المحاضرة العاشرة ا
الزهــد :
ولد فى أحضان الثورة على الحكم الربضى، إذ كان الأتقياء ينظمون أشعار الزهد ويتغنون بها فى الليل ويضمونها التعريض به، ثم أخذ هذا الأدب يقوى رداً على الحياة اللاهية فى المدن أو انقياداً لداعي التقوى فى النفس أيام الشيخوخة كما فى زهديات الغزال وممحصات ابن عبد ربه وهى قصائد نظمها لينقض القصائد اللاهية التى قالها فى أيام الشباب.
ووجد من الأتقياء من تخصص فى هذا النوع من الشعر مثل ابن أبى زمنين صاحب ديوان النصائح وقاسم بن نصير الذى ألف كتاباً فى الشعراء من الفقهاء تكملة لهذا الاتجاه الذى كان قد انتهجه فى شعره.
وفى هذا الموضوع الزهدى نحس بشخصية أبى العتاهية وأفكاره ونظراته فى الحياة والموت، وهو موضوع مشترك بين أناس ينظرون إلى الحياة الدنيا من خلال نظرهم إلى الموت والحياة الخالدة، فمن الصعب أن نحكم بأن الأندلسيين استعاروا هذا الموضوع من أبى العتاهية أو اقتبسوا تماماً فنه الشعرى، لأن الزهد نزعة لها أصولها الاجتماعية وليست تجئ كلها اقتباساً، ولكن أثر أبى العتاهية فى تقوية النزعة والاتجاه الشعرى لا يمكن إنكاره.
فقول الزبيدى الآتى يتفق مع شعر أبى العتاهية من حيث الشكل والموضوع فى قوله :
لِدوا للموتِ وابنوا للخرابِ |
|
فككمُ يَصيرُ إلى تبابِ |
أما الزبيدى فيقول :
لقد فاز الموفقُ للصوابِ |
|
وعاتب نفسهُ قبل العتابِ |
ومن شِغلَ الفؤادَ بحب مولى |
|
يُجازى بالجزيل من الثواب |
فذاك يَنالُ عِزّاً لا كِعزّ |
|
من الدنيا يصيرُ إلى ذهاب |
تفكّرْ فى الممات فعن قريبِ |
|
يُنادى بالرَّحيل إلى الحساب |
وقدّمْ ما تُرَجّى النفعَ منه |
|
لدار الخُلد واعمل بالكتاب |
ولا تغتَّر بالدنيا فعما |
|
قريب سوف تؤذنُ بالخراب |
وإذا رجعنا قول ابن أبى زمنين :-
أيها المرء إنّ دنياكَ بحرٌ |
|
طامحٌ موجهُ فلا تأمنَنَها |
وسبيلُ النجاةِ فيها مبينٌ |
|
وهو أخذُ الكفاف والقوت منها |
فالموضوع واحد، ولكن الفرق ينتج عن صورة الدنيا عند كلا منهم، والصورة التى رسمها أبن أبى زمنين للدنيا أقرب إلى أن تكون صورة أندلسية أصيلة.
ومنذ عصر المرابطين نجد كثرة الزهاد تتحول إلى التصوف وعالمه، وتظل أسراب شعر الزهد الذى كان يجرى على ألسنة العلماء والشعراء تنطلق فى مجراها الذى بدأت مسيرتها فيه منذ عصر الدولة الأموية([1]). من ذلك قول حازم القرطاجنى :-
لم يَدْرِ من ظَنَّ الحياة إقامةً |
|
أنَّ الحياةَ تنقلُ وترحُّل |
فى كل يوم يقطعُ الإنسان من |
|
دُنْيَاه مرحلةً ويدنو المَنْهَل |
يَحْظَى السعيد به بطول سعادةٍ |
|
وأخو الشقاوة للشقاوة يُنْقَل |
لا تبكِ إشفاقاً لما استدبرته |
|
ولتبكِ إشفاقاً لما تستقبل |
فهو يقول : إن من الخطأ أن يظن الإنسان أن الحياة دار إقامة، فإنها دار تنقل وارتحال، فى كل يوم يقطع الإنسان فيها مرحلة من حياته إلى أن تكون المرحلة الأخيرة، وينتقل إلى حياته الثانية فينتقل إما إلى سعادة ونعيم وإما إلى شقاوة وجحيم، ومن عجب أن يبكى المرء إشفاقاً على ما خَّلف منها وراء ظهره، وحقه أن يبكى إشفاقاً على ما يستقبله فى أخرته من مصير غير معروف شقى أو سعيد.
ومن زهاد الأندلسى أبو إسحق الإلبيرى ([2])، لزم فى نشأته أستاذه ابن أبى زمنين، وكان من البكائين الورعين الخاشعين يقول عنه ابن سعيد:
« له ديوان ملآن من أشعار زهدية ولأهل الأندلس غرام بحفظها » وهو غرام مرجعه إلى ما تمتاز به زهدياته عن لغة ناصعة وخواطر منوعة تمس القلوب بما تحمل من فيض المشاعر الدينية، وكأنما يستمد من نبع حماسى يتدفق فى عذوبة، وديوانه يستهل بتائية فى مائة بيت وسبعة يفتتحها بقوله :
تفتُّ فؤادك الأيام فتا |
|
وتنحت جسمك الساعات نحتا |
وتدعوك المنون دعاء صِدقٍ |
|
ألا ياصاح : أنت أريد أنتا |
ويختمها بقوله :
يا أيها المُغتر بالله |
|
فِرَّ من الله إلى الله |
ولُذْبه واسألُه من فضله |
|
فقد نَجَا مَنْ لاذ بالله |
وقُمْ له والليلُ فى جُنحه |
|
فحبذا من قام لله |
واتلُ من الوحى ولو آية |
|
تُكْسَى بها نوراً من الله |
وعَفَّر الوجهَ له ساجداً |
|
فعزَّ وجهٌ ذل لله |
فهو يقول للغافل عن ذكر ربه، فر من عقابه إلى ثوابه والجأ إليه واسأله من فضله تنج من عذاب النار، وتهجد فى آناء الليل، واتل من القرآن ولو آية يسبغ الله نورها عليك، ومرغ وجهك فى العَفْر ووجه الأرض ساجداً لربك فتذللا له، فعز وجه يتضرع إليه ويخضع وينقاد.
وتمضى القصيدة بهذه الروعة فى الصياغة، وكل بيت يدل دلالة جديدة، ومعه جوهرة لفظ الجلالة تضئ جوانبه، وتنزل منه منزلاً محكما.
%%%
فن الموشحات الأندلسية
الموشحات ([3]) بين المشرق والمغرب :
الموشح فن جديد من فنون الشعر العربي يمتاز بجماله الفنى، وكثرة صوره الشعرية وتعقيدها فى صناعة الشعر وكثرة قوافيه وأدواره، وبأوزانه الكثيرة التي تلائم الذوق، وتوائم الموسيقى والغناء وتتمشى مع الترف وجمال الفن، والموشح جار على طريقة أهل الروم، جاء من بلادهم خالياً من الكلام، ليس فيه سوى النغمات المخصوصة، ثم تأمل العرب أدواره ونظموا الموشحات على مقتضاه، ويقال إن أول التواشيح هو المنسوب إلى أولاد النجار عند قدوم النبى r المدينة، فستقبلوه والجواري ينشدن :
أشرقت أنوار محمد |
|
واختفت منه البدور |
يا محمد يا محمد |
|
أنت نور فوق نور([4]) |
على أن هذا هو صورة بدائية للموشحات، والصلة بينه وبين الموشحات كما عرفها المتأخرون بعيدة أو منقطعة.. وقد جدد الشعراء العباسيون فى القصيدة العربية تخلصاً من قيود القافية. ولكي يلائم الشعر الغناء، فاخترعوا المسمط والمخمس والمزدوج والدوبيت والمواليا والسلسلة والمخمسات، نظم عليها بشار ومحمد بن أبي بدر السلمى ([5]) ومحمد بن عيسى التميمي([6])، وسواهم من الشعراء العباسيين، ويراها ابن رشيق هى والمسمطات دالة على عجز الشاعر وقلة قوافيه([7])، ونسب لامرئ القيس مسمط، وينفي كثير من النقاد نسبته إليه ([8]).
والسبب الأول فى اختراع الموشحات هو الغناء ([9])، لأن أوزانها أحفل بالغناء والتلحين، الذي كان ضرورياً عند شعراء الأندلس من أوزان الشعر ([10])، واتخذ فى أول الأمر أداة للهو والمجون، ثم استعمل بعد ذلك فب أغراض الشعر الأخرى([11]).
وتنسب لابن المعتز (247-296هـ) أول موشحة من الموشحات الفنية المعروفة، وهى موجودة فى ديوانه المخطوط والمطبوع اذ كانت صحيحة النسبة لابن المعتز تكون أول موشحة عرفت فى الأدب العربي، والباحثون يختلفون فى ذلك :
فيتردد بعض الباحثين فيمن سبق إلى اختراع الموشحات : أهو ابن المعتز أم مقدم بن معاقر الفريري الأندلسي ([12]). ويرى آخر أنه مع ذلك لا يستبعد أن تكون روح ذلك العصر التي أوحت إلى أحدهما بهذه الفكرة هى التي أوحت إلى الآخر بها دون تقييد([13])، ويرى آخرون أن الموشحات فن أندلسي خالص سبق إلى اختراعه الأندلسيون ([14])، وهناك من يزعم أن ابن المعتز هو مبتدع الموشحات.
وفى رأيي([15]) أن هذه الموشحة ليست لابن المعتز، بل هي بعيدة عن روح الشاعر وعواطفه وفنه الأدبي ولا تمثل شيئاً من نظراته فى الحياة، وليس فيها تشبيه واحد من التشبيهات التى عرف بها ابن المعتز،.. إنها بعيدة عن جو ابن المعتز وسماته الفنية، وجو الأندلس أغلب عليها.. وقد كنت أظن أنها لابن معتز الأندلس مروان بن عبد الرحمن الأمير الشاعر المشهور (352 – 400) ([16])، ولكن وجدت فى بعض المصادر نسبتها لأبى بكر محمد بن عبد الملك بن زهر الأندلسى الأشبيلي (507 -595)([17]). وإذا كان صحيح النسبة لابن زهر فانه من المشكوك فيه حينئذ: من هو السابق إلى ابتكار نمط هذه الموشحة، أهو ابن زهر أم ابن بقي الأندلسى المتوفى عام 540هـ، والذي تروى له موشحه عارض بها الموشحة المنسوبة لابن المعتز، وأولها :
هلك الصب المعنى هل لكا
|
|
فى تلافيه بوعد مطمع |
ويذكر ابن معصوم كذلك فى كتابه السلافة أن الموشحات من ابتداع مقدم بن معافر ([18]).
ابن خلدون ورأيه فى الموشحات :
يقول ابن خلدون : « أما أهل الأندلس، فلما كثر الشعر فى ديارهم وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فناً منه، سموه بالموشح، ينظمونه أسماطاً أسماطاً، وأغصاناً أغصاناً يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة، ويسمون المتعدد منها بيتاً واحداً ويلتزمون قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتالياً فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات. وينسبون فيها ويمدحون، كما يفعل فى القصائد. وتجاروا فى ذلك الغاية ؟ واسنظرفه الناس جملة : الخاصة والكافة، لسهولة تناوله، وقرب طريقه، وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم بن معافر الفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، وأخذ ذلك عنه عبد الله أحمد ابن عبد ربه صاحب كتاب العقد الفريد، ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر. وكسدت موشحاتهما فكان أول من برع فى هذا الشأن عبادة الفزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية، وقد ذكر الأعلم البطليوسي، أنه سمع أبا بكر ابن زهر يقول : كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز فيما اتفق له من قوله :
بدر تم شمس ضحى |
|
غصن نقا مسك شم |
ما أتم ما أوضحا |
|
ما أورقا ما أنم |
لا جرم من لمحا |
|
قد عشقا قد حرم |
وزعموا أنه لم يسبق عبادة وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن الطوائف ؛ وجاء مصلياً خلفه منهم ابن رافع رأسه، شاعر المأمون ابن ذي النون صاحب طليطة، قالوا : وقد أحسن فى ابتدائه في موشحته التى طارت له، حيث يقول :
العود قد ترنم |
|
بأبدع تلحين |
وسقت المذانب |
|
رياض البساتين([19]) |
وفى انتهائه حيث يقول :
تخطر ولا تسلم |
|
عساك المأمون |
مروع الكتائب |
|
يحيى بن ذي النون |
ثم جاءت الحلبة التى كانت فى دولة الملثمين، فظهرت لهم البدائع وسابق حلبتهم الأعمى التطيلي، ثم يحيى بن بقي ».
شعراء الموشحات فى الأندلس :
إن أول من ثار على الأوزان القديمة وابتدع الموشحات كما يروى هو مقدم ابن معافر الفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني([20]) فى القرن الثالث الهجري وهو الذي نوع أوزانها وأدوارها، وعنه أخذ أحمد ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد المتوفى عام 328هـ، وكان ذلك فى القرن الرابع الهجري، وعن هذين أخذ الناس، ثم سال سيل الموشحات فى المغرب والمشرق فبرع بعدهما عباقرة الوشاحين فى الأندلس، ومقدمهم : عبادة القزاز المتوفى سنة 422هـ، شاعر المعتصم ابن صمادح صاحب المرية من ملوك الطوائف، وجاء بعده « ابن رافع رأسه» شاعر المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة من ملوك الطوائف أيضاً، وقد حكم بنو ذي النون طليطلة فى القرن الخامس (427 – 478هـ ). ثم جاءت الحلبة التي كانت فى زمن الملثمين وعلى رأسها فارسها الأعمى التطليلى المتوفى عام 520هـ ووراءه يحيى بن بقى، وأبو بكر الأبيض، وابن باجة الفيلسوف الطيب الملحن المتوفى عام 533هـ وابن اللبانة المتوفى عام 517هـ، واشتهر بعد هؤلاء في فجر دولة الموحدين : ابن شرف، وابن هردوس، وابن مؤهل، وابن زهر الفيلسوف.
وبعد هذه الطبقة طبقات جاءت بالغرائب ؛ ومنهم : ابن سهل الإسرائيلي الاشبيلي المتوفى عام 649هـ وأبو حيان النحوي، ولسان الدين بن الخطيب م 776هـ وابن زمرك وتلميذه.
وبرع فى العدوة نفر منهم : ابن خلف الجزائري، وفى المشرق كثيرون منهم : ابن سناء الملك المتوفى عام 608هـ. صاحب كتاب « دار الطراز » فى الموشحات وأنواعها.
الفن الشعري للموشحة:
ذكر ابن سناء الملك فى كتابه « دار الطراز» عدة مناهج فنية في نظم الموشحات، وترتيب أبياتها وأظهر طريقة فى نظمها هي كما ذكرها ابن سناء وابن خلدون وسواهما أن تتألف الموشحة من أقفال وأبيات فالأقفال هي ما اتفقت وزناً وأجزاء وقافية، والأبيات هى ما اتفقت وزناً وأجزاء واختلفت قافية غالباً وينقسم الموشح باعتباره جزأيه إلى :
1- تام : وهو ما تألف من ستة أقفال وخمسة أبيات وابتدئ فيه بالأقفال.
2- والى أقرع، وهو ما تركب من خمسة أقفال، وخمسة أبيات، وابتدئ فيه بالأبيات، فمثال الأول، قول ابن التلمسانى :
قمر يجلو دجى الغلس |
|
بهر الأبصار منذ ظهرا |
||
|
آمن من شينة الكلف |
|
||
|
عذت من حبيه بالكلف |
|
||
|
لم يزل يسعى إلى تلفي |
|
||
|
بركاب الدل والصلف |
|
||
فالقفل « قمر الخ» والبيت من « آمن » إلى « الصلف»، والموشح تام لأنه مبتدأ بالقفل. ومثال الثاني قول الآخر :
|
سطوة الحبيب |
|
أحلى من جنى النحل |
|
|
وعلى الكثيب |
|
أن يخضع للذل |
|
|
أنا في حروب |
|
مع الحدق النجل |
|
ليس لي يدان بأحور فتان |
|
من رأى جفونه فقد أفسد دينه |
||
فمن قوله : « سطوة» إلى قوله « النجل» بيت. ومن « ليس لي» إلى « دينه» قفل، والموشح أقرع، لأنه بدئ ببيت.
وأقل ما يتركب منه القفل جزءان، وقد يصل إلى احد عشر جزءاً وتنقسم الأبيات إلى : مفردة، ومركبة ـ والأولى ما تركبت من أجزاء فقط والأخرى ما تألفت من أجزاء وفقر.
ومثال الأولى :
|
شمس قارنت بدراً راح ونديم |
|
|
أدر كؤوس الخمر |
|
|
عنبرية النشر |
|
|
إن الروض ذو بشر |
|
ومثال الأخرى :
عقارب الأصداغ فى السوسن
الغض |
|
تسبى تقى من لاذ بالنسك والوعظ |
||
|
من قبل أن يعدو |
|
على لم أحسب |
|
|
أن تخضع الأسد |
|
لجؤذر ربرب |
|
|
ظبي له خد |
|
مفضض مذهب |
|
|
وشادن يبدو |
|
فى صدغه عقرب |
|
فالبيت فى المثال الأول مركب من أجزاء فحسب، أما فى الثانى فمركب من أجزاء وفقر، كما ترى([21]).
والقفل كما ذكرنا آنفاً يتركب من جزأين فأكثر إلى ثمانية أو عشرة، وقد أوصله ابن سناء الملك إلى أحد عشر.
فمثال المكون من جزأين قول الشاب الظريف :
قمر يجلو دجا الغلس |
|
بهر الأبصار مذ ظهرا |
ومثال المكون من ثلاثة أجزاء :
حلب به الأمطار |
|
أزرة النوار، فيا خدني |
وهكذا...
ومثال المركب من أحد عشر قول ابن سناء الملك :
مظلوم، المسواك، ثغر هداك، بالابتسام إلى الغرام، فيا خلي، لا تعذلي، دعني فلن، أصبر عن، سحار، وفتاك.
والبيت قلنا إنه بسيط ومركب، فالبسيط يكون من ثلاثة أجزاء أو أربعة أو خمسة، ومثاله فيما تركب من ثلاثة :
أرى لك مهند أحاط به الإثمد فجرد ما جرد |
||
|
فيا ساحر الجفن حسامك قطاع |
|
فالأجزاء الثلاثة الأولى، والأخيران قفله مركبة من فقرتين.
والمركب من الأبيات، ما كان كل منه مركباً من فقرتين، أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة، وبملاحظة أن البيت نفسه يكون مكوناً من ثلاثة أجزاء أو أكثر، نرى أنه يحدث من ذلك صور كثيرة، ولنضرب لها أمثلة توضحها. فمثال البيت المركب من فقرتين وثلاثة أجزاء :
أقم عذري |
|
فقد آن أن أعكف |
على خمر |
|
يطوف بها أوطف([22]) |
كما تدري |
|
هضيم الحشى مخطف |
إذا ما ماد فى مخضرة الأبراد |
|
رأيت الآس بأوراقه قد ماس |
ويلاحظ فى هذا المثال، أن قفلته مكونه من أربعة أجزاء.
ومثال ما تركب من ثلاث فقر وثلاثة أجزاء :
من لى به يرنو |
|
بمقلتى ساحر |
|
إلى العباد |
ينأى به الحسن |
|
فينثني نافر |
|
صعب القياد |
وتارة يدنو |
|
كما احتسى الطائر |
|
ماء الثماد |
فجيده أغيد والخد بالخال، منمق، تكتمه الحجب، فلي إلى الكلة تشوق.
ويلاحظ في هذا المثال أن قفلته مكونة من ستة أجزاء.
ومن أمثلة التام قول الأعمى التطيلى :
ضاحك عن جمان سافر عن بدر |
|
ضاق عنه الزمان وحواه صدري |
||
آه |
مما |
أجد |
|
شفني ما أجد |
قام |
بـي |
وقعد |
|
باطش متئد |
كلما |
قلت |
قد |
|
قال لي : أين قد ؟ |
فمن « ضاحك» إل «صدري» قفلة ؛ ومن « آه» إلى « قد» الثانية بيت.
وهناك طريقة ثانية أتية في نظم الموشح، هى أن تجعل الموشح أسماطاً أسماطاً وأغصاناً أغصاناً وتلتزم عدد الأغصان التي فى كل سمط وأحرف قوافيها إلى آخر الموشح، ومن أمثلة ذلك قول عبادة القزاز :
1 |
|
2 |
|
3 |
|
4 |
بدر تم |
|
شمس ضحا |
|
غصن نقا |
|
مسك شم : سمط |
ما أتم ! |
|
ما أوضحا ! |
|
ما أورقا ! |
|
ما أنسم : سمط |
لا جرم |
|
من لمحا |
|
قد عشق |
|
قد حرم : سمط |
فكل سطر من هذا الموشح يسمى سمطاً، وهو يشتمل على أربعة أغصان والأغصان التي تحت كل رقم متحدة القافية في جميع الأسماط.
ومن طرق نظم الموشح : كذلك أن تأتي ببيتين تسميهما اللازمة ؛ يتفق الحرفان اللذان فى صدريهما « عروضيهما» كما يتفق الحرفان اللذان في عجزيهما « ضربيهما » ثم تتبع اللازمة بأدوار مركبة من خمسة أبيات، ثلاثة منها تتفق الحروف التي في صدورها كما تتفق الحروف التي في أعجازها، أما البيتان الأخيران فيكونان مثل بيتي اللازمة، ومن أمثلة ذلك موشحة ابن سهل الإسرائيلي المتوفى سنة 649هـ ومنها :
أيها السائل عن جرمي لديه |
|
لي جزاء الذنب وهو المذنب |
أخذت شمس الضحا من وجنتيه |
|
مشرقاً للشمس فيه مغرب ([23]) |
ذهب الدمع بأشواقي إليه |
|
وله خد بلحظي مذهب ([24]) |
ومنها :
لازمة :
فهو عندي عادل إن ظلما |
|
وعذولي نطقه كالخرس |
ليس لي في الأمر حكم بعدما |
|
حل في نفسي محل النفس |
دور :
منه للنار بأحشائي ضرام |
|
تتلظى كل حين ما تشا ([25]) |
هى في خديه برد وسلام |
|
وهى حر وحريق في الحشا |
أتقي منه على حكم الغرام |
|
أسداً ورداً وأهواه رشا ([26]) |
قلت لما أن تبدى معلماً |
|
وهو من ألحاظه فى حرس ([27]) |
أيها الآخذ قلبي مغنما |
|
اجعل الوصل مكان الخمس ([28]) |
ومن أمثلة ذلك أيضاً موشحة لسان الدين بن الخطيب وزير بني الأحمر المتوفي سنة 776هـ، وقد عارض بها ابن سهل، ومنها :
وروى النعمان عن ماء السما |
|
كيف يروي مالك عن أنس ([29]) |
فكساه الحسن ثوباً معلما |
|
يزدهي منه بأبهي ملبس |
فى ليال كتمت سر الهوى |
|
بالدجى لولا شموس الغرر |
قال نجم الكأس فيها وهوى |
|
مستقيم السير سعد الأثر |
وطر ما فيه من عيب سوى |
|
أنه مر كلمح البصر |
حين لذ الأنس شيئاً أو كما |
|
هجم الصبح هجوم الحرس |
غارت الشهب بنا أو ربما |
|
أثرت فينا عيون النرجس |
ومن الطرق كذلك أن تأتي بموشحة تجعل أولها بيتاً تلتزم فيه التقفية فى صدر الشطر الأول وعروضه، وصدر الشطر الثانى وضربه، وتسمي هذا البيت مذهباً، ثم تأتي بثلاثة أشطر أخرى تلتزم فيها التقفية أيضاً لكن على حرف آخر، وتسمى هذه الأشطر دوراً ثم تعود وتأتي ببيت مقفى كالأول ومتحد معه فى حرف التقفية ويسمى قفلة، ثم تأتي بدور وقفلة أخرى، وهكذا إلى سبعة أدوار فى الأكثر.. ومن أمثلة ذلك موشحة ابن سناء الملك، ومنها :
قفلة
واحل: حتى تراني عنك في معزل |
|
قلل: فالراح كالعشق إن يزد يقتل |
دور
من ظلم:فى دولة الحسن إذا ما حكم |
|
فالسدم يجول فى باطنه والندم([30]) |
||
|
والقلم يكتب ما سطر فوق القمم |
|
||
قفلة
من ولي: في دولة الحسن ولم يعدل |
|
يعزل إلالحاظ الرشأ الأكحل |
دور
لاأريم:عن شرب صهباء وعن عشق ريم |
|
فالنعيم:عيش جديد ومدام قديم([31]) |
||
|
لا أهيم : إلا بهذين فقم يا نديم |
|
||
وهذه المناهج الأربع هي أسهل الكيفيات وأقرها اتصالاً بالأذهان، وهناك طرق أخرى لا يأتي عليها العد، وحسبك من القلادة ما أحاط العنق.
أوزان الموشحات :
لم يلتزم الأندلسيون في الموشح قافية واحدة أو وزناً واحداً، لأنهم وجدوا أن إيجاد وزن يناسب النغم أسهل من إيجاد نغم يناسب الوزن، ومن أجل ذلك كان الموشح تابعاً لما تقتضيه الأنغام، فتارة يوافق أوزان الشعر العربية التي ابتكرها الخليل، وتارة يخالفها ؛ ويقول ابن سناء الملك المتوفي عام 608هـ في كتابه « دار الطراز» المخطوط بدار الكتب المصرية : الموشحات تنقسم إلى قسمين :
1- ما جاء على أوزان أشعار العرب وهو قسمان : أحدهما ما لا يتخلل أقفاله وأبياته كلمة تخرج تلك الفقرة التي جاءت فيها عن الوزن الشعري، وما كان من الموشحات على هذا النسج فهو المرذول المخذول، وهو بالمخمسات أشبه منه بالموشحات، ولا يفعله إلا الضعاف من الشعراء وذلك كقول القائل :
يا شقيق الروح من جسدي |
|
أهوى بى منك أم لمم ؟ |
فهذا من المديد، وكقول الآخر ( وهو ابن المعتز ) :
أيها الساقي إليك المشتكي |
|
قد دعوناك وإن لم تسمع |
فهذا من الرمل. والثاني تخللته كلمة أخرجته من الوزن مثل قول ابن بقي :
صبرت والصبر شيمة العاني |
|
ولم أقل لمطيل هجراني |
|
معذبي كفاني |
2- والثاني وهو ما لا مدخل فيه لشيء من أوزان الشعر، هو القسم الكثير، والجم الغفير، والقدر الذي لا ينحصر، وأوزانه كثيرة منها : « مستفعلن فاعلن فعيل » مرتين، ومنها : « فاعلاتن فاعلن مستفعلن فاعلن » مرتين.
أسلوب الموشح وأغراضه : أما أسلوبه فعربي، في ألفاظه وتراكيبه، وقد تكون بعض ألفاظه غير معربة، وكان كلنا تقدم الزمن به زاد عدم العناية بالإعراب فيه ([32])، وإن كان لا يخرج فى جملته عن الأسلوب العربي، وذلك عدا الخرجة وهي آخر قفل من الموشح، وهى غالباً تكون فكاهة عذبة ونادرة حارة، ملحونة اللفظ، جارية على لسان ناطق أو صامت. يقول ابن خلدون : ولما شاع الموشح وأخذ به الجمهور لسلاسته نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله ونظموا فى طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعراباً وهو الزجل. ويرى بعض النقاد اشتراط خلو الموشح، من اللحن وأنه كالشعر فى إعرابه، قال ابن سناء : اللحن لا يجوز استعماله فى شيء من ألفاظ الموشح إلا فى الخرجة خاصة، ويقول أحمد ضيف في كتابه : بلاغة العرب في الأندلس نقلاً عن بعض المتأخرين : إن الموشحة كالشعر فى إعرابه، وإن كانت تخالفه فى أوزانه.
وأما أغراض الموشحات فقد كانت تنظم أولاً للغناء، والمعاني الوجدانية المتصلة بالتلحين كالغزل والوصف، ولما شاعر الموشح وانتشر بيت الشعراء شاع نظمه فى شتى أغراض الشعر، من الفخر والمدح والرثاء والهجاء والوصف والتهنئة والوعظ والشكر. وسواها.
ألوان من الموشحات : لابن زمرك موشحة منها :
والحب ذو عدوان |
|
يجهد في ظلم البري |
وصارم الأجفان |
|
مؤيد بالحور |
رحماك فى صب |
|
أذكرته عهد الصبا |
بواعث الحب |
|
قادت إليه الوصبا |
لم تهف بالقلب |
|
ريح الصبا إلا هبا ([33]) |
وقد انتقل التوشيح – بعد شيوعه بالأندلس- إلى بلاد المغرب والشرق، فنبغ فيه كثير، على رأسهم ابن سناء الملك، المتوفى سنة 608هـ، وقد فتح فيه فتحاً جديداً، وأحدث أنواعاً وأوزاناً لم يسبق إليها ومن موشحاته موشحاته المشهورة :
كللي، يا سحب تيجان الربا بالحلى |
واجعلي، سوارك منعطف الجدول |
يا سما، فيك وفي الأرض نجوم وما ([34]) |
كلما، أغربت نجماً أشرقت أنجما([35]) |
وهى ما، تهطل إلا بالطلى والدما ([36]) |
فاهطلي، على قطوف الكرم كي تمثلي |
وانقلي للدن طعم الشهد والقوقل([37]) |
تتقد كالكوكب الدري للمرتصد |
يعتقد بها المجوسي بما يعتقد |
فاتئد يا ساقي الراح بها واعتمد |
ونظم كثير من الشعراء في المشرق الموشحات ؛ ولا يزال بعض الشعراء إلى اليوم ينظمون الموشح، ومنهم أبو الوفا رمزي نظيم الشاعر المصري المعاصر والرصافي الشاعر العراقي المشهور المتوفى عام 1945م.
ولا شك أن الموشحات نمط جديد ولون مبتدع فى الأدب، وأنها طوعت الشعر للغناء إلى حد كبير، وقربت أسلوب الشعر للجماهير، وقصرت المسافة بين العربية والعامية، وارتقت بأذواق الجماهير، وكانت ذات أثر كبير فى الشعر العربي القديم والحديث.
%%%([2]) هو أبو اسحق إبراهيم بن مسعود بن سعد التُّجيبى، من أهل حصن العقاب بالقرب من إلبيرة، توفى سنة 460هـ.
([3]) الموشحة من الظباء والشاء والطير: التي لها طرتان من جانبيها، قال الشاعر :
أو الأدم الموشحة العواطي |
|
بأيديهن من سلم النعاف |
والطرتات من الحمار وغيره مخطٌ الجَنْبَيْن، وديك موشح إذا كان له خطتان كالوشاح والخطة كالخط، وثوب موشخ ذا كان فيه وشي.. وسمى الموشح موشحاً لأن خرجاته وأغصانه كالوشاح له، والوشاح والإشاح كرسان من لؤلؤ وجوهر منظومان مخالف بينهما، معطوف أحدهما على الآخر تتوشح به المرأة. والكرس : القلائد المضموم بعضها إلى بعض.
([4]) هذا النص عن كتاب « القصيدة الدرويشية فى تحرير السبع الفنون الأدبية » للشيخ أحمد الدرويش – وهو مخطوط بدار الكتب المصرية.
([14]) نفح الطيب ط 1302هـ، 4/225 و 195 ، مقدمة ابن خلدون 583 ، الرافعي 3/161، و1 و2 و3 الذخيرة لابن بسام، 49 الفن ومذاهبه فى الشعر لشوقي ضيف.
([16]) راجع ترجمته فى ص447 بغية الملتمس فى تاريخ رجال الأندلس للضبي وهو الجزء الثاني من المكتبة الأندلسية، وترجمته برقم 1343، وهي نفسها فى هامش 186: 3 نفح الطيب للمقري.
([17]) معجم الأدباء 1/22 ، وابن زهر نشأ بالأندلس وبرع فى العربية والشعر وكان يحفظ شعر ذي الرمة وانفرد بالاجادة فى نظم الموشحات (71: 2 معجم الأدباء، 10: 2 وفيات الأعيان ط. 131هـ 313 : 3 الرافعي، 117 :4 نفح الطيب 5 و58 مقدمة ابن خلدون.
([21]) القفل الأخير من الموشح يسمى خرجة، وهى أساس الموشحة، وعليها تنبني، كما أنها جماع سر جمالها وبلاغتها عند الأدباء، والغالب كما يقول الباحثون أن يكون الخروج إليها وثباً واستطراداً، وأن تكون قولاً مستعاراً على بعض ألسنة الناطق أو الصامت، ويكثر أن تكون على ألسنة النساء والصبيان، والسكرى والسكران، وجب حينئذ أن يكون فى البيت الذي قبلها قال : أو قلت أو قالت أو غنى أو غنت أو نحو ذلك.
([28]) يأخذ الجيش الفاتح أربعة أخماس الغنيمة ويترك الخمس للدولة تنفقه فى المصالح، وهو يطالب محبوبه بالعدل.
([29]) فى النعمان وماء السماء تورية إذ النعمان إما الشقائق وهي زهر أحمر، وماء السماء : ماء المطر، وإما النعمان وماء السماء من ملوك الحيرة، والثاني جد الأول، ومالك هو الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب، والمراد أن بين شقائق النعمان والمطر من الشبه ما بين مالك وأبيه أنس من أن الأول في كلا الجانبين ناشئ عن الثاني وأثر منه.