواء النثر أو الشعر، وأكثروا من وصف الحياة الاجتماعية وما تستدعيه من وصف مجالس اللهو والغناء والشراب، والعلاقة بالنساء، والحروب، والقول في ألم الفراق، والرقص والراقصات، والمناظر الطبيعية، والملاحم في تاريخ الأندلس، وغير ذلك.
وكل هذا مع ما عرف من طبيعة العرب من كثرة القول وطواعية اللسان، مما جعلهم ينتجون من الأدب أكثر مما ينتجون من العلوم الرياضة والطبيعية.
وكانت المدة الطويلة التي عاشتها الحضارة الأندلسية، إذ بلغت ثمانية قرون كفيلة بقوة الاحتكاك بين الشرق والغرب، واستفادة الغرب منها.
%%%