المحاضرة السادسة ع
صور من الخطابة الأندلسية
خطبة طارق بن زياد :-
بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وذكر فضل الجهاد، ورغب فى الشهادة قال:
أيها الناس ! أين المفر([1]) ؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم([2])، وليس لكم والله إلا الصدق([3]) والصبر، واعلموا أنكم فى هذه الجزيرة، أضيع من الأيتام([4]) فى مأدبة اللئام([5]).
وقد استقبلكم عدوكم بجيشه، وأسلحته وأقواته موفورة([6])، وأنتم لا وزر([7]) لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدى عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمراً، ذهب ريحكم([8])، وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجراءة ([9]) عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة([10]) هذا الطاغية([11])، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة([12])، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإنى لم أحذركم أمراً أنا عن بنجوة([13])، ولا حملتكم على خطة – أرخص متاع فيها النفوس – أرباً عنها بنفسى([14]) ؛ واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً، استمتعتم بالأرفة([15]) الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسى، فيما حظكم فيه أوفر من حظى([16])، وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، من بنات الرومان، الرافلات فى الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان([17])، المقصورات فى قصور الملوك ذوى التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك، أمير المؤمنين من الأبطال عزباناً([18])، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً([19])، ثقة منه بارتياحكم للطعان، وإسماحكم([20]) بمجالدة ([21]) الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصاً لكم([22]) من دونه، ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولى إنجادكم على ما يكون لكم ذكراً فى الدارين.
واعلموا أنى أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأنى عند ملتقى الجمعين حامل بنفسى على طاغية القوم لذريق، فقاتله إن شاء الله تعالى. فإن هلكت بعده فقد كفيتم أمره، ولم يعوزكم([23]) بطل عاقل تسندون أموركم إليه. وإن هلكت قبل وصولى إليه فاخلفونى فى عزيمتى هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكشفوا الهم([24]) من فتح الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون.
ويقول باحث معاصر([25]) :
(تحيط الرواية الإسلامية ظفر طارق فى سل شريش بطائفة من التفاصيل الشائقة، فتقول لنا أولاً إن طارقاً خطب جنده قبل الموقعة، وألقى فيهم خطبته الشهيرة التى ما زال يحفظها الطلاب كنموذج من نماذج النثر المختار والتى يفتتحها بقوله : (أيها الناس ! أين المفر ؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر). ثم يحث فيها جنده على القتال والاستشهاد فى سبيل الله ويرغبهم فى ثمار النصر، ويحذرهم من عواقب التخاذل والتفرق. وتنوه الرواية الإسلامية بما كان لهذا الخطاب من أثر قوى فى إذكاء همم المسلمين وشجاعتهم، ودفعهم إلى طريق النصر ، على أنه يسوغ لنا أن نرتاب فى نسبة هذه الخطبة إلى طارق، فإن معظم المؤرخين المسلمين، ولاسيما المتقدمين منهم لا يشير إليها، ولم يذكرها ابن عبد الحكم، ولا البلاذرى، وهما أقدم رواة الفتوحات الإسلامية، ولم تشير إليها المصادر الأندلسية المتقدمة، ولم يشر إليها ابن الأثير وابن خلدون، ونقلها المقرى عن مؤلف لم يذكر اسمه، وهى على العموم أكثر ظهوراً فى كتب المؤرخين والأدباء المتأخرين. ليس بعيداً أن يكون طارق قد خطب جنده قبل الموقعة، فنحن نعرف أن كثيراً من قادة الغزوات الإسلامية الأولى كانوا يخطبون جندهم فى الميدان، ولكن فى لغة هذه الخطبة وروعة أسلوبها وعبارتها ما يحمل على الشك فى نسبتها إلى طارق وهو بربرى لم يكن عريقاً فى الإسلام والعروبة، والظاهر أنها من إنشاء بعض المتأخرين صاغها على لسان طارق مع مراعاة ظروف المكان والزمان).
ومهما كان، فهذه الخطبة تعد من الأدب الأندلسى تجوزاً، لأن طارقاً لم يكن بعد قد عاش فى الأندلس، أو تأثر ببيئتها وإنما كان لأول مرة يضع قدميه على أرضها، فهى من الأدب العربى عامة لا الأندلس خاصة، أو هى صورة للخطابة فى المشرق وحده.
$$$
القصة فى الأندلس
([1]) يجوز أن تكون بكسر الفاء اسم مكان، كذا قرئ قوله تعالى : }أَيْنَ الْمَفَرُّ{، وقيل إن اسم الموضع بالفتح وعليه الجمهور.
([2]) ذكروا أن السفن التى نقلت العرب من سبتة إلى الجزيرة كانت أربعاً، وأنها ظلت ذاهبة آئبة تنقل الجنود حتى تم حصولهم جميعاً ببر الأندلس، وأنها كانت ليليان، وليست للعرب ؛ فاتخذ طارق من انصرافها وانحصارهم فى الجزيرة بين العدوين : البحر والقوط، سبباً لحملهم على الاستبسال.
([4]) رواية ابن خلكان مآدب، وهى جمع مأدبة، والمأدبة بفتح الدال وضمها، وكذلك الأدبة كحجرة : طعام صنع لدعوة أو عرس، والفعل أدب كضرب كآدب.
([7]) الوزر : بالتحريك الجبل المنيع، وكل معلق، والملجأ، ويطلق على السلاح لأنه يعصم أصحابه، والوزير من الوزر بالكسر، وهو الحمل الثقيل لأنه يحمل ثقل الأمر ويعين الملك برأيه، أو من الوزر (بالتحريك) لأن الملجأ إليه فى التدبير.
([8]) من معانى الريح : الغلبة والقوة والدولة، وكل هذه المعانى صالحة هنا، والريح تذكر وتؤنث لذلك وردت رواية ابن خلكان : (ذهبت ريحكم).
([10]) المناجزة : المقالتة كالتناجز، ونجز كفرح ونصر : انقضى وفنى، ونجز (كنصر) الحاجة قضاها كأنجزها، وأنت على نجز من حاجتك : أى على شرف من قضائها، وقولهم المحاجزة قبل المناجزة : أى المسالمة قبل التعجيل بالقتال، يضرب فى حزم من عجل الفرار، قبل قتال من لا قبل له به، ولمن يطلب الصلح بعد القتال. والمعنى : قد فات أوان ذلك. كما يقال : الصيف ضيعت اللبن.
([11]) الطاغية : ملك النصارى كأن العرب فرضوا الظلم لازمة هؤلاء الملوك، فألزموهم هذا الوصف، ثم غلبت عليه الاسمية، وفى رواية ابن خلكان : (هذه الطاغية) وهى خطأ.
([15]) رفه عيش الرجل : ككرم، لان، فالرجل رفيه ورافه ورفهان ومترفه : مستريح متنعم، ورفه الرجل كمنع رفها بالفتح والكسر ورفوها، لان عيشه.
([16]) فى رواية النفح : (فما حظكم فيه بأوفى من حظى) والمعنى لا يستقيم لأنه يريد أن يقول لهم إن حظكم من الفتح أعظم من حظى، فأنا وال قابل للنقلة، أما أنتم فقد صارت لكم البلاد ولأعقابكم، لذلك تؤثر رواية ابن خلكان.
([18]) العزب : بالتحريك كالمعزابة، والعزيب من لا أهل له غير المتزوج، وعزباناً جمع عزيب، كشجيع وشجعان، وعزب كجذع وجذعان، أو عازب كصاحب وصحبان، أو أعزب – على القول بوروده – فيكون كأعمى وعميان.
([19]) الصهر : بالكسر القرابة، وزوج بنت الرجل أو أخته. والختن : بالتحريك : الصهر أو ما كان من قبل المرأة كالأب والأخ.
([20]) فى نفخ الطيب وابن خلكان : (استماحكم) وليس فى كتب اللغة افتعل من هذه المادة، فلابد أن تكون محرفة عن : إسماحكم، يقال سمح كمنع وأسمح بمعنى جاد وكرم أما سمح ككرم، فمعناها : صار من أهل السماحة، والوصف منه سمح ككتف ويخفف.
([22]) هذه رواية ابن خلكان، ورواية نفح الطيب بإثبات التاء : (خالصة) وتخريجها على جعل يكون تامة بمعنى يحصل، وتكون خالصة حالاً من الهاء فى مغنمها.
([24]) فى رواية النفح : (واكتفوا الهم) وفى رواية ابن خلكان : (واكتفوا المهم) وأرى أن الروايتين غير صالحتين لأن صيغة اكتفى لم ترد إلا لازمة تقول اكتفيت بكذا بمعنى قنعت به واستغنيت، ولكن المعنى المراد هنا هو معنى رد ومنع، وكانت تؤديه كلمة كفى كما فى قولنا : كفاك الله السوء، وكان يصح أن نجعل الكلمة فى الخطبة محرفة عن هذا الفعل، فيكون الأصل اكفوا المهم، أى ردوه وامنعوه، ويكون المفعول الأول للفعل محذوفاً، والأصل اكفوا أنفسكم المهم، ولكنى أستحسن أن يكون التحريف عن اكتشفوا كما أثبتناه فى نص الخطبة، ويكون المعنى : أزيحوا الهم عن أنفسكم بقتل هذا الطاغية.
ولهذه الخطبة نص فى كتاب الإمامة والسياسة، ولكنه بعيد عن النصين اللذين رجعنا إليهما.