المنهج التاريخى فى البحث الاعلامى
محمد سالم العكارى
تزداد أهمية دراسة التاريخ . على الرغم من التراجع الواضح الذي شهدته الدراسات الإعلامية وفقاً لهذا المنهج .. وذلك بسبب الاهتمام المتزايد بالمناهج الأخرى. ومع ذلك فما زال للتاريخ دور مهم في مجال الدراسات الإعلامية إذ يندر أن يكون هناك بحث إعلامي في أي مجال من مجالات الإعلام إلا ويكون مستنداً إلى رؤية أو خلفية تاريخية سواء أكان ذلك في تتبع النشأة الأولى للظاهرة الإعلامية قيد البحث أو في استعراض ومراجعة الدراسات السابقة هذا من جهة، ومن جهة أخرى ، فإن البحث الإعلامي التاريخي يزود الباحثين بالجذور التاريخية لنظريات الإعلام ونظريات الاتصال وتطورها والممارسات الإعلامية التي تطورت وانتشرت وتنوعت كما أنه يوفر للباحثين في أنواع البحوث الأخرى ، المادة العلمية اللازمة لهم لإدراك الصلة الوثيقة بين الإعلام وبيئاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية بكل مكوناتها والعوامل المختلفة التي تؤثر فيها وتتأثر وبالتالي يمكن إلقاء الضوء على بعض الاتجاهات الحاضرة والمستقبلية كالمشكلات الإعلامية المعاصرة وديناميكية التطور الإعلامي وتقنياته وما إلى ذلك.
وبهذا الفهم للتاريخ ودراسته فإن البحث الإعلامي يستلزم الرجوع إلى الماضي لتعقب الظاهرة التاريخية والتنقيب في أحداثها ودراسة وقائعها وتحليلها على أسس منهجية علمية دقيقة.
وبطبيعة الحال فإن الحديث عن البحوث التاريخية وأهميتها يقودنا إلى الحديث عن المنهج التاريخي ((كمنهج وثائقي يستقرئ عن طريقه الباحث ، الوثائق ويحللها ويستخلص منها المعلومات بعد إخضاعها لعملية الاستدلال والاستنباط العقلي وهو منهج له قواعده وخصائصه وخطواته التي تعتمد على الأسس المستخدمة في البحث العلمي بصفة عامة وما يقتضيه ذلك من تحديد للمفاهيم وما يتصف بها من وصف وتحليل وتفسير وغير ذلك من الخطوات المنهجية المعروفة.
وباختصار إن هذا المنهج يعنى باسترداد الحدث التاريخي من الماضي وبعثه حياً من جديد.
قواعد المنهج التاريخي -
إن المنهج التاريخي يقوم مستندا إلى القواعد التالية:-
1. قاعدة التجديد وتعني تحديد الظاهرة التاريخية محل الدراسة زمانياً ومكانياً مع الاهتمام بالظروف التي صاحبتها باعتبارها جزءا أصيلا منها .
2.قاعدة التحليل وتعني جمع أكبر قدر ممكن من المحلات والمعلومات المتعلقة بالظاهرة وتحليلها وإجراء دراسة نقدية عليها للتأكد من صحتها.
3.قاعدة التركيب وتعني إعادة صياغة المادة التاريخية صياغة علمية وتجاوز مرحلة السرد والوصف إلى التعليل مع افتراض أن الوقائع التاريخية معلولة بعلل وأسباب يسعى الباحث إلى استخلاصها.
4.قاعدة إصدار الأحكام وتعني الحكم على الظاهرة بمنطق العصر الذي ظهرت فيه على اعتبار أن لكل عصر تاريخي حضارة لها شخصيتها وقيمتها ولكل فترة تاريخية أحداثها وظروفها وليس من شأن المؤرخ أن ينظر إلى الماضي من خلال معايير الماضي.
خصائص المنهج التاريخي :
1-((الاستدلال بما هو معروف عما هو مجهول )) .
إن هذه الخاصية هي التي تكشف عن الجوانب الغامضة في التاريخ خاصة عند تعذر الحصول على وثائق صادقه .
وقد اعتمد كولا نج على هذه النقطة بقوله ((يمكن استقراء حالة أو حالات مشابهة كمعيار يستند إليه لتفسير ما هو مجهول)).
2- دراسة العصر الذي بدأت فيه الظاهرة كنقطة للبداية في دراسة الموضوع التاريخي وهذا يعني تتبع الجذور الأولى وتصعيد البحث إلى أقصى ما تمكنه المعلومات التاريخية بالاعتماد على الوثائق والمستندات والسجلات التاريخية وغيرها من مصادر الدراسات التاريخية.
3- إن بحث ودراسة المادة التاريخية موضوع البحث ، لا يعني الوقوف عند تسلسلها التاريخي وإنما تفسير أحداث التاريخ ومادته
، تفسيراً دقيقاً وعميقاًفي نفس الوقت للوقوف على العوامل التي أثرت عليها سلباً وإيجاباً بما يقدم تعليلاً علمياً للظاهرة.
4- التحرر التام من كل ما يمكن أن يضع الباحث في موقف التحيز ، ذلك أن فساد التاريخ يرجع في كثير من حالاته إلى أهواء المؤرخين وميولهم، لذا فإن الاستناد إلى ما هو موثوق به من تفاصيل يعد أمراً مطلوباً بمعنى أن تكون المعلومات المستخدمة في البحث محلاً للثقة وكذلك الأمر بالنسبة لمصادرها وحدف كل ما يشك الباحث في أن له طابعاً ذاتياً نتيجة لتفسيرات المؤرخين وبنفس المستوى ((إيراد وجهات النظر المعارضة لوجهة نظره))
5- استخدام أسلوب واحد في تحليل مواقف وأحداث وشواهد المادة التاريخية.
خطوات المنهج التاريخي:
1- يبدأ البحث التاريخي بفكرة مبدئية غير دقيقة عما يتضمنه موضوع معين ، ولا يستطيع الباحث أن يحدد أبعاد الموضوع إلا بعد تجميع المواد العلمية والمراجع المتصلة به وإجراء عمليات المسح الأولية لمعرفة الرصيد السابق من البحوث والدراسات التي تناولت الموضوع.
2-تحديد مشكلة البحث تحديداً دقيقاً ففي هذا المنهج من المهم أن نحدد بعناية مشكلة البحث وأن تقدر تقديراً جيداً تناسبها مع هذا المنهج ذلك لأن كثيراً من المشكلات البحثية لا يصلح المنهج التاريخي لدراستها ولا شك أن معايير اختيار مشكلات البحوث ومصادرها تساعد الباحث المبتدئ على تحديد المشكلة وفي هذا الجانب يجب مراعاة :-
أ – أهمية الموضوع والهدف من دراسته.
ب – جدة الموضوع وحداثته.
ج – قدرة الباحث على استخدام المنهج التاريخي ومدى توفر الوقت لديه.
د – مدى توفير البيانات والمصادر التاريخية .
هـ - التكاليف المادية التي يحتاج إليها الباحث عند تنفيذ البحث.
إن تحديد مشكلة البحث بدقة وصياغتها بشكل جيد يمكن من تحليلها بفاعلية . ويرى بست،، أن المؤرخ المجرب يعلم أن البحث يجب أن يكون تحليلاًمتعمقاً لمشكلة محدودة لا اختياراً سطحياً لمجال واسع.
ويشير هيل وكيربر أن عملية اختيار مشكلة مرتبطة بالبحث التاريخي وصياغتها كثيرا ما تتأثر بشخصية الباحث إلى حد كبير أكثر مما يحدث في مناهج البحث الأخرى ، ويؤكد أن العوامل الشخصية للباحث تتحكم إلى حد كبير في اختياره للمشكلة .
بينما ترى سهير بدير أن اختيار موضوع معين للبحث التاريخي يجب أن يكون ممتداً عبر التاريخ أي له صفة الاستمرار بحيث يمكن تعقبه ، وتتبع مراحل التطور التي مرت به والآثار المترتبة عليه.
3- وضع الفروض أن التساؤلات التي يسعى الباحث إلى التحقق منها أو الإجابة عليها على أن يضع الباحث في اعتباره أن هذه الخطوة هي التي تمد الباحث بالبيانات اللازمة للبحث ويتوقف قبول الباحث لفروضه أو تساؤلاته أو رفضهما على البيانات والمعلومات التي يستفتيها من الكتب والمراجع والمخلفات والآثار وعلى تفسيره لها.
4- تحديد المفاهيم الأساسية للبحث وقضاياه والإطار النظري الذي سيوجه توضيح الدراسة CONCEPTUAL FRAME WORK
المقصود منها.
5- تحديد وحدة التحليل التاريخي فقد تكون هذه الوحدة زمانية أو مكانية أو نظاما إعلاميا معينا أو نظرية إعلامية معينة أو صحفاً .. الخ.
6- تحديد مصادر المعلومات والبيانات وأدوات جمعها لاستنباط الحقائق التاريخية وعلى الباحث أن يبذل كل محاولة في سبيل التأكد من صدق المصدر ومدى دقته.
7- جمع البيانات المتصلة بموضوع أو مشكلة البحث من مصادرها الأولية وعلى الباحث أن يدرك أن هذه الخطوة ليست بالمهمة السهلة لأن الباحث في كثير من الأحيان لم يعش الزمن أو العصر الذي يدرسه.
8- ترتيب البيانات والمعلومات والحقائق التاريخية على أساس تطور الأحداث مع مراعاة العلاقات القائمة بين أحداث التاريخ التي تتضمنها الظاهرة التاريخية موضوع البحث وغيرها
من المتغيرات التي صاحبتها سواء أكان تأثيرها مباشر أو غير مباشر مع تجنب الاعتماد على كل ما يقوم على التفسير والتحليل والاجتهاد الشخصي من قبل الآخرين.
9- تحليل ونقد البيانات والمعلومات وهي الخطوة التي تعرف بمرحلة نقد المادة التاريخية ويقوم الباحث بهذه الخطوة بغرض التحقق منها ومعرفة حقيقتها وكذلك التحقق من مصادرها وتنقيتها من الآراء التي ألحقت بها وهنا يجب على الباحث أن يكون موضوعياً ودقيقاً إذا كان راغباً في الوصول إلى نتائج تاريخية يمكن الاعتماد عليها ، وتتمخض جهود الباحث في هذه المرحلة عن تحديد الحقائق الأساسية المتصلة بموضوع البحث عن طريق النقد الداخلي والنقد الخارجي .
10- العرض والتركيب والتفسير للحقائق الأساسية للخروج بالشواهد التي تدل على أصالة البحث والكشف عن الاتجاهات العامة للظاهرة موضوع البحث ، ومعرفة العوامل والظروف التي خضعت لها في تطورها وتغيرها وانتقالها من حال إلى حال.
11- تحديد النتائج التي توصل إليها الباحث ودلالتها في الإجابة على التساؤلات التي تطرحها الدراسة ومقارنتها مع الأفكار المستخلصة من مصادر أخرى وذلك بتقديم (تفسيرات مقبولة لهذه الحقائق بالصورة التي تضعها في الإطار الصحيح للسياق التاريخي)
مصادر الدراسات التاريخية:
لما كان الباحث لا يستطيع أن يلاحظ الأحداث الماضية بنفسه فهو يحاول حصر المصادر التي تفيده في الحصول على بيانات عن موضوع بحثه ، وتتفاوت هذه المصادر من حيث كونها مصادر أولية وثانوية وميدانية وذلك على النحو التالي:
1- المصادر الأولية :
وهي المصادر التي تمد الباحث ببيانات ومعلومات أصيلة عن موضوع البحث ومنها يستقي الباحث معلومات مباشرة سواء أكان ذلك عن طريق الملاحظة أو الاطلاع أو المقابلة أو غيرها من طرق جمع البيانات والمعلومات ومن أنواعها :
أ – الآثار : وهي بقايا الحضارات أو ما يدل على أحداث معينة قامت أو وقعت في الماضي مثل آثار المعابد والكتب القديمة والمخطوطات.
ب – الوثائق :
وهي التي تعد بقصد أن تنقل لنا بيانات ومعلومات يمكن استخدامها في المستقبل وهي أوراق تكشف عن أحداث وقعت في الماضي أو معاملات سادت في فترة زمنية معينة أو مذكرات مبنية على مشاهدات في فترات زمنية سابقة.
ج – السجلات الشفهية : كالأساطير والأمثال والحكايات الشعبية.
د – السجلات المكتوبة : كالخطب والرسائل المكتبية والدساتير والقوانين واللوائح والمعاهدات .
هـ- السجلات المصورة : مثل الصور والأفلام وطوابع البريد والنقود والنحت .
و- السجلات الصوتية : مثل الأسطوانات وأشرطة التسجيل المرئي والمسموع .
2- المصادر الثانوية:
ونعني بها ما نقل أو كتب أو أخذ باشتقاق عن المصادر الأولية ، وقد أطلق على هذا النوع من المصادر لفظ(ثانوي)لأن كاتبها قد أعدها بعيداً عن الملاحظة المباشرة أو الرواية الأصيلة. وغالباً ما تكتب عن شخص حضر الواقعة نفسها وفي البحوث عموماً تفضل المصادر الأولية عن المصادر الثانوية حيث أن احتمال الخطأ في المصدر الثانوي أكبر وأوضح من المصدر الأصلي أو الأولي ، وذلك بسبب انتقال البيانات من شخص إلى آخر إلا أن ذلك لا يقلل من أهمية المصادر الثانوية ، لأنه قد تزود الباحث بمعلومات عن الظروف التي أحاطت بالمصدر أو الآراء التي قيلت حوله . وأحيانا تكون مبوبة ومنشورة بصورة أكثر فائدة للباحثين في المصادر الثانوية.
3-المصادر الميدانية:
ومنها يستقى الباحث المعلومات الموجودة لدى بعض الأفراد أو الهيئات .
وتعتبر المصادر التاريخية الميدانية من أهم أنواع المصادر بالنسبة للدراسات التاريخية في مجال الصحافة والإعلان ، ومن أهم أنواع المصادر الميدانية:
أ-الصحف :ويمكن عن طريقه تقديم صوره عن الظروف العامة التي عاشها مجتمع ما في فترة معينة .وذلك من خلال الوقائع التي تنشر من خلال الصحف .
ولكن ينبغي الحذر عند التعامل مع هذا النوع من المصادر وذالك من حيث :
- تعدد الصيغ التي تكتب بها الواقعة الواحدة.
- الدوافع والاتجاهات التي تحرك سياسة الصحف وأفكار الكاتب أو الصحفي.
- الحرص على فصل الحدث كواقعة مجردة عن التعليقات والانطباعات التي تحاول الصحيفة أو الكاتب وضع الحدث في إطارها وخاصة في الوقت الحاضر الذي زالت فيه الحدود الفاصلة بين الحدث والرأي والتفسير.
وترى نوال محمد عمر أن هذه المحاذير ( لا تمنع من أي توثيق للمادة الصحفية وتساعد على إعطاء صورة حية قد لانجدها في أي كتاب عالج قضايا المرحلة التي ندرسها ، إذ أن المادة الصحفية تنقل الباحث إلى نفس الجو التاريخي والاجتماعي والسياسي وتنظر إلى الظاهرة محل البحث من خلال العصر الذي نشأت فيه وتأثرت به وأثرت فيه. ولا خوف هنا من تباين الآراء وأسلوب سرد الأحداث في الصحف . فمن طبيعة الصحف أن تختلف في طريقة عرض موادها وتفسيرها إلا أن هذا الأمر يمكن وضع حدود له عن طريق دراسة الظروف العامة للظاهرة في سياقها التاريخي والتعرف على سياسة كل صحيفة وخلفية محرريها مع القدرة على عزل الحدث عن محاولات التضمين أو التوظيف المقصود.
ب- روايات شهود العيان للأحداث التاريخية وعلى الباحث أن يقوم بإجراء تسجيلات صوتية مع هذا النوع من المصادر أو الحصول على تقارير مكتوبة عما يذكرونه من أحداث أو مشاهدات حيث يقوم الباحث بإجراء المقارنات بين الروايات المختلفة حيث يصل إلى أقرب المعلومات من الحقيقة.
ج- المذكرات والمراسلات والسير والتراجم الخاصة التي يكتبها أصحابها والتي يسجلون فيها حقائق دون القصد من نشرها . إن أهمية هذا النوع من المصادر أنها قد تحوي بعض الوقائع بصورة أكثر صراحة وأدق تفسيراً ولكن ينبغي على الباحث أن يتحرى الدقة قبل النشر .. وألا ينحرف لبعض المبالغات أو تضخيم الذات أو تبرئة الذمم التي يلجأ إليها البعض.
د- الدراسات والبحوث والمؤلفات التاريخية السابقة التي تزود الباحث ببعض التفسيرات ذات الأهمية وقد يستند إليها الباحث في استنباط بعض الأفكار التي تعينه على تقديم تفسيرات جديدة أو الاستفادة من منهجيتها أو أسلوب كاتبها في التحليل والتفسير وسرد الأحداث.
هـ- الكتابات الأدبية والثقافية والاجتماعية والدينية وغيرها من أنواع الكتابات التي تعكس طبيعة العصر وعلى الرغم من أن هناك بعض المهتمين بمناهج البحث يرون أن مثل هذه الكتابات تعبر عن آراء ذاتية إلا أننا نرى أن كاتبيها لا يكتبون من فراغ فهم يعكسون بصورة أو أخرى قضايا عصرهم.
وعلى كل …. فإن التعامل مع أنواع المصادر المختلفة يعتمد على قدرة الباحث على تفسير الأحداث التاريخية ومحاولة الخروج بصورة منطقية للواقعة أو الحدث .. فالتاريخ علم المتماثلات المعقدة لوقائع الماضي.. حيث تقوم مجموعة من القضايا بتكميل مجموعة أخرى .. وحيث تغطي مجموعة من الوقائع على مجموعة أخرى والباحث المقتدر هو الذي يتمكن من عمليات الربط والتحليل والتفسير والاستنباط.
الأسس لنقد وتقييم المصادر :
تعتبر عملية نقد وتقييم المصادر مرحلة أساسية من مراحل تنفيذ الدراسة التاريخية .. والغرض منها هو التأكد من صدق المصدر وصحة المادة التي تتضمنها وهي عملية تعتمد على نوعين من النقد هما :
أ- النقد الخارجي : ويهتم بالتحقق من صدق الوثيقة وصحة شخصية كاتبها وزمن الوثيقة ومكانها والرجوع إلى الأصل الذي كتبه صاحب الوثيقة . فالنقد الخارجي في واقع الأمر هو التحقق من صدق الوثيقة من حيث الشكل لا من حيث الموضوع.
ب- النقد الداخلي : وينصب على التحقق من مادة الوثيقة أي ( النص ) ويستخدم في دراسة الوثيقة من حيث موضوعها وما ترمي إليه مادتها ومدى دقة وقيمة البيانات التي تحتويها.
أ- الأسس العلمية للنقد الخارجي :
1. التحقق من صحة الوثيقة : بمعنى التعرف على صحة الوثيقة بالتفرقة بين ما هو صحيح وما هو مزيف منها ، فكثيراً ما يدخل في الوثائق الحشو والإضافات بقصد الإكمال أو بقصد التزييف أو التحريف، وللتأكد من هذه العملية ، عليه أن يدرك أن الوثائق توحد في حالات ثلاث :
الأولى : أن تكون الوثيقة بخط يد المؤلف نفسه وهي في هذه الحالة لا تحتاج إلى تحقيق .. إلا من زاوية التأكد من أن الخط الذي كتبت به الوثيقة هو خط كاتبها.
الثانية : أن تكون الوثيقة مخطوطة عن الأصل أي بيد ناسخ وهنا يجب التحقق من الوثيقة بمراجعتها مع الأصل .
الثالثة : وهي أن تكون هناك أكثر من وثيقة وهنا ينبغي أن يدرس الباحث هذه الوثائق ليتبين ما يرجع منها إلى أصل واحد عن طريق تبين مواضع معينة من الوثائق التي تنتمي إلى أصل واحد.
وينبغي ألا نعتبر قدم الوثيقة دليلا على صحتها ، فقد تكون الوثيقة حديثة في شكلها ولكنها مأخوذة عن الأصل ، بينما تكون النسخ الأقدم قد أخذت عن نسخة فرعية.
2. التحقق من شخصية صاحب الوثيقة :
وهي مسألة مهمة : إذ أن كثيراً من الوثائق والكتب تذكر لنا أن صاحب وثيقة معينة هو شخص معين . ويرى المؤرخون أن المؤرخ الناضج ينبغي ألا يثق في مثل هذه الأقوال . فكثيراً من الوثائق قد زُيفت لعدة اعتبارات من بينها على سبيل المثال . أن تكون الوثيقة قليلة القيمة فتنسب إلى إنسان مشهور لكي ترتفع قيمتها أو أن الوثيقة عظيمة القيمة فتنسب إلى إنسان مغمور من أجل تمجيد اسمه ولذلك يجب على الباحث أن يكون دقيقاً ويفترض دائماً أن كل الوثائق مزيفة حتى تثبت صحتها .
3. التحقق من مكان الوثيقة وزمانها :
وهنا يعتمد الباحث على عدة عوامل كاللغة والخط ونوع الورق إذ أن هذه العوامل تميز عصرا عن عصر آخر .. وبالتالي يمكن عن طريقها تحديد العصر الذي كتبت فيه الوثيقة.
ويرى (فان دالين) أن على الباحث أن يثير الكثير من التساؤلات عن الوثيقة التي بين يديه مثل هل تطابق لغة الوثيقة وأسلوبها وهجاؤها وخطها أعمال المؤلف الأخرى والفترة التي كتبت فيها ؟ وهل يظهر المؤلف جهلا بأشياء كان ينبغي أن يعرفها رجل تلقى مثل تعليمه وعاش في مثل عصره؟ وهل يكتب المؤلف عن أحداث وظواهر أو أماكن لم يكن ليستطيع أن يعرفها شخص عاش في ذلك العصر ؟هل غير أي شخص في المخطوط عن طريق النسخ بغير دقة أو بالإضافة إليه أو حذف فقرات منه؟ وإذا كان المخطوط غير مؤرخ أو المؤلف مجهولا فهل توجد في الوثيقة دلائل داخلية تكشف عن أصولها ؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة – كما يقول ( فان دالين) تحتاج إلى ثروة ضخمة من المعرفة التاريخية والعامة وقد تحتاج كذلك إلى حس تاريخي.
ب الأسس العلمية للنقد الداخلي
وهي مرحلة تبدأ من انتهاء الباحث من مرحلة النقد الخارجي وفيها كما أوضحنا – يهتم الباحث بالتحقق من المادة الموجودة في الوثيقة ومعناها وينقسم النقد الداخلي إلى قسمين:
1.النقد الداخلي الايجابي :
ويستخدم في التعرف على المعنى الحقيقي لنص الوثيقة، كما يقصده المؤلف وهي عملية تستهدف تفسير المعنى الذي ترمي إليه ألفاظ وعبارات الوثيقة وهي عملية معقدة فكثيرا من الكلمات في الوثائق القديمة لا تعني اليوم نفس المعنى الذي كانت تعنيه بالأمس.
وهذا يتطلب:
- معرفة لغة العصر الذي كتبت فيه الوثيقة .
- معرفة اللغة الخاصة بالمؤلف .
حتى نستطيع أن نفهم المعاني الموجودة بالوثيقة على الوجه الأكمل وتفسير معنى الوثيقة، قد يتطلب في بعض الأحيان المعرفة الدقيقة بالتاريخ واللغات بأساليبها القديمة والحديثة.
2.النقد الداخلي السلبي:
وهو أسلوب يمكن الباحث من معرفة مدى الصدق و الكذب أو التحريف في روايات مؤلف الوثيقة .
هل كتب المؤلف الواقع عن طريق الملاحظة المباشرة أم عن طريق الاستماع إلى الرواية؟
وما هي الأساليب التي استخدمها في جمع المعلومات التي تضمنتها الوثيقة؟
وهل كتبها في ظل ظروف معينة جعلته لا يذكر الحقائق كاملة.
ويرى (فان دالين) في النقد الداخلي ضرورة لا غنى عنها للتحقق من معنى وصدق المادة الموجودة في الوثيقة .
ولكي يصل المؤرخ إلى ذلك نجده يبحث عن الإجابات التالية :
ما لذي يعنيه المؤلف من كل كلمة وكل عبارة؟ وهل العبارات التي كتبها المؤلف يمكن الوثوق بها ؟ وهل يسرت له إمكاناته ومكاتبه ملاحظة الأحوال التي ذكرها؟هل أبدى التوتر الذي ساد الفترة التاريخية التي عاشها المؤلف أو ظروفه الصحية إلى ارتكاب أخطاء في الملاحظة أو الكتابة؟ وهل كتب الوثيقة وقت الملاحظة أو بعدها بأسابيع أو سنين؟ هل توجد روايات أخرى تتفق مع رواية المؤلف أو تختلف معه.
وفى تقديرنا ، أن الاسئله التي أثارها فان دالين يمكن أن تتفرع عنها أسئلة فرعيه كثيرة.
فالمسألة رهينة بطبيعة الوثيقة وتاريخها والظروف التي أنتجت في ظلها . . وفى كل الأحوال فان على الباحث ألا يقلل من قيمة أي مصدر وألا يعطى مصدرا أكثر مما يستحق من الأهمية.
كما أنه يمكن قبول الوقائع والأحداث وغيرها من شواهد التاريخ التي يتفق عليها أكبر عدد من الشهود المعاصرين أو الرواة الذين يرون الحقيقة نفسها نموذج لاستخدام المنهج التاريخي في مجال الصحافة .
ايجابيات المنهج -
تتمثل ايجابيات هذا المنهج في الكشف عن جوانب الطبيعة البشرية في الماضي ، وكيف تطور المجتمع الإنساني ومسارات تطوره دون الوقوف عند حدود الصف التصويري والكشف عن بعض العوامل التي أدت إلى الوقائع والأحداث .
سلبيات المنهج –
تتمثل سلبيات هذا المنهج في أنه يقوم على فرضيات غير يقينية أي غير قابلة للتحقق بشكل عام ، وبالتالي فإن هذا المنهج لا يستطيع أن يفسر لنا كيفية ربط الماضي المجهول بالحاضر المعروف إلا من خلال التأويل والتفسير الذاتي الأمر الذي أدى إلى تعدد آراء المؤرخين حول الموضوع التاريخي الواحد وبقاء المادة التاريخية في موضع تعديل مستمر طبقاً لوجهات النظر الجديدة التي تفسر وقائع الماضي بعقلية العصر الذي يعيش فيه المؤرخ ، هذا بالإضافة إلى المحاولات المتكررة لتزييف التاريخ ووثائقه وما إلى ذلك.
إلا أننا نرى فيما ذكر من سلبيات لهذا المنهج بأنها مسائل تجرد هذا المنهج من موضوعيته فمن الثابت أنه مهما اختلف الطابع والمنطلق والاتجاه الذاتي للمؤرخين فإنهم يتفقون في بعض القضايا الرئيسية هذا الاتفاق هو الذي يشكل ((العنصر الموضوعي في التاريخ)) الذي لم يكن من الممكن الوصول إليه دون الالتزام بقواعد المنهج التاريخي وبذلك تفوق إيجابيات هذا المنهج سلبياته.